الحنين لحياةٍ مؤقتة.. علاقة المصريين المغتربين بدول الخليج

تسهم السياسات العمرانية وأنظمة الكفالة فضلاً عن حياة المغتربين المصريين المؤقتة بالخليج في خلق صراعاتٍ خاصة لم تُدرس كما يجب حتى الآن.

Share
الحنين لحياةٍ مؤقتة.. علاقة المصريين المغتربين بدول الخليج
الصراعات التي يعيشها المغتربون المصريون في الخليج لم تُدرس كما يجب حتى الآن | خدمة غيتي للصور

إذا أتيحت لك زيارة معرض "خرج والمفروض يعُد" الذي عُقِد أوّل مرّةٍ في القاهرة آخرَ 2022، ثمّ جال في مدنٍ أخرى في الخليج العربي وخارجها، ربما وجدتَ مثلي أن معروضاته تتحدث إليك وتسمعها. فهناك ترى أريكةً تكاد تكلّمك عن طفلين مصريّين اسمهما نادين وأدهم جلسا وتقافزا فوقها في أبو ظبي سنة 2007. هذه الأريكة لم تبقَ في مكانها، بل أخذتها عائلة الطفلين معها في رحلة عودتها إلى القاهرة بعد مدّةٍ طويلةٍ قضتها الأسرة في الإمارات. في ركنٍ آخَر، تركت عائلة محيي الدين يحيى هاتفَ جدّه الآيفون مفتوحاً، على مرور سنتين من وفاته. ابتاع الجدّ هذا الهاتف من قطر حيث عاش سنواته الأخيرة، وتَعرِض شاشةٌ ملحَقةٌ الصورَ التي التقطها الجدّ بهاتفه، وصوراً ساخرةً (ميمز) اختزنها على ذاكرة هاتفه من وسائل التواصل الاجتماعي أيام إقامته في الدوحة، وصوراً أخرى التقطها لنفسه عند واجهات المحلات التجارية. وعلى شريط كاسيت تسجيلٍ قادمٍ من مدينة خليجية سنة 1993 سجَّل أبٌ لابنته وزوجته وصاياه مصحوبةً بوعودٍ بهدايا ستصلهم قريباً. وفي ركن صور محمود زرعي استخدم مهاراته في برنامج "فوتوشوب" ليعبّر عن غربته في السعودية، مصوّراً نفسَه فرعاً مقطوعاً من شجرةٍ وارفةٍ، أو رأساً يُطلّ من بين شلالات مياهٍ صاخبةٍ، أو في غيمةٍ سابحةٍ في السماء. وأخيراً عروسٌ تظهر في مقطعٍ مصوّرٍ وهي ترتدي فستان زفافها الذي ستسافر به إلى زوجها الذي لم ترَه إلّا في الصور لتلتقي به في أحد مطارات السعودية.

معرض "خرج والمفروض يعُد"، الذي نظّمته فرح حلّابة الباحثة وفنانة البصريات، ومؤسِّسة مشروع "أنثروبولوجي بالعربي"، جمع مقتنياتٍ مشحونةً بالذكريات والأحداث، ليرسم صورةً تلخّص علاقةَ كثيرٍ من المصريين بدول الخليج العربي وعلاقتَهم الملتبسةَ بها والتي أظهر المعرض والتعليقات التي كتبت بشأنه تفاوتَها بين الأجيال.

في عالَمٍ يعيش تحدّياً كبيراً لإدماج المهاجرين واللاجئين، يبقى ما يحدث للمهاجرين إلى الخليج العربي فريداً. إذ رتّبت تلك الدول أوضاعاً قانونيةً تجعل علاقةَ المهاجرين بها علاقةً مؤقّتةً، تنتهي بانتهاء الغرض أو الرابطة التي وفد المهاجر من أجلها، من غير أن يتمكن من الحصول على أيّ امتيازاتٍ تقرّبه من المواطنة الكاملة. يعيش هؤلاء المهاجرون بلا شبكاتٍ اجتماعيةٍ تعمّق حضورهم في المجتمعات الخليجية، وتنظر الدول التي تستضيفهم بريبةٍ إلى الروابط والتجمّعات التي يمكن أن تجمع بعضَهم ببعض. في ظلّ تلك الأوضاع طَوّرَ هؤلاء المهاجرون أساليبَ للتعايش مع استمرار حالتهم المؤقتة التي امتدّت من ضواحي الخليج إلى مدنهم وقراهم البعيدة في كالكوتا أو صعيد مصر.

جانب من معرض "خرج والمفروض يعُد" خلال جولته بالإمارات العربية المتحدة
المصدر: صفحة مبادرة أنثروبولوجي بالعربي

تعمل آليّات التعايش تلك بمنطقٍ يؤثّر في كلّ الأطراف سواسيةً، فلا يمكن قراءة التاريخ الاجتماعي الحديث للخليج أو لتلك الأماكن القصيّة بلا نقاشٍ جادٍّ لهذه العلاقات وأثرها. وهذا ما عملت بعض البحوث والكتابات على فهمه وتوثيقه، كما في كتاب "خرج والمفروض يعُد" المصاحب لمعرض 2022 الذي حمل الاسم نفسه، وفي دراساتٍ أُخرى يظهر فيها أن المهاجرين المصريين من بين مجموع المهاجرين للخليج، يعيشون في مواقع وتجارب اجتماعيةٍ مختلفةٍ في أثناء هجرتهم.  


ولّد اكتشافُ النفط في دول الخليج العربية فرصَ عملٍ عدةً، جذبت باحثين عن العمل من المنطقة العربية والعالم، كما يرصد الباحث عمر هاشم الشهابي في دراسته "تصدير الثروة واغتراب الإنسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2018. تتقصّى الدراسةُ ذلك التحوّلَ منذ بدأ ما سُمّي عصر النفط مع اكتشاف أوّل بئر نفطٍ في البحرين في مايو سنة 1932، وتبعتها السعودية سنةَ 1938، فالكويت سنةَ  1938 وقطر سنةَ 1939. أمّا في أبو ظبي وسلطنة عُمان فقد اكتُشف النفط في الأولى سنةَ 1958 والثانية في 1962. أدّت هذه الصناعة الجديدة إلى تسارع ارتفاع عدد الوافدين للعمل في الخليج. فمثلاً، ارتفع عدد المهاجرين للعمل إلى الكويت من 5 بالمئة من حجم العمالة سنة 1945 إلى 68 بالمئة سنة 1949. وفي كلّ دول الخليج ارتفع عدد العمّال من نحو ألفَيْ عاملٍ سنة 1940 إلى نحو ستة عشر ألف عاملٍ بحلول 1950.

كانت الموجةُ الأولى من العمالة الوافدة بعد اكتشاف النفط قادمةً من شبه القارة الهندية والغرب، ولكن بعد نكبة 1948 ازداد وجود العمالة العربية في حقول النفط الخليجية. يَذكر عمر الشهابي في دراسته مثالاً على ذلك، وهو أمرُ الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1949 باختيار المواطنين، ثم الفلسطينيين، ثم العرب، ثم بقية الجنسيات من الدول الإسلامية على الترتيب، للعمل في الوظائف. وامتدّ تأثير النكبة التي تبعها تبنّي أفكارٍ قوميةٍ عربيةٍ في الكويت وسياسات حاكمها آنذاك الشيخ عبدالله السالم، لتفضيل العمالة العربية أيضاً. وبحلول سنة 1975، كان 90 بالمئة و80 بالمئة من المغتربين في المملكة العربية السعودية والكويت على الترتيب من العرب. أما بقية دول الخليج التي استمرّت تحت وطأة الانتداب البريطاني حتى بداية السبعينيات، فكانت العمالة العربية فيها أصغر بسبب تحفّظ البريطانيين خشية العواقب السياسية المترتّبة على توظيف أعدادٍ كبيرةٍ من العرب. وكان خيارهم المفضّل، استقدام عمالةٍ من شبه الجزيرة الهندية.

تعتمد هذه الدول على صلة القرابة في تقديم وصناعة مفهوم الهوية والشعور بالانتماء للجماعة بحسب رأي الدكتور سكوت وينر في كتابه "علاقات القرابة وتشكّل الدولة والحوكمة في دول الخليج العربي - جامعة ادنبرة 2022". تمثّل القرابة لغةً لاحتكار السلطة داخل هذه المجموعات، مستفيدةً بدورها من الموارد ومحتكرةً توزيعها، إذ تستخدمها السلطة كي تهندس المجتمعَ وهرميةَ القوى فيه. فمجتمعات الخليج وفقاً لذلك مقسّمة وفقاً لنظامٍ معقّدٍ من الامتيازات والاستبعاد.

وأشهر سياسات الاستبعاد الخليجية تجاه المغتربين هو نظام الكفالة. لكي يستطيع العمل في دول الخليج يحتاج المغترب إلى كفيلٍ، وهو عادةً إمّا مواطنٌ وإمّا شركةٌ لمواطن. يتحمّل الكفيلُ المسؤوليةَ القانونية للعامل المكفول داخل البلد، ويتحكّم في جوانب من حياته، أهمّها قدرة الأخير على الانتقال لعملٍ آخَر داخل البلد والدخول والخروج من البلد. وبذلك يمكن القول إنَّ نظام الكفالة هو في جزءٍ منه تفويضُ الدولةِ بالسلطة على حقّ الوافد في الدخول إلى البلاد والعمل فيها، وهو جزءٌ من التركيب الطبقيّ الذي تهندسه سلطات تلك الدول وتعمل على ترسيخه في مجتمعاتها. ومن تجلّيات ذلك النظامِ الطبقيِّ اعتمادُ دول الخليج العربي على نوعين من العمالة، هما العمالة الماهرة وغير الماهرة. وصف الشهابي العمالة الماهرة بذات "الياقة البيضاء" وهم من فئة المتعلّمين والخبراء، وهي فئةٌ تحصل على أجورٍ جيدةٍ وتعيش في مساكن مدمجةٍ في مدنٍ وتجمّعاتٍ قريبةٍ من المواطنين، فيما تُشغَّل العمالة غير الماهرة بتكاليف قليلةٍ، وغالباً ما يكون أفرادها من شبه القارة الهندية لأنهم أكثر انضباطاً وانصياعاً للسلطات في الخليج بسبب ظروفهم الصعبة في بلدانهم الأصلية، ويعيشون بما يشبه معسكرات العمل التي تُصعّب على أيٍّ منهم بناء حياةٍ مستقلّة. فهذه الفئة يُفرض عليها نمط حياةٍ لا يمكّن أصحابَها من لمّ شمل عائلاتهم حتى لو كان أيٌّ منهم متزوجاً.


يرصد الباحث المصري السيد محمود علي في دراسته "هجرة المصريين إلى دول الخليج العربي ودورها في التنمية الوطنية: دراسة جغرافية" المنشورة في مجلة البحوث الجغرافية عن جامعة المنوفية سنة 2019، تصاعُدَ عددِ المصريين الوافدين إلى دول الخليج العربي بدءاً من السبعينيات حتى زاد قليلاً عن مليون وثلث المليون سنة 1990. وازداد زيادةً طفيفةً بحلول سنة 2000 ثم قفز قفزةً كبيرةً ليتخطّى المليونين وثلث المليون سنة 2010، ثمّ زاد نحو نصفَ مليونٍ آخَرين بحلول 2015، وهو العام الذي شكّلت فيه كتلة المصريين العاملين في دول الخليج 70.4 بالمئة من مجموع المصريين العاملين بالخارج، ويمثّلون أكبر المساهمين في التحويلات المالية التي تشكّل النسبة الغالبة من دخل دولتهم من العملة الأجنبية. يرصد الباحث في دراسته السابق ذكرها أن هذا الأثر الكبير للمصريين في التنمية الوطنية ما يزال قائماً، على تراجع نسب الهجرة المصرية إلى دول الخليج في ظلّ تفضيل أصحاب الأعمال في تلك الدول استقدام العمالة من دول شبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش) لأنهم يرضون بأجورٍ أقلّ ولا يسعون لاستقدام عائلاتهم كما يسعى المصريون، مما يؤكّد على توصيف عمر الشهابي في دراسته "تاريخ المغتربين في الخليج" للعمالة الوافدة ومن بينها العمالة المصرية في الخليج، على أنها "مواطنة مقيّدة مع هجرة منقوصة، فبغضّ النظر عن مدّة إقامتهم، يظلّون عمالة مؤقتة".

تصدّت كثيرٌ من البحوث والكتابات لموضوع هجرة العمالة إلى الخليج العربي، ومنها كتاب "حتى ينتهي النفط: الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج" الصادر سنة 2017 للباحث الألماني صامولي شيلكه، والذي يتتبّع فيه حياة عمّالٍ مصريّين في الدوحة وآمالهم ومرارة الاغتراب التي تثقل عليهم وعلى عائلاتهم ممّن تتغيّر حياتهم في مصر بغيابهم. يعيش شيلكه معهم في معسكرات العمل، ويتابع عودة بعضهم إلى مصر.

كتاب شيلكه يأتي في ذيل كتاباتٍ وأبحاثٍ كثيرةٍ تناقش وضع المصريين في الخليج تحديداً. فعلى غياب الإحصائيات الرسمية المعلنة التي تحدّد نصيب كلّ بلدٍ عربيٍّ صدّر عامليه إلى دول الخليج عقب بداية عصر النفط، كان وجود العمالة المصرية وأثرها ملحوظاً، خصوصاً بين السبعينيات ومطلع الألفية. آنذاك تشكّلت علاقة المصريين الخاصّة بدول الخليج وولَّد وجودُهم المؤقّت فيها، في ظلّ قوانين استيراد العمالة المؤقّتة، وضعاً ظهرت آثاره عليهم أثناء إقامتهم في المجتمعات الخليجية، وظهرت في نسيج المجتمع المصري والتقطتها أعين الأدباء وصنّاع الدراما في مصر، وسجّلت بعضاً منها.

من أوائل الأعمال المهمّة التي استقرأت وضع العمالة المصرية في دول الخليج العربي رواية "وردة" للأديب المصري صنع الله إبراهيم. وهي من الأعمال الأدبية المبكرة التي رصدت ثورة ظفار في سلطنة عُمان (1965-1975). الشخصيات الرئيسة في الرواية مصريّون يعيشون في الخليج. فمنذ اللحظة الأولى التي يحطّ فيها في مسقط الصحفيُّ الذي يزور عُمان أوّل مرّةٍ في التسعينيات، نستشفّ من لقائه بقريبه وزوجته اللذين يعيشان في عُمان وضعَ المصريين هناك. فها هو فتحي الذي يعيش في مسقط يقول لضيفه "ضع الحزام يا بني وإلّا ضعنا. المرور هنا صارم وليس كما في بلدكم". يفصل المصري الذي عاش في الخليج طويلاً بينه وبين مصر في حديثه، مع أنها ما زالت بلده أيضاً. وفي موضعٍ آخَر يكتب صنع الله إبراهيم: "لمحت هندياً في أوفرول أصفر يجرّ عربةً صغيرةً لجمع القمامة فتساءلت: ولماذا لا يجلبون عمالاً من العرب؟ العاطلون عندنا بالكوم⁠‫"، فأجاب فتحي "الهنود ينامون في العراء. وإذا فُصل الهندي لا يشكو وإنما يبحث في هدوءٍ عن عملٍ آخَر، أما العربي فإنه يُحبّ الشكوى ويثير المشاكل.

- أيُّ نوعٍ من المشاكل؟

- كأن يطالب مثلاً بحقوقه".

هناك مشهدٌ آخَر لا يمكن إلّا أن نقف عنده يدلّل على هشاشة العلاقة بين المصريين والدول التي قصدوها للعمل دون أن تعدهم بالاستقرار. عندما يحكي فتحي المفتتن بمسقط عن وضع زوجته المأزوم في العمل، ووضع المصريين عموماً، فيقول: "كلمة واحدة من رئيسها كي تجد نفسها في القاهرة. ⁠‫هكذا ببساطة⁠‫".

يعالج كتاب "خرج والمفروض يعُد" صراعات الطبقة المتوسطة المصرية في الخليج
الصورة من صفحة مبادرة أنثروبولوجي بالعربي، فيسبوك

وأحدث الكتابات التي تحدّثت عن وضع المصريين الوافدين إلى دول الخليج العربي، مع التركيز على حالاتهم الشعورية وتحديداً صلة أبناء الثمانينيات والتسعينيات الذين وُلدوا أو تربّوا مع أسرهم العاملة في دول الخليج العربي، هو الكتاب الصادر عن معرض "خرج والمفروض يعُد" الذي يواصل جولاته في مدنٍ عربيةٍ وأوروبية وقدّمت فيه الباحثة فرح حلابة خلاصة مختبر لدراسة تأثيرات هذه الهجرة على الأحلام والطموح والحياة المادّية، وعلاقات الأبوّة والطبقة الاجتماعية وآليّات الذاكرة والانتماء والموت. إلّا أن الفرق بين كتابها وكتاب صامولي شيلكه هو أن الأخير ينظر في حالة طبقةٍ عاملةٍ دنيا، أما الكتاب الثاني فيعالج الطبقةَ المتوسطةَ وصراعاتِها. يستنطق الكتاب الأوّل المهاجرين إلى الخليج العربي مباشرةً بالعمل الميدانيّ الذي أجراه شيلكه، بينما يعالج كتاب "خرج والمفروض يعُد" الموضوعَ بتلقّي أبناء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث لمسألة الهجرة إلى الخليج وأثرها فيهم وفي ذويهم.


ما يزال استخدامُ مصطلح "الهجرة" لوصف تجربة المغتربين المصريين في دول الخليج العربية محلَّ نظر. وهو ما يحاول فعله صنّاع كتاب "خرج والمفروض يعُد" الذي صدر مصاحباً للنسخة الأولى للمعرض في 2022، بمحاولاتهم زرافاتٍ ووحداناً التفكيرَ في اللغة. فما الذي نقوله عن ذلك الذي "رايح للخليج"؟ مسافر، مهاجر أم مغترب؟ فمعنى الهجرة يرتبط بمعنى انتفاء ضرورة العودة إلى البلاد التي نشأ فيها المهاجر، في حين أن الغربة بحسب رأي شيلكه في كتابه "هجرة المصريين إلى الخليج" هي "أن تعيش في حياةٍ ليست كاملةً بالمعنى الاتصالي"، وهو مفهومٌ يتناقض مع مفهومٍ أكثر إيجابيةً مثل السفر.

لا تتوقّف الحيرة أمام اللغة عند هذا الحدّ، فثمّة سؤالٌ يرتبط بالحديث عن الفرق بين "السكن" و"البيت" لا سيما عند المغتربين المصريين بفحص رسائلهم التي بعثوها إلى عائلاتهم وتعبيرهم عن المأوى الذي يعيشون فيه. ويتجلّى أنّ التسمية والارتباك بشأنها سببها محاولة الوقوف على خصوصية التجربة. فاللغة تستطيع أن تختزن الحدود بين هذه المعاني التي تختلف وينبغي التفكير فيها بتأنٍّ كما يتّضح في محاولة المشاركين في مختبر "خرج والمفروض يعُد" مقاربتَها. فيطلقون اصطلاحاتٍ، منها: حياة مؤقّتة، حياة مؤجّلة، أو مرحلة العيش الانتقالية في الخليج "ترانزيت" للإشارة بوضوحٍ إلى عنف مسألة العودة الحتمية للمصريين من الخليج أحياءً كانوا أم أمواتاً. لقد أثّرت هذه السمة في حياة المصريين في الخليج وتحكّمت في مساراتهم جميعها، ومنها تكيّفهم وإدماجهم. وتخطّت ذلك إلى أن طبعت نفسها في الواقع المصريّ أيضاً. ففي كتاب "تاريخ العصامية والجربعة: تأملات نقدية في الاجتماع السياسي الحديث" الذي صدر سنة 2021 للكاتب المصري محمد نعيم، يجادِل الكاتب بأنَّ الطبيعة الموقوتة في الخليج أثّرت في الواقع المصري الاجتماعي اليومي بحدّةٍ ووضوحٍ، خصوصاً ونحن نتحدث عن عشرات ملايين المصريين الذين سافروا في خمسة عقودٍ إلى دول الخليج والعراق وليبيا.

يستمرّ ترسيخ الاتفاق على تسميتها "الحياة المؤقتة" بتفكيك العلاقة بالبيت وأثاثه. ففي "خرج والمفروض يعُد" نجد أنَّ المشاركين في الورشة والمعرض يفكّرون فيهما من زاوية علم الاجتماع بأنَّ البيت نقلٌ للفضاء العامّ إلى المجال الخاص. فمن العلاقة مع المنزل، يمكن قراءة التوتّرات التي تُشبَع بالاستمرار في تزويد منازل المغتربين إلى الخليج في مصر بالأثاث الثمين في الوقت الذي يعيش فيه المغترب من الطبقة المتوسطة في المساكن المتواضعة في الخليج، تلك التي لا يكاد يتذكّرها بعد حينٍ، فهي محطّةٌ مؤقّتةٌ بأثاثٍ متقشّفٍ بالمقارنة مع بيوت مصر التي تُشحَن إليها صناديق الأثاث والكماليات حتى وإن لم تُستخدم تلك الكماليات لاحقاً، كما عبّر المشاركون.

جانب من تفاعل الزوار مع معرض "خرج والمفروض يعُد" أثناء جولته في الإمارات
المصدر: صفحة أنثروبولوجي بالعربي، فيسبوك

تمثّل هذه الكماليات رابطاً حميماً ودليلاً ملموساً على سنوات الهجرة. إنها محاولةٌ لإعطاء الاستقرار بُعداً مادّياً أو لتعويض غياب الاستقرار أثناء الحياة في الخليج بتعويضٍ مادّي. كثيراً ما عُدّ الأثاث من علامات التمايز الاجتماعي في مصر الحديثة وأثَّر، بحسب محمد نعيم، في تغيير الثقافة والعادات والتقاليد، كانحسار الفصل بين الجنسين وبداية الاختلاط داخل البيوت وخارجها. فظهرت مفاهيم حجرة الصالون وحجرة الطعام بما ينطويان عليه من استعراضٍ للمقتنيات، سمّاه نعيم "مأساة النيش المصري الحديث"، دلالةً على الأهمّية الاجتماعية الوجاهية التي يشكّلها "النيش"، بينما يقع الأثاث في الخليج تحت ضغطٍ اجتماعيٍّ أقلّ، نتيجة العزلة التي يعيشها المهاجرون.

كانت علاقةُ الطبقة المتوسطة بمنازلهم في مصر نوعاً من الخيال التحرّري من وطأة واقعهم في الخليج، خصوصاً أن المصريين ممّن يتقاضون الأجور المتدنّية يعيشون فيما يشبه الثكنات العسكرية المتهالكة. فللعمالة غير الماهرة ممارساتٌ مختلفةٌ للتكيّف مع المعاناة والغربة. ويضرب شيلكه مثالاً على ذلك الفصل المعماريّ وفصل المساحات المشترَكة، فيرصد انشغالَ المغتربين من العمالة غير الماهرة بالحديثِ عن النساء، ونقدِ الأخلاق الجنسيّة للخليجيين. ويرى شيلكه أن حياتَهم الجبريةَ أحادية الجنس، باستثناء الأماكن المشتركة التي تجمعهم أحياناً بالنساء، تُسهِم في إخفاء الأبعاد الجنسية البصرية لهؤلاء الرجال. إلّا أن شيلكه يقرأ ذلك في ضوء نظرية عالم الإناسة الفرنسيّ دي سارتو بأنَّ الأعمال الالتفافية تتحدّى النظامَ ووطْأَتَه، كأن ينام أحدهم في فترة مناوبته. فهذه التكتيكات تقابل استراتيجيات الأقوياء حتى وإن كانت لا تتحدّى النظام بل تجعله أنعم. وبهذا فإن عنصرية المغتربين والنمائم التي يطلقونها على المواطنين هي محاولةٌ لإضفاء نوعٍ من الشرعية على حياةٍ مستلَبةٍ ومؤجّلة.


نُمّطت تجربة المغتربين المصريين في الخليج. واشتملت قراءة تجاربهم على نوعٍ من التطبيع النفسي الذي حال دون التعمّق في دراسة تأثيرات هذه التجربة عليهم. ومن صور هذا التنميط اكتفاءُ الإعلام المصريّ بالإشارة المستمرّة، سواءً بالدراسات الأكاديمية أو بغيرها، إلى "التأثير الوهابي" والنظر إلى المهاجرين المصريين على أنّهم مجموعة واحدة متجانسة، الأمر الذي يمنع الوصولَ لواقعٍ تتشظّى فيه هذه المجموعة وفقاً للطبقة التي تنتمي إليها أو العرق أو الجنس. وهو ما أكّده شيلكه أيضاً بحديثه عن محدودية نقاش التجربة الفردية للمهاجرين إلى الخليج.

قراءة الهجرة المصرية إلى الخليج العربي بعدسة "التأثير الوهابي" طبعت أعمالَ كثيرٍ من الباحثين والكتّاب المصريين والأجانب، بتحليل صعود ما سُمّي "الصحوة الإسلامية" في مصر في السبعينيات والثمانينيات ثمّ هيمنتها في التسعينيات، بوصفها ناتجةً عن سببٍ وحيدٍ هو هجرة المصريين إلى الخليج العربي، وتحديداً السعودية. كذلك أظهر لوسيل جرونتس ودلفين باجي القروي في بحثهما "الهجرة وتحولات العائلة المصرية" الصادر في 2013، واتفق معهما محمد نعيم في "تاريخ العصامية والجربعة"، أنه مع عودة عددٍ كبيرٍ من المهاجرين في العراق والكويت بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991 ثمّ موجةٍ لاحقةٍ من السعودية، بدأت طبقةٌ وسطى جديدةٌ تتشكّل في مصر، نتج عنها بدايات جدلٍ سياسيٍّ تنامى ببطءٍ وأصبح "ابنا لعالمه الجديد الذي يلعب فيه المال النفطي دوراً استثمارياً وإعلامياً كبيراً وحاسماً، حاول من خلاله ضبط إيقاع التحديث والحراك السياسي في مصر على إيقاعه هو"، توازياً مع تحالفاتٍ جديدةٍ بين التيارات المحافظة الإسلامية ومشيخات الخليج وإماراتها. وهنا ثمّة بزوغٌ للتيارات السلفية المدينة بالكامل للمملكة العربية السعودية، بحسب نعيم الذي يرى أنه مع هذه التيارات "بدأت تتسرب مفردات الطائفية المذهبية الإسلامية، فلم يكن المصريون يعرفونها قبل ذلك". وعدّ نعيم الصحوةَ الإسلامية الظاهرةَ الاجتماعية والسياسية الأهمَّ في التاريخ المصري الحديث منذ السبعينيات وحتى اندلاع ثورة يناير 2011، عادّاً أن تقاليد الإسلام ما برحت مكوّناً أساسياً في الوطنية المصرية. لكنه في موقعٍ آخَر يشير إلى أن ما أسهم في استقبال "الصحوة" على هذا النحو في المجتمع المصري هو هزيمة اليسار ونكسة يونيو 1967 والكفر بالمشروع الوطنيّ الناصريّ. وعليه فإنّ الربط المستمرّ بين "التأثير الوهابي" ودور المغتربين المصريين في الخليج يحتاج إلى مزيدٍ من الأدلّة الداعمة.

إذن، أدّت هجرة المصريين إلى الخليج الدورَ نفسَه الذي أسهمت به "الأَمْرَكة" مقابل "الصحوة الإسلامية" في المجتمع المصري. ويتّفق صامولي شيلكه مع هذا الرأي في أن الخليج قد لا يكون المصدر الرئيس لهذه التحوّلات الدينية، لكنه قطعاً جزءٌ من ظرفٍ عالميٍّ ييسّر حدوثها. ويهتمّ شيلكه بدوره في التفكير في استعداد المهاجر لتلقّف هذه الحركات الدينية وخطاباتها، خصوصاً تلك التي تعمل على تأديب الذات والأخلاق والانغلاق في وجه الآخرين والإصرار على منطق الثواب والعقاب.

وتعدّ علاقات القرابة والأبوّة من اختراعات تنميط المغتربين المصريين في الخليج. يفحص كتاب "خرج والمفروض يعُد" العلاقات الاجتماعية خاصّةً بهذه الهجرة كالعلاقة مع الأبوّة، واختراع معنىً مختزل لها، فإما "أن يَعول الأبُ أو يَحضُر". فالغربة المصرية وتحديداً غربة الآباء قادت إلى تسطيح حضور الأب وقصر دوره على الإعالة، والتعامل مع غيابه عُصابياً، إذ إنَّ العائلة تتفكّك لغيابه. وهذا ما تظهره لنا الأفلام والمسلسلات عن الأب الموجود في الخليج، كما في الجزء الثاني من مسلسل "ليه لأ" المُنتَج سنة 2021 من بطولة منّة شلبي، والذي نجح جماهيرياً. ويمكن أن نلاحظ غياب الخليج بصرياً عن المشهد، فإمّا أن يظهر المهاجر مسافراً أو عائداً، يؤدّي هذا الغياب دور البطولة في استبعاد الخليج واستبعاد الأب المهاجر نفسه أيضاً، إذ لا تطال كلّ هذه السرديات هؤلاء الأشخاص وصراعاتهم الشخصية وانعدام استقرارهم وخضوعهم تحت وطأة نظام كفالةٍ قمعيٍّ وعنيف.


استمرّ المغتربون المصريون بالتوافد على الخليج. لم تمنعهم عنه قسوة التجربة وطبيعتها المؤقتة. ويرى الأشخاص الذين خضعوا لمختبر "خرج والمفروض يعُد" أن انعدام فرص الترقّي الاجتماعي المستقرّة في مصر أسهم في ذلك. فالحراكات الاجتماعية والسياسية التي تأثرت بظاهرة الهجرة المؤقتة إلى الخليج، امتدّت حتى سنة 2011، بعيدة عن هندسة الدولة والطبقات المهيمنة وسياساتها. لذلك "تمّ الترقّي" على حدّ تعبير محمد نعيم، بمعزلٍ عن إرادة السلطة المباشرة، والتي اعتادت أن تكون الممرّ الشرعي الوحيد للصعود الاجتماعي المقبول. ولعلّ الحديث عن الترقّي الاجتماعي يفتح النظر أيضاً على مسألة أسلوب الحياة الذي تغيّر عند المهاجرين، ممّا أطلق عليه في تجربة "خرج والمفروض يعُد" أسلوب الحياة الخليجي والنزوع الاستهلاكيّ المستمرّ للبضائع والذي يجعل الاستهلاك غايةً في حدّ ذاته. لذا فإن كثيراً من الأسر المصرية تعيش، إن قرّرت العودة، في هشاشةٍ اقتصادية، بينما تحاول الحفاظ على مستوى الطبقة المتوسطة العليا.

أمّا مع العمّال في تجربة شيلكه فقد اختلف الوضع. لقد رأوا الإنفاق المفرط مسيئاً لوضعهم في النظام الطبقي، ووجدوا أنفسهم في أرضٍ يباب مقابل تلك المدينة المثالية التي تعيش في ذلك البذخ والحداثة المفرطة، لا سيما أنَّ هجرتهم مرهونةٌ ومدفوعةٌ بقدرتهم على ادّخار المال. ومن هنا فإن استمرار هؤلاء العمّال في ظروف هجرتهم القاسية مردّه إلى اختلاف الفشل عندهم عن فشل الطبقة الوسطى. فالاستمرار في الحياة في الخليج لا يعني استمرار الرفاهية، بل استمرار الشقاء في العمل رغبةً في الادّخار من أجل تحصيل ما يمكن أن يعتمدوا عليه هم وأسرهم، وغالباً ما يرتبط بشراء الأراضي أو البيوت أو إقامة مشروعاتٍ صغيرةٍ تكفل العودة والاستقرار في مصر لاحقاً، مما يضعهم في سجن الاعتمادية.

ترتبك العلاقة مع الزمن لدى المهاجر وعائلته. إذ إن المهاجر يسعى إلى تأمين المستقبل المتأخر دائماً في الوقت الذي يظلّ فيه حبيساً لمنطقٍ دائريٍّ مؤقّتٍ لهذا النوع من الهجرة الذي ينتهي فور نهاية عقد العمل أو الإقامة أو بلوغ السنّ القانوني للأجيال التالية ممّن سافرت عائلاتهم إلى الخليج. لكن من المهمّ ملاحظة أن الخليج لم يعد يمثّل الوجهة المثالية للمصريين في السنوات الأخيرة، بسبب مشاكل البطالة التي تعاني منها دول الخليج العربي وسعيها لتوطين كلّ الأعمال، إضافةً لمحاولتها التحكّم في الفضاء العامّ والسيطرة التامّة عليه بعد الربيع العربي.


يعيش المصريون المهاجرون إلى الخليج تحدّياً في معرفة هويّتهم وفهمها، خصوصاً من أبناء ما بعد الجيل الأول، أولئك الذين عاشوا طفولتهم وتشكّلت شخصياتهم في هذه المدن الحديثة، ساعين إلى الاستفادة من الترقّي الاجتماعي لعائلاتهم، ومقهورين داخل تصوّرات الطبقة الوسطى عن النجاح وأشكاله. تبقى محاولات شيلكه و"خرج والمفروض يعُد" مبادراتٍ مهمّةً لفهم هواجس هؤلاء المغتربين وحياتهم. لكننا بحاجةٍ إلى الحديث عن السياسات التي ينبغي أن تتغير لتشمل هؤلاء المهاجرين فيحصلون على امتيازات المواطنة التي تحقّ لهم مثل أيّ إنسانٍ كريمٍ تمتدّ فترات عمله وإسهامه في اقتصاد دولةٍ أخرى خارج وطن النشأة.

اشترك في نشرتنا البريدية