كانت معظم التجارب التجديدية في قراءة القرآن، خاصةً في المشرق العربي، جزئية. أي إنها توقفت عند التحرّر من الأدوات والصور التقليدية في استكشاف المعنى القرآني وكتابة التفسير. واقتصر تجديدها على عرض تفاسير جديدةٍ لآياتٍ قرآنيةٍ تتسق مع العلم الحديث، دون أن تصيغ منهجاً جديداً يعرض قراءةً كليةً للنص، ويحِلّ محلّ المناهج التقليدية المنتقَدة. يظهر هذا في تفسير المنار الذي ألّفه محمد عبده ورشيد رضا في بدايات القرن العشرين.
لم يكن الوضع في الهند كما في المشرق العربي. إذ ظهرت في هذه الفترة محاولةٌ جادةٌ لتجديد النظر في القرآن، وهي محاولة عبد الحميد الفراهي. قدّم الفراهي، المعروف أيضاً بِاسم حميد الدين، ملامحَ منهجٍ متماسكٍ يقوم على النظر للقرآن وحدةً واحدةً تحمل نظاماً خاصاً. وعدّ اكتشاف هذا النظام المبدأَ المنهجي الأساس في فهم القرآن، والذي يؤدّي العزوف عنه إلى تناقض التفسيرات التراثية، وبُعدها عن إدراك المقصد العامّ للنصّ بالوقوف عند الخلافات الجزئية.
عُرفت أفكار الفراهي على نطاقٍ واسعٍ في سياق الدراسات الغربية عن القرآن. إذ تلاقت مع التطورات التي عرفتها هذه الدراسات باستخدام المناهج الأدبية والكتابية. وبدايةً من ثمانينيات القرن العشرين، اندمجت رؤى الفراهي، ثم تلميذه أمين أيوب إصلاحي، ضمن مقاربةٍ جديدةٍ للقرآن هي "الاتجاه التزامني الأدبي"، الذي نظر للقرآن نصاً يحمل بناءً موضوعياً وتركيبياً خاصاً. أبرز هذا السياق راهنيةَ رؤى الفراهي وإصلاحي، وقدرتَها المعرفية على تطوير النظرات المعاصرة للقرآن. فتُرجِمَت أعماله للغاتٍ مختلفةٍ، وكتب عنها بعض الدارسين.
ومع أنه ألّف معظم كتبه بالعربية، ظلّ الفراهي بعيداً عن الاهتمام المعرفي العربي. إذ اقتصر الاهتمام به على إشاراتٍ عابرةٍ، مثل امتداح رشيد رضا عملَه ونظرَه الثاقب في القرآن، في مقالٍ نشره في مجلة المنار سنة 1909. وحتى الكتابات العربية القريبة من فكر الفراهي، مثل كتب "التفسير الموضوعي" للقرآن، التي تفترض في كلّ سورةٍ وحدةً موضوعيةً، لم تنقل عن الفراهي أو تناقشه ولم تستفد من منهجه. ظلّ الأمر هكذا إلى مطلع القرن الحادي والعشرين، حين أعاد أمين أيوب إصلاحي نشر أعماله. ومع إعادة نشر تفسيره المسمى "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" سنة 2008، بدأت الدراسات العربية تلتفت له.
تختلف مقاربة الفراهي عن هذه المقاربات. فهو لم ينطلق في تفسيره القرآن من إشكالات عصره الخاصة، ولكن من اشتباكٍ نقديٍ مع التراث التأويلي يحاول تصحيح مساره في استكشافه الهديَ القرآني. وتختلف كذلك في تجاوزها التعاملَ الجزئيَّ مع القرآن، وبلورتها منهجيةً جديدةً لتفسيره.
في كتابه "دلائل النظام" المنشور سنة 1968، يفترض الفراهي وجود معضلتين في التفاسير التراثية. الأولى هي التعامل مع القرآن ذرّياً أو جزئياً أو تبعيضياً، دون إدراك وحدته الشاملة. يقصد الفراهي بذلك أنهم اتخذوا كلّ آيةٍ وسورةٍ على حِدَتِها، دون أن يظهروا اهتماماً كبيراً بوحدة الآيات المتتالية أو السورة الواحدة موضوعياً. وحتى حين تناول بعضهم العلاقات بين الآيات والسور، مثل فخر الدين الرازي المتوفى سنة 1210 في تفسيره "مفاتيح الغيب"، وأبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 1344 في تفسيره "البحر المحيط"، وبدر الدين البقاعي المتوفى سنة 1480 في تفسيره "نظم الدرر في تناسبات الآي والسور"، فإنهم، اقتصروا على التناسبات بين الآيات أو السور المتقاربة، دون بحثٍ منهجيٍ للفكرة الناظمة للسورة أو لمجموعة سورٍ وعلاقاتها، ودون البحث عن النظام الشامل للقرآن.
المعضلة الثانية هي انطلاق هذه التفاسير من فرضية تعدُّد معاني القرآن، واختلافها الواسع في تحديد هذه المعاني. دفعت هذه الفرضية المفسرين للمبالغة في ذكر المعاني المحتملة للآيات المختلفة، باعتبار هذا الاختلاف من سمات القرآن. وضاعف الاختلاف المذهبي العقدي والفقهي هذه المعاني، وهو ما دفع كلَّ مفسّرٍ للتمسك ببعضها ومعارضة الباقي، مما وسم التفسيرات التراثية بالتشتت والتناقض أحياناً.
يقابل الفراهي هذين الأساسين بأساسين آخرين. الأول أن القرآن لا تُدرَك مقاصده إلا ببحث نظمه وتماسكه على مستوى السورة الواحدة والقرآن كاملاً. والثانية أن القرآن ليس متعدد المعنى أو ظنّي الدلالة، بل يحمل معنىً واحداً قطعياً يقينياً.
يتخذ الفراهي القرآنَ كلَّه وحدةً واحدةً، ويبحث العلاقة بين الآيات والسور في إطار هذه الوحدة. هذا النظام، أو "إقليد المعرفة" كما يسميه، هو مفتاح فهم الهدي القرآني عنده، وطريق الوصول للمعنى القرآني الواحد واليقيني.
ويخالف الفراهي أئمة التفسير وطريقتهم المعهودة على مرّ قرونٍ بإصراره على قطعية المعنى القرآني. وفي هذا السبيل، يعيد تعريف "المتشابه القرآني"، وهي الآيات التي يصرّ المفسرون أنها تحتمل معاني متعددةً، على عكس الآية المحكمة قطعية الدلالة. يحاجج الفراهي أن تحديد ما إذا كانت الآية محكمةً أو متشابهةً يخضع لموقف المفسر المذهبي. فالآية المحكمة واضحة المعنى عند مذهبٍ هي نفسها المتشابهة متعددة المعاني المحتمَلة عند غيره. لذا يعدّ الفراهي الآيات المتشابهة مثل المحكمة، يمكن تفسيرها والوصول لدلالتها القطعية الواضحة، والفارق الوحيد بينهما أن الآيات المتشابهة لا يمكن فهم حقيقتها على التمام، إذ تتعلق بأمورٍ غيبيةٍ مثل الخلق والقيامة والآخرة، وفهمُ هذه الأمور على حقيقتها ليس من اهتمامات التفسير.
في كتابيه "دلائل النظام"، و"التكميل في أصول التأويل"، اللذين جمعهما وطبعهما بدر الدين الإصلاحي سنة 1968، يعرض الفراهي منهجه لاستكشاف النظام القرآني وبحث دلائله داخل النص. حدد الفراهي "عمود السورة" باعتباره مقصدها العام، والخط الناظم لكل تفاصيلها. ومع أهمية النظام في ضبط فهم القرآن، يؤكد الفراهي أن القدماء فوّتوه لصعوبة معرفته. فإيجاز القرآن في إيصال حكمته للعالمين يجعل النظام الساري فيه خفياً على القارئ، فلا يُدرَك مباشرةً. يبدأ القارئ من تحليل المستويات اللغوية والنحوية والتركيبية للسورة، ثم عبر طول التدبر والتأمل يصل إلى النظام.
قدّم الفراهي عمود السور القرآنية، ولفت النظر للعلاقة بين بعض السور المتتابعة. فسورة الفاتحة هي ديباجة للقرآن، فيها مفاتحيه. وسورة البقرة هي سورة الإيمان لجمعها دلائله. وسورة آل عمران، هي سورة الإسلام إذ تدور حول طاعة الرسول. وترتبط البقرة بآل عمران من أوجهٍ كثيرةٍ، منها اشتراكهما في مواجهة التحريف وإعلانهما القرآن هادياً ووعدهما بالنصرة.
يجمع الفراهي بعض السور المتتابعة في مجموعات. فيجمع سور الملك والقلم والحاقة والمعارج ونوح والجن والمزمل والمدثر والقيامة والإنسان ويعدّها سوراً في الملك الإلهي وإرسال الرسل والنذر وأمر النبيّ بالصبر والتوكل على الله. ويرى السور من القدر إلى الهُمَزة سوراً عن رفعة منزلة النبوة ودورانها حول الرحمة التي هي ملكوت الله، وإبطال أهل الشُحّ والدنيا. هذه الفكرة عن أزواج السور، ثم عن الزُمر أي مجموعات السور، هي ما عَرف حضوراً أوسع مع تلميذ الفراهي، أمين أحسن إصلاحي، إذ جعل هذه الفكرة مركزيةً في نفسيره المنشور باللغة الأُوردية سنة 1980 "تدبُّرِ قرآن" (تدبُّر القرآن).
لم يستحضر كُتّاب التفسير العرب نظريات الفراهي في أعمالهم، على تلاقي هذه النظريات مع أفكارهم. فالاهتمام باستكشاف الوحدة الموضوعية للقرآن وانتهاج تفسير القرآن بالقرآن، والرغبة في تجاوز التفسير التراثي، كلها أفكارٌ يشارك فيها الفراهي التفاسير العربية، من المنار وإلى تفسير الظلال لسيد قطب ومدرسة أمين الخولي الأدبية. كان من الممكن تفسير هذا بقلّة المعرفة بكتبه، كونها صدرت في الهند ونفذت قبل أن تصل لأيدي العلماء العرب، وفق ما يخبرنا محمد أيوب الإصلاحي في مقدمته كتاب "مفردات القرآن" الصادر سنة 2002. لكن إشارة رشيد رضا إلى أعماله تظهر أن هناك معرفةً بتفسيره.
يبدو اختلاف منطق كتب الفراهي عن الكتابات العربية المزامنة له السببَ الرئيس لتجاهل أعماله. فمع تشابه الأهداف والأفكار العامّة،كان تجديد التفسير في المشرق العربي جزئياً، بينما تجديد الفراهي منهجي. هدف المفسرون العرب لتقديم تفسيرٍ هدائيٍ يبرِز القرآنَ مرجعاً أخلاقياً واجتماعياً، ومكتوبٍ بلغةٍ عصريةٍ بسيطةٍ يُسهّل على العوامّ قراءتها، وتركّز اهتمامهم التجديدي في إعادة تفسير الآيات ذات الصلة بالمدنية الحديثة. في المقابل قصد الفراهي صناعة منهجٍ جديدٍ، يبدأ من تفسير الألفاظ ثم يصل إلى النظام. وخلافه مع التراث جذريٌ يطال المنهج المتّبع لاستكشاف المعنى، ولا يقف عند طرائق الكتابة. وتفسيره يظلّ تفسيراً علمياً يبتغي ضبط مسار التفسير، وليس تفسيراً موجهاً للعوامّ المعاصرين لربطهم بالنصّ.
أعاد محمد أجمل أيوب الإصلاحي نشر كتب الفراهي بدايةً من سنة 1995. وبعد نشر تفسير "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" سنة 2008، تتابعت الدراسات المدرسية التي تشرح أفكار الفراهي وتموضعه في إشكالات تخصص علم التفسير المعاصر. مثلاً، نشر محمد فريد راوي كتاب "الإمام عبد الحميد الفراهي وجهوده في التفسير وعلوم القرآن" سنة 2015، وفصَّل فيه آراء الفراهي في معظم قضايا التفسير مثل أقسام القرآن والناسخ والمنسوخ وأساليب القرآن ومفرداته، مقارنةً برؤى بعض العلماء السابقين مثل جلال الدين السيوطي وبدر الدين الزركشي ومكّي أبي طالب. وبحسب تقرير "عبد الحميد الفراهي، سيرته، جهوده في الدراسات القرآنية، الكتابات حوله" الصادر سنة 2024، تنشغل جلّ الدراسات العربية عن الفراهي بقضايا مشابهة.
وثمّة دراساتٌ قليلةٌ قرأت الفراهي في ضوء إشكالاتٍ فكريةٍ أوسع. ففي دراسته "علم التأويل والحاجة إلى ميزان فهم القرآن" المنشورة سنة 2015، يرى عبد الصمد غازي مشروع الفراهي مشروعاً لإصلاح الأمّة فكرياً وعقائدياً. إذ أن البحث عن النظام يساعد على التخلص من تشتّت الأمّة على مستوى العقائد وعلى استقاء الأخلاق من القرآن، بدلاً من انشغال كتب التفسير بجمع التفسيرات الركيكة أو الروايات الواهية.
وحاول خليل محمود اليماني دمج رؤية الفراهي ضمن سؤالٍ معرفيٍ حول التفسير ومرتكزات تحديد المعنى داخل التراث. ففي كتابه "حجّية تفسير السلف عند ابن تيمية" الصادر سنة 2021، يرى اليماني أن طرح الفخر الرازي عن تعددية المعنى القرآني وظنّيته أظهر الممارسة التفسيرية خاليةً من مرتكزاتٍ أو قوانين علميةٍ لتحديد معنى القرآن، مما دفع بعض المحاولات اللاحقة لطرح بعض المرتكزات التقنينية. وبينما كان هذا المرتكز أو القانون عند ابن تيمية تفسيرات السلف المؤسسة على البيان النبوي، فإن الفراهي وضع "نظام القرآن" قانوناً لتحديد المعنى.
شهدت السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين بداية تحوُّلٍ في النظر للقرآن. إذ ظهرت بعض النظريات التي أعادت الاعتبار لبنيته الخاصة محدِّداً أساساً لدراسته. وكان لعمل الفراهي وإصلاحي أهميةٌ كبيرةٌ في هذا السياق.
استُعملت المناهج الأدبية في دراسات القرآن في سبعينيات القرن الماضي. فقد طبَّق الأمريكي جون وانسبرو منهج نقد الشكل، أي تحليل النصوص إلى الأشكال الأدبية الأصغر التي تتشكّل منها، على القرآن وعلى المدونات المبكرة في السيرة والتفسير، في كتابه "كورآنيك ستاديز" (الدراسات القرآنية) الصادر سنة 1977. لم تختلف نتائج دراسة وانسبرو عن النظرة العامة السابقة للقرآن. إذ افترض تشكُّل القرآن من نصوصٍ مختلفةٍ جُمِعَت وحُرِّرَت على مدار عقودٍ، في وسطٍ دينيٍ مسيحيٍ ويهودي. إلا أن كتابه فتح الباب لتطبيق المنهجيات الأدبية الحديثة والمناهج الكتابية على القرآن، والتفكير في الأنواع الأدبية التي يحويها النص القرآني، وعلاقة هذه الأنواع الأدبية، مثل الموعظة والقصة والمثل والنبوءة، بالأنواع الأدبية الموجودة في النصوص الدينية السابقة، وخصوصاً الكتاب المقدس العبري والأناجيل.
وفي سنة 1981، صدر كتاب "شتوديان زور كومزيتسيون دير ميكانش سور" (دراسات حول تركيب السور المكية) للمستشرقة الألمانية أنغيليكا نويفرت. توسّعَت نويفرت في تطبيق المناهج الأدبية لدراسة بنية النص، فأبرزت تماسك النص القرآني، ووحدته الأدبية الأساس، أي السورة. وانتقدت المقارنة بين القرآن والكتاب المقدس بناءً على اشتراكهما في الأنواع الأدبية، دون إدراك ابتكار القرآن وحدته الخاصة أي السورة. وعدّت هذا السببَ الرئيسَ في عدم التفات الدارسين الغربيين لتوفُّر القرآن على نظامٍ خاصّ. فالسورة وفق نويفرت، وخصوصاً في المرحلة المكّية الوسيطة، تبدو بنيةً أدبيةً تشبه الحلقة، يستعيد آخِرُ النصّ فيها أوّلَه. وهي تتبع "النمط النبوي" في الكتاب المقدس، الذي يضمّ داخله عدداً من الأنواع الأدبية الأخرى، مثل التمجيد والقصة الكتابية والمثل. على عكس توزُّع هذه الأنواع في كتاباتٍ مختلفةٍ في الكتاب المقدس.
حاولت نويفرت إبراز الأهمية الأساسية للقوافي أو الفواصل القرآنية. لا تمثل هذه الفواصل والقوافي نوعاً من الحيلة أو الزخرفة، كما افترض القدامى، بل تمثل جزءاً من بنية السورة ووظيفتها في الشعائر. وبحسب نويفرت، عرف القرآن منذ نهايات المرحلة المكية المتأخرة تحرراً في استخدام الفواصل وفي طول الآيات، يناسب تجاوز شكل السورة الطقسيّ وتغيُّر وظيفة السور، مما يجعل السور المدنية سوراً كبيرةً تفتقد التماسك النصِّي المميِّز للسور المكية.
استُكمل هذا التحول في دراسات القرآن الغربية مع ظهور كتاب الباكستاني مستنصر مير "كوهيرَنس إن ذا كورآن: آ ستادى أوف إصلاهيز كونسبت أوف نزم إن تدبري كورآن " (التماسك النصي في القرآن: دراسة لمبدأ النظم في تفسير تدبُّر القرآن لإصلاحي) سنة 1986. قدَّم الكتاب للدراسات القرآنية الغربية نظريّتَي إصلاحي والفراهي حول نظم السورة وأزواج السور أو زمرها تفصيلياً. وتبعته كتبٌ كثيرةٌ تدمج في تناولها مناهج دراسة القرآن، مع رؤية الفراهي وإصلاحي، وتقيِّمها وتنتقدها وتطوِّرها، مثل كتاب "ديسكفرينغ ذا كورآن: آ كونتمبوراري أبروتش تو آ فيلد تيكست" (اكتشاف القرآن: قراءةٌ معاصرةٌ لنصٍّ محجوب) للقسّ نيل روبنسون، المنشور سنة 1996، والذي أفرد فصله الأخير لنظريات العالِمَيْن الهنديَّيْن.
تزامن هذا مع تطوُّر دراسات الكتاب المقدس وظهور منهج "التحليل البلاغي السامي" مع مدرسة رولان مينيه أستاذ التفسير الكتابي. تفترض هذه المدرسة احتواء الكتاب المقدس نظاماً خاصاً في بناءه يختلف تماماً عن نظام الكتابة الخطيّة المعهود، والذي يتكون من مقدمةٍ ثم موضوعٍ ثم خاتمة. ويشمل هذا البناء صوراً تركيبيةً مختلفةً تنظم الموضوعات. منها النظم المتوازي، أي انقسام النصّ لقسمين يكرّران الموضوع ذاته. ومنها أيضاً النظم المعكوس الذي يعكس أو يقلب القسم الثاني فيه موضوعات القسم الأول. يفترض هؤلاء الدارسون عدم تفرُّد الكتاب المقدس بهذا النظم، الذي يسمّونه "النظم البلاغي السامي"، ويحاولون تطبيق نتائجهم على بعض الخطابات العربية، ومنها القرآن.
طبَّق الراهب البلجيكي الدومينيكاني ميشيل كويبرس هذا المنهج على السور المدنية الطويلة. وفي سنة 2005 نشر كتابه حول "نظم سورة المائدة"، الذي ترجم للعربية سنة 2016. يبرز الكتاب تماسك السور المدنية الطويلة نصّياً، وانتظامها وفق نظم البلاغة الساميّة. تتوازى اكتشافات كويبرس مع نظريات الفراهي عن انتظام موضوعات سور القرآن إما ترادفياً، أيْ أن أقسام السورة تكرِّر الموضوع والتركيب نفسه، أو تقابلياً أيْ إن أقسام السورة الأخيرة تعكس الموضوعات الأولى، أو تكاملياً إذ تكمل موضوعات السورة بعضها بعضاً كما في النظم المحوري. ويعدّ كويبرس نظرات الفراهي رائدةً في هذا الاكتشاف، غير أنه يعدّ ما اقترحه الفراهي من صور النظم، وليس بنية النظم نفسها، التي يحاول هو استشكافها بمنهجه.
حاول بعض الدارسين الدمج بين رؤى الفراهي وإصلاحي وبين النظريات الأخرى حول نظم القرآن. يبرز هذا على سبيل المثال في دراسة الأمريكي ريموند فارين أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة الأمريكية بالكويت، حول سورة النساء "بنية سورة النساء ومركزية العدل" المترجمة على موقع "تفسير" سنة 2022. وفي سنة 2014 صدر كتاب فارين "ستراكشر آند إنتربريتيشن أوف كورآن: آ ستادي أوف سيمتري آند كوهيرَنس إن إسلامز هولي تكست" (بنية القرآن وتفسيره: دراسة التناظر والتماسك في نصّ الإسلام المقدس). يأخذ فارين نظرية الفراهي وإصلاحي إلى أقصى مداها، مع الاستفادة من باقي النظريات. ويقسِّم القرآن أزواجاً أو "مثاني" بالتعبير القرآني، فيعدّ سورتَي البقرة وآل عمران زوجاً يرتبط بدعوة أهل الكتاب ويوضح عالمية الرسالة، ويرتبط تاريخياً بغزوتَي بدر وأحد فيدعو مجتمع المؤمنين للتكاتف. ويرى المعوذتين زوجاً في آخر القرآن يستعيذ بالله من الشرّ في العالم، وهو ما يتجاوب مع الفاتحة في بداية القرآن إيضاحاً لطريق الهداية. ثم قسّم القرآن تسع عشرة مجموعةً من السور، تنتظم وفق النظم المحوري الدائر حول مركز. إذ ينقسم القرآن إلى خمس مجموعاتٍ من السور، تليها مجموعةٌ مركزيةٌ، ثم خمس مجموعاتٍ أخرى تقابلها. فالمجموعة الأولى، التي تشمل سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، تقابل المجموعة التاسعة عشرة، التي تشمل سور الكافرون والنصر والمسد والإخلاص. وعدّ السور من سورة ق إلى سورة الواقعة هي المجموعة المركزية، ثم رأى أن سورتَي الرحمن والواقعة، هما قلب القرآن الدائر حول الهداية والرحمة الإلهية.
تبدو هذه القضية صعبة النقاش. إذ يصعب الحصول على مخطوطاتٍ كاملةٍ توضح ترتيب القرآن في كلّ سوره وتكون سابقةً تاريخياً على مصحف الخليفة الثالث عثمان، خاصةً في ظلّ السيادة الشاملة لمصحفه بعد نشره. كذلك فإن المناهج الأدبية مالت للاهتمام بدراسة السور القرآنية وحداتٍ مستقلةً، خصوصاً بعد اقتراحات نويفرت وروبنسون ومير عن تركيب السور المكية، واقتراحات فارين والألماني نيكولاي سيناي والمصرية نيفين رضا والمصري محمد عبد الحليم عن تركيب السور المدنية. لم تهتم هذه الدراسات ببحث صلة السور ببعضها، إلّا في بعض المحاولات المفردة، والتي تبدو متأثرةً بفرضيات الفراهي وإصلاحي حول أزواج السور ومجموعاتها.
في دراسته "هل تأخر ترتيب القرآن لما بعد عهد النبوة؟" المترجمة على موقع "تفسير" سنة 2023، حاول فارين التدليل على وجود ارتباطٍ بنيويٍ بين السور القرآنية في ترتيبها المعهود. يثبت وجود هذا الارتباط أسبقية الترتيب على الجمع، وارتباطه بالمبلِّغ نفسه. ينطلق فارين من نظرية الأزواج التي طوَّرها في كتابه، ويربطها بنظرية عالم الكتاب المقدس نيلس لوند في دراسات الكتاب المقدس، الذي يستدل على ارتباط نظامٍ نصِّيٍ بآخَر، بتكرار موضوعات مركز النظام الأول في أطراف النظام الثاني. ويثبت ذلك في القرآن من خلال النظر في علاقة السور المتتالية في المصحف، المتباعدة في النزول.
وما الفراهي وتلميذه إلا علامةٌ على اتساع العالم الإسلامي غير العربي في الهند وأفريقيا وآسيا. وعلى مساحات المعارف والنظريات والمناهج الواسعة التي يغفل عنها القارئ العربي، عند الانحصار في الأفق العربي. يمثل الانفتاح على هذه المساحات انخراطاً في السياق المتنوع والثري للعلاقة الإسلامية المعاصرة بالتقليد وبالأزمنة الحديثة. ويمثل تواصلاً مع السؤال الأكثر استمراريةً منذ القرن التاسع عشر وإلى الآن في كلّ الأقطار الإسلامية وهو كيف نقرأ القرآن في زمننا المعاصر.

