استمع لهذه القصة
أغلب تلك العناوين تصنَّف بين أفلام الدرجة الثانية منخفضةِ الميزانية، ولا تنتجها الاستوديوهات الكبرى، وتقوم على المبالَغات غير المنطقية حتى تَروجَ في السوق، ما يثيرُ تساؤلاتٍ عن مصداقية توصيفها للشخصيات مِن عَرَبٍ أو سِواهم. وحتى بعض الأفلام الجادّة، مثل "الجواد الأسود" و"العودة إلى المستقبل"، خيَّبت الأمل في تصويرها للشخصيات العربية.
ومن فئة تلك الأفلام الجادّة فيلم "الشبكة" (1976)، من تأليف بادي تشايفسكي وإخراج سيدني لوميت، الذي أخرج أيضاً فيلمَي "اثنا عشر رجلاً غاضباً" و"ظهيرةُ صيفٍ لاهِبة". "الشبكة" من الأفلام التي أَزْرَى بها شاهين بسبب "المشاعر المعادية للعرب" كما يصف. وقد أَدرجه في قائمة "أسوأ الأفلام"، التي يعرض فيها الأفلام "الأكثر إهانة" في تصويرها للعرب، وفق رأيه. لكن عندما قرأتُ ما كَتبه شاهين، ساورَتني الريبةُ والقلقُ، إذ أن فيلم "الشبكة" قد فاز بأربع جوائز أوسكار، كما احتل المرتبة الرابعة والستين في قائمة المعهد الأمريكي للسينما لأفضل مئة فيلم أمريكي.
عندما نختبر جودة الفيلم، يتضح أنه ليس محضَ خيالٍ شعبيٍّ رخيص. فالفن الراقي يتميّز بقيمته الفريدة. وعرضُ الصور النمطية بحدّ ذاته لا يعني الاعترافَ بها. وعادةً ما تُستخدم المحاكاة الساخرة لتوضيح فكرةٍ أعمق، أو للتشكيك في الراوي. لذلك، قرّرتُ أن أشاهد فيلم "الشبكة" بنفسي، وحسناً فعلتُ.
يسخر الفيلم ببراعة من صناعة التلفزيون في الولايات المتحدة أثناء السبعينيات المضطربة، والتي شهدت حرب فيتنام والتضخم وأزمة النفط وفضيحة "ووترغيت" واختطاف الطائرات ونشاط اليسار المتطرف. فنجد استغلال برنامجٍ إخباريٍ فاشلٍ لتهديدات مقدِّمه السابق بالانتحار، فيعيد تسويقَه ظاهرةً إعلامية ويصفه بأنه "نبيُّ الأثيرِ المجنونُ"، الذي يَجهر بالحقيقة في وجه السلطات.
لكن الحقيقة المرّة هي أن تأجيج غضب الناس يخدم جشعَ الشركات عندما يزيد من نسب المشاهدة فتزيد المبيعات اطّراداً. وهذا ما أصبح العقيدة الجديدة الذي يشكّل العالَمَ وفقاً لمبادئه، متجاوزاً اعتبارات الأمم أو الأعراق.
لقد كانت الحياة صعبةً على هوارد، فبعد أن كان يتصدر نشرات الأخبار المسائية، لم يعد بإمكانه الآن إيقاف تراجع نِسَب مشاهداته، مما ينكأ جراحه العاطفية التي خلّفها موتُ زوجته. فأصبح يعبُّ كؤوسَ الكحول، ويَبثُّ همَّه كلَّ مَن يُعِيرُه السمعَ. وفي إحدى الليالي أَفرَط في شرب الكحول صُحبةَ مديرِه رئيسِ قسم الأخبار، ثم كشف هوارد ثمِلاً عن خطّته "سأطلق النار على رأسي على الهواء مباشرةً في منتصف نشرة أخبار الساعة السابعة مساءً".
فأَجابه مديره: "لا ريب أنك ستحصل على نِسبِ مشاهدةٍ عالية".
هذه هي فرضية الفيلم التي تعرض تفسيراً حرفيّاً لمقولة شائعة في الصحافة: "إذا سالت الدماء، ذاعت بها الأنباء".
يمازِح ماكس، مديرُ الأخبار، عارضاً فكرةَ إنتاج مسلسلٍ كاملٍ بعنوان "انتحار الأسبوع"، ثم يستدِرك قائلاً: "لا، لماذا نُقيِّد أنفسَنا؛ فلنسمِّه إعدام الأسبوع". لكنه سرعان ما تراجع عندما رأى هوارد واقفاً على منصّة الأخبار وهو يخبر المشاهدين أنه في الأسبوع القادم سيقتل نفسه على الهواء مباشرة. يحاول ماكس إنقاذ الموقف بالسماح لهوارد أن يعتذر على الهواء لكن بدلاً من ذلك، صرخ هوارد أمام الكاميرا متذمّراً من أن "الحياة هراء". يترك ماكس الأمرَ ويتنهد قائلاً: "إذا كانت هذه سبيلُه للخلاص، فليكُنْ".
لكنّ مديرَ الأخبار دُهِش؛ إذ ارتفعَت نِسب المشاهدة فوراً وغَمرت المكالماتُ غرفةَ التحكم وتزاحَم المراسلون في المبنى. بدا أن هوارد لَم ينفِّر المشاهدين، كما اعتقد مديرُه، بل – على العكس – استغل أسوأ مخاوفهم وكأنه فتح صماماً لتفريغ غضبهم، ذلك الغضب المشابه للغضب والغليان في فترة السبعينيات في أمريكا. وبحساسيتهم المرهفة لرائحة الدم، يوعِزُ المسؤولون في الشبكة إلى مدير الأخبار باستغلال هلع صديقه القديم وموجة الاهتمام الإعلامي لإنقاذ البرنامج والشبكة بأكملها.
تدخل ديانا كريستنسن، التي مثّلت دَورَها فاي دوناواي، نائبةُ رئيس البرامج إلى المشهد. وهي شابّةٌ جذاّبةٌ ومتحمّسة لكنها عديمة الرحمة وتطمح للنجاح بأي ثمن حتى وإنْ بإثارة غضب المشاهدين. ففي أحد اجتماعاتها مع الموظفين نراها تقول: "لقد أخبرتكم مُذْ توّليت هذه الوظيفة قبل ستة أشهر أنني أرغب في برامج تثير السخط". وها هي ترى فرصتها في هوارد، المذيعِ الذي يتحوّل إلى "نبيٍّ مجنونٍ" غارقٍ في الغضب، تجتاحُه نوباتٌ من الاضطراب والانهيار.
تراجعت نِسب المشاهدة لهوارد مرّةً أُخرى؛ فأراد مديرُ الأخبار استعادة الهيئة القديمة الرصينة للبرنامج، إلا أن هوارد ما لبث أن ارتقى المنصّة وأثار حماس الجماهير مرّةً أُخرى، فكان مبرِّراً مقنِعاً حتى تمضي "الشبكة" قُدُماً. ثم فاجَأَت ديانا مديرَ الأخبار إذ حَوّلَت البرنامجَ إلى ما يُعرَف اليومَ باسم "إنفو–تَينمنت" أي برنامج معلومات وترفيه بعنوان "ساعة أخبار الشبكة" بإسناد كلٍّ مِن سيبيل العرّافة التي تتنبأ بالأحداث، وهوارد الملقَّب "نبيّ الأثير المجنون". وفي الوقت ذاته، تُبادِر ديانا إلى عقد اتفاقية مع متمرّدي جيش التحرير المسكوني لإنتاج برنامج "ساعة ماو تسي تونج" الذي أذهل الجميع في موسمه الأول.
استمرت علاقة الغرام بين مدير الأخبار ماكس ونائبة رئيس البرامج ديانا، مع أن ماكس يُدرِك أنها علاقةٌ آيلةٌ للزوال؛ تماماً كشهرة المذيع هوارد. أثارت تصريحات هوارد على الهواء غضباً عندما انتقد شركةَ الاتصالات الأمريكية لأنها بِيعت لمجموعةٍ سعودية، وهو ما يُفسِّر اتهامات شاهين للفيلم بمعاداة العرب. طلب الرئيسُ التنفيذي من هوارد التزامَ سياسةِ الشركة، حتى في غمرةِ نوباتِ غضبِه الاكتئابية التي سبّبت تراجعاً في نِسَب المشاهدة. وفي النهاية، أدّت هذه الأحداث إلى عواقب وخيمة.
تباينت مراجعات النقاد لفيلم "الشبكة"، فوصَفه ريتشارد إيدر في مقالٍ بصحيفة نيويورك تايمز بأنه "غير موفَّق"، مردِفاً أنّ الشخصيات فيه "سطحية". ونقَل توم شيلز في صحيفة الواشنطن بوست عن بول فريدمان، منتج برنامج "عرض اليوم" على شبكة "إن بي سي" في ذلك الوقت، وصْفَه للفيلم بأنه "جدليٌّ ومفْرِط في التضخيم". ربما قارَن الناقدان الفيلمَ بأعمال سيدني لوميت السابقة مثل "اثنا رجلاً غاضباً" الذي كان بدايةً سينمائيةً ذهبيةً له في سنة 1957 أو فيلم الجريمة الدرامي "سيربيكو" (1973) الذي جَسّد بطولتَه آل باتشينو وعزَّز مكانةَ لوميت بين مخرجي السينما في جيله.
بالمقابل، يبدو فيلم "الشبكة" غيرَ متجانسٍ ووعظيّاً، ولا يفسِّر سببَ الرؤى التي يراها هوارد أو كيفيةَ استفادة المسؤولين في الشبكة منها. ويفتقد الفيلمُ سِمَةَ المواكَبة التي كانت تميّز أفلام الخمسينيات التي تناولت التلفزيون، مثل فيلم "وجه في الحشد" للمخرج إيليا كازان، الذي واكَبَ شعورَ المشاهدين بصدمة وسيلة الإعلام الجديدة، التلفزيون، التي كانت تجتاح أمريكا.
ومع ذلك، تكمن القوة الحقيقية لفيلم "الشبكة" في استشرافِ المستقبل، إذ يقدِّم سخريةً لاذِعةً، خصوصاً بتركيزه على "نبي آخر الزمان الذي ينكر نفاق زماننا". لقد انتقد الناسُ صناعةَ الترفيه بسبب التمايز السطحي لها منذ أن حظرَ أفلاطون الشعراءَ من مدينته الفاضلة. لكن فيلم "الشبكة" يتجاوز كل هذا بفضل المادّة الغنيّة التي يتيحُها التلفزيون للانتقاد.
في مشهدٍ يُبرِزُ حرفنةَ لوميت الإخراجية في منتصف الفيلم، تُلِمُّ بهوارد أولى الرؤى في منزله ليلاً، ثم يظهر على الهواء مباشرةً مخبِراً عن صوتٍ أتاهُ يأمرُه بالصدق. يتحمّس هوارد ويذكر المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها أمريكا الواحدة تلو الأخرى: الجريمة والفقر والتضخم ونقص الغذاء. ثم يدعو المشاهدين قائلاً: "لا أريد منكم أن تحتجّوا ولا أريدكم أن تثوروا ولا أريدكم أن تكتبوا إلى نوابكم ... أريدكم فقط أن تقوموا الآن وتذهبوا إلى النافذة. أطِلّوا برؤوسكم منها واصرخوا: 'لقد استَبدّ بيَ الغضبُ، وطَفَح بيَ الكيلُ!'" وإشارةً على بدء حالةٍ من الهَرْج، يظهر مونتاج لرؤوسٍ تطِلُّ من نوافذ الشقق وهي تصرخ بوجه المارّة المذهولين في الأسفل. تنتشر التقارير عن الفوضى في جميع أنحاء البلاد، مما أدّى إلى ارتفاع نسبة المشاهدة وجَنْي المزيد من الأرباح.
لم يكتفِ لوميت في فيلمه بانتقاد وسائل الإعلام، رغم أن ذلك كافٍ ليحظى بالإشادة، إلا أنه قدَّم أيضاً لمحةً منمَّقةً عن أمريكا في السبعينيات.
كان الناس يشعرون بالقلق حينها بسبب نقص الوظائف والتضخّم وسلسلةٍ من أزْمات الطاقة. دارَ جدلٌ آنذاك حول إرث حركة حقوق الإنسان، فدعا البعضُ إلى مزيدِ حرّياتٍ، بينما خَشِيَ آخرون تراجعَ القِيَمِ الأخلاقية. كان ردُّ فعل المحافظين في مواجهة "الثقافة المضادّة" في الستينيات هو فوز ريتشارد نيكسون الساحق في الانتخابات التي أوصَلَته إلى السلطة سنة 1968، وهي سَنَةٌ مُظلِمةٌ شهدَت اغتيالَ مارتن لوثر كينغ جونيور وروبرت أف كينيدي. ثم فاز نيكسون مجدَّداً سنة 1972 في أحد أكبر الانتصارات الانتخابية في تاريخ الولايات المتحدة، ولكن سرعان ما ظهرَت فضيحةُ "ووترغيت". وفي تلك الأثناء أيضاً، هزّت العالمَ عشراتٌ من عمليات إطلاق النار وخطف الطائرات التي نفّذها جيشُ التحريرِ الأسود والجبهةُ الشعبيةُ لتحريرِ فلسطين وثوريّون آخَرون. كما اندلعت مظاهراتٌ مناهِضةٌ للحرب مع استمرار التدخّل الأمريكي في فيتنام حتى سنة 1973 بالرغم من التعهّدات بالانسحاب.
جسَّد فيلمُ "الشبكة" كلَّ ذلك الاضطراب والقلق السائد حينَها. وبالنسبة لشخصٍ وُلِد بعد السبعينيات مِثلي، أذهلَني كثيراً مدى الصدى الذي ما يزال يُحدِثُه الفيلم. وعلى الرغم من كون الاقتصادِ اليومَ أقوى والمجتمعِ أكثرَ أماناً ممّا كان عليه الحالُ منذُ عقود، إحصائياً على الأقلّ، إلا أن الثقة في السياسيين ووسائل الإعلام وحتى بين الأفراد في المجتمع الأمريكي اليوم ليست كما كانت في السابق. فآخرُ مرّةٍ شَعَرَ فيها الناسُ بالانقسام الحادّ لهذه الدرجةِ كانت في السبعينيات. لا عَجَبَ أن يُقارِن الأشخاصُ تلك السنوات بالحاضر. وربما يكمن السببُ في أن بعض النقّاد هاجموا فيلم "الشبكة" بعد صدوره، لأنهم افتقروا إلى الوقت والمسافة الكافية لرؤية جنون الارتياب المروِّع وكيف سيعود ليشلَّ الروحَ الأمريكيةَ مرّةً أُخرى.
الغضبَ الغضبَ والمزيدَ من الغضب. كان صدى صوت ديانا ملءَ السمع في وسائل الإعلام الحديثة، حين يلقي باللائمةِ على غضب البِيض في صعود الرئيس السابق دونالد ترامب، أو يستخدم غضبَ السود ليُبَرِّر العنفَ الذي تشهده احتجاجاتُ حركة "حياة السود مهمّة" والحركة المعادية للفاشية "أنتيفا"، أو يستهجِن حركةَ "أنا أيضاً" على أنها غضبُ نساء. تلقي ديانا نظرةً على الغضب في زمنها، وتقوم بما نُسمّيه اليومَ اتخاذَ القرارات المستندة إلى البيانات. كما تستخدم عِلم التسويق بدقّةٍ مذهلةٍ لاستهداف عقولنا وأحشائنا وفُروجنا؛ كلُّ ذلك بالغرائز والرغبات التي تجذِبُنا وتجعلنا نُعِيدُ الكرّةَ. وكما يقول الأستاذ في جامعة نيويورك، سكوت غالواي، يكْمن جوهرُ الأعمال الناجحة في الاستفادة من الجوانب اللاعقلانية في الطبيعة البشرية؛ وهذا ما يحذقُه أمثالُ ديانا.
قد لا يُحسِنُ المشاهدون اليوم التعاملَ مع الأداء الجادّ للممثِّلين في فيلم "الشبكة". فقد حاز الفيلمُ على ثلاثٍ من أصل أربع جوائز تمثيلٍ في حفل جوائز الأوسكار في دورته التاسعة والأربعين، بما في ذلك جائزة أفضل ممثل لبيتر فينش (كانت جائزةَ الأوسكار الأولى له ونالها بعد وفاته). ومع أن تجهُّمَه العابسَ قد يبدو مفتعَلاً في بعض الأحيان، إلا أن تعبيرات الجرو الحزين الباديةِ على وجهه تتحول بسلاسةٍ إلى مظاهر الغضب، بل الرعب، فيبدو خائفاً من ظلِّه (أو اضطرابِه الداخليّ) خَوْفَهُ من العالم المتهاوي مِن حَوله. أمّا وليام هولدن، المتسخِّط من الدنيا، فيُهدي الحكمةَ لأولئك الذين يبدؤون رحلتهم للتّو كي يدلّهم – من منظوره – على السبيل.
الأداء المفضَّل بالنسبة لي هو أداءُ فاي دوناواي دَوْرَ ديانا. فبحسب ماكس، تُعَدُّ "تجسيداً للتلفزيون؛ لا تهتمُّ بالمعاناة ولا تكتِرثُ للفرح. فكل شيءٍ في الحياة رتيبٌ وتافِه. الحربُ والقتلُ والموتُ كلُّها أَبْخَسُ مِن زجاجةِ جعّة. ويُصوَّرُ شغلُ الناسِ بالحياةِ اليوميةِ مَلهاةً يعيثُ فيها الفسادُ". تَستقطِب ديانا جميع من حولها بجاذبيتها وطموحها وإثارتها وقوَّتها وحِدَّتها، كالسَيْف، إلى جنونِ عالَم الترفيه. وهي لا تَفْتُرُ عن ذِكْر العَمل، حتى في لحظاتِها الحميمية مع ماكس، بل يُهيجُ غَرامَها الحديثُ عن العَمل. يمكِن القولُ بأن ديانا تجسيدٌ لنِسْوِيّةٍ تَتجشّمُ المَخاطرَ، على غِرارِ سيدة الأعمال شيريل ساندبرج في عصرنا.
لكن، ما علاقة كلّ هذا بالعرب؟ ولماذا وَضَع شاهينُ فيلمَ "الشبكة" في القائمة السوداء في كتابه "العربيّ الشرّير في السينما"؟
في الثلثين الأخيرين من الفيلم، ينفعل هوارد بشأن الاستحواذ على شركة اتصالات أمريكية من "شركة التمويل العالمي الغربي" والتي تُعَدّ واجهةً لأصحاب المليارات السعوديين. يقول: "إنهم يشترونها من أجل العرب. وكلّنا نَعلم أن العرب يتحكمون في ستة عشر مليار دولار في هذا البلد. يملكون حصّةً من الجادة الخامسة في نيويورك وعشرين عقاراً في وسط مدينة بوسطن وجزءاً من ميناء نيو أورليانز ومنطقةً صناعيةً في سولت ليك سيتي ... تبّاً، لقد امتلكوا فعلاً نصفَ إنجلترا! وبالأحرى، العربُ يشتروننا".
لا عَجب أن نشمئز حقاً من هذا التنميط السلبيّ للعرب ضمن قالَبِ "أصحاب المليارات ومفجِّري القنابل والراقصات الشرقيات"؛ هذا لو سَلَّمْنا بأنّ آراءَ هوارد تمثِّل آراءَ صنّاعِ الفيلم، وليس الأمرُ كذلك. فلنتذكّر أوّلاً أن برنامج هوارد قائمٌ على إثارة الغضب، وهو ما يدينُه الفيلم مراراً وتكراراً.
في السبعينيات، كان الأمريكيون متذمِّرين من حَظر النفط الذي فَرَضَهُ أعضاءُ في أوبك ضدّ الولايات المتحدة وغيرِها من الأقطارِ المُظاهِرة لإسرائيل على العربِ في حرب أكتوبر – تشرين سنة 1973. وتتجلّى وجهةُ النظر الأمريكية في الرسوم السياسية الساخرة، حيث يُصوَّر زعيمٌ عربيٌّ مُستهدِفاً زعماءَ الولايات المتحدة بمضخّةِ وقودٍ كما لو أنّها بندقيّة.
في الفيلم تَستغلُّ شبكةُ "يو بي إس" ذلك الشعورَ بالكرامة المجروحة لِجَنْيِ المكاسب المادّية. وكما في الحياة الواقعية، يُحدِّد النُّقادُ والسياسيون كبشَ الفداءِ للجمهور كَيْ يُحَمِّلوه وِزرَ مَشاكلِهم سواءً كانت الحروبَ أَم الأجورَ المنخفِضةَ أَم ارتفاعَ أسعارِ السِلَع أَم الهجرةَ، ثم يُحِيلُونَه بُعبُعاً. وفي أيامنا هذه، تَعزو إدارةُ بايدن الزيادةَ في أسعار الغاز والنفط إلى الإجراءات التي اتخَذَها الرئيسُ الروسيُّ فلاديمير بوتين في أثناء الحرب الروسيّة على أوكرانيا. ولنا أن نَتخيّل هوارد ضاحكاً في سِرِّه لو سَمِع بهذا.
ثانياً، دُونَكَ طريقةُ تصويرِ المشهد. فقد صُوِّرَت لقطةُ سَوْرةِ غضب هوارد ظاهراً على شاشة التلفزيون بدلاً من تصويره وهو في الأستوديو كما في المشاهد الأخرى. هنا يشكِّك سيدني لوميت في مصداقية هوارد بوضعِه بصرياً على بُعد مسافتين (أي أنه لا يتفاعل مباشرةً مع الجمهور، بل يُصوَّر على مسافةٍ تُشعِر بالانفصال أو الارتياب في مصداقيته). تتكرّرُ تلك التقنيةُ في بداية الفيلم ونهايته، حيث تظهر بانوراما من الشاشات التي تَعرض عدَّة برامج في وقتٍ واحد، بما في ذلك برنامج هوارد. بهذه الطريقة يَدَعُ الفيلمُ الشكَّ يساوِرُ المشاهِدين حيالَ أفعالِ هوارد، بما في ذلك انتقادُه السعوديةَ.
في الواقع، فإنّ سَوْراتِ غَضَبِ هوارد هي العِلّةُ لإبقائه على الهواء في المقام الأول. فيقول الرئيسُ التنفيذيُ لشبكة "يو بي إس": "مِن فضلِكِ يا ديانا، إننا بإزاءِ وضعِ رَجُلٍ مستهترٍ عياناً على شاشة التلفزيون الوطني".
ولكن الأدهى من ذلك، فإن هجوم هوارد على السعودية يثيرُ غضبَ رئيس شركة "سي سي أَي"، وعندها تأتي النقطةُ الجوهريةُ للفيلم. يصرخ جينسن في وجه هوارد، "أنت مجرّدُ عجوزٍ يفكِّر في مفاهيم الأمم والشعوب. ما مِن أُمَمٍ ولا شعوبٍ ولا روسٍ ولا عربٍ ولا عوالم ثالثةٍ ولا غرب. هناك فقط نظامٌ شاملٌ وحيدٌ للأنظمة، نظامٌ ضخمٌ ومتشابك، يتفاعل ويتداخل، متعدّد الأبعاد والجنسيات، تَسُودُه الدولارات. دولاراتٌ نفطيةٌ وإلكترونيةٌ ومتعدّدة الأنواع، بالإضافة إلى المارك الألماني والين الياباني والروبل الروسي والجنيه الإسترليني والشيكل الإسرائيلي... إنّ العالم عبارةٌ عن عملٍ تجاريٍّ يا سيد بيل. لقد كان كذلك منذ أن تطوّر الإنسان زاحفاً من الوحل".
إليك الحجَّةَ الرئيسية للفيلم. يُشَيْطِنُ رأسُ المالِ العالميُّ الجميعَ في "الشبكة" التي تضمُّ الجميعَ، بما فيهم عتاةُ الثوريين الشيوعيين. في أحد المشاهد يفاوِضُ جيشُ التحرير المسكوني الشبكةَ على شروط عرض برنامج "ساعة ماو تسي تونغ". يَسحبُ أميرُ الحربِ الشرسُ، أحمد خان، مسدَّسَه ويطلِق طلقةً تحذيريةً، ثم ينقلبُ فجأةً إلى النقيض، ليقولَ بأسلوبِ محامٍ صقلَتْهُ التجرِبةُ: "فَلْنَعُدْ إلى البند الخامس في الصفحة الثانية والعشرين، الفقرة (أ): الحقوق الفرعية". هذا فَحْوَى "الأناقة الراديكالية" وفق توم وولف في كلمتَيْن؛ أي أن أفراد الطبقة العليا ينضمّون إلى القضايا الاجتماعية حسب الموضة فقط.
حتى النبوءةُ نفسُها المتجسِّدةُ في شخصية هوارد، هي خادمةٌ للدولار الأمريكي. وبعبارةٍ أُخرى، إنّ كلّ الأمور المالية عبارةٌ عن كهانة. فأبحاث السوق وبيانات استطلاعات الرأي هي كالكرة البلّورية الضخمة للتنبؤ بالأحداث المستقبلية. وهذا يذكّرنا بمقارنة ألان جاي ليفينوفيتز بين الاقتصاديين والمنجِّمين الصينيين القدماء، الذين أسْهَبوا في اعتمادهم النماذجَ الرياضية لتتحول مهنتُهم إلى علمٍ زائفٍ يُدِرُّ الأموال. في فيلم "الشبكة"، وفي بواكيرِ تطوير برنامج هوارد، تَطرح ديانا سؤالاً لماكس: "هل تعلم بأن العديد من السَحَرةِ مرخَّصون بمزاولةِ السَمْسَرةِ في وول ستريت؟ بعضهم يقدم النُصْحَ لعملائه مستخدِماً بطاقات التاروت. وقد نجحوا جميعاً، حتى في أثناء السوق الهابط وفي البيع على المكشوف". إذن فالحل السحريّ مرهونٌ بالقدرة على التمييز بين الوسطاء الماليين والوسطاء الروحيين.
وكما ذكرنا، سيلاحِظُ القرّاءُ المفارقةَ في فيلمٍ يتنبأ فيه النبيُّ الإعلاميُّ هوارد بالمستقبل، وهو ما عّدَّهُ النقّادُ أحدَ أدقِّ التنبّؤات في السينما الحديثة. وكان كاتب السيناريو آرون سوركين قد كَتَبَ: "لَمْ يبلُغْ متنبّئٌ بالمستقبل، ولا حتى أورويل، شَأْوَ تشايفسكي عندما كَتَبَ فيلمَ الشبكة".