"
لا تَقتصرُ أسبابُ قلقِ اللاجئين على الخوفِ من بطشِ الأجهزةِ الأمنيّةِ المصريّةِ، بَلْ تمتدّ إلى القلقِ من الغضبِ الشعبيِّ المصريِّ عليهم. إذْ تكرّرَت في السنوات الماضية الحملاتُ المطالِبةُ بترحيلِ اللاجئين، بعد اتّخاذِهم سبباً في التردِّي الاقتصاديِّ، والتلميحِ إلى أنّهم عملاءُ جماعةِ الإخوان المسلمين المحظورةِ في مصر. فمثلاً تُشيرُ وسائلُ الإعلام المصريةُ مِراراً في حديثها عن أزماتِ وجودِ اللّاجئين إلى تقديراتِ المنظّمةِ الدوليةِ للهجرةِ بوجودِ تسعةِ ملايينَ أجنبيٍّ في مصر، مِن غيرِ أن تُفرِّقَ بين اللاجئين والأجانب. وانتشرَت على مواقع التواصل الاجتماعي صُوَرُ سودانيين يُصَلّون صلاةَ عيد الأضحى في حيّ فيصل بالجيزة في يونيو 2024 بتعليقاتٍ عدوانيةٍ تصِفُهم بأنهم "محتلّون" وتطالِب بترحيلِهم إلى بلادهم التي تعاني حرباً. قَبْلَ ذلك بأشهرٍ طالَبَت حملةٌ مشابهةٌ بمقاطعةِ المحالِّ السوريةِ، ودفعِ السوريين للعودة إلى بلادهم. قَبْلَها ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزّة في أكتوبر 2023، بَرّرَتْ تصريحاتٌ رسميةٌ حكوميةٌ وبعضُ وسائلِ الإعلامِ المصريةِ عدمَ فتحِ معبرِ رفح بالخوف من ترحيل الفلسطينيين من غزّة واحتلالِهم سيناء.
يَفِدُ اللاجئون العربُ إلى مصر وسطَ هذه الصعوبات. فالخياراتُ أمامَهم محدودةٌ ومصرُ وَحْدَها مكانُ الإقامةِ المُتاحُ أحياناً، أو طريقُهم إلى أوروبا. وترتبط سوريا وفلسطينُ والسودانُ تاريخياً بمصرَ ارتباطاً يدفع النازحين من تلك البلدان إلى اللجوءِ إليها. وتستفيد الدولةُ المصريةُ مادّياً من وجودِهم بأساليبَ عِدَّة. لذلك تتباينُ تجاربُ اللاجئين ومخاوفُهم من التغيّرات السياسية في مصر والمنطقة، لأسبابٍ مختلفةٍ أهمُّها الدولُ التي نَزَحوا منها، ومُدّةُ بقائهم في مصر، وظروفُهم الاقتصاديةُ، وموقفُ النظامِ المصريِ المتغيرُ من الصراعات في بلدانهم.
استفادَ عيسى من مساعَدةِ المتضامِنين مع اللاجئين بعد وصوله إلى القاهرة. فقد نزلَ في ضيافة صديقِه من جنوب السودان والذي هاجَرَ إلى مصر سنة 2010. وتردّدَ معه على الكنيسة الأُسقُفية التي ساعدَته في العمل بأحد المقاهي الحديثة في حيّ مصر الجديدة شرق القاهرة. بدأَت أمورُ عيسى تستقرّ مع أجرِ العملِ الزهيدِ والإعانةِ التي تقدّمُها الكنيسةُ، فاستأجَر مع آخَرين شقّةً صغيرةً في منطقةِ الألف مَسكَنٍ المتاخِمةِ حيَّ مصر الجديدةِ، التي تقلّ فيها تكاليفُ الحياة خصوصاً السكنَ، وتمكّنَ من ادّخار مبلغٍ شهريٍّ ليرسلَه إلى أُسرتِه في جنوب السودان يستعينون به على صعوباتِ حياتهم.
ينتقل عيسى من شرق القاهرة إلى حيّ المَعادي جنوبَها في العطلاتِ، ليشاركَ عدداً من أبناء بلدِه في جوقة الكنيسة، ويتبادلَ معهم المعلوماتِ عن فرصِ العمل والإقامة والخدمات. بَذلَت الكنيسةُ وأمثالُها من المجموعات والأفراد الداعمين المساعدةَ للّاجئين كعيسى وبني بلدِه من حاملي وثيقةِ اللجوءِ من مفوضيةِ الأمم المتحدة أو ممّن لا يحملونها أكثرَ ممّا ساعدَتهم سفارةُ بلادِهم في مصر. فالكنيسةُ تُقدِّمُ دعماً مادياً وقانونياً ونفسياً وروحياً واجتماعياً لِمَن آلَتْ مساراتُهم إلى مصر بلا أملٍ في عودةٍ قريبةٍ إلى أوطانهم، كما يقول عيسى.
ثمّةَ سودانيون آخَرون من الشمال لا يكفيهم وجودُ جوازاتِ السفر للعودةِ إلى بلادهم، ولا تَحُول الظروفُ الاقتصاديةُ بينهم وبين الوطن إنما تمنعُهم منه تقلّباتُ السياسة. فمِصرُ في العقود الثلاثة الماضية مقرُّ كثيرٍ من مُعارِضي نظامِ الرئيس السابق عمر البشير. فعندما رحلَ البشيرُ ونظامُه مع ثورة 2019 ظنَّ هؤلاء أن ساعةَ العودةِ إلى الوطن قد حانَت، بَيدَ أن صراعَ السياسة والسلاح وتدهوُرَ الأوضاعِ الأمنيةِ السريعَ في السودان بعد الثورة أبقاهُم في مصر.
تَقطُن رؤى وزوجُها محمد في حيّ المهندسين بالجيزة والذي تَسكُنه "الطبقة الوسطى العليا" الموجودةُ في أحياء وسطِ القاهرة. يعمل محمد المولودُ في مصر لأبٍ مصريٍ وأمٍّ سودانيةٍ مهندساً. أما رؤى العاملةُ في تصنيع الحُلِيّ فوُلِدَت في السودان لوالدَين سودانيَّين، وسكنَتها حتى تزوّجَت ثم انتقلَت قبل عشرِ سنواتٍ إلى مصر لتقيمَ مع زوجها. يَرصد محمدٌ توسُّعَ المشروعاتِ الصغيرة والمتوسطة التي يَملكُها سودانيون في السنوات الأخيرة، ويَربط ذلك بنزوحِ أعدادٍ كبيرةٍ من أصحاب الأموال السودانيين إلى مصر بعد استيلاء الجيش على السلطة في أكتوبر 2021 عقب الانقلاب على المسار الديمقراطي الذي أَسّسَت له ثورةُ 2019. يتركّز نشاطُ هؤلاءِ الاقتصاديُّ في ثلاثة مجالاتٍ، أَوّلُها الأغذيةُ، سواءً بتأسيس المطاعمِ التي تقدّم الأكلاتِ السودانيةَ، أو مَحالِّ البِقالة والعِطارة التي تبيع منتجاتٍ سودانيةً تأتي من السودان بخطوطِ تجارةٍ لم تنقطع بعد الحرب. وثانيها تجارةُ الذهب والحُلِيّ الذي تلاحظ رؤى انتشارَه خارج الإطار الرسمي في المحلات المشهورة. أما المجال الثالثُ فهو مراكزُ التجميل التي تعمل فيها سودانياتٌ أو تمتلِكْنَها. وتُقْبِلُ المصرياتُ على هذه المراكز لِما تقدِّمُه من خِدماتٍ تعجبهنَّ كالعناية بالبشرة بمنتجاتٍ طبيعيةٍ غير مكلِفةٍ، ونقشِ الحنّاء على البشرة.
لا يستوي الوافدون في أوضاعهم الاقتصادية. احتدمَت المعاركُ قربَ منزلِ انتصار في العاصمة السودانية الخرطوم في يوليو الماضي فغادرَته إلى مصر مُرغَمة. وبعد أسابيعَ قليلةٍ من التنقّلِ بحثاً عن سكنٍ، استقرَّت في حيّ مدينة نصر شرقَ القاهرة. تعمل انتصارُ في مجال التنمية، وتَنشَطُ في مجتمعات السودانيين بمصر منذ وصولِها. تؤكِّدُ انتصارُ أنّ السودانيين القادمين حديثاً إلى مصر يواجِهون مشكلةً اقتصاديةً في قِلّةِ مواردِهم الماليةِ التي حملوها معهم من السودان، وقلّةِ فرصِ العمل المتاحةِ لهم في مصر. فتكادُ تلك الفرصُ تقتصرُ على المشروعات الاقتصادية التي يملكُها سودانيون، ولا تكفي الأجورُ غالباً لتكاليف التعليم والعلاج، ولا لتكلفةِ السكنِ المشترَكِ أحياناً، فيعودُ بعضُهم إلى السودان بحثاً عن بيتٍ يُؤوِيهم. ويستعينُ بعضُهم الآخَرُ على التكاليف بحوالاتٍ ماليةٍ من ذويهم في دول الخليج العربي التي تحرص حكوماتُها على دعمِ وجودِ اللاجئين في مصر بتسهيل الحوالات، كي لا يسعى مَحْدودو الخبراتِ من اللاجئين في مصر إلى الالتحاق بذَويهم من العاملين في الخليج، كما صرّح مصدرٌ خاصٌّ للفِراتْس.
يبدو هذا التاريخُ حاضراً ومؤثّراً في علاقة مصر بالسودان. يروي دبلوماسيٌّ مصريٌّ سَبَقَ له الخدمةُ في الخرطوم أن السودانيين كثيراً ما عَبَّروا له عن استيائهم من تعالي المصريين عليهم وعلى النوبيين المنقسمين بين جنوب مصر وشمال السودان ومعاملتهم كأنهم أدنى. وتُصوِّرُهم السينما المصريةُ في كثيرٍ من الأعمال المنتَجة بين الأربعينيات والسبعينيات حارسِي عقارات. ويصرّح دبلوماسيٌ سودانيٌ سابقٌ يقيم في القاهرة لمجلّة الفِراتْس أن "التعالي" المصريَ ينعكس على العلاقات الرسمية بين البلدين في صورة التعامل مع السودان بمنطقٍ أمنيٍ متعالٍ مفتقرٍ إلى مقتضيات اللياقة الدبلوماسية، سواءً في المستقرّ منذ عقودٍ من إرسال سفراءَ بخلفياتٍ أمنيّةٍ إلى الخرطوم، أو في نقاشِ القضايا الخلافية، مثل النزاع الحدودي بين البلدين من منظورٍ أمنيٍّ خالصٍ، أو في وقوفِ النظام المصري ضد الثورة السودانية سنة 2019 ودعمِه نظامَ البشير، مع "الانبهار الشعبي" في مصر بالثورة أو ربما بسببه.
يُقلِّلُ السودانيون المقيمون في مصر من أهمّيةِ المضايَقات العنصرية التي يواجِهونَها. يُقِيم أبو القاسم منذ وصولِه مصرَ في الثمانينيات وتأسيسِه نشاطَه التجاريَّ فيها شرقَ القاهرة، حيث تقطن في حَيَّيْ عينِ شمسٍ والألفِ مسكنٍ جاليةٌ سودانيةٌ مستقرةٌ من قَبلِ استقلال السودان عن مصر سنة 1956، حصلَ بعضُهم على الجنسية المصرية وعملوا في هجّانةِ حرس الحدود المصرية، وهي القوات التي كانت مكلَّفةً بحراسة الحدود. شَهِدَ أبو القاسم التنمّرَ عليه وعلى السودانيين مراراً مدّةَ إقامته، وعزا ارتفاعَها إلى بروز الخلافات السياسية بين نظامَي مصر والسودان في الإعلامِ والأزماتِ الاقتصادية التي يَكثر فيها إلقاءُ اللومِ على الآخَر. أما انتصارُ فترى أن لِظاهرة التعالي المصريِ العامةِ أسباباً تاريخيةً، ولكنها ترفضُ وصفَ حالات التنمّر "هنا أو هناك، خاصّةً في المدارس أو في أماكن تجمّعات الأطفال" بالعنصرية.
زادَ العدوان على السودانيين في مصر بالأشهر الأخيرة. يستضيف المُقيمون القدامى اللاجئين الجُددَ، مما يزيد الوجودَ السوداني في أحياءٍ بعينِها ويلفت الأنظار. ظهرَت على مواقع التواصل الاجتماعي منتصفَ أبريل 2024 بعضُ الصور لتجمعاتٍ من السودانيين يصلّون صلاةَ عيد الفطر في بعض هذه الأحياء، خصوصاً حيّ فيصل في محافظة الجيزة، فبَدَت بحسب محمدٍ زوجِ رؤى كأنها صورٌ من مساجدَ في السودان. ولاحَظ محمد أسلوبَ المعلِّقين المصريين الحادَّ على الصور، إذ وصفَها بعضُهم بالاحتلال السوداني لمصر، وطالَبَ آخَرون بطرد السودانيين، وكَثُرَ استعمالُ العبارات العنصرية والمسيئة.
أَعقَبَ ذلك تضييقٌ على اللاجئين السودانيين بأساليبَ مختلفة. وتحدّث سودانيون للفِراتْس كيف ارتفعَت وتيرةُ "نظرات العداء والتشكّك" من الناس، وصاحَبَها "التوقيف المتكرّر غير المبرّر" من دوريات الشرطة لمراجعة وثائق السفر والإقامة. يواجِه النازحون الجُدد صعوباتٍ في إيجادِ منازلَ للايجار. ولا يقتصر ذلك على بعض أحياء القاهرة الكبرى التي يكثر فيها السودانيون، بل يمتدّ إلى محافظاتٍ أُخرى. إذ اشتكى مواطنون مصريون بالإسكندرية في يونيو 2024 على مالكٍ سوداني لأحد المَحالّ وَضَعَ خريطةً لبلاده تشملُ منطقتَيْ حلايب وشلاتين الحدوديتَيْن المتنازَعِ عليهِما بين مصر والسودان. وفي الوقت نفسِه رَحَّلَت السلطاتُ المصريةُ بعضَ المقيمين السودانيين إلى بلادهم قسراً لأسبابٍ "قانونية" كما وصفَتها السلطاتُ المصرية. لكن أماني الطويل، الباحثةَ المتخصصة في الشأن السوداني ورئيسةَ وحدةِ الدراسات الإفريقية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، سارعَت على صفحتها في فيسبوك بالدعوة إلى الاحتفاء بالوجود السوداني في مصر والكفِّ عن التنمّر على السودانيين أسوةً باحتفاءِ دولٍ عدّةٍ بالجاليات المصرية.
وَضعَت هذه التطوراتُ الحكومةَ المصريةَ في مرمى النقد. فقد أَصدرَت منصةُ اللاجئين في مصر، وهي منظمةٌ حقوقيةٌ مستقلةٌ، في الحادي عشر من يونيو تقريراً انتقدَت فيه التعقيداتِ التي تواجِه السودانيين عند وصولهم أسوان جنوب مصر. وأَصدَرَت منظمةُ العفو الدوليةُ بعدَ أيامٍ تقريراً انتقدَت فيه ترحيلَ السودانيين من مصر من غير استيفاء المعايير القانونية. وفي التقرير الصادر في ستٍّ وثلاثين صفحةً شهاداتٌ عن هذه الترحيلات، التي شملَت أطفالاً ونساءً، وبعض المسجَّلين عند المفوضية الأممية للاجئين، الذين كانوا في محافظة أسوان. ردّت الحكومةُ المصريةُ بنشرِ وزارةِ الخارجية في العشرين من يونيو بياناً بمناسبة اليوم العالمي للاجئين، أكّدَت فيه احترامَها حقوقَ اللاجئين وكرامتَهم.
لَم يكتفِ عليٌّ من الوطن في الغربة بتجمّعات المواطنين والمأكولات السودانية التي راجت في الأسواق بل حَمَلَ معه عند مغادرتِه السودان مؤسستَه الثقافية. فقد افتتح بعد تخرّجه من معهد الموسيقى والمسرح السوداني قبل نحو عشرين سنةً مركزاً للثقافة والفنون، جهّزَه بالآلات الموسيقية ليتدرّب عليها مُحِبّو الموسيقى في الخرطوم. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023 نزح علي إلى مصر مضطراً، تاركاً خلفَه المركزَ وآلاتَه الموسيقية. وبعد أن استقرّ في مصر وجمعَ المالَ استأجَرَ شقّةً في حيّ فيصل بالجيزة، الذي تسكنه جاليةٌ سودانيةٌ كبيرةٌ، افتتحَ فيها فرعاً لمركزه جهّزَه ببعض الآلات الموسيقية ليستعملَها المتدرّبون. ورَفَدَه بعضُ الميسورين بآلاتهم كالكمان والتشيلو، واستأجَر آخَرون آلاتٍ حملوها معهم إلى المركز. وينظّم المركزُ أيضاً أنشطةً ثقافيةً متعدّدةً، ليساعد بها المجتمعَ السودانيَ على تجاوُزِ صدمات الحرب والنزوح واللجوء والهجرة. لا يحدّد المركزُ مبالغَ معيّنةً ليدفعَها المشتركون في أنشطته بل يُترَك تحديدُ المبلغ للأفراد، كُلٌّ حسبَ سعَتِه، جزءاً من رسالته.
يتيح المركزُ للسودانيين مزاولةَ فنونهم، ويتيح للمصريين التعرّفَ عليها والمشاركةَ فيها. لاحظَ علي إقبالَ المصريين على سماع الغناء السوداني والموسيقى السودانية المستمدّة من الألحان الإفريقية عند تنظيمه حفلاتٍ في القاهرة قبل اندلاع الثورة السودانية سنةَ 2019. لم يكن هذا الإقبالُ جديداً، إذ كانت حفلاتُ المطربة السودانية ستوتة المولودةِ في الخرطوم مَطلِعَ الستينيات قبل انتقالِها للإقامة في مصر، ذائعةَ الصيت بجمعِها بين أغاني الفوكلور ورسمِ الحنّاء السودانية حتى وفاتها سنةَ 2020.
يؤكّد عليٌّ أهميةَ التقاربِ الثقافيِ الذي يساعد النازحين على تجاوزِ غربتِهم، كما يساعد المضيفين على تجاوزِ الترصّد، فيحرص على حضور مصريين ومقيمين عربٍ آخَرين في نشاطات المركز التي تشهد حضوراً يمنياً كثيفاً. يرى الدبلوماسي المصري الذي عمل في الخرطوم أن وجودَ جاليةٍ سودانيةٍ كبيرةٍ في مصر فرصةٌ ينبغي على الدولة استغلالُها لرأبِ الصدع الذي لا يمكن إنكارُه في العلاقات المصرية السودانية، وفي العلاقات مع الدول الإفريقية التي يسود فيها، كما في السودان، شعورٌ بتعالي مصر عليهم.
في الأسبوع الأول من الحرب كان الاطمئنانُ على الأهل يَشغلُ روانَ ومحمداً. توالت اتصالاتُهما بأهلهما لتفقّد أحوالهم ومعرفة ما يمرّون به، وتعاظمَت الهمومُ عليهما حتى أقعدَتهما عن العمل بمشروعهما لطَهْوِ الأطباق الفلسطينية. كان المشروع قد بدأ توّاً يحقق النجاح، بعد نحو ثلاث سنواتٍ من إطلاقه، بسبب إقبال المصريين والفلسطينيين على الشراء منه. كان التوتّرُ حالَ جلِّ الفلسطينيين المقيمين في مصر.
مع استمرارِ الحرب وتوافُدِ النازحين وتزايُدِ الدعوات الإسرائيلية إلى تهجير الفلسطينيين قسراً من غزة إلى شبه جزيرة سيناء زاد قلقُ النازحين القدامى وانشغَلوا بتوفير الدعم اللازم للنازحين الجُدد، وتَمَلَّكَهُم خوفٌ من مَآلِ أوضاعهم في البلد المُضيف الذي لم يَعرف بعضُهم وطناً سِواه.
اختُتِمَت هذه الحقبةُ باستضافة محمود درويش في مصر استجابةً لمبادَرةٍ من الرئيس جمال عبد الناصر. وصل درويش إلى مصر في فبراير 1971 بعد أشهرٍ وجيزةٍ من وفاة عبد الناصر، وقَضَى بها ثلاثَ سنواتٍ، عملَ فيها بمؤسسة الأهرام التي كان يرأسُها وقتئذٍ محمد حسنين هيكل. وفي كتاب "المتن المجهول: محمود درويش في مصر" يتقصّى سيد محمود حياةَ درويش في مصر وأثرَها الثقافي، ويذهب إلى أن وجودَه أسهَمَ في وضع القضية الفلسطينية في قلب المجال الثقافي المصري، على نحوٍ تجلّى، مثلاً، في الاهتمام الكبير بقصيدته "سَجِّلْ أنا عربيّ" الصادرةِ سنة 1964، والتي غنّاها مارسيل خليفة. أَسهمَ ذلك في تكوين جيلٍ مصريٍّ يَعُدُّ فلسطينَ قضيتَه، كما قال المؤلف.
تَغيّرَ الوضعُ تدريجياً مع انحسارِ موجةِ القومية العربية بوفاة عبد الناصر سنة 1970 ثم بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شَهِدَها حكمُ السادات، خصوصاً بعد حرب أكتوبر 1973. يشيرُ الأزعر إلى أن الفلسطينيين حُرموا بعد هذا الانحسار من الامتيازات القانونية التي حصلوا عليها إبّان الحقبة الناصرية، وتراجع النشاطُ الاقتصادي في الفترة ذاتها تراجعاً جزئياً، وقَلَّ الزواجُ الفلسطيني المصري. بيد أن هذا التغيّرَ لم يؤثّر في طبيعة الوجود الفلسطيني. فقد حالَ العددُ المحدودُ للفلسطينيين المقيمين في مصر، مقارنةً بأعدادهم في دول الجوار الفلسطيني الأُخرى، دونَ عدِّهم تهديداً للأمن أو الهوية بنظر النظام.
لَم يَعِش الفلسطينيون في عُزلةِ المخيّمات إلا مخيّم كندا المؤقّت، الذي أقامته الأونروا سنة 1967 شمال سيناء جوار الفرقة الكندية من القوات التابعة للأمم المتحدة لإيواء خمسة آلافٍ فلسطينيٍّ دُمّرَت منازلُهم في رفح. إنما اندمَجوا في المجتمع، حتى في المناطق التي وُجدوا فيها بكثافة، مثل جزيرة فاضل بالشرقية التي لجأَت إليها قرابةُ ثلاثمئة أسرةٍ فلسطينيةٍ بعد النكبة.
تغيّرَت أوضاعُ الفلسطينيين بتغيّرِ النظام الحاكم في مصر. في لحظة القومية العربية لم يَحُلْ عدمُ منحِ الفلسطينيين الجنسية المصرية دون اندماجهم في مناحي الحياة. ثم شعرَ الفلسطينيون بالغربة في فتراتٍ لعلّ أهمَّها ما بعد زيارةِ الرئيس أنور السادات القدسَ في نوفمبر 1977، وبدء المسارِ الذي انتهى بتوقيعِ اتفاقيةِ السلام بين مصر وإسرائيل في مارس 1979. لَم يَعِشْ محمد هذه اللحظةَ التي عَرفَ صعوبتَها من روايات أهلِه. أما آمال أغا رئيسةُ الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في مصر فتَحملُ ذكرياتها الأليمة. إذ وُلدَت في مصر لأسرةٍ فلسطينيةٍ نزحَت عقبَ النكبة، وتعلّمَت فيها من غير أن تَشعرَ بغربةٍ، حتى جاءت رحلةُ السادات إلى القدس، ثم اغتيال فلسطينيٍّ وعراقيٍّ الكاتبَ المصريَّ المؤيِّدَ مفاوضاتِ السلام مع إسرائيل يوسف السباعي في قبرص سنة 1978، بعدما صحبَ السادات في زيارته القدس. تحتفظ آمال أغا في ذاكرتها ببعض العبارات القاسية التي انتشرت في الفضاء العام المصري حينئذ: "لا أمان للفلسطينيين"، "الفلسطينيون يريدون مصرَ أن تحارِبَ من أجلِهم وبدلاً عنهم"، وهُم في الحقيقة "باعوا أرضَهم". لَم تلبَثْ تلك الفترةُ الصعبةُ أن مَضَتْ، وعاد ما تسمّيه آمال أغا التضامنَ المصريَّ "العابرَ للأجيال" مع القضية الفلسطينية، والذي سمحَ بتجاوزِ تلك الاختبارات القاسية للوجود الفلسطيني في مصر.
كانت الحربُ الإسرائيليةُ على غزة سنة 2008 مرحلةً مهمّةً أُخرى لم تَنسَها إيمانُ الفلسطينيةُ الخمسينيةُ التي وُلِدَت في مصر. ففي بهوِ منزلها المحاطِ بحديقةٍ خاصةٍ في أحد التجمعات السكنية التي يقطنها الميسورون شرق القاهرة، سَردَت إيمانُ بأسىً بعضَ ما تتذكّرُه من تلك الحرب، وأَوّلُه التصريحاتُ "الغريبة" لوزير الخارجية المصري حينئذٍ أحمد أبو الغيط، الذي توعّدَ بكسرِ رِجْلِ أيِّ فلسطينيٍّ يفكّر في كسرِ الحصار هارباً إلى مصر.
تستغربُ إيمانُ تصريحاتِ أبو الغيط لأنها نشأَت في مصر ولم تشعر بالغربة قطّ. سكنَت في طفولتها بشقّة والدها في حيّ مصر الجديدة، أحدِ أحياء "الطبقة الوسطى العليا" شرق القاهرة، والتحقَت بالتعليم الحكومي، ثم سكنَت مع عائلتها في مبنىً سكنيٍّ لوالدها شيّدَه في حيّ مدينة نصر عندما تزوّج أكبرُ أبنائه السبعة. وحين تزوّجَت بحاتمٍ، الفلسطينيِّ المولودِ لأسرةٍ نزحَت إلى مصر بعد النكبة، والمتعلّمِ مثلها في المدارس الحكومية، أقامَت معه بشقّةٍ في بناء والدها، قبل أن يسكنا في ضاحية التجمع الخامس، بمنزلٍ اشتراه الزوجُ بعد توسّعِ نشاطِه التجاري في الإنشاءات بمصر والخليج. لَم يلتحِق أبناءُ إيمانَ وحاتمٍ الأربعةُ بالتعليم الحكومي مثلَ أقرانهم المصريين الموسرين، بل درسوا في مدارسَ خاصةٍ، ثم سافَروا إلى أوروبا للدراسة الجامعية. لَم تشعرْ إيمان بالغربة يوماً حتى تلك اللحظة "المزعجة" سنةَ 2008.
شعرَت إيمانُ بالتهديد. لَم يَقتصِر الخطابُ العدوانيُ على وزير الخارجية آنذاك، إذ صَوّرَ الإعلامُ الرسمي الفلسطينيين معتدين ينتهكون السيادةَ المصرية، فازداد العداءُ الاجتماعي لهم في بعض الدوائر. كانت تلك المرّةَ الأولى التي تشعر فيها إيمان أنها غير آمنةٍ في مصر، وأنها قد تُضطرُّ إلى مغادرة البلد الذي لم تَعِشْ في سِواهُ، ولم تغادِرْه من قبلُ إلا للسياحة أو الحجّ أو العمرة، الوطنِ الذي يواري ثراهُ جسدَي والدَيها، والذي استقرّت فيه أعمالُ عائلتها. لَم تتردَّ الأوضاعُ كما تخوّفَت إيمان، بل هدأَت تدريجياً مع انتهاء الحرب في يناير سنةَ 2009، ثم طَوَت ثورةُ يناير 2011 تلك الصفحةَ، وأعادت إلى إيمان الشعورَ بالأمان بعد أن عاد التلاحمُ المصريُ مع القضية الفلسطينية.
تشارِكُ آمالُ أغا إيمانَ بعضَ مخاوفِها. فمنذ بداية الحرب شاركَ اتحادُ المرأة الفلسطينية الذي ترأسُه في توفير أساليب التضامن للفلسطينيين في مصر، بجمع مبالغَ ماليةٍ لطالباتٍ فلسطينياتٍ انقطعَت سبلُ حصولهن على الأموال من أُسرِهن العالقةِ في غزة. تؤكّد آمال أغا أن فلسطينيي غزة يدخلون مصرَ وفقَ الآليات التي قررَتها الدولةُ، وأن بعضَهم التحَقوا بأُسَرِهم في مصر، واستقبَلَ آخَرين متضامِنون فلسطينيون أسهَموا في توفير الدعم المالي اللازم لهم، فلَم يكونوا عِبئاً اقتصادياً على الحكومة المصرية. مع ذلك ثمّة توتّراتٌ بسبب هذا النزوح، وتوجّسٌ مصريٌ مجتمعيٌ من زيادته، تخشى آمال أغا أن يؤديَ ذلك إلى تعقيداتٍ أكثر في تصاريح الإقامة والعمل.
تبدو آمال أكثرَ تفاؤلاً من إيمان. فهي ترى توترَ العلاقات مقتصراً على الجانب الرسمي، وأن الحربَ أيقظَت التعاطفَ المصريَ مع الشعب الفلسطيني إنسانيّاً، يتجلّى ذلك في حملات تضامنٍ وإغاثةٍ مصريةٍ "مئة بالمئة" وانتشارِ دعواتِ مقاطعةِ العلامات التجارية الداعمة لإسرائيل، والإقبال على النشاطات الثقافية المتكررة لفنانين فلسطينيين يقدّمون عروضَهم في مصر. يوافقُها في ذلك محمد الذي لاحظَ زيادةَ عدد متابعي صفحته "مطبخ وتين،" والإقبالَ عليه بعد أن عاودَ النشاطَ الذي أوقفَه فترةً بعد الحرب، وشغّلَ سبعَ فتياتٍ فلسطينياتٍ جديداتٍ بالمشروع، نزحَت بعضُهن من غزة بعد الحرب، وبقيَت بعضُهن بمصر بعد أن علِقْن بسبب الحرب فلم يتمكنَّ من العودة إلى غزة.
يتّفقُ الفلسطينيون المقيمون في مصر أن الحرب ألزمَتهم بمسؤولياتٍ جديدةٍ. فقد يجدُ هؤلاء أنفسَهم مضطرّين إلى استضافة أقربائهم في القطاع بعد نجاحهم في تجاوز العقبات في سبيل خروجهم منه كما تقول آمال. وحاولَ محمد وزوجته مساعدةَ أهلِها العالقين في القطاع للخروج منه، بيدَ أن محاولاتِهما باءَت بالفشل إذ عَجِزا عن تدبير مبلغ خمسة آلاف دولارٍ أمريكيٍ الذي تطلبه شركةُ تسهيل العبور من غزة، حتى تتمكن من إدخال والدتها التي تعالَج من مرض السرطان، والتي نفدَت أدويتُها بعد الانهيار شبه الكامل للقطاع الصحي في غزة.
تبدو حالُ الفلسطينيين من منظور السلطات المصرية مختلفةً عن غيرهم من اللاجئين والمهاجرين. تقدّر المنظمةُ الدولية للهجرة عددَ الأجانب الذين يعيشون في مصر بنحو تسعة ملايين شخصٍ من 133 دولة، وهو تقديرٌ يراه بعضُهم مبالَغاً به. وسببُ تفرُّدِ الفلسطينيين من بين هؤلاء أن "السوري والسوداني والليبي لديه بلدٌ يمكن أن يُرَحَّل إليه إذا خالف القوانين المصرية، أما الفلسطينيُ فلا يمكن ترحيلُه"، إذ ليس ثمّةَ وطنٌ يقبلُ بعودته إليه، كما قال مسؤولٌ أمنيٌ مصريّ.
تُرَحِّل السلطاتُ المصريةُ اللاجئين والمهاجرين لأسبابٍ مختلفةٍ، منها التدخلُ في الشؤون المصرية الداخلية، والمضارَبةُ في العملة، والتهريبُ خصوصاً تهريب البشر من البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا. وأضيفت أسبابٌ أُخرى للترحيل، منها عدمُ دفع رسوم تجديد الإقامات، وهي الرسومُ التي يَصعُب على كثيرٍ من اللاجئين والنازحين تدبيرُها، على نحوٍ يجعلهم أكثرَ عرضةً لتشدّد النظام.
يتوجّس النظامُ المصريُّ من استضافة سكان قطاع غزة من غير المقتدرين مالياً طويلاً، وممّن ليس لهم سجلّاتٌ أَمنيّةٌ عنده. ويرى مسؤولٌ أمنيٌ أن القاهرة قلقةٌ من تعاطف قطاعاتٍ واسعةٍ من سكان غزة مع التيارات السياسية الإسلامية، بينما تعادي السلطاتُ المصريةُ جماعةَ الإخوان المسلمين المتّصلة بحركة حماس. وتخشى السلطاتُ أن يؤسِّسَ النازحون مقاومةً ضد إسرائيل تَتّخذ من سيناء قاعدةً لعملياتها على نحوٍ يهدِّد أُسسَ اتفاقية السلام التي وقّعَتها مصر مع إسرائيل في مارس 1979.
أمّا النازحون من غزة فلا يَرَون مصرَ مُستقَرّاً، إنما بوابةً إلى العالم بسبب أحوال البلد الاقتصادية، وقلّة فرص العمل، وصعوبة العودة السريعة إلى غزة. غير أن هذه البوابةَ موصدة. فمن جهةٍ تبدو قدرةُ الفلسطيني على التنقل بين البلاد محدودةً من غير جواز سفرٍ إضافي، ولذا تلاحِظ إيمانُ سعيَ كثيرٍ من الفلسطينيين الموجودين في مصر إلى الحصول على جنسياتٍ أُخرى بطرقٍ شتّى، منها الزواج.
ومن جهةٍ أُخرى يزداد التعاونُ بين مصر والاتحاد الأوروبي لمنع وصول النازحين إلى الشواطئ الأوروبية. وَقّعَت مصر اتفاقيةً للتعاون وتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في السابع عشر من مارس 2024، حصلَت بها على قروضٍ ميسَّرةٍ بقيمة خمسة مليارات يورو، واستثماراتٍ بقيمة 1.8 مليار يورو، ومِنَحٍ بقيمة ستمئة مليون يورو. تقول مصادرُ دبلوماسية أوروبية إن هذه الاتفاقية أحدُ وجوه الدعم الاقتصادي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي إلى مصر، لتعزيز قدرتها على وقفِ الهجرة من سواحلها الشمالية، وبقاءِ النازحين فيها. وبينما يشكو المسؤولون المصريون من العِبءِ الاقتصادي الناتج عن استضافة النازحين، يؤكِّد دبلوماسيٌ أوروبيٌ أن مصر تحصل منذ بداية الحرب على دعمٍ "كافٍ ومتزايدٍ، وبأشكالٍ مختلفةٍ" للتعامل مع الزيادة المتوقّعة في أعداد النازحين من غزة، ليبقوا في مصر، لكنّهم لا يريدون ذلك، ولا يريدهم النظامُ، ولا يسهِّل عودتَهم إن استطاعوا المغادرة.
بدأ النزوحُ السوريُ إلى مصر مبكراً. وتوضح رابحة سيف علّام الباحثةُ المتخصصة في الشأن السوري بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أنّ عدداً كبيراً من أصحاب الأعمال نزحوا مع بداية المظاهرات ضدّ حكم بشار الأسد في مارس 2011، قبل أن تتحول المظاهراتُ إلى اضطراباتٍ ثم إلى أعمالٍ عسكريةٍ في الأشهر اللاحقة. ساعدَت الوفرةُ الماليةُ هؤلاء النازحين في تأسيس حياةٍ مستقرةٍ بمصر، أعادوا بعدها تأسيسَ أنشطتهم الاقتصادية خصوصاً في صناعات النسيج.
أدّت الأبعادُ الجغرافية والسياسية والاقتصادية دوراً في تشكيل الجالية السورية بمصر. ولِاختيار النزوحِ إلى مصر عواملُ عدّةٌ، أوّلُها استمرارُ رحلات الطيران بين البلدين، وثانيها سهولةُ دخول السوريين إلى مصر، إذ لم يحتاجوا الفيزا لدخولها، وثالثُها وحدةُ اللغة وتقاربُ الثقافة التي جعلت بعضهم يفضّل الطيرانَ إلى مصر على النزوح برّاً إلى غيرها من دول الجوار، ورابعُها موقفُ مصر الرسميُ المؤيّد للثورة السورية في تلك الفترة. بيدَ أن هذه العوامل ذاتها قَصَرَت النزوحَ على طبقاتٍ اجتماعيةٍ معيّنةٍ، وهم القادرون على التحرك بقدرٍ من الحرية لمغادرة مدنهم، وشراء تذاكر طيران لعائلات بأكملها، والإقامة المؤقتة في فنادق أو شققٍ مفروشةٍ حتى الاستقرار، ودفع المصروفات والرسوم المطلوبة للبدء بمشروعاتهم، كما تشير رابحة علّام.
سهّلَت تلك العواملُ مجتمعةً استقرارَ الوافدين الأوائل. فهُم بتعبيرٍ دبلوماسيٍ مصريٍ عملَ سابقاً في دمشق، أناسٌ عربٌ حَلّوا في بلدٍ عربيٍ، في ظلِّ وفرةٍ ماليةٍ من أموالٍ نقديةٍ وحساباتٍ بنكيةٍ خارج سوريا، وفي ظلِّ تضامنٍ مصريٍ رسميٍ وشعبيٍ معهم. أسهمَت قلّةُ أعداد الوفود الأولى من النازحين في عدم الخوف منهم لا سيّما أن إقامتَهم كانت، بحسب علّام، في أحياءِ الطبقات المتوسطة والميسورة.
ثم تدهورَت الأوضاعُ الأمنية والسياسية في سوريا، فاستمرّ تدفقُ السوريين. لم يكن النازحون في الموجات اللاحقة من أرباب الأعمال كما كان النازحون الأُوَلُ، بيدَ أن المشروعات التي أطلقَها الأُوَل وفّرَت للّاحقين، من عمّالٍ وفنّيين، فرصَ عملٍ ساعدَتهم على الاستقرار بينما ساعَدوها على التوسع والنجاح.
استقرّ مازن وأسرتُه في مصر على غير خطّةٍ منه. عمل بعد وصوله في أحد المطاعم السورية في القاهرة، واستأجَر شقّةً كان يقطنها قبلَه عراقيٌّ نزحَ إلى مصر مع الغزو الأمريكي ثم سافَر إلى الولايات المتحدة قبل وصول مازن. ثم اشترى الشقة وأعاد تأثيثَها لتناسبَ أسرتَه، ورُزِقَ طفلَيْن آخَرَيْن. أدركَ أن عودتَه إلى سوريا أمرٌ غير ممكنٍ وأن خروجَه وأسرتَه من مصر إلى غيرِها من بلدان الشتات مستحيل.
لو عاد به الزمنُ فلَن يغيّر قرارَه. يضحك على آماله التي صارت سراباً بعد أن "استقر تماماً" في مصر، وعلى أحلامه بانتصار الديمقراطية والثورات العربية التي رأى انكساراتِها في سوريا كما رآها في غيرها. ولكنه يفخر بقراره المبكّر بالخروج مع أسرته من سوريا. كان آنذاك متردّداً قلقاً، ولكن مع تدفّقِ السوريين الصعبِ خروجُهم والخطرةِ رحلاتُهم تيقّنَ أنه فعلَ الأصوب.
فتحَ مازن بيتَه بعد أن استقرت أوضاعُه لاستقبال النازحين الجدد، الذين لم يتمكنوا كسابقيهم من اصطحاب أموالهم. وعرّفَهم على شبكات الدعم التي تشكّلَت منذ 2011. كانت المصانعُ السورية التي أنشئَت مع النزوح قد بدأَت في الإنتاج والتصدير، وازدادت المطاعمُ، وأصبح النازحون يطمعون في التوظف بها.
يؤكد خلدون الموقّع، رئيس تجمّع رجال الأعمال السوري في مصر، صعوبةَ حصر المصانع السورية في مصر منذ 2011، ولكنه يقدِّرُها بنحوِ سبعة آلاف مصنع. تعمل جلُّها في مجالات الملابس الجاهزة، والنسيج بأنواعه، وفي الصناعات الغذائية. ويصدِّر بعضُها منتجاتِه إلى بعض الدول الإفريقية. ويؤكِّد خلدون عدمَ منافسة السوريين المصريين، فكلُّ عملٍ سوريٍ في مصر هو "قيمةٌ مضافةٌ، وليس حالةً تنافسية"، ويتطلّع في مشروعٍ قيدَ الدراسةِ إلى تأسيس مدينةٍ صناعيةٍ سوريةٍ في مصر، تُوفّر ما يزيد عن ثمانين ألف فرصة عملٍ، تستوعب المصريين والعمالة الوافدة، وتضيف إلى الدخل القومي المصري، وتوفّرُ العملةَ الأجنبيةَ بتصدير إنتاجها إلى الخارج.
بعيداً عن الأماني والتطلعات لا يجدُ النازحون وظائفَ بأجورٍ تكفي نفقاتهم، ولا يستطيع بنو وطنهم من أرباب الأعمال توظيفَ الجميع، فيعتمدون مضطرّين على الإعانات التي تقدّمها المؤسساتُ الخيرية. كانت مبادرةُ "أبواب الخير" إحدى أبرز تلك المؤسسات. يقول مؤسّسها هيثم التابعي، الذي بدأ نشاطَه سنة 2012، إن عدداً كبيراً من السوريين الذين وصلوا مصرَ في حالٍ صعبةٍ رفضوا أخذَ المساعدات المادية، وفضَّلوا أن تساعدهم المؤسسةُ في شراء ما يستعينون به على العمل، كأدوات النجارة والسباكة وإصلاح الكهرباء. أما مؤسسة "فرد" التي بدأ نشاطُها في السنة نفسها، فكانت توفر السكنَ والعلاجَ للنازحين، قبل أن تَنشطَ في التعليم والتدريب على المهارات اللازمة للعمل، كما وضّحَت للفِراتْس رشا أبو المعاطي عضوُ مجلس الأمناء في المؤسسة.
ازدادت الأوضاعُ سوءاً. فصار الناجي من أهوال رحلة النزوح يصلُ إلى مصر ولا يجدُ قبولَ وجود السوريين كما كان. أصدرَت المفوضيةُ المصرية للحقوق والحريات في يوليو 2018 تقريراً بعنوان "هجرة السوريين إلى مصر بين محاولات لمّ الشمل والسجن والموت" انتقدَت فيه منعَ الحكومة المصرية الوافدين السوريين الراغبين في اللجوء أو لمّ الشمل من الدخول.
لم يكُن التوجّسُ من النازحين مقتصراً على النظام. فقد أسهمَت معاناةُ المصريين الاقتصاديةُ التي تفاقمَت بفقد العملة المحلية نحو نصف قيمتها في نوفمبر 2016، وعَلا خطابٌ يحمِّل النازحين من الحروب إلى مصر المسؤوليةَ. تداخَلَ هذا الخطابُ مع آخَرَ يرى السوريين حليفاً للإسلاميين. وبَثَّت برامجُ تليفزيونيةٌ بعد الإطاحة بالرئيس مرسي في صيف 2013 صوراً قالت إنها لسوريين شارَكوا في الفعاليات التي نظّمها أنصارُ جماعة الإخوان المسلمين للمطالبة بعودة الرئيس المعزول، ونشرَتها صحفٌ مقرَّبةٌ من الأجهزة الأمنية.
قَلّص اجتماعُ هذه العوامل سبلَ دعمِ اللاجئين. ورصدَ هيثم التابعي أحدُ مؤسّسي منظمة "أبواب الخير" صورتين من هذا التراجع، أُولاهما النقصُ الحادّ في التبرعات التي وصلَت مؤسستَه بسبب الأزمة الاقتصادية، وثانيهما إصرارُ المتبرِّعين على عدم إعطاء تبرعاتهم إلى اللاجئين السوريين. اضطُرَّت "أبواب الخير" إلى وصدِ أبوابها أمام اللاجئين، واقتصرَت في أنشطتها على دعم المحتاجين المصريين.
عانت المؤسساتُ الخيريةُ عجزاً مالياً، فتدخّلَ بعضُ الميسورين من النازحين لمساعدتها. تؤكد رشا أبو المعاطي أهميةَ هذا الدعم الذي قدّمه الميسورون من الجالية السورية، والذي ساعد المؤسسة على تقديم خدماتها للاجئين السوريين والسودانيين واليمنيين والمحتاجين من المصريين.
يحرص العربُ المقيمون في مصر على إبراز هذا الإسهام، لعلّه يؤدي إلى تراجع موجات الهجوم المتلاحقة عليهم. بينما يبدي خلدون الموقّع قلقَه من تتابع الحملاتِ التي تُصوِّرُ اللاجئينَ عبئاً على الاقتصاد المصري. ويشكّ أيمن زهري، خبيرُ دراسات السكان والهجرة، في أرقام اللاجئين العرب التي يردّدها المسؤولون المصريون وممثّلو بعض الجهات الدولية، ويرى أن الإصرار على ترديدها يزيد التوجّسَ الشعبيَ من اللاجئين الذين لا تقتصر إسهاماتهم الاقتصادية على تقديم بعض العون للمؤسسات الخيرية، بل صاروا جزءاً من الاقتصاد المصري باستثماراتهم في مجالاتٍ مختلفةٍ، وبالأموال التي يحوّلها إليهم أقرباؤهم في الدول الغربية ودول الخليج، والدعم الذي تحصل عليه الحكومة بسبب وجودهم.