وفي كل عامٍ منذ استقلال البلاد يتجدد الجدل عن حرية المجاهرة بالإفطار من جهةٍ، واحترام الأخلاق والشعائر الدينية من جهةٍ أخرى. وهو جدلٌ يترجِم انقساماً ثقافياً عميقاً وقديماً بين كتلتَي المحافظين والحداثيين. وهكذا بات صومُ رمضانَ مقياساً للاستقطاب، وأصبح تجلّياً لعلاقة القوة بين الطرفين وموقعهما من السلطة. كانت دعوةُ بورقيبة إلى تَركِ صومِ رمضان ذهاباً بالصراع بين الطرفين إلى أقصاه. فقد كان الرجلُ رمزَ العلمانيين والحداثيين الأوّلَ في البلاد، وما زال هؤلاء يقدّسونه ولا يقبلون فيه نقداً. ولعلّ طرحه كان الشرارةَ الأولى لبروز تيّارٍ إسلاميٍ سيصبح في السبعينيات واجهةَ المعارضة الأولى، ولن يلبث حتى يشكّل ثقلاً سياسياً كبيراً بعد الثورة التونسية في 2011. وبين هذا وذاك، خلّف الصراع الداخلي عن شهر الصوم أسطورةً شاعت في جوار البلاد عن علاقة التونسيين بالصوم. بل إن ما فعله بورقيبة امتدّ إلى الناس في ليبيا والجزائر، فظنّوا أن التونسيين لا يصومون وأنهم ناقصو دين. إذ أصبحت المجاهرةُ بالإفطارِ في رمضان والإعراضُ عن صومِه من الدلالات السلوكيّة عن الإنسان التونسي في محيطه المغاربي. لقد كانت خطوةُ الحبيب بورقيبة بمثابةِ القنبلة التي غطّى غبارُها حقيقةَ أنّ جلّ التونسيين مسلمون فيهم الصائم وفيهم المفطر، وفيهم المجاهر بالإفطار والمفطر خِلسةً، شأنهم شأن المسلمين في باقي البلدان. هي نظرةٌ تختلط فيها الحقيقة بالخيال، ولم تكن لتتشكّل لولا تدخّل السياسة في الدين.
كان وراء دعوة بورقيبة دافعٌ أساسيٌ هو الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها البلاد. فقد أدّى خروجُ رؤوس الأموال الفرنسية بعد الاستقلال سنة 1956 وضعفُ الاقتصاد المحلّي إلى أزمةٍ حادّةٍ في حين كان بورقيبة يبحث عن الموارد لتنفيذ برنامجه لنشر التعليم والمؤسسات الصحّية في البلاد. وممّا زاد في عمق الأزمة موجةُ الجفاف الناتجة عن شحّ الأمطار، والتي شهدتها تونس بين عامَيْ 1959 و1960، في بلدٍ يقوم نشاطه الأساسي على الزراعة.
ما لم يعوّل عليه بورقيبة هو ردُّ فعل المفتي الذي جابَهَ طلبَه بالرفض. إذ أصرّ في فتواه التي صدرت بعد أسبوعٍ على أنّ رُخَصَ الإفطار في رمضان هي السَفَر والمرض. وقد حذّر المفتي التونسيين قائلاً: "مُنكِرُ وجوبِ الصومِ يُعَدُّ خارجاً من حظيرة الإسلام". بل أضاف: "ويستحقّ المعتقِدُ وجوبَه المتخلِّفَ عن أدائه لغير عذرٍ شرعيٍّ عقابَ الله في الدار الآخِرة، ذلك هو الخسران المبين".
حدث هذا مع محاولةِ بورقيبة مواءمةَ اجتهادِه مع حادثةٍ وقعت في السيرة النبوية. فعندما أدرك رمضانُ المسلمين وهم يسلكون طريقَهم بقيادةِ الرسولِ لفتحِ مكّة صام بعضُهم وأفطر آخَرون، فأشار إليهم النبيّ عليه السلام بأن يفطروا ليتقوّوا على ملاقاة عدوّهم. توصّل بورقيبة إلى دعواه بالقياس على هذه الحادثة. والقياسُ من مصادر التشريع في المذاهب الفقهية الأربعة، وبها يستنبط الفقهاء أحكاماً جديدةً بناءً على مسائل أُخرى ورد بها نصٌّ شرعيّ. فقاس بورقيبة جهادَ الرسول وأصحابه بجهاد التونسيين في بناء دولتهم الفتيّة. وفصّل في الخطاب ذاته بالقول: "إنّ جميع رجال الدين الحاضرين في هذه القاعة يعلمون أن الإسلام يحضّ على الإفطار في رمضان ليقوى المسلمون على أعدائهم. وأعداء المسلمين اليوم: الانحطاط والخصاصة والذلّ والمهانة". ثمّ أضاف: "إن الدين يأمركم أن تقوَوا على أعدائكم كي لا تبقَوا في مؤخّرة الأمم. وإذا أردتم أن يكتب الله لكم ثواباً في الدار الآخِرة فما عليكم إلّا أن تعملوا بضع ساعاتٍ إضافيةً، خيرٌ لكم من صومٍ لا عمل فيه، يدفعكم إلى زيادة التقهقر".
كانت معارَضةُ المفتي كمال الدين جعيّط رأيَ الرئيسِ أوّلَ شرخٍ في شرعية الحبيب بورقيبة أمام التونسيين. لم يسكتْ بورقيبة وسرعان ما شنّ هجوماً واسعاً على المؤسسة الدينية وعلماء الشريعة في صحف الدولة ووسائل إعلامها. تنقّل بورقيبة في مدن البلاد بين 18 فبراير و17 مارس، وخطب في الناس بالساحات، ودافع عن موقفه، وطرح حججه العقلية وقصصاً من السيرة النبوية عن الإفطار أثناء القتال، مُشبِّهاً بينه وبين العمل لبناء الدولة كما فعل فيما مضى. بل إنّه اتهم الشيوخ الذين عارضوه بالنفاق، وبأنهم كانوا قبل الاستقلال في خدمة الاستعمار الفرنسي وساعدوه على ترسيخ أقدامه في تونس وخدموه وأفتوا بجواز التجنّس بجنسيته. وقد استَشهد بورقيبة في ذلك بالفتوى التي أصدرها الشيخ الطاهر بن عاشور في الحرب العالمية الثانية سنة 1939 بجواز إفطار الجنود التونسيين في الجيش الفرنسي ما داموا في حالة حرب. فمنذ سنة 1884 أسست فرنسا الفوج الرابع من الرماة التونسيين الذي شارك في أغلب حروب الإمبراطورية الاستعمارية، وبينها معركة الدفاع عن فرنسا من الغزو النازي بين عامَي 1939 و1940.
منذ الاستقلال، علم بورقيبة أنّ المؤسسة الدينية ستقف حجر عثرةٍ أمام طموحاته، ولهذا أراد تصفيتها. فأصدر في عام الاستقلال قانون الأحوال الشخصية الذي جرّم تعدّد الزوجات، وأقرّ الطلاق القانوني على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، وحدّد الحدّ الأدنى لسنّ الزواج. ثم نزع بورقيبة الحجاب عن النساء في الخدمة العامّة وأطلق حملةً لتنظيم الأسرة وزّعت فيها الدولة موانع الحمل مجاناً. وبدايةً من سنة 1957 شرع بورقيبة في تفكيك المؤسسة الدينية، فألغى المحاكم الشرعية، ووحّد التعليم العامّ وجعله تحت إشراف الدولة، ومنع التعليم الشرعي خارج الإطار الرسمي. ثم جاءت الضربة الأكثر وقعاً وهي تفكيك الخزينة المالية لهذه المؤسسة بإلغاء نظام الأوقاف، الذي مثّل مصدر قوّةٍ ماليّةٍ لها، فضمّ الأوقافَ لأملاك الدولة. وردّاً على خطوة المفتي في رفضه دعم موقف الرئيس من الصوم أراد بورقيبة أن يسحب منه امتياز تحديد الأشهر القمرية، بما فيها رمضان والأعياد الدينية، فقرّر اعتماد الحساب الفلكي في 23 فبراير 1960 ليُجَرّد المفتي من أيّ مهامّ ذات شأن.
انقسم الشيوخ إلى فريقَيْن. فكان من بينهم مؤيدون للرئيس، مثل مشايخ مدينة بنزرت وشيخ مدينة صفاقس ومفتيها محمد المهيري. ساند هؤلاء الشيوخُ اجتهادَ الرئيس ودعموا حجّته بقياس جهاد الرسول بالجهاد في بناء الدولة بالعمل. في المقابل، كانت داخل معسكر الرئيس شخصياتٌ رافضةٌ لهذه الخطوة من زاويةٍ سياسيةٍ لما يمكن أن تسبّبه لشرعية النظام السياسي.
من ذلك ما ذكره توفيق الشاوي، من قيادات الإخوان المسلمين في مصر وصديق بورقيبة، في مذكراته "نصف قرن من العمل الإسلامي" المنشور سنة 1998. يروي الشاوي موقف الوزير أحمد بن صالح، أحد رموز السلطة الكبار، من دعوة بورقيبة، ناقلاً على لسانه أنه: "لم يكن يصوم رمضان من قبل ولكنه بدأ الصوم منذ أن أعلن بورقيبة معارضته لذلك، وأن كثيراً من التونسيين لم يكونوا حريصين على الصيام"، لكنهم أصبحوا "يتمسكون به لتأكيد معارضتهم لهذا الاجتهاد البورقيبي". وأن الحزب الدستوري الحاكم يدرس اتخاذ "إجراءات مشدّدة لفرض الإفطار على أعضائه وغيرهم من العاملين بالدولة، وهذا يزيد سخط الجماهير على الحزب وحكومته".
لم يلتفت الحبيب بورقيبة لمنتقديه من حزبه فقد كان أحرصَ على شقّ صفّ المؤسسة الدينية. ولَم يحرِص على كسب أصواتٍ من داخلها فقط، بل توجّه أيضاً نحو شخصياتٍ ورموزٍ دينيةٍ من العالم الإسلامي لإضفاء الشرعية على دعوته. يستذكر توفيق الشاوي في المذكرات نفسها بأنه دُعِي سنة 1960 إلى مهرجانٍ خطابي للرئيس في جامع عقبة بن نافع بمدينة القيروان مع محمد صادق المُجددي، السفير الأفغاني في مصر وصديق بورقيبة أيام منفاه في مصر. جددّ بورقيبة في خطابه دعوته للناس بالإفطار في رمضان. يقول الشاوي: "في اليوم التالي دُعِينا لزيارة بورقيبة، فسألني عن رأيي في خطابه بالأمس، فقلت له إن هذا موضوعٌ يحتاج إلى حديثٍ على شاطئ النيل . . . وقد قال لي الشيخ المجددي معاتباً بعد ذلك إنه كان يريد منك أن تثني على خطابه وتؤيد صراحةً أو ضمناً ما دعا إليه بشأن الصوم، قلت له أنت أولى بذلك لأنك من كبار العلماء، قال أعوذ بالله، إنه بلا شكّ يعرف رأيي مقدماً".
كان معسكر بورقيبة الحداثي قويّاً في مواجهة معسكر الشيوخ المحافظ في مطلع الستينيات. وقد استمد بورقيبة شعبيةً ضخمةً بعد تحرير تونس من الاستعمار الفرنسي بما قدّمه في سبيل الاستقلال من حياته في المنافي والسجون. في المقابل، كانت شرعية غالبية الشيوخ مجروحةً بسبب سنواتٍ طويلةٍ من الصمت في مواجهة الاستعمار، بل والعمل إلى جانب البلاط الملكي التونسي والنخبة الحاكمة في إضفاء الشرعية على الاستعمار.
شهدت السبعينيات صعوداً قوياً للتيار الإسلامي في تونس تَناسَبَ مع الصحوة الإسلامية في العالم العربي. فامتلأت المساجد في البلاد بالشباب أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وانتشر الحجاب على نطاقٍ واسع، ثم تلاشت المجاهرة بالإفطار تدريجياً في الفضاء العام. استهدفت الحملاتُ الدعوية للجماعة الإسلامية، التي تحوّلت بدايةً من الثمانينيات إلى حركة الاتجاه الإسلامي، شبابَ الجامعات وتلاميذ المعاهد. في المقابل، تدهورتْ صحّة بورقيبة ففقد القدرة على مخاطبة الناس بالقوّة نفسها التي كان يملكها سابقاً وأصبح الرئيس أقلّ تدخّلاً في القضايا الجدلية في الدين والهوية. وترافق ذلك مع الضعف الذي أصاب حزبه الحاكم، والذي بات عاجزاً عن تعبئة الناس بسبب الصراعات الداخلية التي كان يعيشها. في هذه اللحظة التاريخية أصبحت موازين القوى الشعبية في التغيير لصالح معسكر المحافظين.
السياسي التونسي الراحل أحمد المناعي، الذي كان مدير المعهد التونسي للعلاقات الدولية، ألّف كتاباً بالفِرنسية عنوانه "سبليز تونيسيان: لو جاردين سوكريه دو جنرال بن علي" (التعذيب التونسي: الحديقة السرية للجنرال بن علي)، صَدَرَ سنة 1995 ونُشرت ترجمته العربية سنة 2011. كشف المناعي في كتابه عن واقعةٍ جرت أحداثها في رمضان سنة 1981 وتتعلّق بمركزية هذا الشهر في الصراع الثقافي والسياسي بين المعسكرين، وعن عمق هذا التحول في موازين القوى. في شهر يوليو كان بورقيبة يقضي إجازته في مسقط رأسه بمدينة المنستير الساحلية على المتوسط. وعندما كان يتجوّل في أطراف المدينة السياحية وجد المقاهي والمطاعم والحانات مغلقةً ووجد السيّاح يجلسون تحت ظلال الأشجار. وعندما استفسر عمّا يجري قال أصدقاؤه الذين كانوا رفقتَه، على ذمّة أحمد المناعي، إنّ "الإخوانجية قد هدّدوا أصحاب المطاعم والمقاهي بأشدّ العواقب إذا فتحوا مؤسساتهم في نهار الصيام". في الوقت نفسه هاجم شبابٌ من التيار الإسلامي نادياً سياحياً في مدينة قُرْبَة في ولاية نابل، كان يقدّم الطعام والشراب في نهار رمضان، فأصدر بورقيبة أمراً بشنّ حملة اعتقالاتٍ على حركة الاتجاه الإسلامي. كانت تلك أوّل حملةٍ أمنيةٍ واجهها التيار الإسلامي في البلاد. وقد انتهت بالحكم بالسجن على قائدَيْ الحركة، راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، إلى جانب مئات الأعضاء. أمّا الدولة فأصدرت قراراً في حكومة محمد مزالي سنة 1984 يقضي بغلق المقاهي والمطاعم غير السياحية في نهار رمضان، محاوِلةً ترميمَ صورتِها أمام الجمهور.
واصَلَ بورقيبة الاعتمادَ على قوّة الدولة الأمنية في فرض رؤيته. إلّا أنّه خسر معركته مع جزءٍ من المحافظين أو مَن صار يُطلق عليهم وصفُ الإسلاميين، وهُم الذين وجدوا في السجن عاملاً لتقوية جبهتهم. فقد عملوا على تقوية شعبيتهم وقاعدتهم الاجتماعية لدى الجمهور بوصفهم "الحق في مواجهة الباطل والإيمان في مواجهة الكفر". ومع ذلك لم يكن المحافظون إسلاميين بالضرورة، بل كانوا طيفاً واسعاً من المجتمع تكوّن من قطاعاتٍ واسعةٍ من سكان الأرياف والبادية في الجنوب وكذلك من سكان المدن، لا سيّما من أبناء الطبقات الشعبية منهم.
ودّع بورقيبة السلطةَ عندما جاء زين العابدين بن علي إليها سنة 1987 بعد انقلاب عسكري. كان بن علي واعياً بالذخيرة الدينية الثمينة التي يمتلكها الإسلاميون في مواجهة السلطة، وأدرك قدرةَ هذه الذخيرة على حشد التعاطف والتأييد الشعبي لهم، فتوجه مباشرةً نحو سحب البساط من تحتهم بكسر الصورة التي رسمها بورقيبة للدولة معاديةً للدين. فقرّر بن علي إعادة رصد أهلّة الأشهر القمرية ومن بينها رمضان بالرؤية وإلغاء الحساب الفلكي. وأصبحت الدروس الدينية والخطب في المساجد وفي التلفزيون الرسمي تحضّ الناس على الصوم. وكذلك أصبحت مؤسسات الدولة الخيرية والحزب الحاكم ينظّمون موائد إفطارٍ جماعيةً يشارك في بعضها الرئيس شخصياً. وأُطْلِقَ على زين العابدين بن علي في وسائل الإعلام الرسمية وخطب المساجد لقب "حامي الحمى والدين". وقد شكّلت هذه السياسة الجديدة للنظام التي كان رمضانُ محورَها سنداً أساسياً في مواجهة خصومه السياسيين الإسلاميين والقضاء عليهم بين سنتَي 1991 و1993.
أطاحت ثورة 2011 بزين العابدين بن علي وأطاحت أيضاً بالهدوء الذي كان قائماً بين الحداثيين والمحافظين. فعادت خصومات عقود بورقيبة حول المرأة والإسلام والإفطار في رمضان دفعةً واحدةً بعد الثورة. وعاد رمضان مرّةً أخرى شهراً يتجدّد فيه الجدل في المجاهرة بالإفطار، لا سيّما في السنوات الثلاث الأولى من الثورة حين كانت حركة النهضة الإسلامية في السلطة. كان بعض الدعاة حينئذٍ يجولون المقاهي والمطاعم المفتوحة لوعظ المفطرين. وتعرضت بعض المقاهي إلى حملاتٍ أمنيةٍ بدعوى "الاعتداء على الأخلاق"، وهو جرمٌ تضمّنه قانون العقوبات التونسي واعتمده المحافظون في السلطة وسيلةً للمحاسبة في ظلّ غياب أيّ تشريعٍ يعاقب المفطرين. في خضمِّ ذلك تحوّلت حريةُ الإفطار في رمضان والمجاهرةُ به قضيةً أساسيةً لقطاعٍ واسعٍ من الحداثيين لأنها جزءٌ من الحريات الفردية. وأخذ الصراع السياسي في البلاد منحىً ثقافياً وجدلاً في الهوية، بينما تراجعت القضايا التي طرحتها الثورة عن العدالة الاجتماعية ونموذج التنمية إلى الخلف.
لم يتوقف الجدل بخروج حركة النهضة من السلطة سنة 2021. فقد ظلّ رمضان محورَ استقطابٍ بين المعسكرَين، وظلّت الدولة تمسك العصا من الوسط. فالدستور التونسي يقرّ بالحريات الفردية ومن بينها حرية الضمير والمعتقد. أما القوانين التنفيذية فتستعملها الحكومة بحسب السياق السياسي والاجتماعي.
حافظت الحكومة على قرارات تطبيق إغلاق المقاهي والمطاعم غير السياحية الصادرة منذ الثمانينيات، فلَم تتّجه لفرض تشريعٍ واضحٍ يصوّت عليه البرلمان في المسألة، وتركت الجدل قائماً بسبب غموض موقفها. لذلك فإن مشاهد الإفطار العلني في البلاد لا تخضع إلى نظامٍ معيّنٍ، بل إلى سياقٍ جغرافيٍ وطبقيٍ تحدّده البيئة الاجتماعية. في المدن، وتحديداً في الأحياء الغنيّة، ثمّة تساهلٌ نسبيٌ مع فتح الأماكن العامّة للطعام والشراب. فيما يفرض الواقعُ الاجتماعي المحافظ محاذيرَ أقوى من السلطة السياسية في الأرياف والأحياء الشعبية والمدن الداخلية جنوب البلاد وغربها. في تلك الأماكن يفضّل المفطرون السترَ هرباً من الوصم وخوفاً من بيئتهم العائلية والقبلية.
أمّا وبعد أن وصل الرئيسُ قيس سعيّد إلى السلطة في البلاد، جاء رمضان سنة 2024 هادئاً بلا جدلٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ عن صومه أو إفطاره، وكذلك رمضان 2025. إلّا أنّ هذا الهدوء المفاجئ مع شهر الصوم يشي بما هو أعمق عن الوضع في تونس من غيابٍ للنقاش الفكري والسياسي بين معسكر المحافظين ومعسكر الحداثيين. لقد حيّد سعيّد المعسكرَيْن معاً واحتكَر السياسةَ والنقاشَ العامَّ بعد أن أصدر المرسومَ الرئاسيَّ عدد 54 لسنة 2022 الذي "يكافح الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال"، فأصبح سيفاً مسلّطاً على كلّ المشتغلين بالشأن العامّ، لا سيّما الصحفيين والسياسيين والمثقفين، فأودع الكثير منهم السجن.
ربما جعل هذا الاحتكارُ رمضانَ 2024 يمرّ بسلامٍ ليصوم التونسيون فيه عن الكلام ويعيشوا حالةً من السُباتِ، حالةً أرادها قيس سعيّد المحافِظُ بطبعِه والمائلُ إلى جمع الرأي العامّ على أوامره ونواهيه. سيطر الرجل على الشارع في خُطَبه وجولاته بتوجيهه نحو حربٍ على الفساد الإداري والاقتصادي في القطاعات العامة والخاصة دون اتخاذ إجراءاتٍ وسياساتٍ حقيقيةٍ للحدّ منه. وقد يعود هذا الهدوء الرمضاني إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية الذي أدّى إلى غلاء المعيشة ونقص المواد الأساسية، وهو ما ترك المواطنَ التونسي في وضعٍ معيشيٍ صعب. كلّ ذلك جعل نقاش النّاس في صوم رمضان أو أيّ مسألةٍ أُخرى غير الوضع المعيشي رفاهيةً ليسوا في مقامِ الخوضِ فيها. أيّاً كان السبب فإنّ غياب الجدل الرمضاني هذا يذكّرنا بالتحدّيات التي يواجهها التونسيون كلّ يومٍ بعد أن رُوِّضَت أحلامهم وطموحاتهم.
