قرَّرَت إسرائيلُ سنةَ 2005 الانسحابَ من قطاعِ غزة انسحاباً أحادياً، عُرف إسرائيلياً بخطّةِ فكِّ الارتباط، من غير اتفاقٍ سياسيٍّ معَ السلطة الفلسطينية. غَيّرَت الخطّةُ الترتيباتِ الأمنيةَ بقطاع غزّة، ممَّا استدعى إعادةَ النظر في المَلاحِق الأَمنيّة لمعاهدةِ السلام المصرية الإسرائيلية. وقَّع الطرفان المصريُّ والإسرائيليُّ اتفاقيةً جديدةً نصَّت مادّتُها الأولى على أنها ملحقٌ لاتفاقيةِ السلام المصرية الإسرائيلية، وتضمنتْ منعَ الوجودِ الإسرائيليِّ العسكريِّ على طول الشريط الحدوديِّ بينَ مصر وقطاع غزة، بينما سمحَت بزيادةِ القوَّاتِ المصرية على الشريطِ الحدودي إلى سبعمئةٍ وخمسينَ جنديّاً بتسليحٍ خفيف، بهدفِ مكافحة التسلل والإرهاب. استناداً إلى تلك الترتيبات، صارَ معبرُ رفح معبراً مصريّاً فلسطينيّاً لا صِلةَ لإسرائيل به ولا حقَّ لها في إدارته والإشراف عليه.
صبيحةَ السابع من مايو هذا العام، تقدَّمت القواتُ الإسرائيلية للسيطرة على محور فيلادلفيا ومعبرِ رفح الحدودي – الذي أَحرَقَت صالاتِه لاحقاً في 17 يونيو – بعد قرابة عشرين عاماً من إخلائه، في خرقٍ واضحٍ لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ولاتفاقية فيلادلفيا 2005 الخاصة بالترتيبات الأمنية لذلك الشريط الحدودي. كان ذلك بعمليةٍ عسكريةٍ شنّتها إسرائيل على رفح ضمنَ حربِها المستمرةِ على غزة منذ السابعِ من أكتوبرَ الماضي، والتي دَمَّرت معظمَ قطاعِ غزة، وقتلت أكثرَ مِن خمسةٍ وثلاثينَ ألفَ فلسطينيٍّ، معظمُهم من النساء والأطفال، كما تنصُّ التقديرات الفلسطينية.
قال المسؤولون الإسرائيليون حينَها إنَّ الوجودَ على الحدودِ مؤقتٌ ومرتبطٌ بسيرِ العملياتِ العسكرية، لكنَّ القوات المحتلةَ حرصت على جعله مشهداً لا يُنسى برفع الأعلام ونشرِ مقاطع الفيديو لوجودها في المحور والمعبر. الاستعراض الإسرائيلي لم يقتصر على سلوك قواتها العسكرية وإنما امتدّ إلى رئيس وزرائها الذي قال مُفاخِراً إنهم سيطروا على معبر رفح في ساعات. وهو تصريحٌ يثير السخريةَ أكثر من الإعجاب؛ إذ تصيرُ السيطرةُ على معبرٍ حدوديٍّ صحراويٍّ إنجازاً عسكريّاً يُحسَب بالساعات. لم يكن الأمرُ مفاجئاً، فقد أعلنَت إسرائيل على لسان رئيس وزرائها وعددٍ من المسؤولين عزمَها السيطرةَ على المحور منذ ديسمبر العام الماضي بحجّة وجود أنفاقٍ تصل غزةَ بسيناء. حرّضَ الإعلانُ الإسرائيلي المصريين على الرّد؛ إذ قال رئيسُ الهيئةِ العامَّةِ للاستعلامات ضياء رشوان: "إنَّ مصرَ لن تقف مكتوفةَ الأيدي تجاه أي تهديدٍ لأمنها".
لم يكن الحديثُ عن محور فيلادلفيا وليدَ الحربِ الحالية في السابع من أكتوبر 2023. ففي حروبٍ أخرى شنَّتها إسرائيلُ على قطاع غزة، منها حربُ سنة 2009، أعلنت إسرائيلُ أنَّ جيشَها يبحثُ خيارَ إعادة الانتشار بمَمَرِّ فيلادلفيا لمُجابَهة عمليات التهريب بالأنفاق والحدود، وهو ما لم يحدث. لكنَّ الممرَّ قُصِف بعنفٍ بقنابلَ خارقةٍ للتحصينات تنفجر على مسافةٍ أسفل الأرض. وأَسقطَ الاحتلالُ منشوراتٍ على السكّان المقيمين بمحاذاة الممرِّ في رفح الفلسطينية وطالَبَهم بالمغادرة. وقُصِفَت بعضُ البيوت. ثم عاد الحديث عن ممرِّ فيلادلفيا في حرب سنة 2012 على غزة؛ إذ وصفَته الصحيفةُ الإسرائيليةُ جيروزاليم بوست أنه ممرُّ الرعبِ لإسرائيل، الذي يمكّن حركةَ حماس من الحصولِ على السلاح. وتكرَّر الحديث عنه أيضاً في حرب إسرائيل على غزة 2021.
أعلن الجيشُ الإسرائيلي السيطرةَ "العملياتية" على الشريط الحدودي كاملاً نهاية شهر مايو الماضي. وقال منسِّقُ مجلس الأمن القومي الأمريكي في البيت الأبيض، جون كيربي: "إن الإعلان متَّسقٌ مع العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح". أراد كيربي أن يحصرَ الخطوةَ في بُعدِها العسكري، لكنَّها لم تكن كذلك لمصر، لا سيّما بعد إعلان مقتل جنديٍّ من قواتِ حرس الحدود المصرية بمعبر رفح في 27 مايو. وهي الحادثة التي أعلن الجيش المصري أنها محلُّ تحقيقٍ، من الأرجح أنه لن يتمّ، وإذا تمّ فإن نتائجَه لن تُعلَن، شأنُه شأنُ حوادثَ سابقة.
لم تتخذْ مصرُ أيَّ خطوةٍ دبلوماسيَّةٍ أو قانونيةٍ حيالَ الانتهاك الإسرائيلي، بما في ذلك اللجوء إلى مجلس الأمن للمطالبة بالتزام إسرائيل بمعاهدة السلام المسجلة في الأمم المتحدة. بل اكتفت الحكومةُ المصريةُ بإغلاق المعبرِ من الجانب المصري حتى انسحاب إسرائيل. تدخَّل الرئيسُ الأمريكيُّ محاولاً إقناعَ نظيرِه المصريّ بفتح المعبر لإدخال المساعدات، فوافق الرئيسُ المصريُّ على إدخالها، ولكن مِن معبر كرم أبو سالم. جاء الأمريكي تيري وولف المدير الأول لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض إلى القاهرة ليجمعَ المصري والإسرائيلي على طاولةٍ ثلاثيةٍ للتفاهم في مطلع يونيو الجاري، لكن الاجتماع لم يُفْضِ إلى شيءٍ بعد تمسّك المصريين بموقفِهم.
تكمُنُ خطورةُ الحادث في إشارته إلى التحوّل والتبدّل المستمرَّيْن لموقع مصر في المعضلةِ الأمنيةِ بين أضلاع المثلث المصري الفلسطيني الإسرائيلي. فلم يعد لأيٍ من أطراف هذه المعضلة استعدادٌ للتخلّي عن موقعه فيها، لأنَّ كلَّ طرفٍ، بما في ذلك مصر، يُدرِك أن الضريبة قد تكونُ دمويةً تصلُ إلى التهديد الوجودي، وما حادثةُ مقتلِ الجندي المصري عبد الله رمضان إلا إنذارٌ بذلك.
منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزةَ سنةَ 2005 صارتْ مصرُ لاعباً رئيساً في المسألة الأمنية بين قطاع غزة وإسرائيل. ومثلما مرَّ الأفراد والبضائع من الشريط الحدودي بين غزة وسيناء، مرَّ النفوذُ المصريُّ من الشريط نفسه. تأتي السيطرة الإسرائيلية على هذا الشريط الحدودي اليوم لتُقيمَ جداراً يوقِفُ النفوذَ المصري، ويهدِّدُ باشتباكاتٍ مستمرَّةٍ على الحدود المصرية مع قطاع غزة بوجود القوات الإسرائيلية الاستفزازيِّ على الجانب الآخَر. فصولٌ طويلةٌ تنامت بها تلك المعضلة، وصراعاتٌ وتناقضاتٌ وجدلٌ في الأروقة الدبلوماسية تارةً، وفي ساحات المعارك تارةً أُخرى، مما شكّل الرؤيةَ الاستراتيجية لمصر في علاقتها مع قطاع غزة وحركة حماس.
اتسمَت تلك العلاقةُ دوماً بتناقضٍ مستتر، إذ بدتْ مصرُ لغزةَ أُختاً كُبرى تَحنو عليها وتحتضنُها، وفي الوقت ذاته جاراً مخيفاً يمكنه التهامُها. في مصر ردَّدَ ساسةٌ وباحثون مصريون وفلسطينيون، شعارَ: غزة خط الدفاع الأول عن مصر، إشارةً مِن وراء حجابٍ إلى أنها مصدرُ التهديد وبوابتُه معاً. وهي جزءٌ لا ينفصل عن مصر لكنها لا تتّصل بها في الوقت نفسه. ثنائية الأختِ الكبرى والجار اللدود حَكَمَت تاريخاً من التناوب بين الاتحاد والانفصال، لكنّ أفجعَ حلقاتِ الانفصال ما حدثَ مع توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد مطلعَ سنة 1979.
ارتبطت غزةُ تاريخياً بالساحل السوري في تجارتها، بينما فصلَتْها صحراءُ سيناء عن المراكز الحضرية المصرية. لذلك كانت غزة لا تفضِّل السيطرةَ المصرية على أملِ أن تحافظ على تجارتها مع الشام، بيْدَ أنّ مصر ظلّت جاراً قوياً لا يمكن لغزة تجاهلُه. الاقترابُ الجغرافيُّ تحوَّلَ بعد حرب 1948 واتفاقية رودس التي تلتها سنة 1949 إلى اقترابٍ اجتماعيٍ وسياسي، فقد وضعت الاتفاقيةُ قطاعَ غزة تحت الإدارة المصرية. وعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ أصبحَت غزةُ جزءاً من مصر، إداريّاً على الأقلّ، يَفِدُ إليها الموظَّفون المصريون وينتقل منها الطلاب الفلسطينيون للدراسة في الجامعات المصرية. تضافرَ الخَيْطان في نسيجٍ واحد واختلطَ الدَمان عندما قرّرت الحكومة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 تشكيلَ مجموعاتٍ فدائيةٍ في غزة بقيادة الضابط المصري مصطفى حافظ. لكنّ العلاقة ظلّت ملتبسةً، فسرعان ما تراجعت الحكومة المصرية عن قرارها بعد مقتل حافظ، وأصبحت مصرُ تمنع الفلسطينيين من العمل المسلَّح ضدَّ إسرائيل انطلاقاً من أراضيها. وانتهى الأمرُ أخيراً إلى تضحية مصر نهائياً بقطاع غزة ضمن ترتيبات اتفاقية السلام مع إسرائيل، إذ وقّعَت مصر الاتفاقيةَ على استمرار احتلال القطاع الذي كان بإدارةٍ المصرية.
رُسِّمتْ الحدودُ المصرية الشرقية بين مصر وأراضي الدولة العثمانية بما يشمل الأراضي الفلسطينية آنذاك، بعد ما عُرِف بحادثة العقبة سنة 1906 عندما سيطرت القوات العثمانية على طابا المصرية، وكاد الحادثُ يصبح صراعاً، ممّا أدّى إلى ترسيم الحدود. قسّمت الحدودُ المرسومةُ بلدةَ رفح بين شقَّين؛ مصري وفلسطيني، لكن تلك الحدود بقيَت رسماً قانونياً من غير تجسيدٍ يحول دونَ التئام البلدة. حتى بعد الاحتلال الإسرائيلي لغزةَ وسيناءَ سنة 1967 ظلّت رفحُ متّصلةَ الشقّين حتى الانسحاب الإسرائيلي من سيناء بعد اتفاقية السلام مع مصر سنة 1979. يومئذٍ انقطع الاتصال بين شقَّي المدينة وبين غزّة وسيناء أوّلَ مرّةٍ ولم يكن غريباً أن يُكشف عن النفق الأول بين شقَّي المدينة المقسَّمة بعد أربع سنوات فقط من هذه القسمة سنة 1983. غضّت مصر وإسرائيل الطَرْفَ عن الأنفاق، مدرِكين أن ما يحدث ليس إلا صنيعة ترتيباتهما القاسية، ولم يكن قطاع غزة آنذاك يمثل الصداع الأمني للاحتلال المشغول حينَها بجبهته الشمالية مع لبنان.
تخلّت مصر في اتفاقية السلام عن قطاع غزة من غير مبررٍ سياسيٍّ أو قانونيٍّ. فهي مسؤولة عنه بحكم الإدارة منذ 1949 ثم ضمّته رسمياً سنة 1959 مع إعلان الجمهورية العربية المتحدة. ولم تدرِك مصر وإسرائيل أن غزةَ ضحيةُ الاحتلال الإسرائيلي والاستهتار المصري، ستظلُّ شبحاً يخيِّمُ على مستقبل الطرفين. كانت كامب ديفيد استهلالاً في المأساةِ التي نعيشها إلى اليوم.
لا وصف لعلاقة غزة بمصر أفضل من أنها مضطربةٌ ومتناقضةٌ ومتذبذبة. كانت الإدارة المصرية حمايةً لغزة من العصابات الصهيونية والحكم العسكري بعد 1948، بينما قمعت مصر أيضاً قدرةَ غزة على المقاومة منذ 1956. قطعت مصرُ أواصرَ رفح سنة 1979 عندما قسَّمت البلدة شقَّيْن؛ فلسطيني ومصري، بيدَ أنها كانت الملاذَ الأخيرَ للغزّاويّ في الأنفاقِ الواصلة بين القطاع وسيناء. فيها وجد المقاومون الفلسطينيون طريقاً للفرار من الملاحقة الإسرائيلية، وبها حافظت رفح على شريان الحياة الوحيد المتاح لها أحياناً في ظلِّ الوطأة الثقيلة للاحتلال والحصار الإسرائيليَيْن.
في السنوات الثلاث التالية تعثّرَ مسارُ المفاوَضات تعثُّراً واضحاً مع فشل مفاوضات طابا عام 2001 ونكوص الولايات المتحدة عن دعمها إقامةَ دولة فلسطينية وفقَ وعدِ الرئيس جورج بوش الابن الذي قال إنَّ الولايات المتحدة ستعلن الاعتراف بدولة فلسطينية في 2005. تصاعَدَ القمعُ العسكري الإسرائيلي للفلسطينيين في أراضي سنة 1967 مما قوّض اتفاقيات أوسلو.
كان قطاع غزة قد تحوّل إلى معقل للمقاومة الفلسطينية المنظمة وعلى رأسها كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، التي انتهت قيادتها إلى محمد الضيف أحد أبناء قطاع غزة. قررت إسرائيل سنة 2005 إنهاءَ الألم الذي تُسبِّبه غزة بقطعِ هذا الإصبع بينما أطلقَت عليه إسرائيل خطّةَ فكِّ الارتباط التي طرحَها رئيسُ الوزراء السابق أرييل شارون. فكَّكَ أحدُ الآباء الروحيين للاستيطان المستوطناتِ الإسرائيليةَ في غزة، وخرجت إسرائيلُ من غزة في عهدِ واحدٍ مِن أشدِّ سياسيِّيها حُلُماً بالتوسّع الإسرائيلي في الأراضي العربية. تغيّرت آليةُ الاحتلال فجأةً من الاستيطان والسيطرة على الأرض إلى حصار قطاع غزة الذي بقي يتحكَّمُ في حدوده بل وفي دخول الأموال والغذاء والكهرباء إليه.
وجدت مصرُ نفسَها فجأة أمام ترتيبٍ أمنيٍّ جديدٍ في قطاع غزة، وأصبح عليها ضبط الشريط الحدودي الممتدّ نحو أربعة عشر كيلومترا بينها وبين القطاع، ممَّا استدعى عقد اتفاقٍ جديدٍ مع إسرائيل في 2005. لم تفضِّل مصرُ على الأرجح أن تكون بهذه الحالة الأمنية الصعبة بوصفِها المنفذَ الوحيد لقطاع غزة بعد خروج إسرائيل منه، ممَّا عثّر حركةَ السفر لسكَّان القطاع في أراضي 1948. صارت مصرُ مسؤولةً عملياً عن الأوضاع الأمنية في غزة، ولم يكن التنسيق مع السلطة الفلسطينية في إدارة هذا الملف يمثّل مشكلةً كبيرةً في وجود سلطةٍ فلسطينيةٍ بشرعيةٍ دوليةٍ في القطاع.
لكن سرعان ما تقوَّضت تلك الترتيباتُ بفوز حركة حماس الكبير بالانتخابات الفلسطينية في العام التالي. أصبحت حماس، التي ترفض الولاياتُ المتحدةُ الاعترافَ بها، الحزبَ الموكَل إليه ــ بانتخاباتٍ شرعيةٍ ــ إدارةُ السلطة الفلسطينية المعترَف بها دولياً. قاد ذلك إلى الانقسام الفلسطيني المعروف بين أجهزة السلطة التي تسيطر عليها حركة فتح وعلى رأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، وبين حماس التي حاولت أن تبني أجهزتها لتُزاولَ السلطةَ عملياً. وتطور الانقسام إلى اقتتالٍ في قطاع غزة حسمَته حماس عسكرياً سنة 2007، بينما عدَّتهُ السلطة الفلسطينية في رام الله انقلاباً عسكرياً.
وجدت مصر نفسَها في حيرةٍ استراتيجيةٍ عميقة، لا بسبب العداء الفكري كما يبدو الأمر، فكم من دولةٍ عربيةٍ قمعَت الإخوانَ المسلمين على أرضها وتحالفَت معهم في بلدٍ مجاور. من ذلك عراقُ صدام حسين حليفُ الإخوان السوريين، والمملكة العربية السعودية حليفةُ الإخوان اليمنيين. إنما لأن حماس حركة مقاومة مسلحة ضدَّ إسرائيل، بات على مصر في تلك اللحظة أن تتولى التنسيق الأمني مع طرفَيْن عدويّن أمنياً لبعضهما.
تكونت علاقةٌ جدليةٌ معقدةٌ في سنواتٍ استأنفَت الجدليةَ التاريخيةَ بين مصر وغزة. فالسلطات المصرية لا تسرّ مودّةً كبيرةً لحماس، لكنها تريد الحفاظ على علاقةٍ أمنيةٍ وثيقةٍ معها. كانت الحاجة المتبادلة بين الطرفين أقوى من التوتر السياسي والأيديولوجي القائم بينهما منذ 2013. مع القطيعة الصارمة في 2015 و2016 وإنشاء المنطقة العازلة على الجانب المصري من الحدود مع قطاع غزة، وتدمير ما يربو على ألفي نفقٍ بين الشقَّيْن المصري والفلسطيني من رفح، لم تستمر القطيعة ولم يكن تدمير الأنفاق كاملاً على الأرجح، بل بقيت القليل من الأنفاق الخفية والعميقة قائمة.
أدركت مصر في 2017 أن علاقتها بـ"حماس" من أجل أمن غزّة وسيناء معاً. صارت حماس منذ 2009 طرفاً محوريّاً في المشهد الأمني المثلث الذي يجمع مصر وفلسطين وإسرائيل. كانت حماس حركة مقاومة، لكنها أصبحت السلطة الوحيدة التي أخضعت قطاع غزة وأنهت السلطة العشائرية وفوضى السلاح التي سادت في غزة إبان الاحتلال الإسرائيلي سنةَ 1967. ثم قويَت شوكةُ حماس بعد الانتفاضة الثانية بداية الألفية، فقد سادت موجةٌ من الفوضى والانفلات الأمني فشلت السلطةُ في السيطرة عليها كما فشلَت في السيطرة على العشائر منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في غزة سنة 1994. كانت إسرائيل نفسُها تدرك قدراتِ حماس الأمنية في غزة، وتبرّر قبولَها بالأمر الواقع في غزة أحياناً بنجاح حماس الأمني.
عادت العلاقاتُ المصريةُ الحمساوية سنةَ 2017 في زياراتٍ متبادلةٍ واحتفاءٍ إعلاميٍّ محدودٍ من الجانبين. لم تَعُد العلاقاتُ سياسيةً فحسب، إنما أخذت تنسج شبكةً تجاريةً أمنية تستفيد من تلك العلاقة، وازدادت حركةُ مرور البضائع والأفراد من معبر رفح.
تجسَّدت العلاقةُ المزدوجةُ بين مصر وغزة في افتتاح ممرٍّ حدوديٍّ جديدٍ بينهما في مايو 2018، لم يحظَ افتتاحُه بأي إعلانٍ رسمي. تحوّلَت بوابةُ صلاح الدين، أربعة كيلومترات شمالَ غرب معبر رفح، إلى ممرٍّ تجاري للبضائع، لتترك معبرَ رفح غير المؤهل لتمرير البضائع مخصّصاً لحركة الأفراد فقط بحسب الباحث بمعهد واشنطن نيري زيلبر. يقف الجيش على الجانب المصري، أما على الجانب الفلسطيني فقد كانت كتائب عز الدين القسام نفسها وفقاً لأحد التقارير، وليس داخلية غزة. من هذا المعبر كان يمرُّ كلُّ ما لا يمكنه المرور من كرم أبو سالم، وهو معبرٌ تجاري صغير يخضع تسييرُه للتنسيق المشترَك بين مصر وإسرائيل: زيت الديزل، والأسمنت، والسلع المعدنية.
لم تكن إسرائيل غائبةً عن هذا بالتأكيد، لكن البوابة الحدودية كانت على الأرجح مساراً لتخفيف الضغط عن القطاع المحاصَر مخافةَ انفجارٍ جديدٍ على غِرار حرب 2014 التي تمسَّكت فيها حماس بمطلب فكِّ الحصار من غير أن تتمكَّن من فرضه على إسرائيل. قصدت مَسيراتُ العودةِ السياجَ الفاصلَ بين القطاع والمستوطنات الإسرائيلية في مارس 2018 مطالِبةً برفعِ الحصار عن قطاع غزة، لتنذر بانفجار السكان في القطاع ما لم يُخفَّف الحصار. كان الممرُّ غيرُ الرسميّ حلًّا معقولاً لكل الأطراف، لكنه ربما فتح ثغرةً في اللعبة الأمنية، هذه المرّة لصالح حماس.
شهدت المعركةُ المحدودة في 2021 إطلاقَ حماس صواريخَ طويلة المدى على القدس وتل أبيب ردَّاً على الاعتداءات الإسرائيلية في شهر رمضان على المسجد الأقصى. أدّت هذه المعركة إلى عودة المخابرات المصرية إلى دورِها المعتاد، وهو الوساطة بين إسرائيل وحماس. نهاية مايو 2021 زارَ اللواء أحمد عبد الخالق، المسؤول عن إدارة الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية، قطاعَ غزَّةَ ليحضر احتفالاً أعدَّته حماس. تعمَّد الطرفان أن يُظهِرا فيضاً من المودّة لم تكن مصطنَعةً بالكامل، فقد أدركا معاً أنهما شريكان لدودان في لعبةٍ أمنيةٍ لا يمكن لأحدهما مواصلتُها من غير الآخَر.
تريد مصر بقاءَ حماس لتظلّ إسرائيلُ ومِن خلفِها الولايات المتحدة بحاجةٍ إليها، ولتظل ترتيباتُ السلطة في بلاد النيل ذاتَ صلةٍ بالثوابت الأمنية العالمية، مما يجعل من وجود نظامٍ سياسي مركزي قادر على فرض قبضته التزاماً أمريكياً يساوي التزام الأمريكي بأمن إسرائيل. تريد مصر حماس لا منتصرة ولا مهزومة، بل مزعجة لا قادرة، وضعيفة لا عاجزة. وبقدر ما يمد وجودُ حماس الدولةَ المصرية بورقة أمنية رابحة، قد يُقلق انتصارُها القاهرة مخافةَ أن يكون وقوداً فكريّاً وسبباً للإلهام الشعبي.
لا يتعلق الرصيفُ البحريُّ العائم الذي أنشأته الولايات المتحدة بحجّة إدخال الغذاء في هذه الحرب بمعبر رفح، ولا يمثّل المعبرُ نفسه إلا نقطةً في شريطٍ كلُّ نقطةٍ فيه هي مسألة حياةٍ أو موتٍ لإسرائيل. يمكن للأمريكي أن يستخدم رصيفه لتهميش وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة بالأونروا أو تقويض الحكم المحلي في غزة أو الضغط على إسرائيل، لكنه لن يكون كافياً لإدارة الحالة الأمنية في غزة التي تبقى مصر محورية فيها. لم يكن الرصيف الأمريكي جاهزاً ليصمد أمامَ أيِّ شيءٍ، لا سلاح الفصائل الفلسطينية ولا حتى رياح بحر غزة. كل ما سيبقى من هذا الرصيف شاهدٌ جديدٌ على أن أمريكا لا تصنع المعجزات.
يُدرِك النظامُ المصريُ من ناحيةٍ أُخرى أن تفاهُمَه مع إسرائيل يجب أن يقف عند حدودٍ معيّنةٍ حتى لا يتحول إلى خطرٍ يهدّد استقرارَه السياسي، خصوصاً مع العسكرة المتصاعدة في سيناء منذ اندلاع الحرب على الإرهاب في شبه الجزيرة سنة 2013. عسكرةُ سيناءَ تجعلُ من الضروري تحسُّسَ الخطوات تجنّباً لاستفزاز الجنود المصريين الذين تشكَّلت لديهم خبرةُ القتال، ما قد يعطيهم شجاعةَ المبادَرة إلى فرض وقائعَ تُحرِج الجميع.
كان الجيش المصريُّ قد توقَّف عن القتال منذ 1973، وعندما تتوقف الجيوش عن القتال يتراجع رصيدها السياسي. كان العقدان التاليان لحرب 1973 حقبةً ممتدة من التوتر بين الجيش والرئاسة، تمثَّل في ثنائية أبو غزالة ومبارك. فالمشير محمد عبد الحليم أبو غزالة هو وزير الدفاع المصري القوي الذي كان يُرَى نِدّاً للرئيس المصري محمد حسني مبارك. لكنَّ تسوية مبارك وطنطاوي حلّت محلّ تلك الثنائية، والمقصود هو المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع إبان حُكم مبارك؛ إذ تخلّى الجيشُ بمقتضى التسوية عن السياسة مقابل الحفاظ على بعض مكتسباته الاقتصادية.
عاد الجيش منذ عام 2013 إلى السياسة مضطراً، ولم يكن قادتُه مرحِّبين بذلك في البداية بعد أن استقرَّت التسويةُ السياسية الاقتصادية التي كانت تضمن وضعاً خاصاً للمؤسسة العسكرية من غير أن تتورَّط في بِحار السياسةِ المائجة. عاد الجيشُ إلى السياسة والحرب في لحظةٍ واحدة. عاد مرغَماً بضغط ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سيناء وإعلانه الحربَ على الدولة.
لم يعُد الضابطُ القابعُ في وحدته في سيناء موظَّفاً مجرَّداً من الحسِّ السياسي، وإنَّما أصبحَ مقاتِلاً يرغبُ في استعمالِ سلاحه بين حينٍ وآخَر واستعراض قوته. استمرارُ الانتهاكات الإسرائيلية على الحدود يمكن أن يثير كثيراً من الجنود والضباط الصغار الذين قد تدفعهم الحَمِيّةُ العسكرية والوطنية إلى اتخاذ مبادَرات فرديةٍ أو منظّمةٍ ضدَّ القوات الإسرائيلية، ممَّا يعرِّض الترتيب الإقليمي المستقرّ منذ الثمانينيات للخطر.
وقوفُ إسرائيل بعد ذلك فاصلاً بين سيناء وغزة خسارةٌ استراتيجية لمصر، ليست أقلّ من خساراتها عوائدَ قناة السويس أو مصالحَها في بلاد النيل. تشبهُ القوّاتُ الإسرائيلية في محورِ فيلادلفيا ومحورِ رفح مقصَّاً يقلِّم أظافرَ مصر، أو كمَّاشةً تخلع أنيابَها لتتركَها أَسَداً أَهْتَمَ لا يملك ما يخيفُ به خصومَه سوى لِبْدَتِه. لا تستفيد مصر كثيراً من حدودٍ ممتدةٍ تَفصلُها عن صحراء النقب الخالية، فكل هذه الكيلومترات لا تساوي شبراً واحداً من الحدود بين مصر وقطاعٍ يقطنُه مئاتُ الآلاف من الفلسطينيين من بينهم فصائلُ تمتلك رؤىً سياسيةً وطنيةً وقدراتٍ عسكريةً موجهةً ضد الاحتلال الإسرائيلي. فمع إعلان إسرائيل سيطرتَها العمليةَ الكاملةَ على محور فيلادلفيا (صلاح الدين) الحدودي بين مصر وقطاع غزة في الحرب الجارية، وإعلانها اكتشافَ عشرين نفقاً عابراً للحدود بين غزة وسيناء، تَشعُر السلطاتُ المصرية بتهديدٍ شديدٍ لوضعها السياسي والأمني في هذا الصراع. لأنها دولةٌ تمتلك حدوداً مباشرةً مع قطاع غزة وتديرها بالاتفاق مع طرفٍ فلسطيني، تفضِّل مصرُ أن يكون الطرفُ السلطةَ الفلسطينيةَ المعترف بها دولياً، ولكن لا مانع لديها إذا كان هذا الطرف هو حماس. تتمنى مصر مع ذلك علاجَ التحدّي المتمثّلَ في السيطرة الإسرائيلية على الشريط الحدودي بلا صِدامٍ مع إسرائيل قد يُلقي بظلاله على العلاقات بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية التي من الواضح أنها غير مستعدة لإغضاب إسرائيل.
قبل السابع من أكتوبر، فصلت مصرُ سيناءَ عن القطاع بجدارين حدوديين. أحدُهما امتدادٌ للجدار الذكيّ الذي بدأت إسرائيلُ إنشاءَه حولَ قطاع غزة سنةَ 2018 من الشمال عند البحر المتوسط إلى معبر إيريز شرقَ القطاع ويمتدُّ جنوباً بمحاذاة القطاع ليَفصلَه عمَّا يُعرف بمستوطنات غلاف غزة وصولاً إلى معبر كرم أبو سالم غربَ القطاع على الحدود مع مصر. أكملت مصرُ بناءَ الجدار من هذه النقطة التي يبدأ عندها "محور فيلادلفيا" بمحاذاة حدودها إلى البحر المتوسط غربَ القطاع. وصُمِّمَ الجدارُ لمجابَهة عملياتِ حفر الأنفاق؛ إذ يرتفعُ فوقَ الأرض ستةَ أمتارٍ، ومثلَها تحت الأرض مزوَّداً بشبكةٍ من أجهزة الرصد والاستشعار للمراقبة.
أما الجدارُ الثاني فخرسانيٌّ بطولِ الحدود المصرية مع قطاع غزة فوقَ الأرض فقط، بارتفاعِ ستَّةِ أمتار ومزودٌ بأبراج مراقبة. أقامت مصرُ خلفَ الجدارِ الثاني منطقةً عازلةً في رفح المصرية منذ 2014 بعمق خمسةِ كيلومترات وبطول الحدود أربعة عشر كيلومتر، لا يوجدُ فيها إلا وحدات الجيش وقوات الشرطة المتمركزة في معسكر حرس الحدود في حيّ الإمام علي.
مع ذلك يَتَّهِمُ اليمينُ الإسرائيليُّ الدينيُّ مِصْرَ بمسؤوليّةِ تَسَلُّح حماس وبناء قدراتها. في فبراير الماضي، قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، أحدُ زعماء الكاهانية الإسرائيلية، وهو تيارٌ صهيونيٌ دينيٌ متطرف يُنسب إلى الحاخام الأمريكي مائير كاهانا، إنَّ مصرَ مسؤولةٌ عمَّا جرى في السابع من أكتوبر لأن أغلب التسليح الذي حصلت عليه حماس مرَّ بأراضيها. تصريح سموتريتش سبقَه تصريحٌ آخرُ من نتنياهو نهاية ديسمبر الماضي حاول أن يكون فيه أكثرَ حذَرَاً؛ إذ قال إنَّ هناكَ "ثغرة" في جنوب غزة يَمُرُّ منها السِّلاحُ إلى حماس.
كانت المؤسَّسةُ الأمنيةُ والعسكريةُ رادعةً لتصريحاتِ وزير المالية الطائشة التي نقدتها الخارجية المصرية رسمياً، لكن ما حدث في السابع من أكتوبر شكّكَ في جدِّيةِ مصرَ بمراقبةِ نشاط حماس العسكري في قطاع غزة، ومنعِ استخدامِ حدودِها مع غزة ظهيراً لهذا النشاط. حاولت مصر سريعاً أن تُبرئَ نفسَها من تلك الأحداث أمامَ الجانب الإسرائيلي حينَ صرَّحَ مسؤولٌ مصريٌّ أمنيٌّ لـ"أسوشيتد بريس" بأنَّ مصرَ حذَّرت إسرائيل من الهجوم، وهو ما أكَّده عضو لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي مايكل ماكول. أنكر نتنياهو الأمرَ برُمَّته زاعماً أنَّ تلك التقارير مزيَّفة، وأنَّ مِصرَ لم تُقَدِّم أيَّ تحذيرات، لكن التسريب الصحفي المصري كان غرضُهُ على الأرجح منعَ الصدَّامِ مع إسرائيل وتأكيد أن مصر لم تغضَّ الطَّرفَ عن تلك العملية.
كان التصريحُ الأهمّ في وصف المشهد من وزير دفاع جيش الاحتلال الأسبق أفيغدور ليبرمان زعيمِ المهاجرين الروس في إسرائيل والخبير أكثرَ من عشر سنوات بين وزارات الدفاع والخارجية والمالية فضلاً عن عمله نائباً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. يمثّل ليبرمان الوجهَ الأذكى في اليمين العلماني بعد نتنياهو. قال ليبرمان بتغريدةٍ في أبريل إنَّه يأملُ أن يأتي إسرائيلَ سياسيٌّ شجاعٌ يواجه مصرَ ويرفض "اللعبة المزدوجة". ثمَّ أوضح ليبرمان ما يقصده قائلاً إنَّه قد حان الوقتُ لضبطِ النظام في معبر رفح وعلى طول محور فيلادلفيا مؤكداً أن الأنفاق ما زالت تحت المحور وما زالت حماس تُهرِّب بها.
لا تُشارِك مصرُ على الأرجح بأي شكلٍ في تمريرِ السلاحِ لحماس، وهي تدرك خطورةَ ذلك من النَّاحيةِ الدولية، ولا ترحِّبُ بتعاظُمِ قوةِ حماس. لكن مصر غالباً لا تبذل طاقتَها كلَّها لمنع ذلك، فهي تحافظ على لعبةِ التوازن الدقيق في هذا الملف، وهو ما عَناهُ ليبرمان باللعبة المزدوجة.
اللعبة المزدوجة عبارةٌ تكثّفُ المشهدَ بدقَّة لكنها بحاجةٍ إلى توضيح، فليبرمان ليس صادقاً ولا كاذباً؛ إذ تُدِيرُ مصرُ لعبةً مزدوجة فرضَتها إسرائيلُ عليها يوم قررَّت الانسحابَ من قطاع غزة في 2005. حينئذٍ أرادت إسرائيلُ أن تُورّطَ مصر في الإدارة الأمنية للقطاع لتؤدّيَ مصرُ دورَ الحارس الليلي لأمنِها، لكنها لم تدرك أن الحارس الليلي يحتاج إلى تفاهماتٍ مع أبناء الحيّ كي يتمكَّن من أداء دوره الصعب. وعندما يصير هَمُّ أبناء الحيِّ مقاومةَ عدوِّهم، لا يملكُ الحارس الليلي أن يكبحَ جِماحَهم، وإنما يقوم بوساطةٍ بهلوانيةٍ تشبه المشيَ على الحبال.