ليس هذا الإعلان حالةً فريدة، بل هو واحد من عشرات الإعلانات التي تطلقها المؤسسات الطبية والخيرية، تكشف بها التصورات السائدة لآليات التعامل مع الفقر المدقع وجسر الفجوات الاقتصادية التي يتزايد اتساعها بين الأغنياء والفقراء في مصر. تتلخص الرسالة الإعلامية لتلك الإعلانات في المطالبة بالتبرع لمشروعات الصحة والسكن والتعليم والغذاء على نحوٍ يكشف هيمنة ما يسمّيه بعض الباحثين "التنمية بالتبرعات"، أي اعتماد الدولة في وظائفها التنموية على التبرعات التي يضخها المواطنون في قنوات العمل الخيري التي تسيطر عليها.
ثمة خصائص مشتركة بين هذه الإعلانات. منها صدورها عن مؤسساتٍ عملاقة لا تكتفي بالعمل الخيري بصورته التقليدية، بل تضمّ إليه مشروعاتٍ تهدف إلى التنمية المستدامة. ومنها استخدامها التأثير العاطفي والديني لحثّ القادرين على التبرع، كتصوير المرضى والفقراء في المستشفيات والمساكن المتهالكة مصحوبةً بنصوصٍ دينية أو برسائل مصوّرة لمرجعياتٍ دينية تحثهم على التبرع. ومن خصائص هذه الإعلانات تحميلها المشاهدين مسؤولية غياب البنية التحتية والخدمات الطبية والتعليمية الأساسية إن هم قعدوا عنه.
لا ينطبق هذا على إعلانات بيت الزكاة والصدقات المصري، التابع لمشيخة الأزهر. تدل أنشطة البيت ومشروعاته على أنه جزء من مشروع التنمية بالتبرعات. إلا أن إعلاناته تتجنب تصوير المحتاجين ومتلقي المساعدات مراعاةً لمشاعرهم، وتستعيض عن ذلك برسالةٍ إعلاميةٍ بسيطةٍ غير صاخبة تركز لكسب ثقة المتبرعين على خضوع البيت لإشرافٍ كاملٍ ومباشرٍ من شيخ الأزهر أحمد الطيب الموثوق عند شرائح متنوعة في المجتمع المصري. كل هذا يجعل البيت متداخلاً في مشروع التنمية بالتبرعات ومتمايزاً عنه في آن معاً.
لبيت الزكاة والصدقات موقعٌ متميزٌ في المجتمع المصري. له أثرٌ في تخفيف الضغط الاقتصادي على المواطنين، وهو أيضاً أحد أهم أدوات المؤسسة الأزهرية في تعزيز موقعها بين مؤسسات الدولة ونظامها السياسي. فالشيخ الطيب يستخدمها في إدارة علاقاته بالدولة ومؤسساتها ونظامها السياسي، لأنه يكتسب بالإشراف على نشاط بيت الزكاة والصدقات المصري قدراً من القوة والاستقلال ومزيداً من النفوذ الديني، ما يُظهره شريكاً للنظام السياسي في الحكم وليس مجرد مؤسسةٍ تابعةٍ لمؤسسات الدولة ونظامها السياسي.
أنتجت هذه التطورات تحالفاً أو صفقةً سياسيةً بين الأزهر والتيارات المدنية ومؤسسات الدولة. فتعاضدتْ مصالحُ الأطراف الثلاثة على تعزيز سلطة شيخ الأزهر والقيادة الأزهرية التقليدية، المهيمنة تاريخياً والبعيدة عن تيارات الإسلام السياسي، على مؤسسة الأزهر. وكذلك تأكيد مرجعية الأزهر الدينية وأنه مصدر التشريعات الدينية، خوفاً أن يصل الصعود السياسي بالإسلاميين إلى هيمنتهم على الأزهر وفرض تفسيراتهم ورؤاهم على التشريعات الدينية. تجلى هذا التحالف، كما يشير أحمد مرسي وناثان براون في التقرير الذي نشره مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط في نوفمبر 2013، في التعديلات القانونية التي منحت شيخ الأزهر قدراً من الاستقلال عن السلطة السياسية في تعيينه وفي عزله، إذ صارت تنتخبه هيئة كبار العلماء بدلاً من تعيينه من رئيس الجمهورية، وحصّنت منصبه من العزل. كذلك رعى الأزهرُ مشاوراتٍ ومحادثاتٍ بين مثقفين وسياسيين نتج عنها ما عُرف بوثائق الأزهر التي تتابع إصدارها بين عامي 2011 و2013.
أكسبت هذه التحولاتُ الأزهرَ قدراً أكبر من الاستقلالية في مواقفه السياسية ومزيداً من النفوذ الديني والاجتماعي. ظهرت مواقفُ الأزهر المستقلة في الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين من جهة والمؤسسة العسكرية مدعومةً ببعض القوى السياسية من جهةٍ أخرى، والتي احتدت سنة 2013 على خلفية إزاحة الجيشِ حكمَ جماعة الإخوان المسلمين في يوليو من ذلك العام. فقد اتخذ شيخُ الأزهر مواقفَ مستقلة نسبياً عن السلطة السياسية ورفض علانيةً استخدام القوة والعنف من كافة الأطراف بما فيها السلطة السياسية، ودعا إلى التسوية السلمية بين الفرقاء السياسيين. مع أن مؤسسة الأزهر كانت ضمن التحالف السياسي الذي توافق على إزاحة حكم الإخوان المسلمين باعتباره أخفّ الضررين، بحسب تصريح شيخ الأزهر في مؤتمر إعلان عزل الرئيس السابق محمد مرسي. في السنوات اللاحقة، وبالتزامن مع التضييق على الإسلاميين، عزز الأزهرُ حضوره الاجتماعي على مستوى التعليم الديني والوعظ والإرشاد بإعادة إحياء أروقة الأزهر وتفعيلها، وإنشاء لجنة المصالحات بين القبائل في الصعيد ووحدة لمّ الشمل لحلّ الخلافات الأسرية وغيرها من الأنشطة التي تعكس رغبةً أزهريةً متزايدة في تعزيز الحضور الأزهري في المجتمع المصري.
تعزز السعيُ الأزهري إلى الاستقلال بإنشاء مؤسسة بيت الزكاة والصدقات المصري. ففي سنة 2014 تقدمت مشيخة الأزهر بمقترحٍ إلى رئاسة الجمهورية لإنشاء المؤسسة بهدف المساعدة في تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين. فصدر القرار الجمهوري رقم 123 في العام نفسه بإنشاء المؤسسة، وهي خاضعة لإشرافٍ كاملٍ ومباشرٍ من شيخ الأزهر شخصياً. يتضمن هذا الإشراف سلطته ورقابته الكاملة على أدق تفاصيل عمل المؤسسة. فهو رئيس مجلس أمناء البيت والمخّول باختيار كافة أعضاء مجلس الأمناء. ويشرف الشيخ بنفسه على كلّ قرشٍ ينفقه بيت الزكاة، كما أوضح أحد مسؤولي بيت الزكاة في مقابلةٍ أجريتها خلال دراستي الميدانية عام 2019.
يتمتع بيت الزكاة والصدقات باستقلالٍ عن مؤسسات الدولة ومؤسسة الأزهر على حدٍّ سواء، لا يتبع إلا شيخ الأزهر نفسه. تنصّ المادة الرابعة من القانون المؤسّس للبيت على أن أمواله "أموال خاصة، ويكون للبيت موازنة خاصة يتمّ إعدادها طبقاً للقواعد التي تُحددها لوائحه". على أن البيت لا يخضع للرقابة المالية من وزارة التضامن الاجتماعي مثل سائر الجمعيات الأهلية، بل تتمتع أمواله بمزايا المال العام وفقاً لنصّ المادة 16 من قانون بيت الزكاة والصدقات. يمنح هذا النصّ أموال البيت قوةً قانونيةً باعتبارها أموالاً عامة يواجه المعتدي عليها عقوبات مُغلّظة. ينصّ القانون أيضاً على تأسيس جهازٍ إداري للبيت مستقلّ عن الأزهر، ولا يخضع لرقابة أيّ من مؤسسات الدولة مثل الجهاز المركزي للمحاسبات. لا يتبع موظفو البيت جهاز التنظيم والإدارة، ولا يتلقون رواتبهم من الحكومة ولا من الأزهر، وإنما من عوائد وديعة تبرّع بها أحد رجال الأعمال عند إنشاء البيت بحسب توضيح مسؤولي بيت الزكاة، في دراستي الميدانية عام 2019. من ناحيتهم، لا يخضع موظفو البيت لقانون الخدمة المدنية، وبالتالي لا يخضعون للحدّ الأقصى للأجور، ويُعيَّنون بقرارات مجلس الأمناء الذي يُعيَّن بدوره بقرارٍ من شيخ الأزهر.
يضمن هذا التنظيم القانوني هيمنة شيخ الأزهر وحده بلا مؤسسته على بيت الزكاة. إرادته نافذة في تعيين أعضاء مجلس الأمناء وفي الإشراف على الأموال التي يديرها البيت. وبما أن بيت الزكاة لا يخضع لأي رقابة خارجية، فإن مجلس أمنائه – بإشراف رئيسه شيخ الأزهر – منوطٌ به رقابة أعمال البيت باختيار أحد المكاتب المقيّدة بجدول المحاسبين والمراجعين للرقابة والمراجعة، ثم عرض تقريره على مجلس أمناء البيت وعلى شيخ الأزهر. ويوضح مسؤولون تنفيذيون في بيت الزكاة أن مكتب المحاسبة يراقب أعمال الموظفين التنفيذيين والإداريين في البيت، ويقدم تقاريره إلى مجلس الأمناء الذي يترأس هؤلاء التنفيذيين. وهو ما يجعل بيت الزكاة والصدقات إحدى مناطق نفوذ شيخ الأزهر شخصياً لأنه يقودها مباشرة، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ شيوخ الأزهر المعاصرين، ويعزز ارتباط مؤسسة بيت الزكاة بالمؤسسة الأزهرية وشيخها ومقراتها وموظفيها موقع مؤسسة الأزهر في علاقاتها بمؤسسات الدولة المصرية ونخبها الحاكمة.
بدأ التضييق على الجمعيات الخيرية في خريف 2013. أصدرت محكمة الأمور المستعجلة في 23 سبتمبر 2013 أحكاماً بحظر أنشطة جماعة الإخوان المسلمين والتحفظ على جميع ممتلكاتها. ثم تبعها قرارُ مجلس الوزراء بتشكيل لجنةِ إدارة أموال الجمعيات المحظورة التابعة لجماعة الإخوان، والتي أعلنت لاحقاً تحفظها على أموال ما يقرب من 1125 جمعية أهلية تابعة للجماعة. وفي مايو 2017، صدر قانونٌ جديد للجمعيات الأهلية غلّظ العقوبات على المخالفات الإدارية وشدد الرقابة على عمل المنظمات وتمويلها وقيّد قدرتها على جمع التبرعات. ومع إدخال بعض التعديلات على القانون سنة 2019، مثل السماح بتشكيل الجمعيات بمجرد الإخطار وإلغاء العقوبات، ظلت القيود على التصرفات المالية للجمعيات قائمة، فلم يسمح القانون للجمعيات بالتصرف في الأموال المودعة في حساباتها البنكية قبل تقديم التقارير اللازمة لوزارة التضامن الاجتماعي عن استلام هذه الأموال والأغراض التي تُنفَق فيها. وألزم القانونُ الجمعياتِ بإخطار الوزارة بتلقي المنح الخارجية وأغراض إنفاقها خلال ثلاثين يوماً من تلقيها، مع منح الوزارة ستين يوماً للرفض.
تزامن ذلك مع تراجع دور الدولة الاجتماعي، إذ طبقت الحكومة في إطار اتفاقٍ مبرم مع صندوق النقد الدولي برنامجَ إصلاح اقتصادي لضبط أوضاع المالية العامة وتقليل عجز الموازنة العامة. تضمن البرنامج إجراءات اقتصادية تقشفية كالتخفيضات المتتالية لدعم منتجات الطاقة، والتغييرات الكبيرة في أنظمة الدعم التمويني ودعم الخبز، فضلاً عن تحرير سعر صرف الجنيه المصري وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، ما زاد من الأعباء الاقتصادية على الطبقات المتوسطة والفقيرة. فعلى سبيل المثال، بعد عام واحد من تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد وخفض قيمة العملة في سنة 2016، ارتفعت نسبة الفقر من 27.8 بالمئة إلى 35 بالمئة، بحسب تحليلٍ نشره المحلل الاقتصادي وائل جمال في موقع ديوان التابع لمركز كارنيغي في أكتوبر 2018. وقد تفاقمت حدة هذه الأعباء الاقتصادية بسبب الأزمات الاقتصادية العالمية المتلاحقة الناتجة عن جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية.
فتحَ تراجعُ دورِ الدولة الاجتماعي سابقاً المجالَ للفعل الجماعي الحر في العمل الخيري، ليحمل المجتمع المدني بعض عبء هذه الأدوار الاجتماعية عن الدولة. ومع استغلال الإسلاميين هذه المساحاتِ وهيمنتهم على العمل الخيري لتعزيز حضورهم في المجتمع، كانت السلطة السياسية ترى في صعودهم أخفّ الضررين مقارنةً بضرر العجز عن تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يقدمها المجتمع المدني. إلا أن هذه الصيغة لم تعد ممكنة في ظلّ الصراع الشرس بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين منذ 2013، إذ صار فتح مجال العمل الخيري على نحوٍ يسمح بدخول الإسلاميين وهيمنتهم عليه يشكل خطراً وجودياً على النظام.
لسدّ الفجوة، استعانت الدولةُ بمنظمات العمل الخيري المضمون ولاؤها للنظام والبعيدة عن قوى المعارضة وجماعات الإسلام السياسي. بدأت الدولة بتمكين هذه المؤسسات وتهميش غيرها. فصادرت الجمعيات الخيرية التي كان الإسلاميون فيها ووضعتها تحت إشراف أشخاصٍ مقربّين من الدولة، مثل إسنادها إدارة الجمعية الطبية الإسلامية إلى الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء. وبالتوازي مع ذلك دعمت الدولةُ الجمعياتِ المقرّبة من الدولة أو التي لاترتبط بأيّ تياراتٍ سياسية مثل بنك الطعام وجمعية مصر الخير، إذ تُنتشر الحملات الإعلانية لهذه المؤسسات وتُعقد اتفاقات تعاون بينها وبين جهات حكومية متعددة، مثل اتفاقية تعاون جمعية مصر الخير والمعهد القومي للحكومة في 2023 واتفاقية أخرى مع وزارة التنمية المحلية في سنة 2024. وتُضم جميع هذه المؤسسات تحت لواء التحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي. أنشأت الدولةُ كذلك هيئات جديدة تعمل في المجال الخيري لتكون أكثر ارتباطاً بمؤسسات الدولة ونخبها الحاكمة مثل بيت الزكاة والصدقات، وصندوق "تحيا مصر" الذي تأسس سنة 2014 لجمع التبرعات من المصريين وتوجيهها بإشراف رئيس الجمهورية للمشروعات التنموية.
تسعى الدولة لتعزيز ارتباط كافة مؤسسات العمل الأهلي بها لبناء تحالفاتٍ وتنسيقٍ عالي المستوى بين كافة هذه المؤسسات تحت إشرافٍ حكومي. ففي مارس 2022 أُطلق "التحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي"، الذي يضمّ طيفاً واسعاً من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، بهدف التنسيق بينها وتحقيق كفاءة توزيع الخدمات على المستحقين تحت إشراف الدولة. وبيت الزكاة والصدقات من أهم المؤسسات المنضوية تحت لواء هذا التحالف. يستهدف هذا التحالف إحكام سيطرة الدولة على كافة منافذ العمل الخيري وإظهار الدولةِ الراعيَ الأوحدَ للعمل الخيري وتوزيع أموال التبرعات، فيبدو الأمر وكأن الخدماتِ التي تقدمها الجمعيات والمؤسسات الخيرية جزءٌ من إنفاق الدولة على الرفاه الاجتماعي لمواطنيها. هذا فضلاً عن تحكم الدولة في جزءٍ كبيرٍ من موارد هذه المنظمات وتوجيهها لخدمة مشروعاتها القومية وخططها التنموية.
ينفي مسؤولو البيت قيامه بوظائف الدولة، ويؤكدون اقتصار دوره على إعانة المواطنين غير القادرين على تكاليف الحياة. في مشروعات الصرف الصحي التي دعمها البيت مثلاً، بنتْ الدولةُ الشبكاتِ العامة للصرف، بينما تحمّل المواطنون ربط المنازل بهذه الشبكات، وقد تحمّلها البيت عن غير القادرين. وكذلك الحال في الرعاية الصحية، إذ لا يقدم البيتُ بديلاً للتأمين الصحي الذي توفره الدولة ولا يساهم في دفع تكلفته، لكنه يساهم في علاج المواطنين الذين لا يغطيهم التأمين الصحي في منافذ أنشأها في بعض المستشفيات لتلقى الطلبات ثم إجراء البحث الاجتماعي اللازم.
على أن التمحيص يكشف تنوع نفقات البيت بين إعانات غير القادرين ودعم المؤسسات العامة والمشروعات القومية للدولة. في حديثٍ معه، يبيّن مدير المكتب الفني للبيت أن الموارد تنقسم إلى قسمين: الزكاة والصدقات. أما أموال الزكاة فتُصرف لمستحقيها من الأفراد مباشرةً وفق الرؤية الفقهية السائدة، ولا تُعد المشروعات التنموية وفق هذه الرؤية من مصارفها. وأما الصدقات فيمكن صرفها لسائر الأغراض الخيرية والتنموية، ويوجه البيتُ بعضَها لتعويض نقص الإنفاق العام على القطاعات الخدمية بسبب السياسات الاقتصادية الحكومية.
يمنح التمييزُ بين مصارف الزكاة والصدقات البيتَ مرونة في توزيع موارده. إذ يستخدم بعضَها في دعم المشروعات التنموية والمؤسسات الخدمية وفق اتفاقات التعاون مع مؤسسات الدولة المختلفة، وبعضها للمساعدات والإعانات المالية المباشرة للأفراد المحتاجين. على أن هذا التمييز لا يسمح بالفصل الكامل بين المصرفين، لأن مبادرات الدولة واتفاقات التعاون تتضمن تقديم دعم وإعانات مالية لأفرادٍ فقراء مثل المستفيدين من "مبادرة حياة كريمة" التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي سنة 2019 لدعم القرى والعشوائيات والمجتمعات الفقيرة في سائر المحافظات، وهذه المصارف تدخل ضمن مصارف الزكاة.
يعكس العرض التقديمي لإنجازات البيت بين سنتي 2014 و2018 هذا التنوع في أوجه الإنفاق. فقد قدّم البيت في تلك الفترة إعاناتٍ ماليةٍ فرديةٍ ودعَمَ المصروفات الطبية لغير المشمولين بالتأمين الصحي، وساهم في سداد ديون الغارمين ودفْعِ متأخرات المرافق والإيجارات التي عجز المحتاجون عن دفعها، وفي ترميم منازل الفقراء وتطوير العشوائيات وإيصال المياه والصرف الصحي إلى منازل غير القادرين، وفي مساعدة الأيتام وإغاثة المنكوبين ورعاية طلبة العلم. وساهم البيتُ أيضاً في علاج أزمة قوائم الانتظار لعمليات جراحة الأطفال في مستشفى "أبو الريش"، ودعم معهد القلب بتحمل تكاليف عمليات القلب للأطفال على قوائم الانتظار. إذ دعم استمرار العمل في هذه المستشفيات في أيام الإجازات والعطل الأسبوعية بدفع رواتب الأطباء وتوفير المستلزمات الطبية اللازمة للعمل في هذه الأيام. ويتزايد إجمالي إنفاق البيت سنوياً على هذه المشروعات. ففي سنة 2014 أنفق البيت قرابة تسعة عشر مليون جنيه زادت في العام التالي إلى نحو خمسة وثلاثين مليوناً، ثم 285 مليوناً في العام الذي يليه وما يزيد عن 469 مليون جنيه في العام التالي، علماً أن الدولار الأمريكي كان يعادل نحو سبعة جنيهات مصرية سنة 2014 ارتفعت إلى نحو ستة عشر جنيهاً بنهاية سنة 2016.
تكشف هذه الأرقام أولويات البيت. فتحتل نفقات تيسير الزواج المرتبة الأولى، تليها الإعانات المالية للفقراء، ثم الإغاثات العاجلة للمنكوبين. وتأتي إعانات متأخرات الإيجارات والمرافق في المرتبة الرابعة، تليها ديون الغارمين، ثم توزيع الطرود الغذائية، ثم مصروفات العلاج والعمليات الجراحية. دعم طلاب العلم يأتي في المرتبة الثامنة لأولويات الصرف، وبعده تطوير العشوائيات، ثم المساعدات العينية للأيتام، فترميم المنازل، وأخيراً تكاليف توصيل المياه والصرف الصحي إلى منازل غير القادرين.
تختلف هذه الأولويات عن أولويات مبادرات الدولة التي تطلقها مؤسساتها التنموية والخيرية، إذ تأتي النفقات الموافقة لتوجهات السياسة العامة في مراتب أدنى من حيث حجم الإنفاق. بينما تحتل المساعدات الخاصة للأفراد المستحقين للزكاة، مثل الإعانات المالية وتيسير الزواج والإغاثات العاجلة للمنكوبين وغيرها، المراتب الأولى. وهذا يُظهر قدراً من استقلال أموال الزكاة في البيت عن مبادرات الحكومة وسياساتها العامة، مقارنةً بأموال الصدقات التي يكون البيت أقدر على توجيهها لدعم المشروعات الحكومية دون التزام بمصارف بعينها.
على أن الاختلاف ليس كبيراً، فليست مصارف أموال الزكاة – حتى تلك الموجّهة إلى الأفراد مباشرة – منبتّة الصلة عن سياسات الدولة وتوجهاتها. على سبيل المثال، تشمل الإعاناتُ الماليةُ التي يقدّمها البيت مضاعفةَ مرتباتِ المشمولين في برنامج "تكافل وكرامة" لحماية الطبقات الأكثر تضرراً من سياسات الدولة التقشفية. ويأتي دفع ديون الغارمين، وهو أحد مصارف الزكاة في سياق مبادرة رئيس الجمهورية "سجون بلا غارمين". وساهم البيت أيضاً في بعض الأعمال التي هي من صميم أعمال الدولة وموازنتها العامة، مثل دعم وحدة أمراض الدم الوراثية في "مستشفى عين شمس" لتشغيل مصنع مخبوزات الأطفال من مرضى سوء التمثيل الغذائي. وكذلك دعم تطوير الرعاية المركزة في مستشفى الحسين الجامعي في القاهرة بمبلغ خمسين مليون جنيه مصري بالتعاون مع جهاز الخدمة الوطنية، وبناء وحدة صحية وتجهيزها في قرية بلقطر في محافظة البحيرة بتكلفة ستة ملايين جنيه مصري.
وتدخل هذه الأعمال ضمن الأعباء التي يُفترض أن تتحملها الموازنة العامة للدولة، خاصة أن الوحدة الصحية مثلاً – والتي تحمّل بيتُ الزكاة تكاليفَ بنائها – ستؤول إدارتها إلى وزارة الصحة وجهازها الحكومي. فلن يشترك المجتمعُ المدني أو بيتُ الزكاة في الإشراف على أعمالها وإدارتها كما هو حال المراكز الصحية التي تُنشئها منظمات المجتمع المدني الأخرى مثل "الجمعية الشرعية" أو "جميعة مرسال". فالبيت يقوم ببعض الوظائف التي تنسحب منها الدولة بتقليل الإنفاق على القطاعات الخدمية في الموازنة العامة.
ومن أهم مظاهر الشراكة بين الدولة وبيت الزكاة في تقديم الخدمات العامة للمواطنين مشاركةُ البيت في مشروعات رعاية القرى الفقيرة. فيلتزم البيت باتباع مخططات وزارة التخطيط التي تحدد القرى الأفقر في كل المحافظات، ويتمثل دوره في "استكمال مطالب القرية التي لم يجرِ إدراجها في مخططات الدولة". فيتعاون مع الوحدات المحلية في خدماتٍ مثل ترميم المدارس، ويطمحُ مجلس الأمناء في البيت أن يتحمل كذلك تكاليف رصف الشوارع وتركيب أعمدة الإنارة، لولا أن موارد البيت لا تزال غير كافية، وذلك حسب تصريح الأمين العام السابق لبيت الزكاة والصدقات صفوت النحاس.
ضمن مبادرة "حياة كريمة"، التي أطلقها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في يناير 2019 لتطوير القرى المصرية الفقيرة، تحمّل البيتُ نفقاتِ تأثيثِ 966 وحدةً سكنيةً وتجهيزها في مشروع إسكان اجتماعي متكامل في مشروع روضة السيدة. وكذلك نفقات مشروع نقل سكان المناطق العشوائية غير الآمنة بتكلفة أربعين مليون جنيه، ومشروعات نقل سكان العشوائيات إلى أحياءٍ سكنية جديدة مثل حي الأسمرات ومنطقة "أهالينا"، فشارك البيت في تأثيث 1096 وحدةٍ سكنيةٍ وتجهيزها في مشروع منطقة أهالينا بحي السلام أول بمبلغ ثلاثين مليون جنيه. وفي حي الأسمرات بالمقطم تعاون البيت سنة 2019 مع صندوق تحيا مصر في تجهيز أربعة آلاف وخمسمئة شقةٍ سكنية وتأثيثها، فضلاً عن المشاركة مع وزارة الإسكان في بناء خمسٍ وعشرين وحدة سكنية لأهالي قرية الروضة في سيناء بدعمٍ في حدود مليوني جنيه. تؤكدُ الكثيرُ من هذه الأعمال اعتمادَ الدولة على موارد بيت الزكاة في مشروعاتها التنموية.
يستفيد وُعاظ الأزهر من نشاط بيت الزكاة والصدقات في مهماتهم الدعوية واتصالهم بالجماهير، فوفقاً لحديث مدير مكتب بيت الزكاة الفني مع الفِراتْس: "يوجد تناغمٌ كبير بين وعاظ الأزهر والموظفين في بيت الزكاة". والوعاظ موظفون في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ودورهم وعظ الناس في المساجد والمؤسسات والمدارس في جميع محافظات الجمهورية. يشارك الوعاظُ في بعض القوافل الإغاثية التي ينظمها بيت الزكاة، كما جرى في أحداث سيول رأس غارب بمحافظة البحر الأحمر في أكتوبر 2016. فحسب رواية مديرة المكتب الفني لبيت الزكاة، شهدت المنطقة احتقاناً وغضباً كبيراً من الأهالي على منظمات المجتمع المدني التي جاءت ساعاتٍ قليلة في الليل لالتقاط بعض الصور، ولم تقدم مساعدات تُذكر للأهالي ثم انصرفت ولم تعد مجدداً. وحينما أرسل الأزهر قافلته المكونة من وعاظ الأزهر وممثلي بيت الزكاة والصدقات ولجنة الحسابات الخاصة، بدأ وعاظ الأزهر أولاً بتهدئة الاحتقان والتمهيد لدخول ممثلي بيت الزكاة، الذين وزعوا على الأهالي المساعدات المالية الفورية لتدبير أمورهم.
يساهم كل ذلك في نشر المنهج الأزهري ونمط تديّنه وتعزيز مرجعيته الدينية على حساب الجماعات الإسلامية الأخرى، التي كانت تستثمر الأعمال الخيرية للغرض ذاته، وهو نشر دعوتها وأفكارها وأنماط تدينها.