وصولٌ متأخر.. كيف فككت الدراما المصرية الصور النمطية عن الإعاقة النفسية 

ناقشت مسلسلات مصرية منها "نقطة نور" و"خلي بالك من زيزي" اضطرابات التوحد وفرط الحركة وتشتت الانتباه، إلا أن الأخير نجح في كسر الصورة النمطية للإعاقة النفسية في الدراما المصرية.

Share
وصولٌ متأخر.. كيف فككت الدراما المصرية الصور النمطية عن الإعاقة النفسية 
تصميم خاص بمجلة الفراتس لزيزي خلال إحدى جلساتها مع طبيبها النفسي

قبل أن يظهر المذياع والتلفاز في مصر، كانت المقاعدُ المبنية من الحجر في المقاهي المتناثرة في الشوارع مصدرَ التسلية الليلية للمصريين. على تلك المقاعد الحجرية، كان يجلس الحكواتي وراوي السيرة -السيرة الهلالية على الأغلب- يمسك بالربابة ويستعين بها في سرد الحكايات التي تنقل رسائل قيمية إلى الجمهور المستمع. ومع نشأة الإذاعة الرسمية في ثلاثينيات القرن الماضي، ولأهمية الحكي في بث الرسائل المراد رواجها بين الجمهور، كانت المسلسلات الإذاعية ومن بعدها المسلسلات التلفزيونية في مصر أداةً أساسية لنشر التوعية أو الحشد السياسي أو خلق صور ذهنية عن فئات وأجهزة معينة في الدولة. 

لكن مع ازدياد أهمية المسلسلات العربية، خاصة المصرية، في تكوين ما تسميه عالمة الاجتماع الاسترالية غودي سينغر "نظرة بيئية للمجتمع" أي تشكيل صورة المجتمع والفئات المتفاعلة فيه في أذهان الجمهور، ظلّت أدوات التمثيل الثقافي تضع صاحب الإعاقة على هامش الأعمال الفنية، وتصيغه وفق قوالب ثابتة تتراوح بين التقليل من شأنه أو اعتباره مصدراً للسخرية والضحك. فغالب تمثيل ذوي الإعاقات والمتعايشين مع الحدود والقيود المجتمعية التي تفرضها عليهم الإعاقة تمثيلاً هامشياً وغير دقيق، ومهملاً الفئاتِ التي تتعايش مع أشكال مختلفة من الإعاقات. عندما ظهر مسلسل "خلي بالك من زيزي" في الموسم الرمضاني سنة 2022 كان مفاجأةً طيبةً للمتعايشين مع نوع خاص من الإعاقات، يكاد يكون مجهولاً ولا يُناقش في مصر وبعض أنحاء العالم العربي، وهو إعاقات التنوع العصبي، أو ما يسمى "الأنماط العصبية المتنوعة" وبالإنجليزية "نيرو دايفرستي".

ويشير مصطلح الأنماط العصبية المتنوعة للسمات الشخصية والذهنية غير النمطية، التي لا يتوافق أصحابها مع أساليب الفهم والتعاطي الدارجة عند الغالبية في المجتمع، وتُقدر نسبة هؤلاء المتنوعين عصبياً حول العالم بين 15 و20 بالمئة في كل مجتمع، وفقاً لإحصاءات المؤسسات الصحية الرسمية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. 

حقق مسلسل "خلي بالك من زيزي" نجاحاً جماهيرياً عندما ظهر، وهو أول مسلسل عربي ذائع الصيت يتناول الأشخاص المتنوعين عصبياً وما يواجهونه مجتمعياً. إذ لا تدرك كثير من الأسر في مصر الأنماط العصبية المتنوعة، ما يؤدي إلى أن يعاني الأشخاص المصابون بهذه الإعاقات في التواصل والتحصيل وغيرها من المشكلات التي يخلقها اختلافهم، من دون تشخيص حالاتهم ولا تأهيلهم وأسرهم للتعامل معها. تناول المسلسل هذه القضايا بكفاءة ليمثل في ذاته كسراً لأسلوب تناول ذوي الإعاقات في المسلسلات، إذ ركّز على الصعوبات التي يواجهها من يعانون اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (المعروف اختصاراً بالحروف الإنجليزية إيه دي إتش دي). عرض المسلسل جدياً نظرة المجتمع للشخص المختلف، ولم يكتفِ بهذا بل برع أيضاً في تصوير الأطباء النفسيين بشراً ضعفاء يتعاملون مع صدماتهم الخاصة. 


منذ البدايات الأولى للسينما، رسم صنّاعها صوراً محددة ساروا عليها وسار عليها من بعدهم عن أصحاب الإعاقات الذهنية والبدنية، وعكَسَ تصوير ذوي الإعاقات درجة الوعي المجتمعي بقضاياهم في كل حقبة زمنية. وبالعودة إلى أرشيف السينما المصرية نجد أن أول ظهورٍ لشخصيةٍ ذات إعاقة كان سنة 1944 في فيلم "ليلى في الظلام"، حيث جسدت ليلى مراد شخصية المرأة الكفيفة التي تمنعها إعاقتُها تحقيقَ طموحاتها. وفي سنة 1961 قدمت سميرة أحمد في فيلم "الخرساء" شخصية فتاة ذات إعاقة كلامية وسمعية تُغتصب وتعيقها إعاقتها عن الحصول على العدالة التي تنشدها. 

في الثمانينيات والتسعينيات تراجعت السينما عن تصويرها الجيد لذوي الإعاقات، وقدمت صوراً أسهمت في تشكيل مواقف سيئة عنهم. جسّد عادل إمام وعددٌ من الممثلين شخصياتٍ من ذوي الإعاقة أو المتظاهرين بها لأغراض التسول في فيلم "المتسول" سنة 1983. وفي سنة 1991 عُرض الفيلم المصري "الصرخة" للراحل نور الشريف، وقدم مثالاً للتمييز والإقصاء والاستغلال الجنسي لذوي الإعاقات. أما فيلم "توت توت" المعروض سنة 1993، فقد جسّد أسوأ صور الاستغلال الجنسي للنساء صاحبات الإعاقة الذهنية بشخصية كريمة التي أدتها نبيلة عبيد. ثم بدأ تصوير أشكال متنوعة من الإعاقة في سنة 2000 وما بعدها، فقد جسد أحمد رزق دور مريض التوحد الذي يعاني بعد وفاة والده وخروجه للمجتمع واحتكاكه المباشر بالمجتمع في فيلم "التوربيني" سنة 2007. وعرض الفيلم الروائي القصير "ألبوم صور" معاناةَ مريضِ طيف التوحد خالد، أدى دوره علاء عزت، الذي تتمحور حياته في أخته والتقاط الصور. 

بالعودة للأعمال التلفزيونية نجد أن نجاح "خلي بالك من زيزي" في عرضه الشخصيات المتنوعة عصبياً، ساهم في إقناع صناع الأعمال الفنية في تقديم مزيد من الأعمال عن ذوي الأنماط العصبية المتنوعة. فعرض مؤخراً مسلسل "حالة خاصة" لطه الدسوقي مستعرضاً حياة المتعايشين مع التوحد عن قرب، وفي دور البطولة هذه المرة وليس مجرد شخصية مساندة، وقد نجح المسلسل نجاحاً مقبولاً. وفي حكاية عنوانها "حلم حياتي" ضمن مسلسل "إلا أنا" المعروض سنة 2020، جسدت مايان السيد دور شابة متعايشة مع التوحد. ويلحظ المتابعُ تلك الأعمالَ التلفزيونية وقبلها السينمائية حيرةَ صنّاعها في التعامل مع التنوع العصبي بين كونه نمطاً يميّز أصحابه وطريقة تعاطيهم مع الحياة، أو إعاقةً تستوجب التعاطف، وهو ترددٌ حاصل حتى بين المختصين في تصنيف الأنماط العصبية. 


حيرة صناع الأعمال الفنية المصريين في ذوي الأنماط العصبية المتنوعة مجسدٌ في المسلسل الإذاعي "نقطة نور" المنتَج سنة 2018، وهو مأخوذ عن رواية بنفس العنوان للروائي المصري الراحل بهاء طاهر. وللرواية عمقٌ نفسي وروحي، فهي تمثل رحلة البحث عن الحقيقة الداخلية والسلام النفسي بإشارة غير مباشرة لمفهوم الهشاشة النفسية، ومن قرأ الرواية يعرف أن كاتبها رسم بطلَه شخصاً على طيف التوحد ولو لم يصرح بهذا أو يشير إليه إشارة مباشرة في الرواية، ولم يلتفت لمفهوم تنوع الأنماط العصبية وإنما تعرض لإرهاصاتها وانعكاساتها على شخصية البطل ومحيطه الاجتماعي. 

لا يُصرح لنا في المسلسل أن شخصية سالم، التي أدّاها أحمد سلامة، تعاني من التوحد أو أي اضطراب نفسي، لكن بهاء طاهر رسم هذه الشخصية ببراعة تجعلك تتساءل عن سلوكياتها وهل سالم متوحد أم مضطرب نفسياً. فسالم ذكي نابغ، نشأ انطوائياً خجولاً صامتاً فلقبّوه في أسرته عبادةَ بن الصامت. تتناوب على سالم حالة من الذهان يفقد فيها التحكم بأعصابه، إذ يكون طبيعياً ثم تستولي مشاعر الغضب عليه فجأة، فيشتم ويضرب ويلوّح بيده ويضرب برجليه، وتسيطر عليه هذه الحالة بضعَ دقائق.

إن الأفق الذي يتحرك فيه سالم مغلق يحاصره الخوف والقلق. لكن شخصية سالم لا يمكن فهمها إلا في ضوء شخصية الأب شعبان، الذي أدى دوره الفنان فتوح أحمد، الذي منعه مراراً من الاختلاط بأولاد الحارة بحجة أنهم دون المستوى. سالم شخصية ممزقة بين قيم الحداثة وانقلاباتها العلمية والفكرية المتسارعة وبين تربية صارمة بين الأب والجد. الأب لم يكمل تعليمه الثانوي واكتفى بكسب قوت يومه، تاركاً تربية سالم وأخته للجد "الباشكاتب" الذي أدى دوره محمود ياسين. تنغلق شخصية سالم على مثاليتها ومعتقداتها التي شحنها الجد بالخرافة ووسمها بالورع، ويُحدث ذلك التمزق شروخاً داخل طفلٍ أصبح في سنوات شبابه يعاني من انفصامٍ مرَضي يشبه الصرع.

وبقراءة الرواية أو متابعة المسلسل نجد أن بهاء طاهر ألمح لمغايرة شخصية سالم لأنماط التفكير والتواصل والتفاعل السائدة بمجموعةٍ من السلوكيات، فبطله منعزل عن العالم الخارجي ويتجنب التفاعل مع الناس، ما يغذي شعوره العميق بالاغتراب. يختلط في عالمه الواقع بالخيال، ويتضح هذا الاختلاط بين الواقعي والخيالي في طريقة تفسيره الأحداثَ، فتصبح رؤيته للعالم مشوهةً ومليئةً بالمبالغات.

عندما يلتحق سالم بكلية الحقوق ويحب لبنى، يعتمل داخل نفسه صراعٌ حاد بين رغبته المحمومة في التواصل وعجزه عنه. هذا الصراع يخلق داخله شعوراً بالوحدة والضياع. تظهر أيضاً معاناة سالم في لغته المترددة وأفكاره المبعثرة، كلماته مرتبكة ومتناقضة، وقدرته على التكيف مع الواقع محدودة. منظوره للحياة يتأرجح بين العمق والفلسفة أحياناً، وفي أحايين أخرى غير منطقي ومتسق مع ذهانه، وهو ما يفصله عن واقعه. أما علاقته مع بقية الشخوص وخصوصاً والده فينتابها التوتر والغموض، إذ تسيطر عليه أحاسيس الشك والنفور في جميع تعاملاته الاجتماعية.

صورةُ سالم صورةٌ مأساوية لكنها مليئة بالإنسانية، تجد نفسك تتعاطف مع معاناته دون أن تنظر له نظرةً سلبية. ولكن نقطة القوة في هذا المسلسل عرضُه نمطاً عصبياً، يشار إليه عادة باعتباره مرضاً نفسياً، بصورة تقربه من المتلقي وتدفعه لتجاوز التعامل مع الأنماط العصبية المتنوعة أو المرض العصبي باعتباره وصمة عارٍأو هالة غموضٍ تحيط بالشخص المختلف، لا سيما إن كان يعاني من نمطٍ عصبي مخالف للنمط العام في المجتمع.


في الوقت الذي يتعامل مسلسل "نقطة نور" مع اختلاف الأنماط العصبية بالإشارة لا التصريح، نجد أن مسلسل "خلي بالك من زيزي" يقترب من القضية توضيحاً وتفصيلاً بتركيزه على حالة فرط الحركة وتشتت الانتباه (إيه دي إتش دي)، وهي واحدة من مظاهرٍ عدة لاختلاف النمط العصبي. ليس هذا وحسب، بل يردم الفجوة في فهم علاقة الأشخاص أصحاب هذا النمط العصبي والمعالج النفسي.  

جلستُ في أول يوم من رمضان سنة 2021 مع أسرتي أمام التلفاز، وشاهدنا الحلقة الأولى من مسلسل "خلي بالك من زيزي"، من تأليف مريم نعوم وإخراج كريم الشناوي. منذ اللحظة الأولى بدا المسلسل كما لو أنه "الحصان الأسود" للأعمال المصرية في ذلك العام، وهو تعبيرٌ يُشار به إلى المسلسلات التي تنجح كما نجح في التربع في أيام عرضها الأولى على عرش المشاهدات في مصر والعالم العربي، وهذا وفقاً لإحصاءات منصة شاهد الرقمية.  

تبدو بطلة المسلسل زيزي، وأدت دورها أمينة خليل، للوهلة الأولى شخصية غريبة الأطوار ولا نعرف سبب تصرفها كذلك، فهي مندفعة عصبية صدامية عشوائية تنتابها نوبات غضبٍ لا تنتهي. كنا نتصور في البداية أن سببها فشل البطلة في الحمل والإنجاب. لا تهتم زيزي بإيقاف السيارة بإتقان، وردود أفعالها على النكات التي لا تفهمها سخيفة. من الحلقة الأولى يبدو أن حياتها تنهار، ويبدو أنها سبب ذلك الانهيار. 

يبدأ المسلسل بمشاهِد زيزي وانفعالها وهي تخبر زوجها هشاماً، وأدى دوره علي قاسم، بفشل محاولتها في الإنجاب بالتلقيح الصناعي للمرة الخامسة. يقرر هشام أن يخبرها وهما جالسان في السيارة أنه لم يعد قادراً على العيش معها. تضربه على رأسه بقطعة معدنية، ثم تخرج من السيارة وتحطم زجاجها الأمامي وتغادر. يلجأ هشام إلى القضاء ويستعين بمحامٍ يدّعي بأن زيزي تسببت بكسرٍ في العمود الفقري لهشام. تلجأ زيزي للمحامي مراد الفرماوي، وأدى دوره محمد ممدوح، لتكسب القضية. في سبيل ذلك، يساعد المحامي زيزي على التحكم بانفعالاتها بأكثر من طريقة، فيلجأ إلى ممثل مسرحي يُدربها على التصرّف بهدوء في المحكمة، وإلى مدرب رياضي لتفرّغ طاقتها وغضبها، وإلى طبيب نفسي لتهدئتها بفهم ما تمرّ به. 

ونحن نشاهد زيزي تكسر زجاج سيارة زوجها نظر إليّ أبي ولسان حاله يقول، تصرفاتك تشبه تلك التصرفات العشوائية إلى حد كبير. ظننت أن زيزي تعاني من اضطراب ثنائي القطب الذي أعاني منه، وهو اضطراب نفسي يسبّب نوباتٍ من الاكتئاب ونوباتٍ أخرى من الابتهاج غير الطبيعي. يقارن الخبراء هذا الاضطراب بتقلبات الطقس، وقد يسبب الاضطراب البقاء مستيقظاً لأيام جراء التفكير الزائد. وكثيراً ما يربط الناس بين تلك الحالة النفسية وذلك المزاج المتقلب والجنون، في حين لا ينظر الناس عادةً إلى حجم المعاناة التى يعانيها ذوو الإعاقة أو من يخوضون معركة مع أمراضهم النفسية. 

تدريجياً وبمرور الحلقات نفهم وضع زيزي وأصل سلوكها، وهذا الفهم يجعلنا نتعاطف مع شخصيتها. يُظهر لنا المسلسل انعدام الثقة بالنفس الذي يمكن أن يشعر به الأفراد المتعايشين مع اختلاف النمط العصبي وما يسببه لهم من إعاقة التواصل واتباع الأنماط المعتادة للتفكير والتفاعل مع من حولهم وما يواجهونه. وجاء التركيز في المسلسل على معاناة إعاقة فرط الحركة وتشتت الانتباه، لأن المتعايشين معها لا يستطيعون تحقيق ما يمكن للآخرين تحقيقه بنفس الطريقة أو بنفس السرعة. كالقول إن كنت تعاني من إعاقة جسدية أو نفسية، فإن المجتمع يتوقع منك الفشل وسيلومك باستمرار، لكن المثير أن زيزي تصبح ألطف وأكثر تصالحاً مع نفسها بعد أن تفهم حقيقة مرضها. 

اللحظة المحورية والنقطة الإيجابية التي استخدمها صناع المسلسل كانت عندما قررت زيزي طلب المساعدة من طبيب نفسي، ليس لأن الآخرين ضغطوا عليها للقيام بذلك وحسب، بل لتفهم نفسها وتتعلم التعاطي مع حالتها. وهو ما يمكن أن نسميه مساهمة واعية للمسلسل في وضع بذور الحل باعتباره يأتي من الداخل وبتعديل منظور الشخص للحياة وعن الذات، وهو بهذا يتجاوز الخرافات الاجتماعية عن كون الإعاقة النفسية حالة عابرة أو يمكن تجاوزها "بالفهلوة" أو باعتبارها علامة من علامات البعد عن الله أو نتيجة منحى حياة خاطئ.

نرى هنا لمحات من زيزي الغاضبة وهي طفلة، وحيدة في غرفة الغسيل بسبب شقاوتها. وهذه المشاهد (أو ما يعرف بالإنجليزية باسم الفلاش باك أي العودة لذكريات الماضي وخبراته) وسيلةٌ يستخدمها صناع الفن كما يعتمد عليها العلاج النفسي لخلق سياق للمشكلة الآنية وفهمها بما يساعد على تجاوزها أو التعايش معها. وهنا يذكرنا الطبيب النفسي بمدى تأثير الأشياء التي حدثت في الطفولة على ما نحن عليه الآن. سامي لطيف وصبور، يغرس البذور ويسمح لها بالنمو، هو الطبيب النفسي -ومن منطلق تجربتي الخاصة مع الاضطرابات النفسية- الذي يحلم به أي شخص. تدرك زيزي أنها لم تكن كما اعتقدت وكما أقنعها من حولها "مجنونة"، ولم تكن عصبيتها بلا سبب أو سياق. تقول زيزي: "اتشال من عليّا تهمة الجنان اللي لبساها طول حياتي". وفي هذا لوم الذات والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها.  

وكما يتحدى المسلسل النظرة النمطية في المجتمع لأصحاب الإعاقة، فإنه يشجع على استكشاف خيارات العلاج النفسي السلوكي قبل اللجوء إلى العقاقير.

من العناصر الدالة على جدية تعامل المسلسل في طرح قضايا ذوي الأنماط العصبية المتنوعة، جاء استخدامه واحدة من نظريات علم النفس الجديرة بالتأمل، نظرية التشابه والجذب أو فرضية التماثل (أو التشابه)، التي تفترض أن الإنسان يميل إلى من يشبهه نفسياً ويجذب من هم على شاكلته فيتعافى بهذا "الائتلاف النفسي". وها هي زيزي تلتقي بنسخة مصغرة منها أو شخصية تشبهها. فتبدأ رحلة استثنائية يتقاطع فيها مسار حياتها مع مسار حياة الطفلة "تيتو" التي أدت دورها ريم عبد القادر. نتابع زيزي وهي تكتشف نفسها في تيتو المصابة بنفس نمط التنوع العصبي. تسعى زيزي لفهمها أكثر فتحاول إنقاذ نفسها بإنقاذ تلك الطفلة وتقديم الدعم والمساندة اللذين لم تتلقاهما زيزي نفسها في طفولتها، وكأن هذا كله بمثابة إنقاذ لزيزي الطفلة التي بداخلها. قد تكون الأزمات النفسية مستترة أحياناً، فلا تتطلب ردود أفعال معينة ولا تصرفات معينة لكي تُكشف. لولا تقاطع مسار حياة زيزي مع تيتو لما عرفت زيزي أنها مصابة بفرط الحركة وتشتت الانتباه.

اتخذ المسلسل من هذا الائتلاف الشخصي والنادر بين زيزي وتيتو صورةً ليبيّن ندرة البدائل والدعم الخارجي لمن يعانون من أعراض تشتت الانتباه وفرط الحركة، أو من هم على شاكلتهم داخل الطيف الأوسع لتعدد الأنماط العصبية. الافتراض أنه لو اختفت زيزي فستترك فراغاً هائلاً قد لا يُعوَّض في حياة تيتو. ففي بيئةٍ تفتقر للكثير من سبل الدعم المؤسسي بل الوعي المجتمعي الذي قد يُعوِّض تيتو عن زيزي، لا يجد من يعانون الإعاقة النفسية المساحةَ الكافية للتعافي والاندماج في واقعهم. وكأن المسلسل يقرع جرس إنذار لقضية لم يبدأ الانتباه لها رسمياً إلا في السنوات القليلة الماضية، ولم يصل فهمها وتبنيها درجة النضج بعد. ومع التقدم الملحوظ الذي حققته مصر والمنطقة العربية عموماً في محاولاتها القضاء على وصمة المرض النفسي وتنميط ذوي الإعاقة، إلا أننا مازلنا لا نعي أهمية الصحة النفسية، وهذا ما يبرزه المسلسل. والسؤال الذي يطرحه العمل، لماذا من المهم أن نبذل قصارى جهدنا لفهم ذوي الإعاقة والتعاطف معهم، أو من يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية؟ الإجابة المطلوبة مستفزة، ولسبب وجيه وهو شحذ الانتباه. أول الإجابة، الجهل الشديد وقلة الوعي، فالناس دائماً يعدّون الأشخاص ذوي الإعاقة شخصيات مأساوية ومثيرة للشفقة وشريرة وعبئاً، إلى غير ذلك من الصفات السلبية. وآخر هذه الإجابة، إكساب هؤلاء الأشخاص الثقة للتعبير عن مخاوفهم، وفي خنق ظاهرة سائدة وإسكات ألم نفسي قاتل.


في حين أشار مسلسل "نقطة نور" لحالة الذهان والغربة الذاتية في مجتمعٍ يراه الكاتب نمطياً لا يترك مساحةً كافيةً للمتنوع عصبياً، يتناول "خلّي بالك من زيزي" أموراً مشابهة، لكنه يتعمق بتفكيك المفاهيم السائدة عن من يعانون المشاكل النفسية والمعالجين النفسيين على حد سواء، إذ أضفى طابعاً إنسانياً على كليهما.

قدم "خلي بالك من زيزي" تجربةً درامية نجحت في تجاوز تراث طويل من التمثيلات الثقافية في السينما والتلفاز والأدب، نقلت تصوراتها عن الإعاقة من الثقافة الشعبية التي ترى في الإعاقة أزمة فردية يكفي عزل أصحابها ونبذهم لحلّ المشكلة. لذلك أصبح من الضروري إنتاج أعمالٍ تلفزيونية ومسرحية وسينمائية تتناول القيود الاجتماعية التي يواجهها هؤلاء الأشخاص، فربما يساعدهم ذلك في تحررهم الاجتماعي وتغيير حياتهم للأفضل.

اشترك في نشرتنا البريدية