صلة مَنسيّة: تأثُر الطرب العربي الأصيل بمقرئي القرآن

الصلة الوثيقة بين مدرستي التلاوة القرآنية والطرب الأصيل كانت عنوان مرحلة اتصلت فيها جذور المدرستين بأصل واحد وهي المقامات الشرقية الأصيلة

Share
صلة مَنسيّة: تأثُر الطرب العربي الأصيل بمقرئي القرآن
سيد النقشبندي مع أم كلثوم (تصميم حاتم عرفة / الفِراتْس)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

التقيتُ الأستاذَ سيد مكاوي في أبوظبي أوائلَ تسعينيات القرن الماضي. دار بيننا حوارٌ حول الشعر الغنائي وقرأتُ عليه بعضاً من قصائدي باللهجة العامية، وكان من بينها قصيدةٌ كتبتُها وأنا دون العشرين من عمري. أَصْغَى إليها بطريقةٍ مميزة وحِسٍّ مرهف، كَدَأبِ من حُرم نعمة البصر وعُوض رهافة السمع، وكأنه يُبْصِرُ بأِذنيه. كان كلّما استحسن معنىً، اخْتَلَجَتْ عضلةٌ صغيرةٌ في خدِّه أسفل عينه اليسرى. كانت العضلة تهتز وكأنها موصولةٌ بقلبهِ؛ وإن شئتَ فقُل تتراقص كلّما أصابها مَسٌّ من الجمال.

تقول كلماتُ تلك القصيدة:

يا دُنْيا فيكِ العَجَبْ فيكِ العَجَبْ ألوان
فيكِ الأصيل والرَّدِي والشَّهْم والخوَّان
وِنَدَهْت أنا في الفَضَا رجَعْ الصدَا وقال لي
لو يَمّ لـَمّ الرَّدِي يِطْلَعْ يقول عطشان

والمعروف أن "يَمّ" يعني بحر، والعامّةُ في مصر يسمّون الفرع الواسع من فرع النيل بحراً، و"لَمّ" أي احتوى. والمقصود بـ"الرديّ" الخسيس عديم الأصل، الذي مهما أكرمته ظلّ مُنْكِرًا لجميل ذوي الفضلِ عليه.

فلما فَرَغْتُ من إلقاء هذه الأبيات، صَمَتُّ أما هو فظلّ مُصْغياً، كأنه ينتظر المزيد. قال: "ده الموَّال، أكمِلْ. اطْلَعْ بالأغنية". وكلمة "اطْلَعْ" معناها هُنا أظْهِر ما أخفيتَه من بقية القصيدة.

كان يرى أن هذه وغيرَها مما سمع من أشعاري تصلح للغناء، ولكني اعتذرت له قائلاً: "هذه أشعارٌ كتبتُها في شبابي وأرى أنها غير مناسِبة الآن، ولكني أَعدُك لو كتبتُ نَصَّاً مناسباً فسأبعث به إليك". كنتُ قد قرأتُ هذه القصيدة على مسمع سيد مكاوي من باب "الدردشة الشعرية"، ولم أقصد بذلك أن تكون عملاً فنّياً مشتركًا بيننا.

مرَّت الأيام، وكتبتُ قصيدةً أجازتها لجنةُ النصوصِ بالإذاعة المصرية سنة 1993، ونالت إعجاب الأستاذ سيد. احتفى بها قائلاً: "الكلمات دي بِتَاعِتْنَا، ودي مَدْرَسِتْنا، وِمَحَدِّش يلحّنها غيري". وقد نَشَرَتْ جريدة الأهرام المصرية خبراً مفاده أن سيد مكاوي بعد أن غنّى كثيراً للشاعر فؤاد حدّاد، ها هو يغني لحدّادٍ آخر.

القصيدة طويلة، غناها على العود في جلسة خاصة عنوانها "يا مصر آن الأوان". مطلعها:

يا مصر آن الأوان تِهِبِّي مِن تاني
واللي بَنَاكِ زمان مَكَنْش حلواني
دا كان جَدَعْ فنان ذَوَّق حروف إسمك
وِلْكُل حرف دليل بِيْرِن فِ وْدَاني
الميم نَبِينَا محمد مَاشِيِين على دَرْبُه
والصاد صلاة النبي ع اللي اصطفاه ربُه
والراء رسول المحبة شرط الإيمان حُبُه

التقينا بضع مرّات بعدها. وفي أحد لقاءاتنا أَسْمَعْتُه صورةً شِعريةً لبائع الخضار الذي كان يطوف بعضَ شوارع الإسكندرية عارضاً بضاعته على عربةٍ يجرُّها حمار. كان يعلن عن أصناف الخضار بالغناء، ويديرُ حواراً مع زبائنه الذين يُطِلُّون من شُرُفَاتِهم، فَيُدَلُّون السِلال وهو يحاورهم ويناديهم بأسمائهم أو أسمائهن، فأغلب زبائنِه كُنَّ من النساء. وكان شكلُ السلّة أو "السَّبَت" كما يسمونه بالعامّية دليلاً على ذوق صاحبته. تبدأ كلماتُ هذا النصّ ببائع الخضار أو "العَرْبَجِيّ" ينادي على بضاعته قائلًا: معايا الخُضار طماطم خِيار وفلفل مُوَلَّع يِطَلَّع شَرَار. ما لبث أن سمع سيد مكاوي تلك الكلمات حتى أُعجب بها، ثم قال بانفعال: "دي الليلة الكبيرة". يقصد كأنها أوبريت "الليلة الكبيرة" المشهور الذي كان يُعرَض كثيراً وخاصّةً في أيام الأعياد، وكان إخراجه رائعاً وتحريك العرائس فيه مبهراً، كان من ألحان سيد نفسه وكلمات صلاح جاهين. واصل مكاوي كلامه عن بائع الخضار قائلاً: "خَلِّلي الراجل ده (بائع الخضار) يُوصَل سوق زَنْقِة الستّات". ونسمي الأوبريت زنقة الستات، وهذا اسم أحد أشهر شوارع الإسكندرية يعود تاريخه إلى أوائل القرن الماضي. ولكن القدَر لم يُمهِل الشيخَ سيد حتى ينجزَ الأوبريت والقصيدة، فمات في إبريل سنة 1997.

كان سيد مكاوي موسيقياً موهوباً، لكنّ الذي لا يعرفه الكثيرون أنه ينتسب إلى مدرسةِ قرّاءِ القرآن، وطبقةِ المغنّين الذين بدأُوا مقرِئين ثم عَبَرُوا إلى عالم الغناء مروراً بالإنشاد الديني.

التقيتُ بعدد من مشاهير ذلك الجيل الذين سلكوا هذا الطريق وعَبَّدوه لمن خلفهم وَمَن ساروا على نهجهم. فقد ساقتني الأقدار إلى بعضِهم وساقت بعضَهم إلى طريقي. حاورتُهم وأفاضوا في سرد حكاياتهم، وسَجّلتُ بعضاً من مراحل حياتهم في رحلتي الفنية والصحفية في مصر والعراق والخليج، وخاصّة حينما عملتُ محّرراً فنّياً مطلعَ حياتي المهنية.

تميّز ذلك الجيل عن الأجيال التي تلته بسماتٍ خاصّةٍ شكّلت حالةً ارتبطَت بمعاصرِيه. ومن أهم تلك السِمات بروز عمالقة في تلاوة القرآن وفي فنون الطرب في الوقت نفسه شقُّوا طريقاً لمن جاء بعدهم؛ ليس في الموسيقى والغناء وتلاوة القرآن فحسب، بل في مختلف نواحي الإبداع. هذا الترابط يراه كثير من الناس اليوم تناقضاً؛ فمن بين السِمات التي ميَّزت قمم الجيل السابق في الطرب والغناء اتصالُ أهل المَغْنى والطرب بمدرسة المقرئين والمنشدين الذين لمع نجمهم وذاعت شهرتهم حتى فاقوا كبار المطربين. نجد أن العديد بدأوا مقرِئين ثم مالوا عن طريق القرآن وخاضوا لُجَّة الطرب والغناء. ومع ذلك، ظلّت أسماؤهم مسبوقةً بصفة "الشيخ"، كالشيخ سيد درويش والشيخ زكريا أحمد والشيخ إمام والشيخ سيد مكاوي وغيرهم.

لا تخلو الأجيال التي تَلَتْهم من مبدعين قد ينافسونهم في الصوت، لكن حالة الترابط تبقى سمةً مميّزةً لحقبة الثلاثينيات حتى الخمسينيات من القرن الماضي. ما بعد الخمسينيات، ظلّت ساحة الإبداع التي اقترنت بالحرية السياسية تغرف من مَعِين تلك المرحلة السابقة وتَجْنِي من ثمارها. ولكن للأسف؛ كلّما سقطَت ورقةٌ، فلا يَنْبُت بديلٌ لها.

ولعلّ آخر تلك الأوراق التي سقطَت المطربُ العراقيُّ ياس خضر، الذي توفّي في الأول من سبتمبر سنة 2023 وسبقَه المطربُ السوري صباح فخري بعامين. وكلٌّ منهما كان قد بدأ مقرئاً ومؤذّناً ومنشداً، فصاغت تلك المدرسةُ صوتَه وأداءَه، قبل أن يترك تلاوة القرآن في المحافل وينتقل إلى الطرب والغناء. وبرحيلهما طُوِيَت صفحةٌ مهمةٌ في تاريخ طرب المنطقة كلّها، وأَغلقَت تلك المدرسةُ أبوابَها بعد أن تخرّج فيها كثيرٌ من الأصوات الجميلة التي لا نَظير لها هذه الأيام.


خرجَت موسيقى الطرب العربي من المسجد؛ فالترابطُ بين الموسيقى والدِّين له قصةٌ طويلةٌ وأبعادُها معقّدة. في كلّ لقاءٍ لي مع أحد كبار المقرئين والمطربين ينكشف جانبٌ من هذه الحكاية وسِمةٌ من سِمات تلك المرحلة. لقد كان للإذاعة والتقنية دَورٌ في اكتشاف القرّاء وشهرتهم، وصلة تلاوة القرآن بمعاهد الموسيقى التي أُسّست في القرن الماضي، وصولاً إلى جذور الظاهرة في القرى والأرياف. من شهد تلك المرحلة يدرك أنها كانت "حالة" شعبية كان القراءُ فيها نجوماً يضاهون كبار المطربين، فأثّروا في مسيرة الفن الشرقي تأثيراً قد لا يدرِكه كثيرٌ من الناس اليوم.

كان الشيخ أبو العينين شعيشع يأتي كلّ عامٍ في رمضان رفقةَ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لإحياء ليالي الشهر الكريم في مساجد أبوظبي، فكنتُ ألتقيه حينها، وقد أَجريتُ معه عدّة لقاءاتٍ صحفية. الشيخ أبو العينين من أوائل من سجّل القرآن الكريم بصوته على أسطوانات، وهو أوّل صوتٍ صدحَ بآيات القرآن من إذاعة صوت العرب يوم افتتاحها سنة 1954. كان للإذاعة دَورٌ كبير في نشر القرآن والأحاديث الدينية والثقافية لقمم الفكر والثقافة والأدب، وكذلك في الدراما وبرامج الأطفال وغيرها. وقد ساهمَت الإذاعةُ في تكوين ثقافةِ أجيالٍ كثيرة، وأظنّ أنني منهم. كما وطّدَت الإذاعةُ علاقة المستمعين بمقرِئي القرآن، فالناس يسمعون القرآن من المذياع في بعض المقاهي وغيرها، يجلسون في خشوعٍ وكأن على رؤوسهم الطيرُ. كان في الإسكندرية مقهىً يذيع على مدار اليوم أشرطة الشيخ مصطفى إسماعيل، وكان معروفاً بين الناس باسم الشيخ مصطفى.

وُلد أبو العينين شعيشع سنة 1922 في مصر وحفظ القرآن في كُتَّاب القرية. وقد لاحظ مدرّسوه حلاوةَ صوته فكانوا يقدّمونه لافتتاح الحفلات والمناسبات بتلاوة القرآن. تميّز الشيخ أبو العينين بحنجرةٍ قويةٍ وقدرةٍ خاصّةٍ على الانتقال بين النغمات؛ من القرار إلى الجواب وحتى جواب الجواب. التحق بالإذاعة المصرية سنة 1936 بعد أن اختُبر أمام لجنةٍ يرأسها شيخُ الأزهر واختُبر أيضاً في الأداء النغمي أمام اثنين من كبار الموسيقيين آنذاك، وهما مدحت عاصم ومصطفى بك رضا، مؤسس نادي الموسيقى العربية.

اجتاز أبو العينين الاختبارَ رغم أنه لم يكن على درايةٍ بأسماء المقامات الموسيقية، إلا أنه كان ذا حسٍّ عالٍ بالنغمات، فهو يؤديها بالفطرة أداءً صحيحاً وينتقل من مقام إلى آخر دون نشاز. والمقامات الأساسية هي مقام الراست والبياتي والعجم والنهاوند والكرد والحجاز والسيكاه والصبا، ويتفرع من كل مقامٍ رئيسيٍ مقاماتٌ فرعية. إن أي نغمةٍ جميلةٍ نسمعها لا بد وأن تندرج تحت مقامٍ موسيقي. فبائع البطاطا مثلاً لو نادى على بضاعته بصوتٍ جميلٍ فلا بد أن يأتي نداؤه ضمن مقام موسيقي حتى دون أن يعرف اسمه. بل لو أَطَلَّت امرأة من نافذتها ونادت ابنها بصوتٍ منغّمٍ وجميلٍ: "يا واد يا اسماعين" لخرج نداؤها بصوتٍ يندرج تحت مقامٍ موسيقيٍّ لا محالةَ.

دَعَم الشيخُ شعيشع موهبتَه بالدراسة على يد ذوي الدراية بالمقامات والنغمات، وتتلمذ أيضاً على صوت الشيخ علي محمود الذي تأثر به كثيرٌ من المقرئين والمنشدين والملحنين. فمن ضمن بطانته، أي الذين يرددون خلفه، بعضُ مَن أصبحوا لاحقاً نجوماً في التلحين والغناء، كالشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد مكاوي.

سافر الشيخ أبو العينين إلى فلسطين سنة 1941 بدعوةٍ من حكومتها في ذلك الحين لإحياء ليالي شهر رمضان في المسجد الأقصى. كان يسافر بالقطار عبر الخط الحديدي الذي كان ممتداً من القاهرة إلى يافا، وبعد ذلك تعاقدَت معه إذاعة القدس للتلاوة فيها لمدة ستة أشهر.

من طرائف ما حدث في تلك المدة أنه لم يتحمل الغُربة بعد ثلاثة أشهر، فغادَر فلسطين فجأةً دون أن يُخبِر أحداً بذلك وعاد إلى القاهرة. كانت التلاوة في ستديوهات الإذاعة على الهواء مباشرة، فلمّا حلّ المساء وحان موعد قراءته في إذاعة القدس، سَمِعَ المذيعَ عبر الراديو يقول: "نحن الآن في انتظار الشيخ أبو العينين شعيشع ليقرأ علينا قرآن السهرة" دون أن يعلموا أنه غادر. وبعد أيامٍ جاءه مدير الإذاعة إلى القاهرة وَصَحِبه معه إلى القدس مرّة أخرى.

قَدَّمَت شركةُ فيلبس عرضاً للشيخ شعيشع لتسجيل القرآن على أسطوانات، ولكنه تردد في ذلك لأن الأسطوانة سيتناولها الجميع وربما يكون بعضهم على غير طهارةٍ أو يكون مِن غير المسلمين. استفتى أبو العينين الشيخَ عبد المجيد سليم عضوَ هيئة كبار العلماء في مصر، فأفتاه بأن هذه الأسطوانة لا تصبح قرآناً إلّا حينما توضع على الجهاز الخاصّ بها، أما في حال صَمْتِهَا فهي جسمٌ جامدٌ يمكن أن يتناوله الجميع.

إضافةً لنشاطه في تلاوة القرآن في المحافل، شغل الشيخُ شعيشع منصبَ نقيب القرّاء في مصر وعُيّن عضواً بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وعميداً للمعهد الدولي لتحفيظ القرآن وعضواً في كلٍّ من لجنة اختيار القُرّاء بالإذاعة والتلفزيون واللجنة العليا للقرآن الكريم بوزارة الأوقاف ولجنة عمارة المساجد بالقاهرة. وقد ظلّت صِلتي بالشيخ شعيشع حتى وافته المنيّة في 24 يونيو 2011.

لا يمكنني الحديث عن أعلام التلاوة دون أن أَذكر الشيخ مصطفى إسماعيل، قمّة من القمم القرآنية التي شمخت في القرن الماضي. كانت لبداية رحلة الشيخ مصطفى مع القرآن حكايةٌ طريفةٌ رواها لي ابنُه وحيد. فقد كان إمامُ المقرئين الشيخُ محمد رفعت ذاهباً لإحياء ليلةٍ في مدينة طنطا، ثم طَلب الشيخُ رفعت مُعِيناً له في القراءة. ولكن أنّى ذلك المُعِين وقد أَوشك الليلُ أن ينتصف؟ أشار أحدُ الحاضرين إلى شابٍّ في مقتبل العمر بملابسه الريفية كان واقفاً ضمن الحشود التي تجمعت خارج السرادق، وقال لهم إنه ذو صوتٍ رائع. كان ذلك الشابُّ ضمن الذين توافدوا من قرية ميت غزال المجاورة لمدينة طنطا. خرج أحدهم لاستدعائه. سأله قائلاً: "أأنتَ مصطفى إسماعيل؟" أجابه: "نَعَمْ أنا" فرَبَتَ الرجلُ على كتفه مبتسماً ثم صحبه إلى داخل السرادق.

لم يكد مصطفى يصدّق حينما وجد نفسَه جالساً مع الشيخ رفعت، فقد كان أقصى ما يتمناه أن يقف بين العامّة أمام الصوان للاستماع مكتفياً برؤيته عن بُعد. كاد يطير فرحاً حينما قال له الشيخ رفعت: "أسمِعني صوتَك يا بُنَيَّ"، فشَرَع الشابُّ في التلاوة وهو يلحظ يدَ الشيخ رفعت التي تشير له بالاستمرار في القراءة كلّما حاول أن يختم قراءته. استمرت تلاوتُه ساعتين، ثم رفع الشيخُ رفعت رأسَه قائلاً للشاب مصطفى إسماعيل: "سيكون لك شأنٌ في التلاوة يا بُنَيَّ. ثابِر على هذا النهج واحذر التقليد واحفظ النعمةَ التي حَباك اللهُ بها".

سار الشيخ مصطفى على نصيحة الشيخ رفعت، وواصل رحلة التلاوة حتى تربّع على قمّة الأداء النغمي في المقامات الشرقية، فلا يكاد يوجد صوتٌ رجاليٌ ينافس صوت الشيخ مصطفى إسماعيل في حلاوته وجزالته ومرونته. وقد تميز في طبقاته العليا، بينما كانت طبقات صوته المنخفضة (القرار) نقطة الضعف الوحيدة في ذلك الصوت الرائع المتميز باتساع المساحة والقدرة على التصرف في الأنغام.

يعدّ النقادُ الشيخَ مصطفى إسماعيل فناناً عظيماً في أدائه المميز وقارئاً كبيراً، فلَمْ نسمع منذ عقودٍ قارئاً أدقَّ منه إحساساً بالمقامات العربية ولا أبرعَ في التصرف بها. فحينما يقرأ من نغمة الصبا المعروفة بالحزن في الألحان العربية تنبعث من حنجرته وكأنها مغموسة في دموعه. وحينما يقرأ آياتٍ تستدعي الحماسة في الأداء تنفجر نغمة الراست كقرع الطبول، إذ ينتقل الشيخ من الحزن إلى الحماسة في سهولةٍ وروعةٍ منقطعة النظير.

سبق وأن أخبرني الشيخ أبو العينين شعيشع أن الذي علّمه المقامات الموسيقية تاجرُ غِلالٍ في محافظة الشرقية. وقال إن تاجرَ الغِلال نفسه هو الذي علَّم الشيخ مصطفى إسماعيل. وقد يرى أحدهم تناقضاً بين هذه الرواية والمقولة آنفة الذِكر بأن مصطفى إسماعيل لم يكن على عِلمٍ بالمقامات. فيمكن الجمع بين الروايتين بأن الشيخ مصطفى بدأ قارئاً بالفطرة، ثم صقل موهبته بتعلّم المقامات على يد أحد الحاذقين فيها.

كان الشيخ مصطفى إسماعيل متفرداً في أدائه النغمي فلَم يحاكِ أو يقلِّد أحداً، بل لَمْ يقلِّد حتى نفسه، فالنغمات التي يقرأ منها اليوم لا يكررها غداً. أَخذ عنه بعضُ كبار الملحنين الأداءَ النغمي كمحمد عبد الوهاب. فالمقام أو النغمة هي وعاءٌ للأداء، سواءً في تلاوة القرآن أو الإنشاد أو الغناء.

أحياناً يؤدي الشيخ مصطفى إسماعيل جملةً قرآنية صاعداً بصوته للجواب ثم ينزل فجأةً للقرار عند كلمة معينة ثم يعود للجواب وحتى جواب الجواب. ففي أحد تسجيلاته لسورة الشمس على سبيل المثال، حينما يقرأ الآيتين السادسة والسابعة، يؤديها على النحو التالي: يقرأ "وَالْأَرضِ وَمَا طَحَاهَا" بنغمةِ جوابٍ، ثم ينزل فجأةً إلى القرار في "وَنَفْسٍ" ثم يصعد إلى جواب الجواب في "وَمَا سَوَّاهَا". وقد أخذ محمد عبد الوهاب منه ذلك عند تلحينه أغنية لعبد الحليم حافظ (قوللي حاجة، أي حاجة) في المقطع الذي يقول فيه عبد الحليم: "قول يا قلبي، قول يا أملي، قول مخبي عليّا إيه". يؤديها عبد الحليم على الوجه التالي: "قول يا" جواب، ثم ينزل إلى القرار في قوله "قلبي"، ثم يصعد إلى الجواب في قوله: "قول يا"، ثم ينزل إلى القرار مرة أخرى في قوله: "أملي" وهكذا.

التقيتُ الشيخَ مصطفى إسماعيل بضع مراتٍ في الإسكندرية، وسمعتُ تلاوته في جلساتٍ خاصةٍ في شقة الحاج أحمد خليل الذي كان صديقاً للشيخ ورئيسَ رابطة محبّيه في الإسكندرية. والحاج أحمد كان ضمن فريق الإنشاد للشيخ علي محمود، الذي كان صاحب مدرسة عريقة في التلاوة تتلمذ فيها كلُّ من جاء بعده، وقد مات سنة 1946.

في منتصف السبعينيات، كنتُ طوَّافاً مع الشيخ مصطفى إسماعيل كلّما نزل الإسكندريةَ. وفي إحدى ليالي الخميس علمتُ أنه سيقرأ غداً الجمعة في مسجد السَمَّاك، وهو مسجدٌ كبيرٌ في حيّ غيط العنب الشعبي بالإسكندرية. وفي يوم الجمعة بَكَّرنا إلى المسجد؛ شوقاً لتشنيف آذاننا بسماع القرآن من حنجرة الشيخ مصطفى إسماعيل. بعد أن فَرَغ الشيخُ مصطفى من قراءته في ذلك اليوم، أقبَل شابٌّ في العشرينات من عمره، وهو طالب في كلية طب الإسكندرية، ثم اعتلى دِكَّة القراءة في المسجد وقرأ سورة الكهف. كان ذا صوتٍ رائع يحاول محاكاة الشيخ مصطفى في قراءته، والشيخ يبتسم إعجاباً به كلما أجاد في قراءته. كان ذلك الشابّ هو الشيخ الدكتور أحمد نعينع، الذي ذاع صيته فيما بعد حتى أصبح المقرئ المفضّل للرئيس أنور السادات، فقد ألحقه بسكرتارية الرئاسة وكان يلازمه في جميع تحركاته، لا سيّما في افتتاح المناسبات الدينية.

وقد أشاد بصوت الشيخ أحمد نعينع عددٌ من أهل الموسيقى، منهم عبد الوهاب والموجي وعمار الشريعي. وقد التقيتُه في أبوظبي في منتصف الثمانينيات، وَذَكَّرْتُه بذلك اليوم في مسجد السمّاك وكذلك مقهى الجمهورية الذي كان صوتُ الشيخ مصطفى يصدح فيه بالقرآن على مدار اليوم ويرتاده "السَمِّيعة" من عشاق صوته.

قال نعينع في إحدى المقابلات التلفزيونية إنه كان ذات يوم في بيت الموسيقار محمد عبد الوهاب، والذي طَلب منه أن يقرأ شيئاً من القرآن. وأثناء القراءة دخل عبدُ الوهابِ الحمّامَ ثم خرج فجأةً لابساً معطفَ الحمّامِ الطويلَ، ثم دوَّن بعضَ الملاحظات بأسلوبه الخاصّ في التدوين الموسيقي، وطَلب من نعينع أن يعيد الجملة التي قرأها. حاول نعينعُ ولكنه لم يستطع إعادتها بالطريقة ذاتِها التي أَعجبَت عبدَ الوهاب وأخرجَته مسرعاً من الحمّام، لأن نعينع يقرأ بالفطرة ويعرف المقامات "سماعي" على حدّ تعبيره، فأعادها له عبد الوهاب وقال له: "احفظها هكذا كي تتمكن من قراءتها فيما بعد".

أمّا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فقد التقيتُ به بضعَ مراتٍ في ليالي أبوظبي الرمضانية. شأنُه في التواضع شأنُ كبار المقرئين، إذ لَم يَخطر في باله وهو فتىً صغيرٌ أنه سيصبح نجماً في سماء مقرئي القرآن، وأنه سيطوف كثيراً من بلدان العالم معطِّراً أجواءها بشذى صوته الرائع. وُلِدَ الشيخُ عبد الباسط في صعيد مصر في مدينة أَرْمَنْت، أحدِ مراكز مدينة الأقصر الواقعةِ على الضفة الغربية للنيل. حَفِظ القرآنَ في سن العاشرة ودرس التجويدَ على يد شيوخ مدينته، وبعد أن أتقن القراءات بدأ في إحياء الحفلات الدينية، وذاع صيتُه في محافظات الصعيد.

وفي أحد اللقاءات التي أجريتُها مع الشيخ عبد الباسط قال: "جِئْتُ إلى القاهرة للمرة الأولى سنة 1951، وذات ليلةٍ قرأتُ القرآنَ الكريم في حفلٍ دينيٍّ بمسجد السيدة زينب، حضره عددٌ من الوزراء والمسؤولين. أبدى الجميع إعجابَهم بصوتي وطَلب مني أحدُهم أن أتقدم للإذاعة المصرية، لكني رفضتُ في البداية حرصاً على شهرتي في الصعيد وخوفاً من مزاحمة كبار المقرئين في القاهرة، لكنهم أقنعوني فتقدمتُ للاختبار".

سألتُ الشيخَ عبد الباسط: "أين تعلمتَ المقامات الموسيقية؟" فقال: "نحن نقرأ القرآن بمقامات الموسيقى العربية، فقد تعلمتُ هذه المقامات بالممارسة وكثرة الاستماع". وقال أنه تعلّم أيضاً من بعض المستمعين "السَّمِّيعة"، وأضاف: "أنا أقرأ بِعَفْوِيَّة أو بالفطرة، فأجد المستمعين مثلاً يقولون: ’الله يا فضيلة الشيخ، تاني الحِّتَه العَجَم دي’ فأعرفُ أن هذا المقام الذي قرأتُ منه هو مقام العجم".

وعن علاقة المقامات الموسيقية بقراءة القرآن الكريم، قال الشيخ عبد الباسط: "في آيات التبشير بالجنّة مثلاً، نقرأ مِن المقامات التي تُشعِر المستمِعَ بالبِشْر والسرور. وفي آيات الوعيد، أقرأُ مِن مقام الراست المعروف بقوّته، ونقرأ مِن مقام الصبا عند المعاني الحزينة. إضافةً إلى ذلك، فإنني أستند إلى إحساسي الشخصي لتصوير المعاني القرآنية". وحول الموسيقى قال الشيخ بأنه يسمع بعض الأغاني من وقتٍ لآخر، فيسمع أمَّ كلثوم في "وُلِد الهدى" ويسمع أيضاً سعاد محمد ومحمد قنديل وعبد الغني السيد. والشيء بالشيء يّذكَر، فأمّ كلثوم بدأتْ قارئةً للقرآن، وتوجد تسجيلاتٌ لتلاوتها. وعَزَا بليغ حمدي في لقاءٍ له سرَّ تميّز صوت أمّ كلثوم وأدائها إلى حفظِها القرآنَ الكريمَ.

في ليلةِ رمضانيةٍ بمسجد الشيخ خليفة في أبوظبي عقب صلاة التراويح، استمعنا إلى تلاوة بصوت الشيخ عبد الباسط، ثم جلسنا نتبادل أطراف الحديث مع الشيخ بعد انصراف الناس. أقبل علينا رجلٌ إندونيسي، عرفتُ فيما بعدُ أنه سفير إندونيسيا في أبوظبي، وقدَّم لنا فتىً في العاشرة من عمره تقريباً. كان الفتى يحفظ القرآن ويتلوه تلاوةً صحيحةً رغم أنه لا يجيد اللغة العربية. والأعجب من ذلك أنه كان يحاكي صوتَ الشيخ عبد الباسط ببراعةٍ وإتقانٍ شديدَيْن. كان الشيخ عبد الباسط ينظر إليه بإعجابٍ ويتابع صوتَه بابتسامةِ رضى. كانت إجادة الفتى للأداء النغمي تدعو للعجب، فقد قرأ سورة التين بمقام "السوزناك" وهو أحد فروع مقام الراست. حاورتُ الفتى ونُشر الحوارُ في مجلة ماجد. سألتُه: "كيف تعلمتَ هذا المقام؟" فقال إن أباه استعان بمعلّمٍ سوداني كي يدربه على المقامات الموسيقية، فكان يعلّمه المقامَ بإحدى الأغاني المشهورة، وهي أغنية أم كلثوم "غنيلي شوي شوي". وهذا يعيدنا إلى أصل الموضوع، فهذه الأغنية من ألحان الشيخ زكريا أحمد من مقام "السوزناك".


هكذا نرى العلاقة الوثيقة بين الأداء النغمي للمقرئين وأداء أهل الطرب الأصيل وخاصةً الذين بدأوا حياتهم مقرئين للقرآن، فهو العامل المشترك والإطار الحاكم له من حيث الصوت وهو المَعِين الذي يَنهلُ منه أهلُ الطرب، مع تسليمنا بأوجُه الاختلاف الهائل بينهما.

تجلّى الارتباط بين المدرستين أيضاً في المعاهد الموسيقية التي درّس فيها خريجو مدرسة القرّاء قبل أن تنقطع الصلة بينهما مع اختصاص المعاهد بالموسيقى والفصل التدريجي بين المدرستين. ومن أولئك المخضرمين الذين خَبِروا المدرستين درويش الحريري، الذي أتمّ حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره، ثم درس اللغة العربية وتجويد القرآن في الأزهر. ثم بدأ يدرس الموسيقى والغناء، فتتلمذ في البداية على يد الشيخ علي محمود، ودرس على يد عدد من مشاهير فن التلحين والغناء. ثم تدرَّج حتى عمل أستاذاً بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، وتتلمذ عليه عددٌ من مشاهير المغنّين والملحّنين كمحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي.

عوداً على سيرة سيد مكاوي، فقد وُلد سنة 1928 في حي عابدين الشعبي بالقاهرة، وفَقَدَ بَصَرَه طفلاً وبدأ يحفظ القرآن الكريم. قادتْه حاسّةُ سمعِه إلى تذَوُّق الإنشاد الديني لكبار المنشدين كالشيخ عبد الفتاح سكر والشيخ علي محمود والشيخ إبراهيم الفرّان والشيخ محرز سليمان. كما استمع إلى الكثير من المطربين والمطربات مِمَّن تأثروا بالإنشاد الديني ومدرسة التلاوة، حسب ما جاء في "موسوعة الموسيقى والغناء في القرن العشرين" للأستاذ الدكتور زين نصار. استوعب سيد مكاوي فيضاً من الإبداع في الإنشاد والأداء النغمي الرائع، وتمكَّن من المقامات الموسيقية العربية الأصيلة، كما استمَع إلى ألحان كبار الملحنين مثل محمد عثمان وداوود حسني وكامل الخُلَعِي وحفظ كثيراً منها.

عمل سيد مكاوي مؤذناً في بعض مساجد القاهرة القديمة، مثل مسجد أبو طبل، الذي بُنيَ على أنقاض مسجد قديم هو مسجد الأمير شمس الدين آق. وكذلك مسجد الحنفي (شمس الدين محمد الحنفي، المُلَقَّب بالسلطان، وكان من أجلّاء شيوخ مصر)، في هذه المساجد العريقة رفع سيد مكاوي الأذان وقرأ القرآن.

ثم ما لبث الشيخ سيد أن تعرّف إلى اثنين من هواة الموسيقى الأثرياء، وهما محمود بك رأفت وشقيقه إسماعيل بك رأفت. فقد سمعا صوته في التلاوة والإنشاد وقرّرا احتضان موهبته، وأحضَرا له أحد الموسيقيين كي يعلّمه العزف على العود. كان يستمع معهما إلى كبار الموسيقيين في مكتبتهما الموسيقية؛ ففُتِنَ ببريق الموسيقى وهام بها عشقًا فَصَرَفَتْهُ عن تلاوة القرآن، وهو لا يزال في الرابعة عشرة من عمره. لكنه مع ذلك ظلّ متأثراً في أدائه الغنائي بمدرسة التلاوة، وقد وضح ذلك في التطريب والمدود وفي نطقه للمفردات، إذ يشعر المستمع كأن شيخاً يتكلم وفق أحكام تجويد القرآن.

نَمَت موهبة سيد مكاوي بسرعة فائقة وأظهر براعة في الغناء والتلحين، فقدّم أول ألحانه للإذاعة المصرية وهو في السابعة عشرة من عمره. فلما مرّت السنون وطال به الأمد في عالم الطرب والنغم وتخلّلَت الموسيقى كيانَه، قرأ القرآن فبدا تأثر تلاوته بمدرسة الغناء. فقد سمعت له تسجيلاً في سنوات عمره الأخيرة وهو يقرأ سورة الضحى، ورغم أنه التزم ببعض أحكام التلاوة إلا أنه كان يُخضِع أحكامَ القراءة للأداء النغمي وليس العكس.

لم يكن سيد مكاوي وحده هو الذي هَجَرَ تلاوة القرآن واحترف الإنشاد والغناء، بل سبقه إلى ذلك كثيرون. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، كان المقرئون والمنشدون هم روّاد فنّ الأداء النغمي الذي تتلمذ عليه كثير من المطربين والملحنين؛ وذلك أن تلاوة القرآن الكريم والإنشاد الديني مرتبط بالمقامات الصوتية الشرقية ومصدرٌ مهم لاستقاء النغم الشرقي الأصيل. فالغناء الأصيل يحتاج قدرات صوتية عالية ومهارات متميزة في الأداء والانتقال بين المقامات، وهي مهارات يُتْقِنُها مُقرِئو القرآن الكريم والمنشدون.

طوال القرن الماضي جرفت أمواجُ النغم بعضَ كبار المقرئين وجَنَحَتْ بهم بعيداً عن شُطْآن القرآن، رغم أنهم اكتسبوا مهاراتِهم الصوتية من تلاوة القرآن وخبروا المقامات وأتقنوا الانتقال في أدائهم النغمي ما بين آيات التبشير والنذير. ومن أشهر أولئك الشيخ أبو العلا محمد، المولود سنة 1884 وأحد أهم رواد الموسيقى والتلحين والطرب، وهو أستاذ أم كلثوم الذي اكتشف موهبتها حينما كانت طفلة تطوف البلاد لإحياء الليالي مع والدها.

حفظ الشيخ أبو العلا محمد القرآن الكريم والتحق بالأزهر في صباه وذاع صيته قارئاً للقرآن، ولكنه سرعان ما تركه واتجه للغناء والتلحين؛ فاحتل مكانة عالية بين مشاهير الطرب في عصره. لَحَّن أبو العلا عدداً من القصائد الدينية لكبار الشعراء وعدداً من الأغاني وسجّل بعضها بصوته على أسطوانات. كما لحَّن لأم كلثوم عدداً من الأغاني في بداياتها، مثل "وحقك أنت المنى والطلب".

أقعد المرضُ الشيخَ أبا العلا في أواخر حياته عن الغناء والتلحين، ومرّ بفاقةٍ بعد أن أَنفق كلَّ مالِه. ثم ازدادت حاله سوءاً لإصابته بمرض السكري، ورحل عن الدنيا سنة 1927، وقد شاركت أم كلثوم في تشييع جنازته إلى مثواه الأخير.


تلك العلاقة التي تربط الغناء بالتلاوة والإنشاد ليست حكراً على مصر وحدها، بل لها شواهد في بلدان أخرى. ففي العراق أيضاً كان محمد القُبَّنْجِي وناظم الغزالي وغيرهما ممن تأثروا مباشرة بأداء المقرئين والمنشدين، أو ربما كانوا تلاميذ للمطربين الذين تربّوا في مدرسة التلاوة. وهذه الحال تنطبق على كاظم الساهر من المعاصرين، فقد تتلمذ على يد الدكتور حسين الأعظمي، الذي يوصفُ بأنه سفير المقام العراقي وسيده. يَعتبر حسين الأعظمي نفسَه من المتأثرين بالقصائد الصوفية، فقد قال في مقابلة تلفزيونية أن للمقام العراقي والمقامات الغنائية علاقة وطيدة بالتصوف. كما أكد الأعظمي أن التمسك بأداء المقام العراقي صنع نجوماً في الغناء، مُرجِعاً نجاح كاظم الساهر في مشواره الفني إلى إتقانه المقامَ العراقي.

والمقام العراقي هو صياغة النغمات أو الدرجات الموسيقية لإبداعِ ألحانٍ تعكس طبيعة الموسيقى العراقية المتميزة بجماليتها وشَجَنِها باستخدام الآلات الموسيقية الشرقية. فالمقام العراقي يشير إلى الطابع الموسيقي للألحان، فمقام الحجاز مثلاً يعبِّر عن الرقّة والمناجاة، بينما يعبّر مقام النهاوند عن الفرح والتفاؤل بشكل عام. والمقام العراقي يصوغ هذه المقامات الموسيقية في نسقٍ ذي سمةٍ ونكهةٍ عراقية مميزة.

وقد رَبَطَ الأعظمي بين التلاوة والمقام العراقي منوّهاً بالأثر الكبير للقرآن الكريم على المقام العراقي، بل ذكرَ أن أهلَه كانوا يغنّون المقام العراقي على أنه من التقاليد الدينية؛ وذلك للعلاقة الوثيقة بين هذا المقام وتلاوة القرآن والإنشاد الديني.

ياس خضر أحد كبار المطربين العراقيين الذين بدأوا حياتهم مقرئين للقرآن الكريم، وقد التقيتُه في أبوظبي أواخر سبعينيات القرن الماضي، وصرّح لي أن بدايته كانت مقرئاً للقرآن ومنشداً للأشعار الحزينة. وعرّجنا على تعليمه الديني وتأثره بقصة مقتل الحسين حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام. ظلّت نبرة الحزن في صوت ياس خضر ملازمةً له منذ بدايته مع تلك الأشعار، وربما يُفَسِّر هذا بحَّةَ صوتِه التي تفيض حزناً حتى بعد أن تركَ قراءة القرآن والإنشاد الديني واتجه للغناء العاطفي. يظهر ذلك الحزن جلياً في أغنيته المشهورة "عزاز" في منتصف السبعينيات، فقد بلغت تلك الأغنيةُ من شدّة حزنها وشهرتها أن العراقيين أشاعوا أنه غنّاها مواساةً للرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر لوفاة زوجته (أم هيثم) سنة 1974. وقد سألتُ ياس خضر عن صحة تلك الشائعة فنفى ذلك نفياً مطلقاً.

تميّز ياس خضر في مضمار الغناء الريفي، والذي يغلب عليه الشجن والوجع، وهي من خصائص المقام العراقي. وقد جمعه لقاءٌ بالملحّن المصري بليغ حمدي، الذي أثنى على صوته قائلاً إنه يليق لكل شيء ويصلح لغناء ألوانٍ متنوعة.

ولو عدنا للوراء فسنجد المطرب العراقي ناظم الغزالي مثالاً على الصلة الوثيقة بين التعليم الديني والتميز الفني. فقد درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد على يد فنانٍ سوريِّ الأصلِ يدعى علي درويش. وقد درس الشيخ علي درويش فنّ الموشَّحات في سوريا على يد أشهر أساتذتها مثل عثمان بك الصغير وأحمد الشعار وأحمد جليد. وهكذا استقى ناظم الغزالي كل هذه الخبرات الموسيقية المتراكمة من أستاذه علي درويش. كما كان ناظم الغزالي ذا ثقافةٍ موسيقيةٍ عاليةٍ لكثرة قراءته واطّلاعه، حتى أنه نشر سلسلةً من المقالات سنة 1952 في مجلة النديم، تحت عنوان "أشهر المغنّين العرب".

وقد أَكْسَبَتْهُ ثقافتُه اهتماماً باللغة العربية فأثّر ذلك على اختياره كلماتِ أغانيه. ففي لقاءٍ مع المطرب العراقي سعدون جابر، قال لي إن ناظم الغزالي قدّم الأغنية البغدادية التي تعتمد على المقام العراقي، ولكنه كان يبدأ معظم أغانيه بأبياتٍ من الشعر العربي الفصيح، فحقّق بذلك تميزاً وانتشاراً في العالم العربي كله.

ولنشأة الغزالي دورٌ مؤثِّرٌ في تميّزه وثرائه الفني؛ فقد وُلد ناظم الغزالي عام 1921 في بغداد لأسرةٍ فقيرةٍ، فوالده عاملٌ يكابد شظفَ العيش وأمُّه كفيفةُ البصر. ولفقر أبيه، كفَلَهُ عمُّه منذ طفولته المبكرة حتى أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، ودرس بعدها في معهد الفنون الجميلة في قسم المسرح بإشراف الفنان حقي الشبلي الذي درس في طفولته القرآن في الكتاتيب. إلا أن الظروف القاسية التي كان يعانيها اضطرّته لترك الدراسة والعمل في مشروع الطحين بالعاصمة في أوائل الأربعينيات.

لكن حُبَّ الفن كان يجري في عروقه مجرى الدم، فتابع مشوارَه الفنيّ رغم الظروف التي أبعدته عن المعهد، إلا أنها لم تمنعه من الاستمرار في القراءة والاستماع لكل ما تقع عليه يده من المقام العراقي المعروف بسلّمه الموسيقي الأصيل. وكان يستمع أيضاً لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وحفظ أغانيهم حتى لفت أنظار المحيطين به، وأكّد أنه موهبة غنائية متميزة. دفعه طموحه إلى مواصلة التحصيل، فعاد إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته. هناك تبنّى الفنانُ حقي الشبلي موهبتَه الفنية مرة ثانية فضمّه إلى فرقة "الزبانية"، حيث مثّل الغزالي في مسرحية "مجنون ليلى" ولحّن لها أغنية أدّاها بصوته وسمعها جمهورٌ كبيرٌ، وهي أغنية "هلا هلا".

كان نجاح هذه الأغنية سبباً في تغيير مسار ناظم، فترك التمثيل المسرحي وتفرّغ للغناء. انضمّ إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي درويش، والتي ضمّت عدداً كبيراً من المطربين والمطربات. وساعدَته دراسةُ التمثيل على تنظيم النَّفَس وإجادة التحكم بالشهيق والزفير أثناء الغناء.

أجاد ناظم الغزالي المّوال بإجماع النُّقاد وكبار الموسيقيين الذين عاصروه، وقد ساعده في ذلك عمقُ دراسته ومعرفته بالمقامات العراقية وأصولها؛ فذاع صيتُه وانتشر أمرُه في بداية الخمسينيات، بل إنه غيَّر كثيراً من مقاييس الغناء في العراق. كما غنّى كلماتٍ لأشهر الشعراء العرب مثل أحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وأبي فراسٍ الحمداني.

وما دُمنا قد تكلمنا عن ناظم الغزالي فجديرٌ أن نتناول شبيهَه في سوريا، المطرب صباح فخري، وهو أيضاً من أشهر المطربين العرب الذين أفرزَتهم مدرسةُ التلاوة. حَفظَ القرآن الكريم منذ الصغر وأتقَن التجويد، وقد أثّر ذلك في غنائه ومخارج ألفاظه، بل وفي حديثه بلُغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ في اللقاءات التلفزيونية والتي لا يجاريه فيها بعض أرباب اللغة. ومما يدلّ على عشقه اللغةَ العربية ذلك اللقاءُ الذي أجرَتْه معه الإذاعة البريطانية "البي بي سي"، حينما سأله المذيع: "لو صعدتَ إلى القمر كي تعيش وحيداً على سطحه، فما هو الكتاب الذي تحب أن يرافقك في وحدتك؟" فأجاب: "’لسان العرب لابن منظور".

وُلد صباح فخري في 2 مايو عام 1933 في حلب، وتعلّم القرآن في كُتَّاب أبيه الذي أنشأه لتحفيظ القرآن، ولملامح صوته وتمكّنه من الأداء النغمي السليم عمل مؤذناً في جامع الروضة رغم حداثة سنِّه. لم يبرح أن اتجه بعد ذلك للغناء، فقدّم أولى أغنياته على أحد مسارح حلب من ألحان إبراهيم درويش، نَجْلِ الشيخ علي درويش سالِفِ الذِكْر. وقد لاقى إعجاباً كبيراً حتى أطلقوا عليه اسم الكناري والعندليب.

اسمه الحقيقي صبحي أبو قوس، لكنه اشتهر باسم صباح فخري نسبةً إلى فخري البارودي، الذي رعاه فنّياً. كان فخري البارودي من مشاهير الطرب الأصيل ومن أعلام الموسيقى الشرقية والموشحات الأندلسية. درس صباح فخري في معهد حلب للموسيقى ثم في معهد دمشق وتخرّج في معهد الموسيقى الشرقية عام 1948. طوَّر العديد من القدود الحلبية وتربّع على عرشها حتى ارتبطت باسمه، فكان كثير من الأغاني والموشحات والقدود المعاصرة من ألحانه وبصوته.

رحل بعد ذلك إلى دمشق وغنّى الموشحات، ثم كانت انطلاقته الفنية التي ذاعت في مختلف البلاد العربية. غنّى قصائدَ رائعةً لقدامى الشعراء حتى شاعت بين الناس، منها: قدّك الميَّاس، ويا مال الشام، وقل للمليحة، واللؤلو المنظوم. كان يحرص على لقاء أم كلثوم في بعلبك كلما زارت لبنان، ويقول صباح فخري إنها كانت تطلب شرائط أغانيه كي تسمعها.


سألتُ بليغ حمدي يوماً: "هل ينتهي عصر التطريب في الغناء؟" والتطريب هو مَدُّ الصوت وتحسينه. فقال: "لن ينتهي طالما أن هناك قرآناً يُقرأ". وقد قرأتُ فيما بعد أن هذا القول أصلاً منسوبٌ للمغني والملحن المشهور داوود حسني الذي مات سنة 1938 وقد تعلم كثيراً من أساليب الأداء النغمي من قُرّاء القرآن الكريم رغم أنه كان يهودي الديانة. وقد أَثبت بليغ حمدي براعتَه في تلحين المناجاة الصوفية، مبهِراً القارئَ والمنشدَ سيد النقشبندي الذي صَدَح برائعتِهما "مولاي إني ببابك" من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى، بالرغم من تلكّؤ النقشبندي قبل التعاون مع بليغ. وما زال ذلك الابتهالُ ماثلاً في الذاكرة جيلاً بعد جيل.

حينما نتحدث عن الأداء النغمي، لا بُدَّ مِن ذِكر هؤلاء المشاهير الذين برعوا في الأداء، سواءً الذين بدأوا حياتهم مقرئين للقرآن أم الذين تأثروا بهم وتتلمذوا عليهم. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا لَم تَعُدْ تَظْهَر مثلُ تلك القامات المبدِعة، سواءً من المقرئين أو المطربين أو الملحّنين أو الشعراء أو الأدباء وغيرهم من المبدعين؟ كل تلك القامات الإبداعية نشأت في الثلاثينيات والأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، ربما لأن الإبداع والحرية وجهان لعملةٍ واحدةٍ. أو ربما للأمر علاقةٌ بالتراجع الحضاري والعلمي والاقتصادي وغيره، مما جعل البعض ينظر إلى كل ما هو آتٍ من الغرب على أنه النموذج الأمثل، يَشعر تجاهه بالدُونيّة ويلهث خَلْفَه محاولاً محاكاته، فيصبح إنتاجُه نشازاً.

أياً كان، فالصلة الوثيقة بين مدرستَي التلاوة والطرب كانت عنوان مرحلةٍ اتصَلَت فيها جذورُ المدرستَين بأصلٍ واحدٍ، وهي المقامات الشرقية الأصيلة. تفرّقت المدرستان بعدها واتّسعت الفجوةُ بينهما، لكنّ ظَلَّ أثرُ مدرسة التلاوة القرآنية حاضراً في كل فنٍّ أصيلٍ تَخرّجَ في المدرسة أو تتلمذ على يد خرّيجِيها. ورغم أن هذا الحبل قد انقطع إلا أنّ إرثَه لَمْ ينقطع.

اشترك في نشرتنا البريدية