وَضَعَ التبريرُ الهيئةَ، ومعها السلطاتِ المصريةَ، في مرمى النقد. فقد أعقبته تعليقاتٌ ساخرةٌ من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي الذين قارنوا الالتزام المصريَّ بالقانون الدولي بالخرق الإسرائيلي المتكرّر له، وقارنوا التزام الحكومة المصرية بالقانون الدولي في شأن القناة بمخالفتها له في قضايا حقوق الإنسان. وأشار بعض القانونيين إلى عوار هذا التبرير، وأكّدوا أن الحرب الإسرائيلية على غزة تهدد الأمن القومي المصري على نحوٍ يسمح للحكومة المصرية بمنع مرور السفن الإسرائيلية من غير أن يكون في ذلك مخالفة للاتفاقية. وعلى أهمّية هذه التعليقات، فإنها لم تُخضِع الموقفَ الرسميَّ المصريَّ لتمحيصٍ تاريخيٍّ يفسِّر تبايُنَ موقفِه من الالتزامات الدولية، ويفسِّر حرصَه على بعضها دون بعض.
لم تكن اتفاقية القسطنطينية والحياد الذي فرضته على إدارة مصر للقناة حدثاً عابراً في التاريخ المصري الحديث، بل تجسيداً مكثفاً لمعمار الإدارة الاستعمارية لمصر ونوع السيادة الذي سمحت به للحكومة المصرية، والذي اقتصر على بسط النفوذ على أجساد المصريين من غير تمكينها الدفاع عن مصالحهم إزاء الآخَرين. هذه الإدارة الاستعمارية جعلت اتفاقية القسطنطينية، وإدارةَ القناة عموماً، محلَّ نقدٍ للحركة الوطنية المصرية على مدار تاريخها إذ رأت فيها تجسيداً لآثام الاستعمار، وسَعَتْ على مدار أكثر من نصف قرنٍ لتغييرها من غير أن يتحقق مرادها.
كان خروجُ قناة السويس عن دائرة الصراع شرطَ بنائها. فحين حاول أتباع الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي هنري دي سان سيمون، بقيادة القسّ بروسبر إينفانتين، إقناعَ محمد علي باشا بالحَفر سنة 1833، خشيَ الباشا أن يدخل ذلك إمارته إلى خضمّ الصراع الإمبريالي على نحوٍ قد يؤدي إلى احتلالها. وفي السنوات التالية، سَعَت أطرافٌ عدّةٌ لضمان الحياد بإشراك القوى الأوروبية المختلفة في المشروع، ليكون تشاركُها ضامناً لعدم وقوع القناة تحت السيطرة المنفردة لأيٍّ منها. ففي سنة 1843 على سبيل المثال، نشر أرثر أندرسون، أحد مديري شركة الملاحة الشرقية، دراسةً عن جدوى حفر قناة السويس، خَلُص فيها لاستحالة إقناع الباشا بالمشروع إلّا باتفاق القوى الأوروبية عليه، وهو ما يحتاج إلى إطارٍ ينظم إدارة القناة واستخدامها بشكلٍ محايد. وفي أبريل سنة 1845 تأسّست في لايبزج شركةٌ دوليةٌ من فنيّين وصناعيّين وماليّين من بلدانٍ مختلفة لتنفيذ المشروع. وبعدها بأسابيع أسّس إينفانتين مع فرانسوا أرل دوفور جمعيةَ دراسات خليج السويس التي ضمّت فرنسيين وإنجليز ونمساويين. غيرَ أنّ شروط الحياد لم تكن كافيةً، فلَم تُبنَ القناة.
ظهرت إمكانية الحياد مع وصول سعيد باشا إلى الحكم سنة 1854. نبّهت "ثورات الربيع" في أوروبا سنة 1848 الحكامَ الأوروبيين لمصيرهم المشترك، ولضرورة تعاونهم من أجل تخطّي الأخطار المشتركة وعلى رأسها خطر الثورة. في مارس 1855، أرسل فرديناند ديليسبس، رئيسُ الشركة العالمية لقناة السويس البحرية التي حصلت على امتياز الحفر، رسالةً إلى المعماري الفرنسي هيبوليت لافوس جاء فيها أن حفر القناة يمثّل "صمام الأمان" ضدّ الثورات في أوروبا كلّها. وفي سنة 1851 تأسّست أوّل شركةٍ مساهمةٍ عثمانيةٍ، فانفتح الباب أمام تأسيس شركاتٍ أخرى تَصلُح إطاراً قانونياً تنظيمياً لدمج مصالح القوى الأوروبية المختلفة وتنسيقها والوقوف على مسافةٍ واحدةٍ منها جميعاً. وأسهمت حرب القرم سنة 1854، التي وقفت فيها فرنسا وإنجلترا مع العثمانيين ضدّ روسيا، في إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ بين هذه الأطراف تخفّف حدّة النزاع بينها فتسمح بإتمام المشروع.
تأسّست شركة القناة على هذا الحياد. في نوفمبر 1854، أصدر سعيد باشا فرماناً بتأسيس شركةٍ يرأسها صديقُه الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد ديليسبس لحفر القناة وإدارتها تسعاً وتسعين سنة. نصَّ الفرمان على أن تكون الشركة "عالمية" بلا انحيازٍ وطنيٍّ، يُسهم فيها "رأسماليون من كلّ البلدان" لئلّا تستأثر بها قوّةٌ بعينها. وفي 31 أغسطس سنةَ 1855، أرسل ديليسبس خطاباً إلى جايمز ويلسون، مؤسّس مجلة الإيكونوميست الإنجليزية ورئيس تحريرها، يردّ فيها على اتهامات المجلة بأن الشركة فرنسيةً لأن رئيسها فرنسيّ. أكّد ديليسبس في رسالته أن اختياره رئاسةَ الشركة لم يكن بسبب فرنسيّته، إنما بسبب صداقته للباشا، الذي رأى فيه حياداً "وتحرراً من الانحياز الوطني". وأرسل إلى وزير الخارجية الفرنسي في 21 أكتوبر سنةَ 1857، يطالبه بعدم تدخّل الحكومة لمساندة الشركة لئلّا تتضرّر صورة الحياد الضرورية لنجاح المشروع. وفي الشهر ذاته، قرّر سعيد باشا تشكيل "لجنة علمية محايدة" أعضاؤها من القوى الأوروبية المختلفة تبحث إمكانية حفر القناة وجدواها وتحدّد مسارها، على أُسسٍ علميةٍ محايدةٍ، بعيدةً عن أيّ انحيازٍ وطني. وحين صدر تقرير اللجنة، أصدر الباشا فرمانه الثاني في 5 يناير 1856، وأكّد فيه مرّة ثانية حيادَ قناة السويس ووضع ضماناتٍ جديدة. فمثلاً، نصَّ الفرمان على مصريّة عمّال الحَفر، ليضمن عدم تَكوُّنِ مستعمرةِ عمّالٍ أوروبيةٍ في خليج السويس تكون تكأةً لنفوذ قوّةٍ أوروبيةٍ دون أخرى.
هدّدت التطوّراتُ السياسية في السنوات اللاحقة بنْيةَ الحياد، فدفعت القوى لتوقيع الاتفاقية. جاء التهديدُ الجادُّ الأوّلُ إبّان الحرب العثمانية الروسية سنة 1877–1878، حين طُرح السؤال عن أحقّية السفن الروسية في المرور من القناة. بيد أنّ التهديد الأخطر لحياد قناة السويس كان الاحتلال العسكري الإنجليزي مصرَ. في الأول من أغسطس سنة 1882، ومع وصول القوّات الإنجليزية إلى القناة لحرب العُرابيِّين، أرسلت الشركة خطابَ استغاثةٍ إلى الخارجية الفرنسية تُخطِرها بهذا الوجود الذي وصفته بالعدوان ومحاولة السيطرة لا الحماية. اعترضت الحكومة الفرنسية، ومعها حكوماتٌ أوروبيةٌ أخرى، على هذا الوجود العسكري الذي رأت فيه تهديداً للحياد. وفي الثالث من يناير 1883، أرسل جورج غرانفيل، وزير الخارجية الإنجليزي، رسالةً إلى ممثّلي حكومته في باريس وبرلين وفيينا وروما وسان بطرسبرغ أكد فيها التزامَ حكومته الحفاظَ على حرّية الملاحة في قناة السويس في أوقات السلم والحرب واستعدادها للتفاوض على آليّاتِ ضمان هذا الحياد، مع تحفّظها على توقيعِ اتفاقيةٍ تساوي بلاده مع غيرها من القوى، بتأكيده المتكرّر أن حكومته "تمثّل سلطة الخديوي" وهو ما يعطيها الحقّ في إدارة القناة. لَم تَرْضَ القوى الأخرى بهذا الأمر.
في العام التالي، أكّد المشاركون في مؤتمر برلين، الذي وضع أُسس استعمار إفريقيا، ضرورةَ ضمان حرية الملاحة. وأمام تصاعد ضغوط القوى الأوروبية وشركة القناة، اضطرّت بريطانيا أخيراً إلى المشاركة في المفاوضات التي بدأت سنة 1887 وانتهت إلى توقيع ممثّلي تسع قوىً أوروبيةٍ، هي إنجلترا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وروسيا والدولة العثمانية، الاتفاقيةَ في أكتوبر من العام التالي.
أَلزَمَت الحكومةُ نفسَها الحيادَ من قبل اتفاقية القسطنطينية. لم يكن هذا الالتزامُ طوعياً، بل شرطاً لتقليص معارضة القوى لمشروع القناة. نصّت المادّة السادسة من الفرمان المؤسّس للشركة على توحيد تعريفة المرور من القناة للسفن كلّها، ومنعت تمييز سفن أيّ دولةٍ على غيرها. وهو ذاته ما أكّده فرمان يناير 1856، الذي نصّت مادّته الرابعة عشرة أن تكون قناة السويس دائماً "مجرى محايداً مفتوحاً لكل سفينة تجارية تعبر من بحرٍ إلى آخر، دون تفرقة أو استبعاد أو تمييز لبعض الأشخاص أو الجنسيات" على غيرهم في شروط استعمال القناة، ومنعت المادّة التالية الشركةَ من منح أي "سفينة أو شركة أو شخص" أيَّ امتيازاتٍ لا يتمتّع بها كلّ مَن يمرّ مِن القناة.
قام الحياد على تمييز الحكومة المصرية عن العثمانية، مع نزع سيادة الأولى. كانت اتفاقيةُ لندن، الموقّعةُ سنة 1840 بين السلطان العثماني والقوى الأوروبية، حجرَ الزاوية في هذا التمييز. فقد أَبّدَت حكمَ محمد علي وذرّيتِه على مصر مع إبقائها السيادةَ في إسطنبول، وجعلت القوى الأوروبيةَ الموقّعةَ على الاتفاق ضامنةً لهذا الاستقلال الجزئيّ. على أن الاتفاق أبقى حدودَ سلطة الحكومة المصرية غامضةً. اعترضت الحكومة العثمانية سنة 1851 على منح عباس باشا، حفيدِ محمد علي ووريثِ عرشِه، شركةً إنجليزيةً امتيازَ بناء السكك الحديدية عادّةً الامتيازَ من أعمال السيادة. ثم وافقت على المشروع بشرطين: ألّا تُمنح الشركة الأجنبية امتيازاً لإدارة المشروع بعد تنفيذه، وألّا تقترض الحكومة الخديوية من الخارج لتنفيذه. وكذلك اعترضت الحكومة العثمانية، بدعمٍ إنجليزيٍّ، على فرمان شركة قناة السويس وامتنعت عن التصديق عليه.
فتح الخلافُ على أهليّة الباشا في إصدار فرمان شركة القناة البابَ أمام تأطير السيادة المصرية. توقّف نجاح المشروع على أمرين متعارضين، تأكيد استقلال الحكومة المصرية عن العثمانية، لئلّا يكون المشروع عثمانياً فتنتفي عنه صفة الحياد، وتأكيد افتقار الحكومة المصرية للسيادة التي تنزع عنها صفة الحياد. في هذا السياق، قدّم ديليسبس تصوّرَه لسؤال السيادة في مصر. فكتب في 16 مارس سنةَ 1855 رسالةً إلى السفير الفرنسي في إسطنبول ميَّز فيها بين "السيادة الوطنية" التي أقرَّ ببقائها غيرَ منقسمةٍ في إسطنبول بسبب تبعية مصر للدولة العثمانية، وبين ما سماه "السيادة المحلية" التي تخوّل الحكامَ بتنفيذ مشروعات البنية التحتية الرامية إلى تطوير ولاياتهم، وهي السيادة التي أكّد أحقّيةَ الحكومة المصرية فيها بسبب اتفاقية 1840. وفي الاجتماع الأول للجمعية العمومية للشركة سنة 1860، أكّد ديليسبس مرّة أخرى التمييزَ نفسه بين السيادتين. فقال في خطبته أمام المساهمين إنَّ مصر "ليست إمارة (باشاليك) مثل حلب أو دمشق أو بغداد، وليس واليها مجرّد ممثلٍ للباب العالي فيها" كما هو الحال في هذه الإمارات، بل هو حاكمٌ له صلاحية إقرار أعمال النفع العامّ من غير استئذان السلطان.
خدمَ التمييزُ بين السيادة الوطنية والمحلية مشروعَ القناة من جهاتٍ عدّة. أوّلاً، حاجج فرديناند ديليسبس بأحقّية الحكومة المصرية في إصدار الفرمان من غير موافقة السلطان. إذ كان إصداره وفق هذا التمييز من صلاحيات الحكومة المصرية، لأنه شأنٌ داخليٌّ مصريٌّ لا يمسّ السيادة العثمانية. وثانياً، فإن تأكيد عدم حيازة الحكومة المصرية سيادةً وطنيةً قد أسهم في تأكيد حيادها، وعدم كونها طرفاً في الصراعات الإمبريالية بين الدول التي تحوزها. وثالثاً، تأسست على تلك السيادة المحلّية، المتمثّلة في سيادة الحكومة المصرية على أجساد المصريين، دعائمُ إنجاح المشروع وعلى رأسها إجبارُ الفلاحين على حفر قناة السويس بالسخرة، ثمّ استعمالهم جنوداً في جيشٍ وظيفتُهم حمايتُها والحفاظُ على حيادها.
صارت السيادة المحلّية المصرية أساس حياد القناة. برّرت هذه السيادةُ حقَّ الباشا المنصوصَ عليه في الفرمان بالتصديق على قائمة مؤسّسي الشركة، واختيار رئيسها، والتصديق على لوائحها. وبعد أسابيع من إصدار الفرمان، كتب ديليسبس إلى السفير الإنجليزي في إسطنبول، الذي عارض المشروع بوصفه فرنسياً، يؤكّد له أن سعيد باشا لا يريد مشروعاً فرنسياً أو إنجليزياً في بلاده وأن مصريّة المشروع هي ضمان حياده. وبعد وفاة سعيد باشا وتولّي ابن أخيه إسماعيل الحكمَ في يناير سنة 1863. اكتسبت هذه السيادة المصرية أهمّيةً جديدةً وتأكّد استقلال الحكومة المصرية عن العثمانية بتحمّلها مسؤولية تعويض الشركة عن الأضرار التي لحقت بها، جرّاء سحب بعض امتيازات الأراضي التي منحها سعيد في الفرمان الأول. كانت هذه الامتيازات من أسباب الخلاف بين حكومتَي السلطان والباشا، بإصرار الأولى على أنها من صلاحياتها. ومع سحب اسماعيل الامتيازات وإلغائه السخرة، أصدر السلطان في فبراير 1866 فرماناً يصدّق فيه على فرمان تأسيس الشركة. وهو الفرمان الذي جعل السيادة المحلية المصرية أساس حياد قناة السويس، فنصَّ على بقاء القناة تحت سيطرة الشرطة المصرية (المحايدة)، وجعل شركة القناة شركةً مساهمةً مصريةً، وقصر النظر في النزاعات التي تنشأ حولها على المحاكم المصرية.
على أنَّ افتقار الحكومة المصرية للسيادة الوطنية أوجد حاجةً لإطارٍ دولي يضمن حياد قناة السويس. اشترطَ السلطان العثماني سنة 1860 وجودَ هذه الضمانات ليصدّق على المشروع. وفي اجتماع الجمعية العمومية للشركة سنة 1861، أثنى فرديناند ديليسبس على هذا المطلب مع تأكيده ضرورة قصر استخدام القناة على السفن التجارية دون الحربية، التي رأى ألا تمرّ إلّا بإذنٍ خاصٍّ من السلطات المحلية المفترض فيها الحياد، والتي تتولّى حماية القناة. ومع اندلاع الحرب الروسية العثمانية سنة 1876، زدات مخاوف تحوّل قناة السويس إلى أرضٍ للمعركة، فأرسل ديليسبس رسالةً إلى الخارجية الإنجليزية يحثّها على إقرار معاهدةٍ دوليةٍ لتنظيم مرور السفن الحربية من القناة. وظلّت الفكرة محلَّ نزاعٍ حتى وقّعت اتفاقية القسطنطينية سنة 1888.
أوكلت اتفاقية القسطنطينية إدارة قناة السويس إلى حكومةٍ مصريةٍ منزوعة السيادة. ففرضت مادّتاها الأولى والرابعة على الحكومة، التي لم تكن طرفاً فيها، إبقاء القناة مفتوحةً للسفن التجارية والحربية في أوقات السلم والحرب جميعاً حتى لو كانت الدولة العثمانية طرفاً في الحرب. وألزمت مادّتُها التاسعةُ الحكومةَ بتوفير القوّة العسكرية اللازمة لتنفيذ الاتفاقية وحماية القناة، مستندةً في ذلك إلى وجود السيادة المحلية للحكومة التي تستطيع بها تجنيدَ الفلاحين وإجبارهم على الخدمة في القناة. وجعلت مادّتُها الثامنةُ ممثّلي القوى الموقّعة على الاتفاقية في مصر مُشرفين على تنفيذها وضمان التزام الحكومة المصرية بها. وبهذه الاتفاقية صارت إدارة الحكومة المصرية لقناة السويس معبّرةً عن إرادة القوى الأوروبية ذات السيادة، ولم يبقَ لها هي سيادةٌ إلّا على أجساد المصريين تستعملهم في البناء والحماية لضمان حياد القناة.
تحوّل مشروع قناة السويس في السردية الوطنية المصرية إلى ممثّلٍ لكلّ آثام الاستعمار. فقد حُفرت القناة بأيدي فلّاحي السخرة الذين مات منهم نحو مئةٍ وعشرين ألفاً في أثناء الحفر، كما يقول عبد العزيز الشناوي في كتابه "السخرة في حفر قناة السويس". كذلك كان مشروعُ القناة السببَ الرئيس في استدانة الحكومة، التي أفقدتها البقيّةَ الباقيةَ من سيادتها الوطنية بالتحكم الأجنبي في ماليّتها، وعمّقت سيادتُها المحلّية بسعي الاستعمار البريطاني في سنوات إدارة اللورد كرومر إلى تمكين الحكومة من انتزاع فائض الأقوات في صورةِ ضرائب تُستخدم للوفاء بالديون. وقد كان الوجود الأجنبيّ المكثّف في مدن القناة التي أدارتها الشركة، وتمييزهم عن المصريين فيها، تذكيراً بالقمع الناتج عن الاستعمار. وزاد عجزُ الحكومة عن إخضاع الشركة للقوانين المصرية الغضبَ الشعبيَّ منها.
تجلّى سخط الحركة الوطنية المصرية على الشركة في معارضة القوى الوطنية مفاوضات تمديد امتيازها. اقترحت الشركة على الحكومة المصرية تمديد الامتياز المقرّر انتهاؤه في 17 نوفمبر 1968 أربعين سنةً إضافيةً، مقابل زيادة نصيب الحكومة من أرباح القناة. تسرّب الاقتراح إلى محمد فريد، رئيس الحزب الوطني آنذاك، الذي نشره في جريدة اللواء في أكتوبر سنة 1909، فأثار انتقاداتٍ واسعةً لِما رأت فيه الحركة الوطنية من عدوانٍ على السيادة المصرية. وفي 27 يناير 1910، عُرض المشروع على مجلس النظّار الذي رفضه بالإجماع، وطلب للموافقة عليه إدخالَ بعض التعديلات في الشروط المالية لمدّ التعاقد.
على أن الاعتراضات لم تقف عند حدود المفاوضات المالية. نشر طلعت حرب سنة 1910 كتاب "قناة السويس" الذي لخّص فيه تاريخ القناة و"الغبن" الذي مُنيَ به المصريّون في المراحل المختلفة من المشروع، وأكّد ضرورةَ إخضاع الشركة والمشروع للسيادة المصرية بوسائل، منها التعاقد مع "مديرين مصريين بكلّ معنى الكلمة" للعمل في الشركة. ورفض تمديد الامتياز لما ينطوي عليه من افتئاتٍ على حقوق الأجيال القادمة، لأن الامتياز "لم يقرب أوان تمديده […] ولكلّ زمانٍ حُكمٌ، ولكلّ جيلٍ تصرّفٌ خاص به"، وأكد كذلك أن المشروع "ضارٌّ لا تصحّ الموافقة عليه". لَم يثْنِ ذلك كلُّه بطرس غالي، رئيسَ الوزراء، عن الدفاع عن المشروع في جلسة الجمعية العمومية المنعقدة في 9 فبراير سنةَ 1910. فاستفزّ ذلك أعضاءَ الحزب الوطني، ومنهم إبراهيم الورداني، الذي أطلق على غالي الرصاص بعدَ عشرة أيّامٍ فأرداه قتيلاً، وأغلق باغتياله الباب أمام مفاوضات التمديد.
مع صعود الحركة الوطنية بالتزامن مع سائر حركات التحرر الوطني في منتصف القرن، حاولت الحكومات المصرية المتعاقبة تأكيد سيادتها على قناة السويس. تجلّى هذا بالأساس في منع مرور السفن الإسرائيلية منها بعد الاعتراف الأمميّ بتأسيس إسرائيل سنة 1948. في الأشهر والسنوات اللاحقة، أرسلت الحكومة الإسرائيلية عدّة خطاباتٍ إلى مجلس الأمن تشكو فيها من تعطيل سفنها ومنعها من المرور في القناة. مثلاً، أرسل ممثّل إسرائيل في الأمم المتحدة في 12 يوليو 1951 خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن استدعى في مقدّمته اتفاقية القسطنطينية، وطالب المجلسَ بالتدخّل لتغيير سلوك الحكومة المصرية الرافضة عبورَ السفن الإسرائيلية من قناة السويس، والذي عدّه مخالفاً لشروط وقف إطلاق النار بين البلدين بعد حرب سنة 1948. وفي سبتمبر سنة 1951، أصدر مجلس الأمن قراراً طالب في مادّته العاشرة الحكومةَ المصريةَ بالكفّ عن منع مرور السفن الدولية من القناة، بغض النظرِ عن دولها. لم يثْنِ هذا القرارُ وغيره الحكومةَ المصريةَ عن سعيها إلى تأكيد سيادتها على القناة. بعد نجاح ثورة يوليو 1952 ووصول الضبّاط الأحرار إلى الحكم، استمرّوا في سياسة التضييق على السفن الإسرائيلية، بل شدّدوا الخناقَ على مرور السفن المتّجهة من إسرائيل وإليها سنة 1953، واستمرّت الشكاوى الإسرائيلية المتكرّرة إلى مجلس الأمن الذي لم ينجح في تغيير الموقف الحكومي المؤكّد السيادة المصرية.
بلغت السيادة الوطنية المصرية ذروتَها في صيف 1956. خاض الضباط الأحرار بعد وصولهم الحكمَ مفاوضاتٍ مع الإنجليز للجلاء عن مصر، أدّت إلى توقيع اتفاقية الجلاء في أكتوبر سنةَ 1954، ثمّ اكتمل الانسحاب العسكري البريطاني من مصر، ومن مدن القناة على وجه الخصوص في يونيو 1956. وفي الشهر التالي لإتمام الجلاء، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراراً جمهورياً نصَّت مادّته الأولى على أن "تؤمَّم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركةً مساهمةً مصريةً، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموالٍ وحقوقٍ وجميع ما عليها من التزامات". مثّل هذا القرار ذروة السيادة المصرية على الممرّ المائيّ، إذ حلّ المصريون محلَّ الأوروبيين في إدارته التي لم تعد مرتبطةً بشركةٍ أمٍّ في فرنسا، وتأسست بموجب المادّة الثانية من القرار هيئةُ قناة السويس لتدير المرفق بدل الشركة. فتشكلت بذلك سيادةٌ وطنيةٌ تجلّت في تحوّل مدن خليج السويس من الهيمنة الأوروبية إلى المصرية.
هدّد اكتمال السيادة الوطنية المصرية المصالح الاستعمارية التي سعت إلى تقويضها. في أغسطس 1956، نظّمت الحكومة الإنجليزية مؤتمراً للدول الأوروبية ذات المصلحة في قناة السويس، انتهى إلى الموافقة على المقترح الأمريكي بتأسيس هيئةٍ دوليةٍ لإدارة القناة تضمَن حيادها. رفضت الحكومة المصرية المقترح الذي أرسلته حكومتا إنجلترا وفرنسا إلى مجلس الأمن في 5 أكتوبر. بعدَ أسبوع، أصدر المجلس قراراً قضى فيه بوجوب احترام السيادة المصرية بعد تأكيده ضرورة الحفاظ على حياد القناة وبقائها مفتوحةً أمام الجميع بلا تمييز. وفي 29 أكتوبر، بدأ الهجوم الإسرائيلي على الأراضي المصرية، تبعه الهجوم الفرنسي والإنجليزي، الذي استمرّ في مدن القناة حتى فرض الظرفُ الدوليُّ المتمثّلُ في ممانعة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الحلَّ العسكريَّ توقّفَه في نوفمبر.
لم يمنع الانتصارُ السياسي المصري في الحرب تآكلَ السيادة الوطنية للحكومة. فقد أعقبت وقفَ إطلاق النار مفاوضاتٌ بين أطراف النزاع انتهت بانسحاب الجيوش المعتدية من الأراضي المصرية مقابل شروطٍ، منها تعهّد الحكومة المصرية الحفاظَ على حياد قناة السويس. وفي 24 أبريل 1957، أرسل وزير الخارجية المصري محمود فوزي خطاباً إلى الأمين العام للأمم المتحدة نقل فيه إعلانَ الحكومة في 18 مارس التزامَها بالاتفاقيات الدولية المنظّمة للملاحة في القناة وعلى رأسها اتفاقية القسطنطينية، وسماحها بمرور السفن كافّةً من القناة بلا تمييز. وبهذا حقّقت إسرائيل مرادها من دخول الحرب مع القوى الاستعمارية الأخرى، مما فتح الباب أمام تجارتها من المحيط الهندي بعد أن كانت قناة السويس مغلقةً أمامها. مع تآكل السيادة الوطنية للحكومة، تعاظمت السيادة المحلية. فشهدت السنوات التالية حملاتٍ واسعةً لاعتقال المعارضين السياسيين للنظام.
على أن مرور السفن الإسرائيلية، لا سيما الحربية، ظلَّ محلَّ انتقادٍ شعبيٍّ دفع بالحكومة إلى تبرير موقفها باستدعاء اتفاقية القسطنطينية. في صيف 2009 مثلاً، وبعد أسابيع من الحرب الإسرائيلية على غزّة، مرّت سفينتان حربيّتان إسرائيليّتان من قناة السويس في أثناء انعقاد قمّة عدم الانحياز في شرم الشيخ. فربطت وسائل إعلامٍ محليةٌ مرورَهما برغبة الحكومة في كسب تأييدٍ دوليٍّ، وبتواطؤها في "تفعيل مكافحة تهريب السلاح إلى قطاع غزة". ردّت الحكومة على لسان وزير خارجيتها أحمد أبو الغيط بأن مرور السفينتين ليس إلّا "حدثاً روتينياً" تحكمه اتفاقية القسطنطينية، مؤكّداً أن حكومته "لن تخترع اتفاقياتٍ جديدةً تحكم المرور عبر هذا الممرّ المهمّ".
وهكذا ظلَّ مرور السفن، لا سيما أوقات النزاع، تذكيراً ببقاء معمار السيادة الذي شُّيّد منتصف القرن التاسع عشر. إذ لا يزال التجلّي الأساسيّ لسيادة الحكومة المصرية محلّياً يظهر في تسلّطها على أجساد المصريين وقوتهم، وهي السيادة التي تستدعيها الحكومة مع كلّ انتقادٍ خارجيٍّ لسجلّها الحقوقيّ، فترفض الانتقاد وتصفه بالعدوان على سيادتها. أما السيادة الوطنية، أو تمثيل إرادة المصريين ومصالحهم إزاء غيرهم، لاسيما المستعمِر، فلا تزال مقصورةً على النحو الذي يذكر به مرور السفن الحربية الإسرائيلية. ولا يشي الاستدعاء المستمرّ لاتفاقية القسطنطينية، وقبول الحكومة بها مرجعاً لتصرفاتها، بسعي إلى استعادة هذه السيادة.