استمع لهذه القصة
في دراسةٍ أعدَدْتُها سنة 2018 عن إعلام الموت عنوانها "مليون قتيل والفاعل معلوم"، عن المذابح التي ارتُكِبَت بحقّ الروهينجا في بورما، عرّجتُ على التجربة الرواندية نموذجاً للقتل الجماعي. ومع الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية أَقتربُ أكثر من الحكاية لأرويَ تفاصيلَ أُخرى من القاهرة بمعيّةِ صديقٍ سودانيٍ يعيش في رواندا فضّل حجبَ اسمِه، ساعَدَني على الترجمة في تواصلي الهاتفي مع أبطال القصة. أعيدُ رسمَ صورةِ ما حدث برواية هؤلاء الأبطال والوثائق الرسمية. فببذرةِ فُرقةٍ زرَعَها الاستعمارُ الألماني ثم البلجيكي، وبأخطاءِ المجتمع الدولي، وبتحريضٍ إعلاميٍ شرسٍ، انقلبَ الوطنُ الروانديُ وحشاً على نفسه. فالْتَهمَ أبناؤه بعضَهم وقُتِل مليونُ إنسانٍ في مئةِ يوم، وعُدَّت من أَسوأِ جرائم الإبادة في التاريخ الحديث. اليومَ وقد مرّت ثلاثونَ سنةً على المجزرة، تجاوزَ كثيرٌ من الروانديين تِلالَ الألمِ ليعيدوا تشكيلَ بلادِهم في تجربةٍ فريدةٍ انتقَلوا بها من الدم إلى المصالحة، تعافت رواندا على إثرها وتغيّر وضعُها من أفقرِ دول إفريقيا وقتَ الإبادة إلى أكثرِها نموّاً اليوم.
في سنة 1961 استقلّت رواندا وتولّى رئاستها في صيف العام التالي غريغوري كابيندا، الذي بدأ حياتَه المهنيةَ صحفياً في صحيفة "كينا ماكيتا" التي كان لها بعد ذلك شأنٌ في التحريض. بدأ كابيندا حُكمَه على نهج المستعمرين الألمان والبلجيكيين بالتقسيم والتفريق مشجِعاً الهوتو على حرب التوتسي، وكان أولَ من شبّهَ التوتسي بالثعابين. لتشهد رواندا في 1963 و 1964 أحداثَ عنفٍ جديدةً طالت التوتسي، ففرَّ بعضُهم إلى دول الجوار مجدداً.
"اذهبوا إلى المستنقعات، مكانُكم هنا" هكذا كتبَت صحيفةُ كينا ماكيتا وردّدت إذاعةُ رواندا في خطابٍ موجّهٍ إلى التوتسي.
لم تكُن أوتشي قد وُلدَت عندما فرّ عشراتٌ من جيرانها مع آلافٍ من التوتسي في المرة الأولى بعد أن أحرَقَ الهوتو بيوتَهم وأبقارَهم ومزارعَهم وطارَدوهم في كلّ مكان. لكنها كانت في الخامسة من عمرِها عندما رأت مئاتٍ من قبيلتها يُطرَدون جماعياً للمرة الثانية، يسوقهم الدَرَكُ – وهُم قوّةٌ أمنيةٌ شبهُ عسكرية – ومئاتٌ من الهوتو إلى الغابات على حدود رواندا.
تُعلِّقُ نورا أن معلمتها في المدرسة قالت لها إن الاستعمار البلجيكي أكملَ مسيرةَ العصفِ برواندا وبدأ الوقيعةَ بين قبائلها. فحرَّضوا الهوتو على التوتسي. لم تسمع أوتشي ولا نورا عن الاعتذار الذي قدّمَته بلجيكا قبل أربعة أعوامٍ على لسانِ رئيسِ وزرائِها تشارلي ميشيل عن بعض صورِ العنصرية أيامَ الحقبةِ الاستعمارية في إفريقيا، ولا عن اعتذارِ الكنيسة الكاثوليكية سنة 2016 عن الفظائع المرتكَبة في تلك الحقبة.
استمراراً في التصدعات بين أبناء الوطن الواحد، قاد جوفينال هايباريمانا من الهوتو سنة 1973 انقلاباً عسكرياً سيطرَ فيه على مفاصل السلطة في البلاد. وعلى إثر ذلك شكّلَ لاجئو التوتسي بقيادة بول كاغامي الجبهةَ الوطنيةَ الروانديةَ في نهاية الثمانينيات، لتبدأَ الجبهةُ حرباً أهليةً ضدّ حكومة هايباريمانا في 1990. ثم تبعَها وساطاتٌ دوليةٌ للسلام انتهت بتوقيع اتفاقِ "أروشا" في تنزانيا بين الحكومة والجبهة الوطنية. لكن الاتفاقَ فشلَ ممهّداً الطريقَ لكارثة الإبادة في 1994.
وصلَت التراكماتُ التاريخيةُ ذروتَها المرعبةَ بعد سويعاتٍ من إعلانِ سقوطِ طائرةِ الرئيسِ الرواندي هابياريمانا في مساء السادس من أبريل سنة 1994 في ظروفٍ لا تزال غامضة. بدأتْ عملياتُ قتلٍ منظّمةٌ استهدفَت التوتسي والقليلَ من الهوتو المعتدلين، خاصّةً في العاصمة كيجالي. في فجرِ اليوم التالي توسّعَتْ دائرةُ البطشِ فأقيمَت الحواجز على الطُرقِ وبدأَ التفتيشُ على الهوية وانتشر القتلُ الجماعيُ بالفؤوسُ والمناجلِ والأسلحة النارية. مع نهايةِ الأسبوع الأول باشرَ الهوتو استهدافَ النساءِ والأطفالِ وكبارِ السن، وأصبحَت المدارسُ والكنائسُ والطرقاتُ والحقولُ مسارحَ للقتل. استمرَّت الفاجعةُ مئةَ يومٍ حتى التاسع عشر من يوليو مُخلِّفةً عشراتِ المقابرِ الجماعيةِ في جميع أنحاء البلاد. ناهيك من آلاف الجثث التي أُلقيَت في الأنهار، خاصةً نهر نيابا رونجو (النهر الأسود) الذي حملَ الجثث إلى بحيرة فيكتوريا. آلافٌ أُخرى من الجثث أُلقيَ بها في الطُرقات والحقول، غير مئاتٍ أُحرقَت.
يتذكر "أوبنجو" أحدُ المشاركين في الإبادة الجماعية ما حدثَ بعد عشرين عاماً من اندلاع شرارة الموت. وفي واحدةٍ من مئات جلسات الصفح والمصالحة التي عقدَتها جمعياتٌ ومنظماتُ مجتمعٍ مدنيٍ أُسِّسَتْ لهذا الغرض سنة 2014 قال: "كنتُ أمسك بالمنجل وأَقتلُ كأنني أطارد الثعابين، قتلتُ الأولَ والثانيَ ولم أكترث، كنت شَرِهاً للذبح … كلُّنا الهوتو نمسك بالسكاكين والمناجل والعُصيّ نَهِمِين للدم. إنهم صراصيرُ عفنةٌ تستحق الموتَ، هكذا كنا نطاردهم تحت المطر في كل مكان". يستطرد: "صدقَ نيلسون مانديلا؛ إن الإبادة الجماعية في رواندا وصمةُ عارٍ على جبينِ البشرية".
كان أوبنجو واحداً من مئات الآلاف يحملون المناجل والسكاكين والعُصيّ ويحزّون الرؤوس في كل مكانٍ في رواندا، في العاصمة كيجالي وفي القرى والغابات والكنائس والمدارس وحتى الحقول.
وفي مقابلةٍ هاتفيةٍ سألتُ رئيسةَ الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون جولا ديونز مامنجون عن مسؤوليةِ الإعلام في رواندا عن عمليات الإبادة الجماعية. قَرنتُ سؤالي بتسجيلٍ صوتيٍ لإذاعة الألفِ تلٍّ قُبَيْلَ المجازرِ وحينَها جاء فيه: "هؤلاء القوم قذرون"، "علينا أن نُبيدَهم، يجب علينا التخلصُ منهم، هؤلاء الصراصيرُ متى سيرحلون؟" وتسجيلٍ ثانٍ بعد أغنيةٍ ألحانُها وكلماتُها مثل طبولِ الحرب: "علينا أن نُبيدَ الصراصير، لو أَبدناهم سنكون المنتصرين". أجابتني السيدةُ مامنجون: "الإعلام وفي القلب منه الإذاعةُ كان سبباً مباشراً لما حدث. عملُ الإعلامِ منعُ الكراهيةِ لا نشرُها، نشرُ ثقافةِ التسامح والإخاء والتعاون في المجتمعات لا الحضُّ على القتل والعنف، نشرُ الطمأنينةِ في المجتمع لا إشاعةُ الخوف والفزع". استطردَت: "تركَ الإعلامُ الميكروفونَ وأمسكَ بالسكين، واستبدلَ الصحفيُّ المنجلَ بالقلمِ وسارَ خلفَه مئاتُ الآلاف. أشرفتُ على تجاربَ إذاعيةٍ في العالم. ولنا في الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون في إفريقيا فروعٌ. ونعرفُ تأثيرَ الإذاعة في الجمهور خاصةً إذا كان لا يجيد القراءةَ والكتابةَ كما كان الجمهورُ الرواندي حينئذٍ قبيلَ جرائم الإبادة المرعبة".
انتهجَتْ إذاعةُ الألفِ تلٍّ نشرَ ثقافةِ الكراهيةِ بفجاجةٍ مع بدءِ مفاوضاتِ أروشا للسلام في 1993. بدأت المفاوضاتُ في تنزانيا وكان الهدفُ وضعَ حدٍ لصراعٍ مسلحٍ مستمرٍ منذ أكتوبر 1990 بين الجبهة الوطنية الرواندية في أوغندا والحكومة الرواندية والهوتو. كانت الأممُ المتحدةُ حاضرةً في المفاوضات، وكذلك قواتُ حفظِ السلام والفرقاءُ والمعارضةُ المعتدلةُ من الهوتو. جاء الاتفاقُ في الرابع من أغسطس سنة 1993 على ترتيباتٍ لتقاسم السلطة وإنشاءِ حكومةٍ انتقاليةٍ وجمعيةٍ وطنيةٍ وجيشٍ روانديٍ موحّدٍ بنسبة ستين إلى أربعين بين القوات الحكومية والجبهة الوطنية الرواندية.
كان السلام قريباً وباليدِ منعُ الكارثةِ، لكن المفاوضاتِ فشلَت. رصدَ اللواءُ روميو دالير، قائدُ قوةِ حفظ السلام في رواندا التابعةِ للأمم المتحدة، ما حدثَ بقوله: "كان في التواصل خللٌ حتى داخل المؤسسة الواحدة، بين مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة … بل داخل مكتب الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي وإدارة عمليات حفظ السلام". ويقولُ مايكل باريب ممثلُ الولايات المتحدة في بعثة الأمم المتحدة في رواندا زمنَ الإبادة، إن المفاوضاتِ في أروشا كانت "بيتاً مِن ورق … الدبلوماسيون كانوا وكأنهم سَلّموا قنبلةً موقوتةً للأمم المتحدة".
ضاعفَ الإعلامُ فرصَ فشلِ الاتفاق مع هذه التجاذبات الدبلوماسية بين الأطراف. كانت المفاوضاتُ في تنزانيا ولكن لم يكن أحدٌ في رواندا يعلمُ عنها شيئاً، فلم يكتفِ الإعلامُ بالحضِّ على الكراهية، بل صمتَ ولم يُذِعْ أيَّ خبرٍ عن مفاوضات السلام في أروشا. "كلاهما خطأٌ فادحٌ … التحريضُ والتعتيم" هذا ما قالته لي د. عبير سعدي الباحثةُ في جامعة دورتموند الألمانية، والتي درّبَت كثيراً من الصحفيين في إفريقيا. أضافت: "لو تابَعَ الجمهورُ الروانديُ مفاوضاتِ السلام التي كانت تضم كافةَ الأطراف المتصارعة بمشاركة الأمم المتحدة، ولو استقبلَ الجمهورُ الرسالةَ الإعلامية التي تنقل صورةً إيجابيةً للواقع في أروشا بدلاً من سماع رسالةٍ إعلاميةٍ سلبيةٍ تدعو إلى القتل والدم لكانت النتيجةُ حتماً ستختلف". الاستنتاجُ ذاتُه وصلَت إليه فينوس نستمانا، وهي مسؤولةٌ إعلاميةٌ للأمم المتحدة في رواندا وقتَ المفاوضات، فقد صرّحَت أمام مؤتمر صُنعِ القرار الدولي في عصر الإبادة: "الإعلامُ لم يقدّم سوى القليل جداً من المعلومات إلى الشعب الرواندي عن مفاوضات السلام. وأيضاً الصراعُ المعلوماتي مَكّنَ مُتطرفي الهوتو من العمل بحُريةٍ لتنفيذ مخطط القتل".
كان أوبنجو حينها يتابعُ الإذاعةَ بحماسٍ مثل جموع الهوتو، وأوتشي تتابعها بخوفٍ مثل باقي التوتسي، مستذكرةً ما حدث لقومها من تنكيلٍ وتهجيرٍ في العقود السابقة. كانت إذاعة الألف تلٍّ تحثُ الهوتو على عمليات القتل ليس بالتحريض المباشر فقط بل بإمدادهم بالمعلومات عن عناوين التوتسي وبياناتهم تسهيلاً لاستهدافهم. كان المذيع يصرخُ في نشوةٍ حتى مع بداية اليوم الأوّل للدم: "دعونا نغنّي، دعونا نفرح أيها الأصدقاء … الصراصير ليسوا كثيرين". ووصفُ الصراصير له دلالتُه الشعبيةُ في العرف الاجتماعي، فالفردُ الرواندي يقدّر الحليبَ وأكثرُ ما يكدّره سقوطُ صرصارٍ فيه، فكان يعمد إلى قتله حيثما وُجد.
بالتوازي مع تلك الكراهية المحمولة على موجاتِ الأثيرِ كانت صحيفةُ كينا ماكيتا تحرّض على الكراهية كتابةً ومعها أكثرُ من عشرين صحيفةً صدرت ما بين أعوام 1991 و1993 في زمنٍ عرف بـ"فوضى الحريات" بدأ في أول التسعينيات مع الضغوط الدولية من أجل التحول الديمقراطي. فقد خُفّفت القيودُ على حرية التعبير وظهر عددٌ لم يسبقه مثيلٌ في رواندا من الصحف. كان المعلَن أنها مستقلةٌ ولكن الواقع أن معظمَها كانت تتحدث بِاسم الحكومة وبِاسم متنفّذين من الهوتو مثل صحيفة كينا ماكيتا. من الصحف التي ظهرَت حينها أومليزا (الصاعقة) وأموسيسو (الضوء أو الشروق)، وكانجورا (استيقظوا)، وهي الأجرأُ في التحريض فقد نشرَت غيرَ مرّةٍ رسوماً للتوتسي على هيئة ثعابين مُعَلِّقةً: "ثعابينُ تستحقّ القتلَ". دُمّرَت مقارُّ هذه الصحف بعد الإبادة الجماعية.
ترى عبير سعدي أن خطورةَ الرسالة هنا أنها موجّهةٌ إلى جمهورٍ يرى أن إعلامَه هو الحقيقةُ. فلم يكن الجمهور متعلماً أو مثقفاً، بل كان يتلقى الرسالةَ وينفّذها موقِناً أنها الصواب. سألتُ سعدي: هل أَسهمَ الإعلامُ في عملية الإبادة الجماعية في رواندا؟ فأجابت: "نعم بالقَطع، أَسهمَ الإعلامُ وبقوةٍ وبدرجةٍ غيرِ معقولة".
أَصدرَت المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ حُكماً على أربعةٍ وثلاثين من مهندسي الإبادة الجماعية، بينهم صحفِيّان. الأوّل حسن نجيزي، مؤسسٌ وناشرٌ ومحررٌ في صحيفة كانجورا، وهو أوّل من وَصَفَ التوتسي بالصراصير وجرّدَهم من إنسانيتهم في عشرات المقالات. والثاني فرديناند ناهيمانا مذيعُ الألفِ تلّ. وقد أُدينَ كلاهما بالتحريض المباشر والعلني في وسائل الإعلام على الإبادة الجماعية. لم يكن العمل الصحفي والإعلامي مهنياً في رواندا حينها، بل يمكن لأيّ شخصٍ أن يكتب ما يريد طالما كان تحريضاً على التوتسي. فحسن نجيزي كان مثل غيره من زملاء المهنة حينها غيرَ مُدرَّب. قال عند محاكمته أمام محكمة الجنايات إنه إنما كان "ولد شوارع".
يُصرُّ الروانديون مع ذلك على استكمال الطريق، فكان "كويوكا 30" وهو مسمّى إحياء الذكرى. وكيوكا تعني في اللغة المحلية "التذكّر" تعبيراً عن أهوال الإبادة التي يجب أن لا تُنسَى لئلّا تتكرّر. وعلى درب "التذكّر" أعلنَت مديرةُ اليونيسكو أودري أوزلاي على هامش إحياء الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية إدراجَ أربعةِ نُصُبٍ تذكاريةٍ تضمّ رفاتَ مئاتِ الآلاف من الضحايا على قائمة التراث العالمي، وهم "نياماتا" و"مورامي" و"جيسوري" و"بيسيسرو". لكلٍّ منها قصصٌ وحكاياتٌ مزلزلةٌ نقترب منها عند معرفة معاني أسماء النُصُب. فنياماتا في شمال رواندا يعني "أعطهم الكرامة" ودُفِنَ فيه أكثر من أربعين ألف ضحية. ومورامي في العاصمة كيجالي يعني "تذكّرني"، ودُفنَ فيه عشراتُ الآلاف من الضحايا. جيسوري في جنوب رواندا يعني "لا تنسَ أبداً"، دعوةً إلى العالَم أن لا ينسى ما حدث. وفي شرق رواندا الرابع بيسيسرو يعني "الأمل"، ورسالته أن الحياة مستمرةٌ مع رفاتِ أكثر من خمسين ألف ضحيةٍ بين جانبيه.
أقرّت الحكومةُ ما سُمّيَ "لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية" ومهمّتها التصالح والتسامح، لأن العدالةَ القادمةَ من الأعلى – محاكم دولية أو محلية – لا تكفي لرأبِ الصدوعِ في جسمِ المجتمع الرواندي من الداخل وتوحيدِ عناصره. ثم برزَ نظامٌ تشاركيٌ يمثل المستوى الثالثَ للعدالة ويسمّى محاكم "جاكاكا"، وهو نموذجٌ فريدٌ ومميزٌ أُنشئ في 2001 وفُعّلَ في العام الذي يليه. "جاكاكا" يعني "العشب القصير"، واستُدعيَ هذا النموذجُ من التاريخ الرواندي القديم، فكانت في رواندا محاكمُ تقليديةٌ تعتمد على العرف وتستهدفُ تحقيقَ العدالة السريعة للتعافي المجتمعي. تشجعُ هذه المحاكمُ على المواجهة بالحوار بين الجاني وذوي الضحايا، وقُضاتُها من شيوخ القرية أو المجتمع. يفترش القضاةُ الأرضَ في الساحات العُشبية يستمعون لذوي الضحايا وأقوال الجناة. حاكمَت الجاكاكا المتورطين في أعمال القتل والإبادة وصنّفتهم ثلاثَ فئات: الأولى مَن شارَكوا في عمليات القتل الفردي والشروع فيه والأذى الجسدي. والثانية مَن تورّطوا باعتداءاتٍ على الآخَرين وممتلكاتهم دون النيّة أو التسبّب في القتل. أما الفئةُ الأخيرةُ فلجرائم النهب والتهريب. تدرّجَت العقوباتُ في الجاكاكا تنازلياً: خمسٌ وعشرون أو ثلاثون سنة سجنٍ لأصحاب الفئة الأولى، وخمسُ سنواتٍ أو سبعٌ للثانية، بينما حَكمَت على المُدانين من الفئة الثالثة بتقديم خدماتٍ اجتماعية. خُفّفَت أحكامُ مَن اعترفَ بجُرمه قبل مُثوله أمام القضاة.
حُوكِمَ أوبنجو أمام الجاكاكا وكان من الفئة الأولى وعوقب بالسجن. كان قد أقرّ بجُرمه وندمَ وطلبَ الصفحَ من أوتشي بعدما لقيَها مصادفةً في أحد برامج المصالحة فتصافحا وتعاهدا على الغفران. ولكن نورا ما زالت حزينةً كما تقول خالتُها أوتشي. تتذكر أوتشي كلماتِ رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو: "الغفرانُ ليس نسيانَ ما حدثَ بل هو رفضُ السماح لما حدثَ أن يدمّرَ حياتَنا".
أوجزَت أجاثا أزهيانا وزيرةُ العدل في رواندا قصةَ العدالة في تصريحٍ لها بقولها: "لقد تعلّمنا من دروسِ الإبادة الجماعية في رواندا ". هو المعنى ذاتُه الذي سمعته من دان موينوزا، سفيرِ رواندا في مصر، في تصريحٍ في الاحتفال بالذكرى الثلاثين لعملية الإبادة الجماعية بالسفارة الرواندية بالقاهرة في أبريل 2024 قال فيه: "لقد أعدنا البناءَ من الصفر، فالدرسُ الأولُ أننا كنّا وحدَنا".
فَعّلَت رواندا مبادراتِ تسامحٍ كثيرةً بعد نجاحها في ترسيةِ مبادئَ عدالةٍ راسخة. منها مبادرةُ "غرنيكا" والاسمُ مأخوذٌ من اسم اللوحة التجريدية الشهيرة للفنان العالمي بابلو بيكاسو التي رسمَها سنة 1937 بتكليفٍ من الحكومة الإسبانية، وهي جداريةٌ تصوّرُ أهوالَ الحرب أُعيدَ استخدامُها مبادرةً تستهدف بناءَ السلام الأهلي. مبادرةٌ ثانيةٌ سمّيَت "بقرة من أجل السلام" مستدعيةً ثقافةً قديمةً من التراث الرواندي سمّيَت بـ"غوتاتغا إينكا"، وتعني "إبرام عقد صداقة"، يُهدي فيها الشخصُ بقرةً لشخصٍ آخَرَ تعبيراً عن الاحترام أو الصداقة أو الامتنان أو مهراً للزواج. تُمنَحُ البقرةُ لمن عقدوا العزمَ سلفاً على التصالح مع الماضي وتربطُ المانحَ والممنوحَ، الجانيَ والضحيةَ، برباطِ صداقةٍ ومصلحةٍ قد يحول دون تكرارِ المأساة مستقبلاً. انتشرت هذه المبادراتُ في كلّ قريةٍ وكلّ حيٍّ في رواندا، يجتمع فيه الروانديون من ذوي الضحايا والجناة. قال فيها توني بلير رئيسُ وزراء بريطانيا الأسبقُ في مقالةٍ في "الغارديان" عنوانها "رواندا أصبحَت منارةً للأمل": "الروانديون هُم أنفسُهم من أسهَموا في صياغة السياسة اللازمة لشفاءِ بلدِهم، لتصبحَ رواندا بتجربتِها في التسامح والعدالة منارةَ الأمل".
وفّرَت الجهودُ الذاتية سُبلَ العدالةِ والعدالةِ الانتقاليةِ والمصالحةِ الأهليةِ فانتشلَت كثيراً من الروانديين مثل أوتشا وأوبنجو من متاهات الماضي ومآسيه، ممهدةً الطريقَ لبلدِ الألف تلٍّ لينفضَ الغبارَ عن نفسه ويسيرَ للأمام. تتصدر رواندا اليوم دولَ إفريقيا في معدلات النمو بالغة 8 في المئة سنوياً في العقدين الأخيرين، أي أعلى أربعَ مرّاتٍ من حقبة ما قبل الإبادة. برزت رواندا مؤخّراً سوقاً صاعدةً إفريقياً في التقنية الحاسوبية المتقدمة. وشهدَ البلدُ انخفاضاً لافتاً في معدّلات الفقر وموت الأطفال، وارتفاعاً ملحوظاً في المعدّل العامّ لعمر الفرد. وتشهد اليومَ النسبةَ الأعلى عالمياً في تمثيل النساء في الجهات التشريعية للدولة.
برأيِ بعضِ من حادثتُهم، يُخيّمُ مستقبلُ السلام في هذا القُطر الإفريقي على مخيالِ كثيرين داخل رواندا وخارجها، خاصةً الجيل الجديد من الروانديين الذين وُلدَ أكثرُهم بعد فاجعةِ الإبادة الجماعية قبل ثلاثين عاماً. متسائلين هل ستبقى رائحةُ أشجار الليمون وعطر الورود أَمْ ستَخرجُ شياطينُ من تحت الأرض بلونِ الدمِ مِن جديد.