من مظاهرات داريّا إلى حقول إدلب: قصة صمود الوردة الشامية 

حمل المُهجَّرون من داريا معهم الوردة الشامية ليزرعوها في قلب إدلب رمزاً للإرث والصمود رغم التحديات الاقتصادية والمعيشية التي تواجه المزارعين في المنطقة.

Share
من مظاهرات داريّا إلى حقول إدلب: قصة صمود الوردة الشامية 
تصميم خاص لمجلة الفراتس

يحتسي أبو أحمد قهوته في صباحات الأيام الربيعية المشرقة ببلدة كِللِّي شمال إدلب، وأمامه لوحةٌ حيّةٌ من حقول شجيرة الوردة الدمشقية الممتدّة بألوانها الزاهية ورائحتها العطرة. يجلس مع عائلته على أرض مزرعته التي أحاطها بسورٍ أخضر من أشجار الحور والمشمش والخوخ وكرمة العنب، بينما تتمايل أمامه شجيرات الورد بخفّةٍ مع كلّ نسمة. طقس القهوة الصباحية وسط جنّته الصغيرة يكون دوماً بعد انتهائه هو وزوجته وأولادهما الأربعة من قطاف البتلات المتفتحة وتعبئتها في الأكياس، استعداداً لإرسالها إلى السوق وبيعها قبل الظهيرة وارتفاع درجات الحرارة.

هنا في هذه البقعة من الأرض قبل ستّ سنواتٍ من اليوم لم تكن مزارع الوردة الدمشقية منتشرةً فوق هذه المساحات الواسعة، إنما كانت تتوزع في حدائق منزليةٍ بغية الزينة فقط. إلّا أنّ أبا أحمد كان أوّل من زرع الوردة الشاميّة لغير أغراض الزينة في بلدة كِللِّي، بعدما اضطرّ إلى تركِ وَرْدِه في دارَيّا، مُجبَراً على مغادرتها قبل سنوات. وقد نجح في إحياء تراث هذه الزهرة العريق في تربة ريف إدلب، ممّا جعلها تنتشر وتصبح من الزراعات الهامّة في المنطقة. 

على مسافة ساعةٍ واحدةٍ من سُكنايَ وصلتُ كِللِّي، المنطقة الأشهَر حاليّاً في ريف إدلب بزراعة الوردة الدمشقية. استقبلَتْني رائحةٌ أعرفها، عشّشَت في أنفي ونَشَبَت في ذاكرتي. أرجعَتْني ثمانيَ سنواتٍ في الزمن، حين كانت الرائحةُ ذاتها منبعثةً من شجيرات الوردة في مزرعتي الصغيرة تسحبني أنا وأخوتي وأمي مع طلوع الشمس لقطافها. أُمّي كانت أكثرنا مهارةً وخفّةً في قطاف البتلات، ومنها تعلّمتُ حُبَّ الوردة وتعلّقتُ بها.  

عامل سوري يحصد الورود، المعروفة باسم الورود الدمشقية، في حقل للورود في محافظة إدلب. تصوير: أنس الخربوطلي, عبر جيتي إيماجيز

تبرز الوردة الشامية رمزًا للهوية والثقافة في سوريا وتواجه زراعتها تحدّياتٍ معقّدةً، من ظروف العمل الشاقّ إلى غياب الدعم اللازم للصناعات المرتبطة بها. العمل في الحقول تمثّل جزءاً من واقعٍ صعبٍ تعيشه الأُسَرُ وعمّالُ المياومة في شمال غرب سوريا، إذ يُسهِم الأطفال والنساء في تأمين لقمة العيش لقاءَ أجورٍ زهيدة. ومع كلّ ذلك، تصطدم محاولات تطوير الصناعات المرتبطة باستخلاص زيت الورد وماء الورد بصعوباتٍ كبيرةٍ نتيجةَ نقص المعدّات والمعامل، لتُضاف إلى التحدّيات الكبرى التي يواجهها المزارعون في تصدير منتجاتهم إلى الخارج.

جَلَبَ أبو أحمد، الأربعينيُّ القادمُ من ريف دمشق، خبرةَ الأجداد في زراعة الوردة الشاميّة في مساحاتٍ واسعةٍ إلى محافظة إدلب بغيةَ الاستثمار. جاء أبو أحمد وآلافٌ آخَرون مُهَجَّرين من داريا ومن مناطق أُخرى بريف دمشق مِن ضمنِ صفقة تهجير مُعارِضي النظام السوريّ نهايةَ عام 2016 إلى الشمال السوري. ارتحَلَ الرجلُ مع عائلتِه وخبرتِه الطويلة في زراعة الورد وأسّسَ لزراعةٍ جديدةٍ في منطقة إدلب، صحبةَ زراعاتٍ أُخرى وَفَدَت على المنطقة مع الأهالي المهجَّرين من عدّة محافظاتٍ سوريةٍ قبل سنوات. تنقّل أبو أحمد بين عدّة أماكن قبل أن يستقرّ في بلدة كِللِّي، وهي بلدةٌ صغيرةٌ شمال إدلب تبعد عن مركز المحافظة 23 كيلومتراً باتّجاه الشمال على طريق باب الهوى، المنفذ الحدوديّ مع تركيا، ليبدأ رحلة البحث عن مصدر دخلٍ في منفاه الجديد. 

شيءٌ ما بداخلي دفعني لزيارة البلدة ولقاء أبي أحمد، ربما هو البحث عن ذكرياتي بين وروده أو محاولةٌ لبَلِّ شوقي إلى مزرعتي التي تركتُها اضطراراً في القلمون منذ ثماني سنواتٍ إذ كانت عامرةً بالورد الشاميّ الذي خلّفتُه وأُسرتي حينما تَرَكْنا كلَّ شيءٍ وراءنا يذبل، هرباً من الاقتتال الدائر بين النظام السوريّ وأحلافه من جهة والمعارضين المسلّحين من جهة ثانية. تركنا البيوتَ والوردَ ونجونا بأرواحنا المرهَقة وذكرياتٍ نبحث عنها ونصنعها في منفانا الجديد مثلما فعل أبو أحمد. 

موسم حصاد الورد في إدلب، سوريا، في 28 أبريل 2024. تصوير: قاسم رماح، الأناضول عبر غيتي إيماجيز

اشتهرت الوردة الدمشقية بمسمّياتٍ كثيرةٍ، إذ عرفها السوريّون بِاسمِ الوردة الشامية والوردة الجوريّة والورد السلطانيّ. وهي أزهارٌ ورديّة اللون رقيقةُ الملمس رائحتُها عطرةٌ ونفّاذة. وهي مِن أقدم نباتات الزينة، يُستخرَج منها زيت الورد العطريّ الذي يدخل في صناعة العطور ومستحضرات التجميل. وفي عام 2019 أدرجَتْها منظّمة اليونسكو في قائمة التراث الثقافيّ اللامادّي في سوريا. واشتهرت بزراعتها بلدةُ المراح في القلمون الشرقيّ بريف دمشق ومنطقة الغوطة الشرقية. لكن بعد التهجير واسعِ النطاق لسكّان ريف دمشق، لاقت شجيرات الوردة الشامية في حقول ريف إدلب بيئةً مناسبةً لها.


بَدَت شجيرات الورد في بلدة كِللِّي منتظمةَ الزرع تعلوها أزهارٌ ورديّةُ اللَّون في مشهدٍ لَم أرَ مثلَه سوى في بلدات القلمون وغوطة دمشق، كما لَم يَعْتَد المزارعون هنا على رؤيته قبل أن يتولّى أبو أحمد زراعةَ تلك الورود وإكثارَها في البلدة. وعاماً بعد عامٍ أصبحَت الوردة الدمشقية بابَ رزقٍ لعشرات العوائل هنا التي وجدتْ فيها زراعةً رابحةً وممتعة. 

تغيب الإحصائيات الرسمية عن المساحات المزروعة بالوردة الشامية في إدلب وريفها حيث زُرِعَت، ناهيك من بلدة كِللِّي في منطقة سهل الروج ودركوش. لكن يقدِّر مزارعو بلدة كِللِّي –وهي الأشهر بزراعتها حالياً– مساحةَ الأرض المزروعة ورداً في المنطقة بنحو 300 دونماً إذ يعادل الدونم مساحة ألف مترٍ مربّعاََ، مع توقّعاتهم بزيادة المساحة المزروعة في السنوات القادمة كونَها من المحاصيل الإنتاجية ذات المردود الجيّد. 

زرع أبو أحمد شتلات الوردة الشامية بمساحةٍ لا تتعدّى مئتَيْ مترٍ مربّعٍ بطريقة الإكثار بالأقلام، أي غرسِ أغصانٍ مأخوذةٍ من شجرةٍ منتِجةٍ بعد تقليمها. قال لي وهو يصف أُولى تجاربه بزراعة الورد في إدلب، إنه حصل على الشتلة الأُولى من بقايا شجيرات ورودٍ مهمَلةٍ في حديقة منزلٍ بالبلدة، أراد صاحبُها التخلّص منها لجهله بقيمتها وأهمّيتها، إذ عمد إلى حرقها واقتلاع جذورها لتوفير مساحةٍ أوسع لزراعة محصولٍ آخَر بدلاً منها يراه أكثر فائدةً: "لَم أصدّق كيف سمحوا للنيران بالتهام هذا الجَمال كلّه". كان متعجّباً من الطريقة المحزنة التي تخلّصوا بها من الوردة الدمشقية والتي جعلته يعيد إحياءها بنفسه من بقايا الأغصان الناجية من القلع والحرق. 

في بلدة داريّا بريف دمشق، من حيث جاء أبو أحمد، كانت الحقول المزدهرة تمثّل جزءاً مهمّاً من حياة الأهالي. يقول "تركتُ حقلاً يانعاً من الكرمة والورود الدمشقية بألوانها الساحرة وكثيرٍ من أشجار الفاكهة المثمرة مثل التفاح والتين والمشمش. كانت كرمة العنب تغطّي مساحاتٍ واسعةً من حَقلِي تتدلّى منها عناقيد العنب الشهيّة، بينما تتفتح الورود الدمشقية برائحتها العطرة وألوانها الزاهية تحت الكرمة وعلى مساحاتٍ واسعةٍ من الحقل أيضاً". يصف تلك اللوحة الطبيعية الساحرة بـأنها "جنّة صغيرة" حُرِم منها وأُخرجَ منها عنوةً قبل سنوات.

يهزّ رأسَه بحسرةٍ "لَم تَعُدْ تلك الحقول كما كانت بعد قصف النظام العنيف على داريّا. اضطررنا إلى الهروب وترك أراضينا وبيوتنا، وأصبحنا نازحين في أماكن أخرى. وتَرَكْنا وراءنا كرومَ العنب والورودَ الدمشقية وأشجارَ الفاكهة المثمرة، وسنواتٍ من العمل والتعب". تمثّل تلك الحقول لأبي أحمد وباقي أهالي داريا مصدرَ رزقِهم، والآن أصبحت جزءاً من الذاكرة المؤلمة. يخبرني أنه بفقدانه لهذه الأراضي خَسرَ ما هو أكثرُ من موردِ الرزق، بل فقد أيضاً جزءاً من هويّته وتراثه الذي تربطه بهما علاقةٌ حميمة. يقول "تلك الحقول التي كانت تفيض بالحياة باتت الآن ماضياً جميلاً وذكرياتٍ حزينةً نحاول استرجاعَها في أيّ مكانٍ ننزح إليه. ربما الأمل وحُبّ الحياة يدفعنا للاستمرار والبدء من نقطة الصفر".

ثمّة رمزيّةٌ خاصّةٌ للورد الشاميّ عند أهالي داريّا لا ينساها السوريّون. يقول أبو أحمد: "في الأيام الأولى لمظاهرات 2011 حملنا الوردَ والماءَ تعبيراً عن السلام والحياة. قدّمناها للجيش إعلاناً عن حُسن النيّة أثناء الاحتجاجات ضدّ النظام. وحتى اليوم أينما ذهبتُ أزرعُ الوردَ حتى أَصبحَ يغطّي مساحاتٍ كبيرةً في ريف إدلب". 

بدأَت تجربة أبي أحمد في زراعة الوردة الشاميّة في إدلب ضمن حقل عنبٍ لدى أحد مزراعِي بلدة كِللِّي بمساحةٍ لا تتجاوز مئتي مترٍ مربّعٍ فقط، لعجزِه الماليّ عن ضمان أو استئجار أرضٍ كبيرةٍ لتجربة مشروعه الإنتاجي بسبب ارتفاع تكاليف الأُجرة. لذا اقترَح على صاحب الأرض أن يزرع شجيرات الورد بين أشجار العنب دون تكلفةٍ مادّية. وكان إنتاجُها في العام الأول ممتازاً حسب قوله. ثمّ انتقَلَ إلى ضمان مساحاتٍ أوسعَ في السنوات التالية، إلى أن اشترى مزرعةً صغيرةً بمساحة دونمَيْن، أي ما يعادل ألفَيْ مترٍ مربّع. وقال لي أبو أحمد: "كان العمل بالنسبة لي مغامرةً لكنها ممتعةٌ، فالذي يعمل بالورد لا يخسر. تكفيه الراحة النفسية التي يحظى بها خلال عمله". 

نجاح أبي أحمد مكَّن الوردة الشاميّة من تبوّؤِ منزلةٍ في حقول جيرانه بريف إدلب. فقد بدأَت تجاربُ فرديةٌ محدودةُ العدد ما لبثَت أن توسّعَت بين المزارعين، لتحتلّ اليومَ مساحاتٍ واسعةً في مناطق متعدّدةٍ أهمّها بلدة كِللِّي شمال إدلب. 


"المهندس الشاميّ" لقبٌ عُرف به أبو أحمد في البلدة إذ كان المرجعَ الأوّلَ للأهالي والمزارعين الراغبين بالتعرّف على زراعة الوردة الشاميّة بغيةَ الاستثمار والإنتاج كونَها زراعةً وفيرةً الإنتاج على مدار العام. فهم لا يَمَلّون من السؤال عن طريقة زراعتها وطبيعة الأرض المناسبة لها وطريقة الريّ وكلّ ما يتعلّق بها. وهو بدوره لَم يَبخلْ على أحدٍ منهم بخبرته ومساعدة الراغبين بزراعتها، خاصّةً مع فقدِ المنطقة القدرةَ على الحفاظ على معدّلات إنتاجٍ عاليةٍ لمزروعاتها التقليدية التي اعتاد مزارعو إدلب إنماءَها قبل عام 2011.

عَرَف ريفُ إدلب الشرقيّ والغربيّ أنواعاً من الزراعات قبل سنة 2011، ومنها القطن والشمندر السكّريّ ودوّار الشمس. ولكن جُلّ تلك الزراعات توقّفَت بسبب تدمير البنية التحتية جرّاء الحرب وأزمة المياه التي تبعتها في بعض مناطق المدينة. 

بالمقابل حافظت عدّةُ محاصيل على وجودها مثل الحبّة السوداء والكمّون والشَمَر واليانسون، لأنها من الزراعات الأساسية التي اعتمد عليها مزارعو الريف الشرقيّ منذ عقودٍ، بينما اعتمد الريفُ الغربيّ على زراعة الخضراوات والقمح والشعير والفول. غيرَ أنّ تقلّبات المناخ وخاصّةً موجات الصقيع التي تزداد حدّتها، بَلْه ارتفاع معدّلات الإصابة بالفطريات، رَفَعَت جميعُها معدّلَ الخسائر التي مُنِيَت بها بعض المحاصيل الزراعية، لا سيّما الكمّون والحبّة السوداء كونَهما من المحاصيل الحسّاسة للرطوبة في دورة حياتها القصيرة الممتدّة أربعةَ أشهرٍ فقط. كافح المزارعون هذه الإصابات آنذاك أكثرَ من 13 مرّةً، ممّا زادَ من تكاليف الإنتاج ورفع نسبة الخسائر. 

موسم حصاد الورد في إدلب، سوريا، في 28 أبريل 2024. تصوير: قاسم رماح، الأناضول عبر غيتي إيماجيز

المزارع الخمسينيّ زيد أبو أسامة، من أهالي بلدة كِللِّي، استبدَلَ بمحصول الوردة الشاميّة ما اعتاد زراعتَه من الكمّون والحبّة السوداء. واستأجر أبو أسامة أرضاً بمساحة عشرين دونماً في المنطقة مقابل ألفَيْ دولارٍ سنوياً، واستثمرَها عاماً رابعاً توالياً في زراعة الوردة. ويقول إنه تخلّى عن زراعة الكمّون والحبّة السوداء لكثرة الخسائر التي تكبّدها في السنوات السابقة، بسبب التغيّرات المناخية التي طرأت على المنطقة. ويعدّ المحصولان من المزروعات الشتوية التي تبدأ زراعتها في ديسمبر ويناير وفبراير. وهُما من المحاصيل الحساسة جدّاً للرطوبة نتيجة تعرضّهما للإصابات الفطرية بشكلٍ كبيرٍ، ممّا يزيد الأعباء المالية على المزارعين بتحمّلهم تكاليف العلاج وثمن المبيدات الحشرية. 

مزارعون كثرٌ في المنطقة من أمثال أبو أسامة وَجدوا في زراعة الوردة الشامية ما يجنّبهم الخسائرَ المتوقَّعة من المحاصيل الأُخرى بسبب الظروف المناخية كالصقيع أو البَرَد أو إصابتها بالآفات الزراعية. وحسب قوله: "إن زراعة الوردة الشامية أقلّ ضرراً وتكلفةً، وأكثر إنتاجاً. وكلّ عامٍ يزيد إنتاجها عن العام الذي سبقه بسبب ثبات جذور شجيرات الورد في الأرض ونموّها المتسارع كونها من النباتات المستدامة وليست مثل المحاصيل الموسمية". 

ليس أبو أسامة وحده من تخلّى عن زراعة الكمّون مؤخراً وزرع بدلاً منه الوردة الشامية، بل إن مزارعين عدة في البلدة ذاتها افتتحوا مشاريعَهم الخاصّة لزراعة الوردة في العامين الأخيرين. يصف أحدُهم تجربتَه مع تلك الزرعة الجديدة بأنها تجربةٌ ناجحةٌ. فشجيرة الوردة الشامية ذاتُ إنتاجيةٍ عاليةٍ على مدار العام، إذ تبدأ بَتلاتُ الورد بالتفتّح والإنتاج من شهر أبريل وتظلّ منتِجةً حتى شهر نوفمبر، وخلال هذه الفترة يغزر الإنتاج ثم ينخفض باطّرادٍ إلى أن تتوقف براعمُها في الشتاء. يبتسم وهو يخبرنا أنه حتى في هذه المرحلة يمكن الاستفادة منها وبيع الشتلات للراغبين بزراعتها مقابل مبالغ ماليّةٍ مجزيةٍ. إذ تُنقَل وتُزرَع في شهر يناير. ويمكن لكلّ شجيرةٍ أن تعطي أكثر من خمس شتلاتٍ. وهذه كلّها مرابح إضافيةٌ للمُزارِع. 

يقدِّر أبو أسامة كمّيةَ إنتاجه من الورد هذا العام بمقدار يتراوح بين 250 و300 كيلوغرام في كلّ قطفة، أي كلّ يومين، في الهكتار الواحد (والهكتار يساوي عشر دونمات أو عشر آلاف متر مربع). وهي كمّيةٌ جيدةٌ ومربحةٌ في رأيه، على انخفاض سعر كيلوغرام الورد هذا العام مقارنةً بالعام الماضي بسبب زيادة الإنتاج. إذ بِيع كيلو الورد السنة الماضية بـدولارَيْن، أمّا اليوم فسِعرُه أقلُّ من دولارٍ واحد تقريباً. 

أرجَع  مزارعون من أبناء البلدة سببَ انخفاض الأسعار إلى اكتفاء السوق المحلّية من المنتَج، إضافةً إلى عدم فتح باب التصدير كونَ المنطقة أشبه بمنفىً معزولٍ عن العالم الخارجي، باستثناء الجانب التركي عبر الحدود، والذي يشتهر بزراعة الوردة بمساحاتٍ ضخمةٍ وبفائضٍ من الإنتاج.


صغرُ المساحة المزروعة لدى أبي أحمد جعلَته يعتمد على أولاده في القطاف دون حاجةٍ إلى الاستعانة بورشةِ قطافٍ شأنَ باقي الحقول الزراعية. يقول إنها ليست مهمّةً شاقّةً، بل هي نزهةٌ يوميةٌ يستمتع بها مع أفراد عائلته عند القطاف. إذ يتولّى كلٌّ من ابنِه البِكر أحمد البالغ 15 عاماً، وشقيقه الأصغر عبد الرحمن (13 عاماً)، وأخيه نور (11 عاماً)، مهمّة قطفِ بَتلات الورد ومَلءِ الأكياس بمهارةٍ وخفّة. يخبرني الطفل عبد الرحمن أن أيديهم الصغيرة الناعمة اعتادت على أشواك الورد وقطافه وأصبحوا خلال السنوات الستّ الماضية ماهرين في العمل، وقد يشاركون في القطاف ضمن ورش العمل في الحقول المجاورة.

أطفالٌ كثرٌ أمثالُ عبد الرحمن وأشقّائه تخلّوا عن الدراسة مقابل العمل في الزراعة أو غيرها من الأنشطة لتأمين لقمةِ العيش لعوائلهم، لا سيّما أن قسماً كبيراً من الأطفال أيتامٌ وبلا معيلٍ ومعظمهم يقطنون في المخيّمات. وقدّرت نشرةٌ صادرةٌ في فبراير الماضي عن فريق "منسّقو استجابة سوريا" عدد الأطفال العاملين ضمن الفئة العمرية 14 إلى 17 عامٍ بنسبةٍ تجاوزت 37 بالمئة من إجمالي الأطفال الموجودين في مخيّمات النازحين. لذا تشكّل عمالة الأطفال في مناطق الشمال السوري ظاهرةً، حيث دفعت الظروف المعيشية المتردّية أُسراً كثيرةً إلى زجّ أطفالهم في سوق العمل في سنٍّ مبكّرةٍ ومهنٍ شاقّةٍ، ومنها العمل في الأراضي الزراعية والقطاف وتعشيب الحقول. 


في حقولٍ قريبةٍ من مزرعة أبو أحمد تتكوّم أكياسٌ ورديّةُ اللون تفوح منها رائحةٌ أخّاذةٌ زكيّةٌ وسط مزرعة حسام العبد (40 عاماً)، في أحد حقول البلدة، قطفتها أيدي النساء العاملات وعبّأتها في أكياسٍ شفّافة اللّون تتّسع لبضعِ كيلوغراماتٍ من الوردة الشاميّة استعداداً لإرسالها إلى سوق الهال (أي سوق الفواكه والخضار) في مدينة إدلب أو سوق مدينة معرّة مصرين. هنا استقبلَتني السيّدةُ الثلاثينية مفيدة العُمَر، وهي من النساء اللواتي يعملن في قطاف الورد وتعشيب الحقل. أهدتني وردةً صغيرةً بعد أن قطفَتْها بغُصنِها الطويل. قالت والبسمة تعلو وجهها إن "ريحتها بتشرح القلب". أخبرتني أنها تعمل منذ عشرين يوماً في ورشة قطف الورد التي وفّرت لها ولعشرات النساء العاملات الأخريات فرصةَ عملٍ وصفَتها "بالجيّدة"، إذ يستمرّ موسمها عدّة أشهرٍ في الموسم.

موسم حصاد الورود الدمشقية، في حقل للورود في محافظة إدلب. تصوير: أنس الخربوطلي, عبر جيتي إيماجيز

يقع العبءُ الأكبر في قطاف الورد على النساء فهُنّ يقُمنْ بهذه المهمّة منذ أكثر من أربع سنواتٍ في ورشات عملٍ تضمّ كلٌّ منها قرابةَ 15 سيدةً من أعمارٍ مختلفةٍ جميعهن يعملن في الأرض سواءً بحصاد المواسم الزراعية أو تنظيف التربة من الأعشاب الضارّة، وتسمى هذه العملية "التعشيب". 

منذ ساعات الفجر الأولى، انطلقت مفيدة وعشرات النسوة والأطفال وتوزّعوا بين الصفوف المتراصّة من شجيرات الورد. كلٌّ منهنّ تحمل سلّةً صغيرةً مخصّصةً لجمع الأزهار. ترتدي النساء عادةً ملابس داكنةً للعمل في الحقول. غيرَ أنّ مفيدة اختارت ثوباً ملوّناً يُمثّل بهجةَ الموسم. قالت بينما تحرّك يدها بخفّةٍ ورشاقةٍ بين الأزهار: "لا أشعر بسعادةٍ ونشاطٍ حينما أعمل في قطاف المحاصيل الزراعية مثلما أشعر بها عند قطاف الوردة السعيد. وأحبّ أن أبيّن ذلك على ملابسي أيضاً". 

ليس بعيداً عن مفيدة، اجتمعت ثلاثُ شابّاتٍ "بعُمْر الورد" اعتَدْنَ العملَ في الورشات الزراعية لكسبِ قوتِهِنّ وسط ظروفٍ معيشيةٍ واقتصاديةٍ متردّيةٍ في المنطقة. جذبتني الأصواتُ المتناغمة لأحاديثهنّ وضحكات الأطفال حولهنّ مؤلّفةً سيمفونيةً جميلةً تتمازج مع همسات الرياح ورائحة الورود الزكيّة التي تملأ الأجواء وهنّ يقطفن بَتلات الورد بحذرٍ شديدٍ للحفاظ على جمالها ونضارتها. يتميّز هذا النشاط بروح التعاون والمشاركة، إذ يعمل الجميع يداً بيدٍ لإتمام عملية القطاف التي تحتاج إلى دقّةٍ وصبر.

وفي وسط المشهد، يَلُوح الصغارُ راكضين بين الحقول ليجمعوا ما تَسَعُه أيديهم من الورود في سلالهم الصغيرة، بينما ينسج الكبار قصصاً عن أهمّية الوردة الدمشقية وكيفية الحفاظ على هذا الإرث الثقافي والطبيعي.

مفيدة أُمٌّ لأربعة أطفالٍ تقيم في مخيّمٍ عشوائيٍّ شرقي مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي منذ نزوحها من قريتها بريف حلب جرّاء المعارك قبل سبعِ سنواتٍ. تخبرنا أنها المعيلةُ الوحيدةُ لأطفالها بعد وفاة زوجها إثر قصفٍ من قوّات النظام طالَ قريتَهم. ما جعلها تلجأ للعمل في الأراضي الزراعية ومواسم الحصاد لإعالة أُسرتها وتأمين لقمةِ عيشِهم في ظروفٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ متردّيةٍ نتيجة الحرب والنزوح والتهجير. 

ثمّة عشرات النساء الأُخريات في الشمال السوريّ يعملن في الزراعة ضمن ورشاتٍ مخصّصةٍ يشرف عليها شخصٌ يسمّى "شاويش". يتعاقد معهنّ "الشاويش" لنقلهم من أماكن سكنهم المتفرّقة بصندوق سيّارته الكبيرة في ساعات الصباح الباكر إلى الحقول لمباشرة العمل مقابل نسبة الثلث من أجورهنّ اليومية. تتقاضى مفيدة وباقي العاملات 15 ليرةً تركيّةً، أي ما يعادل أقلّ من نصف دولار، عن كلِّ ساعة عملٍ سواءً في قطاف الورد أو تعشيب الحقل. وتُمضي النسوة من خَمسٍ إلى ثماني ساعاتٍ في الحقل أثناء العمل يوم القطاف، إذ تُقطَفُ حقول الورد كلَّ يومين مرّةً واحدة. 

هذه القروش القليلة، كما تصفُها مفيدة، بمثابة "بَحْصة صغيرة تسنِد جرّة كبيرة". أيْ على قلّة الأُجرة واستغلال جهود العمّال والعاملات في الزراعة والحصاد، إلّا أنها أفضل من البقاء بلا عملٍ وسطَ تردّي الظروف المعيشية والاقتصادية للسكان في المنطقة. 

امرأة سورية تعرض الورود المحصودة في حقل زراعي بالقرب من قرية كيلي في محافظة إدلب. تصوير: عارف وتاد، وكالة فرانس برس، عبر صور غيتي

في الورشة ذاتِها قابلْنا الشابّةَ العشرينيةَ سعاد، من سكّان البلدة، وهي عاملةٌ أُخرى بدأَت بالعمل في مهنة قطاف الورد منذ ثلاث سنواتٍ مع انتشار الزراعة في المنطقة. دَفَعَها إلى ذلك عجزُ زوجِها المريضِ عن العملِ والفقرُ وضيقُ ذاتِ اليد. فالتحقَت بورشة العمل في الحقول الزراعية لسدِّ حاجةِ منزلها. أزاحت سعاد الوشاحَ الأسود عن وجهها الذي عادةً ما تضعُه النسوة العاملات لدرءِ أشعّة الشمس عن بشرتهن. بدا وجهُها خالياً من المساحيق التي تخفّف أشعّةَ الشمس، والتي يَبلغ ثَمَنُها أكثرَ ممّا تتقاضاه العاملةُ في يومين. لذا فإنها تخفي وجهَها بوشاحها حيلةً مجانيةً للحفاظ على بشرتها من عوامل الطقس. قالت لي إنها وباقي العاملات يقضين الساعات الطويلة وظهورُهن منحنيةٌ لالتقاط بَتلات الورد، ويتحمّلن لَسعاتِ النحل ووخزَ الأشواك الناعمة لقاءَ أجرٍ زهيدٍ لا يكفي ثَمَنَ وجبةِ غداءٍ واحدةٍ. "إذا ما اشتغلْنا ما بناكُل" تخبرني ذلك وهي تملأ كيسَها بالورود وتستعدّ لملءِ كيسٍ آخَر. 

تبدأ النسوة العاملات مهمّتَهنّ في ساعات الصباح الباكر، لأنّه الوقت الأمثل لقطاف الورد، أي حين تتفتّح البتلات. وغالباً ما يحتاج هكتارٌ مزروعٌ بالورد إلى نحو عَشر عاملاتٍ لمدّة ثلاث ساعاتٍ، بينما يستغرق تعشيب الأرض وقتاً أطول قد يمتدّ إلى خَمس ساعاتٍ مع عددٍ أكبر من العمّال والعاملات، حسب قول المزارع حسام. ويبرّر حسام انخفاضَ أجور العاملات بارتفاع تكاليف العمل؛ إذ يحتاج الدونم –عدا أُجرة الأرض– إلى مبلغ 100 إلى 150 دولار بين أجرة العمّال وتأمين مياهِ الرّيّ الذي يحتاج إلى مرشّاتٍ خاصّةٍ لتوزيع المياه باعتدالٍ بين الحقول. 

تعود مفيدة وسعاد والعاملات الأُخريات آخِر النهار إلى بيوتهنّ حاملاتٍ رائحةَ الورد العالقةَ على ثيابهنّ، ومنهنّ من تشتري بقسمٍ من أُجرتِها كيسَ وردٍ لصناعة المربّى وشراب الورد لعوائلهنّ حسب من تحدّثنا إليهنّ من النساء العاملات. 


اقتصر التصدير لإنتاج الوردة ضمن الداخل السوري، أي من إدلب إلى مدينتَيْ اِعزاز والباب في ريف حلب الشرقي. وقسمٌ كبيرٌ منه يدخل إلى مناطقِ سيطرة النظام ومناطقِ سيطرة قوّات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على أجزاء من محافظة الحسكة وغالبية محافظة الرقة وأجزاء من ريف محافظة حلب الشمالي الشرقي، ونصف محافظة دير الزور بحسب تقريرٍ لموقع الجزيرة نَشَرَه عام 2023.

حظيَ الورد الدمشقي بطلبٍ كبيرٍ في السوق المحلية بإدلب، إذ يستخدم لصنع مربّى الورد والشراب إضافةً إلى استخدامه كنوعٍ من الزهورات العشبية المفضلة لدى الأهالي. غير أن الفائدة الأكبر، كما وضّحها المهندس الزراعي موسى البكر، تكمن في استخلاص زيت الورد وماء الورد. ولكنها تحتاج إلى معامل متخصّصةٍ وكمّياتٍ كبيرةٍ من الورد، إذ يحتاج إنتاج كيلوغرامٍ واحدٍ من الزيت العطريّ إلى طنٍّ من بتلات الوردة الشامية. ويصل سعر الغرام الواحد من الزيت العطريّ إلى أكثر من 200 دولار لذا يعدّ الورد الشامي ثروةً كبيرةً في حال التمكّن من استخراج الزيت العطريّ منه. 

غيرَ أن مناطقَ الشمال السوريّ الخارجةَ عن سيطرة النظام والواقعةَ في براثن الحرب منذ سنواتٍ، تفتقر إلى معامل صنعِ الزيت أو تقطيرِ الوردة الشامية لأن زراعتها حديثةُ عهدٍ بالمنطقة ولَم تحظَ بالدعم اللازم لها بعد. لذا يقتصر تصريف الإنتاج على معامل المربّيات والشراب. ويَصِفُ المهندسُ الزراعيُّ موسى البكر التجاربَ القليلة لبعض المزارعين في إنتاج زيت الورد في الشمال السوري بالخجولةِ والمحدودةِ. ويخبرنا أنها إلى الآن لم تُظهِر نسبةَ نجاحها، فضلاً عن وجود محاولاتٍ محدودةٍ لإنتاج الماء المقطّر. 

في النهاية، تظلّ الوردة الشاميّة رمزاً يتجاوز كلّ المراحل. ففي بدايات الثورة السورية، كانت رمزاً للسلام حين حملها المتظاهرون في وجه الرصاص. واليوم، أصبحَت رمزاً آخَر للنضال، ولكن في الحقول. التحدّيات التي تواجه زراعتَها، مِن ظروف العمل القاسية إلى صعوبات التصنيع والتصدير، تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ معركةَ السوريين المستمرّة للبقاء. وكما كانت الوردةُ الشاميّةُ حاضرةً في المظاهرات تعبيراً عن الأمل، فهي اليومَ حاضرةٌ في كلِّ حقلٍ، شاهدةً على قدرة الإنسان على التمسّك بما يمثّل هويّتَه وتراثَه، على كلِّ ما يعترضه من صعاب.

اشترك في نشرتنا البريدية