أثرُ الملك عبد العزيز آل سعود في سياسة الحبيب بورقيبة

التقى الحبيب بورقيبة بعبد العزيز آل سعود مرّتين، أخذ عنه في إحداهما سياسة المراحل "خذ وطالب" التي عُرِفتْ عنه.

Share
أثرُ الملك عبد العزيز آل سعود في سياسة الحبيب بورقيبة
حملت علاقة بورقيبة والملك عبد العزيز بُعداً شخصياً | تصميم خاص بالفِراتْس

كانت الرياض في يونيو 1951 أشبه بفرنٍ يتّقد. وصل ثلاثة تونسيين مطلع فجرٍ في رمضان. كان أوّلهم الحبيب بورقيبة، ولمّا يكن حينها رئيساً لتونس. وثانيهم محمد المصمودي، مسؤول الحزب الدستوري التونسي في باريس. أما ثالثهم، فكان علي الزليطني، أحد قادة الحزب في الداخل. قدِم الرَكب على متن طائرة داكوتا آتية من القاهرة في رحلةٍ دامت ستّ ساعاتٍ متواصلة. ترجّل المسافرون وأقدامهم تطأ الحصى والرمال، وكانت السماء فوقهم رقّاً باهتاً. وعندما أشاحوا بوجوههم، بدت الرياض وكأنها "قرية كبيرة ضائعة في الصحراء"، كما وصفها المصمودي ثالث الثلاثة في كتابه "ليزآراب دان لا تامبيت" (العرب في العاصفة) الصادر سنة 1977. وقد زاد شهر الصيام، الذي حلّ قبل أيامٍ، من موات الحركة داخل المدينة.

بعد أيامٍ من المُقام ببيت الضيافة غير بعيدٍ عن قصر الحكم، ظفر الثلاثة باستقبالٍ من الملك عبد العزيز آل سعود. كان الملك جالساً على كرسيٍّ متحركٍ بسيطٍ، وقبالته يجلس نجله سعود على كرسيٍّ عاديّ. وعلى الأرض، كانت سيوف الحراس وبنادقهم ملقاةً بلا مبالاةٍ وهم يجلسون القرفصاء متيقظين. بدا الملك هادئاً. عينه اليمنى شبه جامدةٍ من وراء نظارته السميكة، ويرتدي عقالاً مذهّباً وشماغاً. استمر الحديث سجالاً بين الملك وضيوفه حتى جاء موعد السحور. وقبل أن يرتفع ضوء الصباح، عاد التونسيون إلى القاهرة. وكان ذلك آخر عهدهم بالملك.

لم يكن ذلك لقاء بورقيبة الأول بعبد العزيز. فمنذ أن شدّ زعيم الحركة الوطنية التونسية الرحال للمشرق سنة 1945 مستقراً في القاهرة، ربطت بينه وبين الملك السعودي علاقةٌ وُلدت في سياقاتٍ شكّلتها حقبة نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد تتالت الأحداث، من ولادة الجامعة العربية إلى نكبة فلسطين سنة 1948 وصولاً إلى التعامل مع موازين القوى الجديدة التي أفرزتها الحرب. إذ تراجعت القوى الاستعمارية القديمة، لاسيما فرنسا وبريطانيا، وصعدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكانت حينئذٍ فرصة الدولة العربية الخاضعة للاستعمار في نيل الاستقلال. كذلك حملت هذه العلاقة بعداً شخصياً، مداره توافقٌ في إعمال الفكر بين الملك وبورقيبة، والتزامهما خطَّيْن متشابهَيْن في النفور من التيارات اليسارية والقومية.

على ذلك، ما ربط الحبيب بورقيبة من علاقةٍ بالملك عبد العزيز سياسياً وشخصياً لم يكن كلّ ما جمع الزعيم التونسي بالمملكة العربية السعودية. فتوازياً مع دبلوماسية الدعم العامّ وتشارك المصالح والرؤى مع الدوائر الرسمية في المملكة، كان ثمّة مسارٌ آخَر ينظر لبورقيبة ويحكم عليه من البعد الديني والعقائدي. وهو المسار الذي قاده عبد العزيز بن باز، رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة آنذاك، الذي انتقد علمانية بورقيبة وما عدّه خروجاً عن أصول العقيدة الصحيحة في سياسته.


قرّر الحبيب بورقيبة شدّ الرحال إلى مصر في مارس 1945. فقد أعادت فرنسا تشديد قبضتها على تونس بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ليجد زعيم الحزب الحرّ الدستوري نفسه مشدود الوثاق داخل سجنٍ كبير. في ذلك العام، غيّر المشهدَ تطوّران جديدان. الأول كان تأسيس جامعة الدول العربية، والثاني تأسيس الأمم المتحدة.

شرع الحزب الحرّ الدستوري بقيادة بورقيبة في سلوك استراتيجيةٍ جديدةٍ مستفيداً من تحوّل موازين القوى الذي أفرزته الحربّ، بعمله على هذه الجبهات لوضع القضية التونسية على قائمة الأعمال العربية والدولية. فقد أدرك بورقيبة أن ضعف موقف فرنسا بعد الحرب، وتنامي المشاعر المعادية للاستعمار في العالم العربي وإفريقيا وآسيا، خلقا فرصةً يمكن الاستفادة منها لجعل القضية دولية.

رفضت السلطات الفرنسية منح بورقيبة رخصةً للسفر، مع تذرّعه بأن سفره كان لأداء فريضة الحجّ. وكانت السلطات الاستعمارية قد أخذت سنة 1944 تضيِّق على حركة الحجّاج التونسيين، لِما أصبح يشكّله موسم الحج من فرصةٍ لحجّاج بلاد المغرب العربي لتنسيق النشاط المعادي للاستعمار. وهو ما يؤكّده أحد موظفي وزارة الخارجية الفرنسية في رسالةٍ بتاريخ 13 فبراير 1945 إلى المقيم العامّ الفرنسي في تونس (الممثل العام للمستعمرات الفرنسية حينئذ). وينقل هذا لوك شانتر في كتابه "بيليريناج دمبير" (حجّاج الإمبراطورية) الصادر سنة 2018. يقول موظف الخارجية في الرسالة: "شارك التونسيون طواعيةً في نقاشاتٍ حول الوحدة العربية في مكة والقاهرة [. . .] نخشى أن يُحْيِيَ الحجّ روحَ الأخوّة بين المسلمين، وأن يشجّع على تداول الأفكار القومية العربية".

لم يبقَ لبورقيبة من سبيلٍ سوى الهرب. وضمن مخططٍ شديد السرّية، نجح رفاقه في تهريبه بحراً نحو سواحل طرابلس الليبية، ومنها عبر الصحراء إلى القاهرة. كانت العاصمة المصرية وقتذاك مركز النشاط السياسي في العالم العربي، ومستقراً للعديد من المناضلين والمفكرين من شمال إفريقيا وبلاد الشام والعراق. وكانت القاهرة منصّةَ بورقيبة لربط القضية التونسية بعمقها العربي والإسلامي.

وحسب ما يورد في كتابه بالفرنسية "ما ڤي مون أوفر" (حياتي وأعمالي) الصادر سنة 1987، رأى الزعيم التونسي أن وجوده في مصر ليس محض فرصةٍ لإشاعة الوعي بشأن ما يجري في تونس وبلاد المغرب. لكنها مناسبةٌ أيضاً لإقامة تحالفاتٍ على المدى البعيد مع القيادات العربية والصحف والمثقفين والشخصيات المؤثرة. ومنهم المفكر اللبناني شكيب أرسلان، ومفتي القدس الشيخ أمين الحسيني، والأديب المصري طه حسين. ومن القاهرة، شرع بورقيبة في جولاتٍ شملت سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والجزيرة العربية، وصولاً إلى باكستان والهند وإندونيسيا.

أما علاقته بالسعودية ورحلته الأولى إليها، فقد جاءت مصادفةً، كما روى بورقيبة في كتابه. حدث ذلك في شهر نوفمبر سنة 1945، بعد أشهرٍ من وصوله القاهرة. إذ ذهب يوماً إلى مطار القاهرة لتحيّة مجموعةٍ من الحجّاج التونسيين، الذين توقَّع توقّفهم في المطار قبل مواصلة الرحلة إلى الحجاز. لكن وكيل شركة الطيران الفرنسية أعلمه أن رحلة الطائرة القادمة من تونس تأخّرت بضع ساعاتٍ، فعاد إلى وسط المدينة. وعندما رجع إلى المطار في الموعد المحدد، أدرك أن الطائرة وصلت وغادرت، فغلب ظنّه أنه خُدِع من الوكيل الذي أعطاه معلوماتٍ خاطئة.

كانت السلطات الفرنسية ترى في السفر الجوّي للحجّ، مع التوقف في القاهرة، خطراً سياسياً. لذلك سارعت إدارة إفريقيا والمشرق في وزارة الخارجية، التي أشرفت على تنظيم الحجّ، إلى إعادة إرساء مبدأ الطريق البحري المباشر وتقليص الرحلات الجوية، لمنع أيّ تواصلٍ بين مناضلي الحركات الوطنية المغاربية في القاهرة مع الحجّاج. وأصبحت الرحلات الجوية لا تحمل إلى البقاع المقدّسة سوى الوفود الرسمية والوجهاء.

وبينما كان بورقيبة غارقاً في شجارٍ مع وكيل شركة الطيران الفرنسية، مَرَّ يوسف ياسين، مستشار الملك عبد العزيز آل سعود الذي عرف بورقيبة قبل شهورٍ خلال زياراته الدورية إلى القاهرة. فعرض ياسين على بورقيبة مقعداً على الطائرة التي خصّصها الملك لمستشاره. اغتنم بورقيبة الفرصة وحلّق على الفور إلى جدة.

استغل بورقيبة موسم الحجّ للتواصل مع الحجّاج التونسيين والسياسيين العرب. وفي كتابه "رسائل بورقيبة" الصادر سنة 1966 يحكي الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر (صديق بورقيبة) عن رسالةٍ بعثها له الزعيم التونسي من مكة بتاريخ 14 ديسمبر 1945. فيها يتحدث بورقيبة عن إتمامه مناسك الحجّ ولقاءاته مع مستشاري الملك عبد العزيز، ولاسيما الليبيَّيْن بشير السعداوي وخالد القرقني. وكذلك عن لقائه مع عبد الحميد بدوي باشا الذي شغل منصبَيْ وزير المالية والخارجية في مصر، وجميل باشا الراوي، مندوب العراق المفوّض. لكن الحدث الأساسي في هذه الرحلة هو لقاء بورقيبة مع الملك عبد العزيز أوّل مرّةٍ.

كان ذلك في 12 نوفمبر 1945 في مكة. واللافت أن الملك السعودي استقبل بورقيبة في لقاءٍ خاصٍّ، شأنه في ذلك شأن بقية الوفود الرسمية القادمة من العالم الإسلامي. وكان استقبل قبله الوفد الرسمي التونسي الذي يمثِّل الملكَ التونسي محمد الأمين باي، المقرّب إلى فرنسا، برئاسة وزير العدل الحبيب الجلّولي. وكان يرافقه قاضي المالكية البشير النيفر، وقائد الحرس الملكي الحبيب السقّا، وبعضاً من أعيان البلاد، كما نقلت ذلك جريدة "أم القرى" المكّية في عددها يوم 16 نوفمبر 1945.

ولعلّ في ذلك قصداً من الملك في معاملة زعيم الحزب الحرّ الدستوري ممثلاً رسمياً، دون أن يقطع شعرة التواصل مع سلطات الحماية الفرنسية. وكذلك علاقته مع الباي التونسي (الحاكم التونسي) الذي بقي حتى خَلْعِه سنة 1957 يرسل سنويّاً "الصُرّة"، وهي المساهمة المالية للمساعدة على تنظيم موسم الحجّ.

زار بورقيبة المدينة المنورة ثم الطائف متّبعاً توصيات شكيب أرسلان في كتابه "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاجّ إلى أقدس مطاف" المنشور سنة 1931، كما أسرّ بذلك لمحمد علي الطاهر في رسالته له.

من الحجاز، وصلت أخبار بورقيبة إلى تونس. فقد أثارت هذه الرحلة إعجاب التونسيين، خاصةً عندما علموا بالترحيب الكبير الذي حظي به بورقيبة من المسؤولين، بما في ذلك الملك عبد العزيز نفسه، ولاسيما الطريقة التي سافر بها رغم المناورة الفرنسية في مطار القاهرة. شرع بورقيبة في بناء علاقاتِ ولاءٍ وشعبيةٍ حتى وهو غائبٌ عن الساحة. وقد بدا بارعاً في تحويل غيابه إلى سلطةٍ معنويةٍ أهّلته بعد سنواتٍ للسيطرة والتفردّ بالحكم.

عاد بورقيبة مرّةً أخرى إلى الحجاز سنة 1948 في ختام جولةٍ بدأها سنة 1947، وشملت شرق الأردن ولبنان والعراق وفلسطين. لكن دون أن يلتقي هذه المرّة بالملك عبد العزيز.


ساهمت العلاقات مع فرنسا في تحديد طبيعة علاقة الملك عبد العزيز ببورقيبة، ومن ورائه الحركة الوطنية التونسية والحركات الوطنية في المغرب والجزائر. اتّسم موقف الملك السعودي منذ الثلاثينيات وحتى بداية الخمسينيات بالحذر المشوب بالتضامن الإسلامي الشامل، لكنه محكومٌ بدبلوماسيةٍ واقعية.

كان الموقف الفرنسي مهمّاً لعبد العزيز في تثبيت حكمه منذ 1926، عندما اعترفت به فرنسا ملكاً لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها. وفي صيف ذلك العام ذهب الأمير فيصل بن عبد العزيز، نائب الملك في الحجاز، في زيارةٍ إلى فرنسا لتكون أول زيارةٍ رسميةٍ لمسؤولٍ سعوديّ إلى هناك. وقدّم أول سفيرٍ سعوديٍّ أوراق اعتماده في باريس سنة 1939.

أثناء الحرب العالمية الثانية حرصت "فرنسا الحرة"، منظمة المقاومة الفرنسية للنازية بقيادة الجنرال شارل ديغول على تعيين ممثلٍ لها في جدة سنة 1943، مع أن الملك السعودي كان على الحياد حينذاك. فحتى ذلك الوقت كانت مملكته لاتزال هشّةً ولم تكن فاعلاً إقليمياً محورياً، مما اضطرّ عبد العزيز إلى تجنّب أيّ تدهورٍ في علاقاته مع فرنسا أو بريطانيا، في حين كان مهتماً بالتوازنات الداخلية في شبه الجزيرة العربية وتعزيز سلطته.

مع ذلك، لم يقطع الملك حبل التواصل مع الحركات الوطنية المغاربية. وقد عقدت هذه الحركات مؤتمراً جامعاً في فبراير 1947 بالقاهرة انتهى بتأسيس لجنة تحرير المغرب العربي. ضمّت اللجنة أسماء بارزةً، مثل القائد المغربي عبد الكريم الخطابي، وزعيم حزب الاستقلال المغربي علّال الفاسي، وعضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الفضيل الورتلاني. وقد رحّب عبد العزيز بقادة المغرب العربي الذين مرّوا بالحجاز أثناء الحجّ. وفضلاً عن بورقيبة، فقد استقبل زعيم حزب الشعب الجزائري مصالي الحاج.

منذ بداية الخمسينيات أدرك الملك عبد العزيز التحوّلَ الذي طاشت به موازين القوى الدولية. وشرع في سلوك سياسةٍ جديدةٍ أساسها دعم الحركات الوطنية المغاربية على نحوٍ أكثر علانية. ساعده في ذلك تنامي الاعتراف الدولي بسلطته في الحجاز. فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بات واضحاً أن النفط السعودي سيلعب دوراً رئيساً في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. هذا بالإضافة لانضمام السعودية إلى الأمم المتحدة فور إنشائها، ونهاية الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان سنة 1946، وتفاقم حرب التحرير الجزائرية ضدّ فرنسا لاحقاً بين 1954 و1962. وفي هذا السياق التاريخي المتغيّر، جاءت رحلة بورقيبة الثالثة إلى السعودية ولقاؤه الثاني والأخير بالملك السعودي المؤسّس صيف 1951 في الرياض. وقد جاء مع رفيقَيْه محمود المصمودي، الذي تولّى منصب وزير الخارجية في تونس ما بعد الاستقلال، وعلي الزليطني ابن جربة التونسية الذي عارض حكم بورقيبة لاحقاً.


بين اللقاء الأول في مكة سنة 1945 والثاني في الرياض سنة 1951، حدثت تطوراتٌ مهمة. بدأت الإمبراطوريات الاستعمارية، كفرنسا وبريطانيا، تفقد سطوتها إثر الموجة الأولى للتحرر من الاستعمار التي أثّرت في دول الشرق الأدنى والأوسط وجنوب شرق آسيا. وبدا أن المرحلة الثانية قادمةٌ، وستطال دول شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

كان بورقيبة قد غادر مصر سنة 1949، بعد أن فقد الأمل في الجامعة العربية وأمينها العامّ عبد الرحمن عزام باشا، التي كانت مهتمةً بالصراع في فلسطين ولم تُولِ اهتماماً كبيراً بقضية المغرب العربي. وبعد طوافٍ طويلٍ بين تونس والعالم، عاد بورقيبة مرّةً أخرى إلى الشرق طلباً للمدد، بعد أن قرّ عزمه مع قيادة الحزب الحرّ الدستوري على الإعداد للكفاح المسلحّ المنظم ضدّ الاستعمار الفرنسي. استشعر بورقيبة نهاية المسار التفاوضي الذي شرع فيه الحزب مع باريس في أغسطس 1950، عندما قبل الحزب المشاركة في حكومة رئيس الوزراء التونسي محمد شنيق. وهي الحكومة التونسية الأولى تحت الحماية الفرنسية دون تدخلٍ مباشرٍ من المقيم العام الفرنسي.

في القاهرة التقى بورقيبة ورفيقاه المصمودي والزليطني بمحمد صلاح الدين باشا، وزير الخارجية في حكومة مصطفى النحاس باشا، وطرحوا عليه قضيتهم. لكن صلاح الدين نصحهم بأن الوحيد الذي يمكن أن يلبّي طلبهم هو الملك عبد العزيز. فشدّوا إليه الرحال.

يروي محمد المصمودي في كتابه "العرب في العاصفة" وقائع تلك السهرة الرمضانية التي جمعت الملك عبد العزيز وبورقيبة، مشيراً إلى أن بورقيبة شرع بعد السلام والترحيب في تقديم لمحةٍ موجزةٍ عن حركته وخطته للعمل. وهي إستراتيجيةٌ لا تستثني اللجوء إلى الكفاح المسلّح، كما وصفها.

وأنهى بورقيبة كلامه، كما ينقل المصمودي، قائلاً: "آمل أن نحظى بدعمكم [الملك عبد العزيز] لتنفيذ خطة العمل هذه على الوجه الأمثل". فقال له الملك: "نعم يمكنكم الاعتماد علينا". لكنه تدارك بالقول: "لكن عليكم أن تعتمدوا أولاً على أنفسكم [. . .] لا تقعوا في فخّ خوض معركةٍ نظاميةٍ في مواجهةٍ مع الفرنسيين. فهُم بالضرورة أكثر عدداً، وأفضل تنظيماً وتسليحاً [. . .]. خوضوا حرباً شعبيةً وقاتلوا في مجموعاتٍ صغيرة. سدِّدوا ضرباتٍ موجعةً ثم تفرقوا واختفوا. ثمّ أعيدوا تنظيم صفوفكم وهاجموا العدوّ مجدداً''. يقول المصمودي إنّه كان درساً بليغاً في التكتيك من "هؤلاء البدو الذين يعتقد البعض أن طباعهم في حدّة السيف".

نصحهم الملك كذلك بقبول التفاوض حين تبدي فرنسا رغبةً في ذلك. ويجب أن يفهموا أن القوى العظمى عندما تُجرح حساسيتها تكابر، قائلاً: "إنهم جيرانكم أيضاً، وسوف تجدون أنفسكم ذات يومٍ في حاجةٍ إلى التعامل معهم". وقد بدا الملك، بعد سنواتٍ من المعارك والسياسة، قد استقر على أنه ليس هناك عدوٌّ دائمٌ أو صديقٌ دائمٌ في سياسةٍ تتبدّل. وقد شكّلت هذه الذهنية النسبية نهجاً سياسياً لبورقيبة لاحقاً عندما أصبح رئيساً، أدار بها تناقضاته وتحالفاته مع أصدقائه وخصومه داخلياً وخارجياً.

شعر بورقيبة وهو يخرج بعد السحور من قصر الملك بأنه قد أنجز المهمة. فقد تلقّى الضوء الأخضر من الملك عبد العزيز ووعداً بالمساعدة. وعندما رجعوا إلى دار الضيافة، وجد ورفيقاه عدّة قطعٍ من الجنيهات السعودية الذهبية، وثلاثة عُقلٍ وثلاثة أشمغة وثلاث عباءات. كانت هديةً من الملك.

في القاهرة، صرف بورقيبة جنيهات الذهب إلى العملة المصرية. وكلّف الزليطني بالتوجه إلى طرابلس والشروع بتأسيس أول معسكرٍ للتدريب في المملكة الليبية المتحدة لاستقبال الدفعات الأولى من "المجاهدين". وقد مثّلت المملكة الليبية منذ ذلك التاريخ وحتى الاستقلال الداخلي سنة 1955، حين منحت فرنسا تونس الحكم الذاتي (قبل الاستقلال الكامل سنة 1956)، القاعدةَ الخلفيةَ للجناح المسلّح للحركة الوطنية التونسية في مواجهة فرنسا.

ومن القاهرة في بداية ديسمبر 1949، طار بورقيبة إلى أوروبا في طريقه إلى الولايات المتحدة لتعريف الرأي العامّ الدولي بالقضية التونسية وحشد الدعم لاستقلال تونس عن فرنسا. وهناك التقى شخصياتٍ سياسيةً من الحزب الديمقراطي، وصموئيل كوبر، نائب مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية.

على أن هذه الجولة لم تظهر نتائج فوريةً، إلا أنها ساهمت في تعميق الهوّة مع باريس، التي أنهت مفاوضات الحكم الذاتي في ديسمبر 1951. وبعد أيامٍ وصل البلادَ المقيم العامّ الفرنسي الجديد جون دوهوتكلوك، على متن بارجةٍ حربيةٍ ترافقها طائراتٌ مقاتلةٌ، وشرع في حملة قمعٍ كبيرةٍ بدأت باعتقال بورقيبة في 18 يناير 1952. وهو اليوم الذي أشعل حركة المقاومة المسلحة التي سافر بورقيبة من أجلها إلى الرياض.


يعتقد الباجي قائد السبسي، وزير خارجية بورقيبة بعد الاستقلال، حسب ما نشر في مذكراته "الحبيب بورقيبة: المهم والأهمّ" سنة 2008، أن الزعيم التونسي استفاد من لقائه الأخير مع عبد العزيز في صياغة عقيدته السياسية "سياسة المراحل". وهي القبول بالحدّ الأدنى لتحقيق الحدّ الأقصى في إدارة الصراع مع الخصم، والتي يختصرها بورقيبة بشعار "خُذ وطالب".

لم تكن هذه الاستراتيجية دائماً ناجعة. فقد فشلت مثلاً في معركة بنزرت سنة 1961، عندما دخل بورقيبة في معركةٍ نظاميةٍ غير متكافئةٍ مع القوات الفرنسية. ولكن بالعموم كان محرّك الاستراتيجية المحوري هو معرفة بورقيبة بفرنسا، وقراءته التوازنات الدولية السائدة حينذاك. إذ أدرك باكراً أن الحلفاء ذاهبون إلى انتصارٍ محققٍ على المحور في الحرب العالمية الثانية. ولم يسقط في غواية النازية، كما فعلت حركاتٌ وشخصياتٌ تحرريةٌ عربيةٌ أخرى، مثل الشيخ أمين الحسيني والزعيم العراقي رشيد عالي كيلاني. وقد كان بورقيبة معادياً السوفييت في الوقت نفسه.

ربما كانت بعض هذه التوجهات هي ما جمع بورقيبة مع الملك السعودي. وربما هي ما ساهمت في علاقاتٍ جيدةٍ مع خلفاء الملك من بعده، حتى في عزّ الخلافات العربية مع بورقيبة بسبب موقفه من إسرائيل بدايةً من سنة 1965، عندما دعا إلى الاعتراف بالدولة اليهودية والقبول بقرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، والعمل بناءً على ذلك لمحاولة استرداد البقية. في ذلك الوقت جاءت الهجمة السياسية والإعلامية من الأنظمة العربية الثورية، وأساساً الناصرية في مصر، والبعث في سوريا والعراق. في حين ظلّ الموقف السعودي متحفظاً، بلا هجومٍ شخصيّ.

حتى عندما بادر بورقيبة قبل ذلك بالإفطار في نهار رمضان سنة 1962، ودعوته التونسيين إلى الإفطار "مساهمةً في القضاء على الفقر والتخلّف" على حدّ قوله، لم تصدر عن السعودية أيّ مواقف. وفي ذلك الوقت كانت الدعاية الناصرية تستعمل في هجومها على بورقيبة البعد الديني جزءاً من هجومها الشامل.

فمع أن هذه الدعاية كانت تدور أساساً حول مسألة ولاء بورقيبة للغرب ودعوته للصلح مع الصهيونية، إلا أن هذا البعد السياسي لم يخلُ من دعمه بنقدٍ صريحٍ لسياسات الرجل الدينية، وكذلك مقاربة مسألة الاعتراف بإسرائيل مقاربةً دينية. ولعل أكثر نموذجٍ لذلك ما كتبه الكاتب المصري عثمان العدل في كتابه "الخواجه بورقيبة" المنشور سنة 1967، عن منشورات "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" التابع لوزارة الأوقاف المصرية، والذي انتهى فيه إلى إخراج بورقيبة من دائرة الإسلام والعروبة ضمنياً.


حدث المنعرج الحقيقي في صورة بورقيبة سنة 1974، عندما طالب عبد العزيز ابن باز، رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حينذاك، الرئيسَ التونسي بالتوبة بعد تكفيره بدعوى "الانتقاص من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم".

بدأت القصة عندما نشرت مجلة "الشهاب"، وهي لسان حال الجماعة الإسلامية (فرع جماعة الإخوان المسلمين في لبنان) في أبريل 1974 تقريراً عن خطابٍ ألقاه بورقيبة في الملتقى الدولي حول الثقافة والوعي القومي. حسب المجلة، "تعرّض [بورقيبة] فيه لقضايا فكريةٍ هامّةٍ، وأجرى نقداً جريئاً لنصوصٍ قرآنيةٍ ثابتةٍ، خلص إلى أنها متناقضةٌ حيناً، وخرافيةٌ حيناً آخر". وقد وضع ابن باز كتاباً سمّاه "حكم الإسلام فيمن زعم أن القرآن متناقض"، نشرته الجامعة الإسلامية في العام نفسه، انتهى فيه إلى كفر بورقيبة "ما لم يكذِّب ما قيل على لسانه أو يتوب".

بادر ابن باز بإرسال برقياتٍ فردياً وجماعياً مع شيوخٍ آخرين من دول العالم الإسلامي لاستتابة الرئيس التونسي بلا جدوى. ولم يظفر سوى بردٍّ من مدير ديوان الرئاسة التونسية، الشاذلي القليبي، يقول فيه: "إن الرئيس قد اطّلع على برقيتكم". ثم يضيف: "وهو إذ يشكر لكم حسن عنايتكم، وقيامكم بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، يرجو أن لا يغيب عن أذهان سائر إخواننا المسلمين أن الحبيب بورقيبة إنما جاهد فرنسا لإعلاء كلمة الله والوطن، وإرجاع تونس دولةً مستقلةً، دينها: الإسلام، ولغتها: العربية، وهو أول بندٍ من بنود دستورها [. . .]. وما كان ليدور بخلد فخامته الطعن في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا في مقام الرسول الأكرم".

ردّ ابن باز بأن ما ذكر "لا يكفي في إنكار ما نُسب إليه إن كان لم يقع، كما أنه لا يكفي عن إعلان التوبة بطرق الإعلام الرسمية إن كان قد وقع. لأن ذلك هو الواجب عليه، ولأن في عدم إعلان ذلك دلالة على وقوعه والإصرار عليه، مع ما في ذلك من الدعاية إلى الكفر والضلال".

هذا الردّ المتشكك من ابن باز له ما يعلّله. ففي الوقت الذي كان فيه الشيخ السعودي ينتظر ردّ الرئيس التونسي، بلغه عددٌ من جريدة الصباح التونسية في مارس 1974، وردت فيه تصريحاتٌ لبورقيبة مطالباً فيها بالمساواة في الميراث بين الذكور والإناث. وكذلك تذكيرٌ منه بمسألة منع تعدّد الزوجات، التي حدّدها بقانون مجلة الأحوال الشخصية منذ سنة 1956.

نقلت الجريدة قول بورقيبة إنّه "يجوز للحكام تطوير الأحكام بالاجتهاد، حسب تطوّر المجتمع". فعزم ابن باز على نشر كتابه ضدّ بورقيبة. وهنا بدا الشيخ وكأنه غير عليمٍ أن ما يتحدث عنه بورقيبة ليس بجديد. بل هي مسائل دأب الرئيس التونسي على الحديث فيها والمطالبة بها مع صعوده السلطة رسمياً رئيساً لتونس في يوليو سنة 1957، وبعضها قد أصبح قوانين نافذةً.

لم تتجاوز الصراعات العقائدية بين بورقيبة وابن باز الرسائل والتكفير وطلب التوبة. فلم تصل إلى أزمةٍ سياسيةٍ بين البلدين، مع أن ابن باز كان في منصبٍ رسميٍّ رئيساً للجامعة الإسلامية، وعضواً في هيئة كبار العلماء. بل ورُقّيَ سنة 1975 بأمرٍ ملكيٍّ ليشغل منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة وزير. وظلّ في هذا المنصب ثمانية عشر عاماً حتى 1993 عندما أصبح المفتي العام للمملكة ورئيساً لهيئة كبار العلماء. وكذلك بقي رئيساً لإدارة البحوث العلمية والإفتاء حتى وفاته سنة 1999.


المساحة التي أخذها ابن باز في السجال مع بورقيبة في ذلك الوقت تكشف عن حظوته لدى السلطة ونفوذه. ولعلّها كانت نابعةً من سياقات بداية تعاظم موجة الصحوة الإسلامية. وهي الموجة التي أدّت فيها المؤسسة الدينية في السعودية دوراً أساساً في توسيع مجال نفوذ الوهابية خارج محاضنها الأصلية في الجزيرة العربية، والتقت مع صعود الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين.

وشكلت السبعينيات ذروة مجد الصحوة. وفي الثمانينيات، بلغت مدّاً هائلاً مستفيدةً من انكسار مشاريع القومية العربية وذبول أحلام اليسار، بعد تشكّل ملامح سقوط الكتلة الاشتراكية.

كانت تونس في ذلك الوقت تعيش كرّاً وفرّاً بين النظام البورقيبي الهرِم وحركة الاتجاه الإسلامي التي تأسست بقيادة راشد الغنوشي. تأسست الحركة سنة 1969 اعتماداً على فكر الإخوان المسلمين، وبُرّر التأسيس بردّة فعلٍ على علمانية الدولة المفرطة على حساب القيم الإسلامية، وتدهور الاقتصاد وتفشي الاستبداد السياسي. وبعد تفجيرات مدينتَيْ سوسة والمنستير صيف 1987، التي استهدفت فنادق سياحيةً ونفّذتها عناصر من الحركة، قرر النظام إنهاء وجود الحركة بحملة اعتقالاتٍ واسعة. فتدخّل ابن باز لينقذ راشد الغنوشي زعيم الحركة وقادتها من الإعدام. 

يحكي عبد الفتاح مورو، أحد مؤسسي الحركة، عندما حلّ ضيفاً على برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة سنة 2015، أنه كان آنذاك لاجئاً في السعودية، وزار ابن باز في بيته. فعرض عليه أن يطلب من السلطات السعودية التدخل لدى نظيرتها التونسية للحيلولة دون إصدار أحكام إعدام قادة الاتجاه الإسلامي.

توجه ابن باز لولي العهد السعودي حينئذٍ، عبد الله بن عبد العزيز، لكنه عاد بجوابٍ غير مطمئن. وضع هذا مورو في حالةٍ نفسيةٍ ثائرةٍ وجد معها نفسه يقبض حنقاً على عضدِ بن باز بيده. وذكّره بأن رفاقه مهدّدون بالإعدام، وكيف أن المملكة سبق أن توسطت لإسلاميين لدى الرئيس الصومالي السابق، سياد بري، وحولت الإعدام إلى أحكام بالسجن.

ما كان من ابن باز إلا أن عاد إلى ولي العهد السعودي الذي اتصل بالرئيس التونسي بورقيبة، لكن الأخير أجاب بأن الموضوع لدى القضاء الذي وصفه بالمستقل وأنهى المكالمة. غير أن رئيس الحكومة التونسية آنذاك، رشيد صفر، عاود الاتصال بولي العهد واعتذر عن سلوك بورقيبة وبرّره بتردّي حالته الصحية، ووعد بألا تصدر أحكام الإعدام ضدّ قادة الاتجاه الإسلامي.


بهذا فإن العلاقة المتوترة بين بورقيبة وابن باز، وإن بدت ظاهرياً مدفوعةً بجدالاتٍ دينيةٍ وعقديةٍ، تكشف عن وجهٍ من وجوه عصر الصحوة الإسلامية، وهو التقارب بين الوهابية والإخوان المسلمين. فقد ساهم هذا التقارب في الموقف غير الرسمي من بورقيبة داخل السعودية. فقد وصلت خطب بورقيبة إلى ابن باز من جريدة "الشهاب" الإخوانية اللبنانية، الذي رأى فيها مخالفةً للعقيدة. وهو ما يؤشر ربما لمصادر تلقّي الشيخ ومعرفته عن العالم العربي من مجلاتٍ إسلاميةٍ إخوانية.

ومع أنّ ابن باز كانت له تحفظاتٌ على الإخوان في الجوانب العقائدية، إلا أنه كان يَعُدّهم من "الدعاة إلى الله". وهكذا تكشف وساطته الملحّة لقادة حركة الاتجاه الإسلامي عن علاقته بالحركة الإسلامية التونسية. وربما كذاك عن كون هذه العلاقة قد شكّلت تصوّره ومعرفته عن تونس وبورقيبة ونظامه وأفكاره وضميره الديني.

لا يقتصر هذا الأمر على ابن باز. فقد شكلت الحركة الإسلامية التونسية من علاقاتها بالعالم الإسلامي مصدراً لتصورات كثيرٍ من الشيوخ عن تونس ونظامها السياسي. ولعلّ هذه التصورات لم تكن دائماً مطابقةً للواقع بقدر ما كانت معبرةً عن خطاب الحركة السياسي المعارض. وهو ما لمسه الداعية السعودي سلمان العودة عندما زار تونس أوّل مرّةٍ سنة 2009 من أجل احتفالية "القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية"، بعد عقودٍ من الصورة التي شكّلها عن تونس من علاقته بالإسلاميين التونسيين.

يروي العودة ذلك في مقالٍ نشره في صحيفة "الوسط" البحرينية عقب عودته من تونس إلى السعودية في مايو 2009، فيقول: "زرت بلداً إسلامياً، كنت أحمل عنه انطباعاً غير جيّد [. . .] وذات مؤتمرٍ أهداني أخٌ كريمٌ كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهَد في ذلك البلد العريق في عروبته وإسلاميّته". ويقصد العودة كتاباً قديماً قلّما يجده المرء في الأسواق، عنوانه "تونس، الإسلام الجريح" للشيخ محمد الهادي الزمزمي، أحد قادة حركة النهضة. 

يقول العودة إنّه وجد الواقع مختلفاً. فالحجاب شائعٌ دون اعتراض. ورأى المجتمعَ التونسي مجتمعاً متديناً والمساجد في البلد مزدحمةً "بروّادها من أهل البِرّ والإيمان". ويضيف: "ولست أعني أنني وجدت عالَماً من المُثل والكمالات والفضائل، بيد أن الصورة كانت مختلفةً شيئاً ماً، وهذا ما حدا بي إلى أن أقول لجلسائي إن علينا أن نفرّق بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية".

ولعلّ ذلك ما يوضح الدافع السياسي وراء التكفير، وأن ابن باز حتى وإن كان منفصلاً عن السياسة بمعناها اليومي، إلا أنّ تكفيره بورقيبة كان فعلاً سياسياً على نحوٍ ما. كذا فإن قصة بورقيبة مع ابن باز توحي بالإضافة لشحنتها السياسية الدينية بغموض شخصية الزعيم التونسي الذي حيّر أصدقاءه وخصومه عن معتقداته وتصوّره للدين والتديّن، وأثار حوله الجدل بين متدينٍ وغير ذلك.

برز هذا الغموض في رحلته إلى لقاء الملك عبد العزيز آخر مرّةٍ سنة 1951. ومن ذلك ما يرويه لطفي حجي في كتابه "بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة"، الذي صدرت طبعته الثانية سنة 2013. إذ تناقش عن الإسلام بورقيبة والمصمودي على متن طائرة الداكوتا التي أقلّتهم مع علي الزليطني إلى الرياض.

سأل المصمودي رفيقَه بورقيبة: "إن الناس يتساءلون إن كنتَ مؤمناً بالله أم لا. ونحن لم نفهم حقيقة اعتقادك". صمت بورقيبة لحظةً ونظر للمصمودي، ثم أجابه: "على كلّ حالٍ فإنّ الله سيُدخلني الجنّة". ابتسم المصمودي ابتسامةً ساخرةً لأنه أدرك أن بورقيبة لم يجبه على سؤاله، بل أعاد طرحه. فقال له بورقيبة: "في بعض الأحيان أنا مؤمنٌ، وفي أحيانٍ أخرى ينتابني الشكّ، وتتوالى في ذهني الأسئلة الوجودية". أعاد المصمودي طرح السؤال بصيغةٍ أخرى: "والآن هل أنت مؤمنٌ سيّدي؟". فأجاب بورقيبة: "نعم، فأنا ذاهبٌ إلى مكّة". مع أنه نزل في الرياض.


قد لا تخطئ عين المتابع العربي مزيج الإعجاب والنفور الذين ينظر به كثيرون إلى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. فالرجل الذي غادر الدنيا سنة 2000 مازال حاضراً بإرثه. فقد امتاز بمنظورٍ سياسيٍ ديدنه الواقعية، ويتمثّل هذا بموقفه تجاه إسرائيل. تلك الواقعية هي نفسها سرّ نفور البعض الآخر منه، لأن بورقيبة كسر حاجزاً نفسياً سميكاً تجاه إسرائيل.

لكن تبقى مسألة موقفه وعلمانيته الشديدة في محيطٍ مفعمٍ بالتدين والثقافة الدينية مدار الجدل الأكبر. وهذا بالذات ما حدّد علاقته إيجاباً وسلباً بالمملكة العربية السعودية. إن لم تؤثّر هذه المسألة في علاقة بورقيبة بالمملكة وحكّامها، فربما بسبب توافق طريقة تفكير حكام المملكة بدءاً من مؤسسها إلى خلفائه، حتى عندما كانت المملكة تدعم حركات الصحوة الإسلامية. إذ وفّرت العلاقة بين بورقيبة والملك عبد العزيز دعماً لجهود الزعيم التونسي للاستقلال ببلاده من الاستعمار الفرنسي. وربما عززت علاقته بعبد العزيز مبدأ النسبية السياسية لديه والتي لا تعترف بدوام العداوة أو الودّ، وتشدّ أزرَ تحليلها للواقع الملموس بقوانين التاريخ في تقلّب النفوس والحوادث والأزمان.

لكن هذه المسافة الوسط في منهجه السياسي لربما كان لها بالغ الأثر على قناعات بورقيبة وربما ليونته الدينية. فقد تعامل مع الدين بالعقلية النفعية ذاتها التي استخدمها في السياسة، وهو ما صُوّر منهجاً علمانياً. وبسبب هذا شهد بورقيبة الجانب السلبي في علاقته بالمملكة السعودية متمثلاً في مؤسستها الدينية. إذ هاجمه ابن باز وعدّه خارجاً عن مبادئ الدين القويم وصحة العقيدة.

وبين الملك عبد العزيز وابن باز، برز تعقيد شخصية الحبيب بورقيبة وتعقيد شبكة المصالح والرؤى التي حكمت سياسته زعيماً ضد الاستعمار ثم رئيساً لتونس طيلة عقود ثلاثة.

اشترك في نشرتنا البريدية