من قضايا المرأة إلى تأويلية جديدة للقرآن.. كيف تحوّل الخطاب النسوي العربي

تحاول النسويات المسلمات المعاصرات تجاوز التناول الجزئي لآيات القرآن نحو تقديم قراءةٍ شاملةٍ لوجود المرأة داخل كل مساحاته.

Share
من قضايا المرأة إلى تأويلية جديدة للقرآن.. كيف تحوّل الخطاب النسوي العربي
تُبرز الكتابات النسوية العربية المعاصرة وعياً معمقاً في تقديم قراءةٍ شاملةٍ لوجود المرأة في القرآن | تصميم خاص بالفِراتْس

مثَّلت قضايا المرأة، مثل الميراث وتعدد الزوجات وموقع الأنثى ودورها في الأسرة والمجتمع، مشغّلاً أساساً للفكر العربي الحديث والمعاصر. وارتبط هذا المشغّل بالقرآن وتأويله منذ عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر. فقد كان واقع المرأة أحد فضاءات الجدل الأساسية تلك بين المصلحين الأوائل وبين الكتّاب الغربيين الذين دوّنوا ونشروا آراءهم حول واقع المسلمين. وفي مواجهة الآراء التي تربط واقع المرأة بالإسلام، حاول المصلحون تقديم تفسيراتٍ جديدةً لآيات القرآن الخاصة بالمرأة من أجل فكّ الصلة بين واقع المرأة المأزوم وبين القرآن نفسه، وتحميل التراث الفقهي أو التفسيري وزر هذا الواقع.

هذه النقاشات والحلول المقدّمة طوال القرن الماضي تناولت قضايا المرأة وعلاقتها بالقرآن من منظورٍ فقهيٍّ تشريعيٍّ. بمعنى أنها اقتصرت على إعادة النظر في تفسير بعض آيات القرآن المتعلِّقة بوضع المرأة في الأسرة والمجتمع. وهي الطريقة ذاتها التي انتهجها الخطاب النهضوي في التعامل مع كلّ الإشكالات الشبيهة، مثل علاقة الإسلام بالعلم وبالمدنية والديمقراطية.

إلّا أن النقاشات حول القرآن وتأويله أخذت منعطفاً حاسماً بعد هزيمة يونيو 1967 وظهور مشاريع إعادة قراءة التراث. برزت كتاباتٌ حاولت إعادة النظر في طبيعة القرآن وموقعه التاريخي ومرجعيته الثقافية والاجتماعية. تجاوز هذا المنحى الجديد ذاك المنحى السابق، الذي اقتصر تقليدياً على تقديم تفسيراتٍ جديدةٍ لبعض آيات القرآن لتتوافق مع مستجدات المدنية والحداثة والعلم. إلّا أن هذه الكتابات، على تنوّعها، ظلّت تهمّش المرأة. وظلّ تناولها لقضاياها في نفس سياق إيجاد تفسيراتٍ جديدةٍ لبعض الآيات الجزئية المتعلقة بوضعها التشريعي، خصوصاً آيات الميراث والآيات المتعلقة بضرب الزوجة.

ومع ظهور مشاريع إعادة قراءة التراث، ظهر تحوّلٌ في الخطاب النسوي العربي نفسه. فبدا هذا الخطاب أكثر وعياً بذاته، وبكون قضايا المرأة أكثر اتساعاً وعمقاً من القضايا التشريعية التقليدية، كما أنها أكثر شمولاً وعالميةً من السياق العربي.

في تسعينيات القرن العشرين، ظهر ما يعرف بِاسم "النسوية الإسلامية"، أو "التأويلية النسوية للقرآن". وعلى إثرها، برزت كتاباتٌ لا تتناول قضايا المرأة من منظورٍ تشريعيٍّ فحسب، بل تحاول تقديم وعيٍ أكبر بحضور المرأة في الواقع العربي والعالمي. كذلك، لا تحاول هذه الكتابات حلّ قضايا المرأة بالاشتباك مع المدونات الفقهية والحديثية (الآراء الفقهية المستقرة والأحاديث المتعلقة بالمرأة)، أو بتقديم تأويلٍ انتقائيٍّ لبعض الآيات منازِعةً التفسيرات الدارجة عنها. ولكن، تحاول هذه الكتابات حلّ قضايا المرأة بتقديم رؤيةٍ تأويليةٍ شاملةٍ للقرآن. تحاول هذه التأويلية استنطاق حضور المرأة داخل النصّ في كلّ مستوياته، القصصية والعقدية والتشريعية، وفي كلّ أبعاد حضور النصّ نفسه في حياة المؤمن، نصّياً وشعائرياً وجسدياً.

يظهر هذا التحوّل في التعامل مع علاقة المرأة بالقرآن من تناول بعض الأعمال لبعض النسويات المعاصرات. مثل الدراسات التي ضمَّها العدد الثالث من مجلة "المرأة والحضارة" سنة 2002، وكذلك أعمال الكاتبة التونسية المختصة باللغة العربية واللسانيات، ألفة يوسف. تقدِّم هذه الكتابات مقاربةً نسويةً واعيةً بعمق القضايا النسوية حول النوع الاجتماعي (الجندر)، وقراءةً جديدةً للنصّ القرآني متعدّدةَ المناهج. إذ تحاول استنطاق كل مساحات النصّ للبحث عن الصوت النسوي داخله، في ما يتعلق بكل القضايا المركزية، مثل النوع الاجتماعي والنبوّة والحكم. وبهذا، تمثِّل هذه الكتابات تحوّلاً في قراءة قضايا المرأة. وتمثِّل أيضاً تحوّلاً في المقاربات المعاصرة للقرآن عموماً، ونقاشاً جديداً حول المنهجية الأمثل في قراءته، وإضاءةً جديدةً على موقع القرآن في حياة المؤمن.


مع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عُدّت التحديات التي تواجهها المرأة عائقاً أساساً أمام التحضر والتمدن. فقد رأى كتّاب، مثل قاسم أمين في تمهيد كتابه "تحرير المرأة" الصادر سنة 1899، أن تقدّم الأمّة ونهوضها رهينٌ بتحرير المرأة. وكذا أصبح تحرير المرأة معياراً للحكم يعكس جديةً وجذريةً في التحديثات التي اضطلعت بها بعض الدول العربية، ومنها مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وتونس في عهد الحبيب بورقيبة. اتسع الاهتمام بالمرأة حينها وشكّل أحد حقول النظر الأساسية في الفكر العربي. وبالإضافة لكتّابٍ ذكورٍ مثل قاسم أمين، واكبت هذا الاتجاهَ كاتبات وناشطات. منهن النسوية المصرية ملك حفني ناصف المتوفاة سنة 1981، والدارسة اللبنانية نظيرة زين الدين المتوفاة سنة 1976، والكاتبة الإسلامية المصرية زينب الغزالي المتوفاة سنة 2005، والمفكرة عائشة عبد الرحمن (الملقّبة ببنت الشاطئ) المتوفاة سنة 1998.

على اتساع هذا الاهتمام وتنوعه، إلّا أنه ظلّ اهتماماً عقدياً ونضالياً. إذ اعتمد نظرياً على اجتهادٍ جزئيٍّ في تناول بعض الآيات لتكييف النص القرآني بهدف إصلاح وضع المرأة المسلمة في الواقع المعاصر. لنجدَه مستخدماً في أحيانٍ كثيرةٍ الانتقاءَ والاجتزاءَ ولَيّ رقبة النصّ – أو العكس بإعادة تفسير الواقع على وقع النصّ – ليتوافق مع الخطاب الإصلاحي العربي التنويري بما يحمله من فهمٍ معاصرٍ لمبادئ المواطنة والمساواة. لذا تحاجّ الباحثة التونسية زاهية جويرو في دراستها "الدراسات النسوية الدينية في المجالين المسيحي والإسلامي"، المنشورة سنة 2016، أن هذا الاهتمام لم يحقِّق استقلالاً معرفياً عن الخطاب الإصلاحي.

وربما لم يدخل هذا الخطاب مرحلة الخطاب المعرفي المستقلّ إلا في سبعينيات القرن الماضي. في هذه المرحلة، تجاوزت الكتابات مرحلة التكييف والتوفيق (موافقة النصّ مع الواقع أو العكس) إلى مرحلة إيجاد بعدٍ معرفيٍّ ومنهجيٍّ في التعامل مع النصّ والتراث التفسيري والفقهي. كذلك تشكَّل في هذه الفترة نوعٌ من الاستقلال النسبي عن بقية قضايا التنوير العربي، ووعيٌ أكبر بعمق قضايا النسوية في تاريخ البشرية.

حدث هذا مع كتابين تظلّ لهما الريادة في تاريخ الحركات النسوية العربية، واتخذهما المؤرخ الفلسطيني فهمي جدعان، في كتابه "خارج السرب" المنشور سنة 2010، علامة ظهور البذور القوية للنسوية الإسلامية.

وضعَت الكتابَيْن عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي. الأول عنوانه "ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية" وصدر سنة 1975، والثاني "الحريم السياسي، النبيّ والنساء" وصدر سنة 1987. يُظهِر الكتابان مقاومة امرأةٍ أوضاعَ النساء المتردّيةَ في المجتمعات العربية، عبر تحليل التاريخ ونقده وتوظيف مفاهيم النوع الاجتماعي. كذلك تشتبك المرنيسي مع بعض آراء الفقهاء، مثل الإمام الغزالي، عن المرأة. وتبحث في طرحها عن "نبيّ نسويّ"، أي صاحب نهجٍ يساوي بين الجنسين. فقد أشارت في هذا الصدد إلى النبيّ محمد ونهجه المحبّ الذي استلهمه من منظور القرآن الشمولي للإنسان والعالم.

مثَّل منظور المرنيسي عصراً جديداً ربما للحركة النسوية في العالم العربي والإسلامي، من حيث محاولة الاستقلال بقضاياها عن قضايا الإصلاح العامّة. وكذا من حيث ارتفاعها إلى حدود الخطاب المعرفي ذي البعد العلمي الراسخ. لكن هذا الخطاب ظلّ بعيداً عن الاشتباك مع النصّ القرآني منهجياً. إذ ظلّ في إطار مواجهة الأفكار الفقهية والتفسيرية التقليدية أو تحليلها. وباستثناء الاشتباكات الجزئية المعتادة مع بعض آيات القرآن، والتي لا تختلف كثيراً عن محاولات السابقين مثل قاسم أمين وبنت الشاطئ، ظلّ الخطاب النسوي هنا في إطار الإصلاح العامّ ومحاولة مواءمة النصّ مع الخطاب الإصلاحي الحداثي.

أصبح الاشتباك مع النصّ أكثر منهجيةً عربياً – أي برؤيةٍ نسويةٍ مستقلةٍ وغير مرتبطةٍ ضرورةً بالخطاب الإصلاحي التقليدي – مع بروز ما يسمّى بالحركة "النسوية الإسلامية" في إيران وماليزيا والعالم العربي بين السبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي.  وإن كان يؤرَّخ لظهور هذه الحركة أحياناً بمؤتمر اليونسكو عن الإسلام والمرأة، الذي عُقد سنة 2006، كما يخبرنا فهمي جدعان. عُقد المؤتمر في الرياض بتنظيمٍ من اليونسكو، مركّزاً على قضايا تمكين المرأة ودورها في العالم الإسلامي، ومواءمة التشريعات والسياسات مع حقوقها كما ينصّ عليها الإسلام.

صار الاشتباك عند النسويات الإسلاميات غير مقتصرٍ على تقديم تفسيراتٍ جديدةٍ لبعض آياتٍ قرآنيةٍ تخصّ المرأة فحسب، كما كان الحال في أوساط التيارات الإصلاحية الإسلامية في أوائل القرن الماضي وأوسطه، أو حتى عند تناول روّاد القراءات الحداثية للقرآن الآيات الخاصّة بالمرأة على سبيل المثال. بل إنه اشتباكٌ يمتدّ ليتناول إشكالاتٍ أكثر عمقاً، مثل مدى مرجعية النصّ المؤسِّس ذاته في قضايا النسوية، وسؤال هل الإله ذكر أم أنثى، وطبيعة الألوهة وعلاقة اللغة العربية بالجنسين.

ويمكن إرجاع هذا الانتقال، من التعامل الجزئي مع القرآن إلى التعامل الشامل معه، لعدّة أسباب. بعضها يتعلق بتطورات الخطاب النسوي نفسه، وبعضها بتاريخ التعامل العربي المعاصر مع القرآن عموماً.

فالخطاب النسوي، نتيجة انفتاحه على الفلسفات النسوية الغربية الدينية والعلمانية، أصبح أكثر وعياً بجذرية وعالمية النقاش المعاصر حول المرأة والنوع الاجتماعي والدين. وهذا أدّى لضرورة رفع النقاش إلى حدود نقاش النصّ المرجعي نفسه بدلاً من الوقوف عند حدّ نقاش التفسيرات المتعلقة به، أي التعامل مع النصّ القرآني المؤسِّس مباشرةً بدل مناقشة ما كُتِب فيه وحُلّل عنه.

كذا فإن بعض الإشكالات التي طرحتها النسوية الغربية، مثل الهوية الجنسية، حتّمت اللجوء إلى النصّ الديني المؤسِّس نفسِه لنقاش مسائل مثل صورة الإله وقصة الخلق. إذ ترى بعض التيارات النسوية أن المفاهيم التقليدية عن الإله أو صورته تضع الله إلهاً محدداً بجنس الذكورة، وهو ما يعكس هيمنة أبوية. ومن هنا تسعى هذه التيارات لإعادة تفسير صورة الإله في النص المقدس والتقاليد الدينية لتعكس جوانب أكثر شمولية.

لذا تخبرنا هند مصطفى، في دراستها "نحو صياغة خطاب نسوي بديل" المنشورة سنة 2013، بضرورة تأسيس الهوية الجنسية على مبدأ الإله التوحيدي المفارق للنوع والمتّسم بالأَحَدية المطلقة، في مقابل الزوج المخلوق، أي المحدّد جنساً ونوعاً بحسب ما يقسِّم البَشَر أنفسَهم. يفضي ذلك إلى القول أن ما ينطبق على البشر من تقسيماتٍ قائمةٍ على النوع والجنس، ذكراً أو أنثى، لا ينطبق على الإله القائم خارج تقسيماتٍ ضيقةٍ كهذه.

كذلك، فالفكر العربي نفسه تطوَّر في التعامل مع القرآن منذ ظهور ما يسمّيه عبد الوهاب المسيري "الخطاب الإسلامي الجديد"، في مقالته "معالم الخطاب الإسلامي الجديد" سنة 1997.

حاول هذا الفكر الجديد تجاوز كلّ المقاربات التوفيقية والجزئية التي تقوم على مجرد ربط القرآن بالمدنية عبر إعادة تأويل بعض الآيات، نحو مشروعٍ حضاريٍّ شامل. ينطلق المشروع إما من قراءةٍ تاريخيةٍ للقرآن تضعه في سياق عصره وتفتح الباب لقراءةٍ معاصرةٍ له، أو من وضعه مرجعيةً معرفيةً لهذا المشروع. وقد مثَّلت هذه المشاريع الشاملة "وساطةً لبعض الخطابات النسوية"، أي نقطة انطلاقٍ، حسب زاهية جويرو في دراستها. كذلك، فإن هذا التطوّر في الفكر العربي مكَّن من بلورة تصوّرٍ لقضايا المرأة ضمن خطابٍ حضاريٍّ شاملٍ يبعدها عن كونها صرعةً فكريةً أو مشايعةً لخطاب حقوق الإنسان. كلّ هذا جعل الخطاب النسوي، الذي بات أكثر وعياً بعمق الإشكال النسوي، أكثر اتجاهاً نحو قراءة القرآن نفسه في شموله وعمقه. وبرز هذا في دراساتٍ حديثةٍ ومهمةٍ، صدر بعضها من جمعية دراسات المرأة والحضارة التي تأسست في مصر سنة 1999.


أصدرت الجمعية ثلاثة أعدادٍ من نشرةٍ متخصصةٍ في دراسات المرأة المسلمة. وقد جاء العدد الثالث منها، والذي صدر سنة 2002، بعنوان "المرأة في القرآن". يخرج هذا العدد عن أطر الكتابة المعتادة عن قضايا المرأة والقرآن في الكتابات الحداثية والمعاصرة عموماً، والتي تركِّز على القضايا الفقهية التشريعية. يوجد في العدد أربع دراساتٍ تتناول المرأة في علاقتها بقضايا الخَلْق والحُكْم والنبوّة. أي أنها تنتقل من بحث الصلات الفقهية للمرأة إلى بحث الوجود الأنثوي في صلته بالقضايا البشرية الكبرى، مثل المقدس والشرعية وأصل الشر. وتطرح السؤال حول مدى خضوع مساحات النبوّة والحُكم والتكليف والشر إلى "الجندرة الدينية"، أي ربط الدين والتصوّرات حوله – من صورة الإله للتشريعات – بالنوع الاجتماعي والجنس.

أحد الدراسات الأربع هي "المرأة في قصة الخلق"، وفيها تتناول الباحثة أسماء عبد الرازق دورَ حوّاء في قصّتَي الخَلْق والتكليف. إذ تعدّها قصةً مهمةً في تكوين المنظور البشري للمرأة، الذي ربط في المخيال البشري دوماً بين المرأة والشر. وترى أن القرآن قدَّم تصوّراً عن دور المرأة يختلف عن هذا التصوّر الذي قدَّمته التوراة، حين ربطت بينها وبين المعصية والخروج. وهذا التصوّر التوراتي كان له سطوته، وقد انتشر وتغلغل حتى داخل الكتب التفسيرية الإسلامية.

ترى عبد الرازق كذلك أن القرآن، في سرده قصة الخلق، يتحدث عن قصتين. قصة التكليف العام، وقصة ظهور النوع وبداية الانتقال للحياة والاختبار. يظهر آدم في قصة التكليف، لا باعتباره ذكراً فحسب، بل ممثلاً لكل الجنس البشري. لذا يبرز بِاسمه وحضوره، متلقياً التكليف الإلهي. ثم تظهر حواء باعتبارها بداية ظهور التنوع والاختلاف، وبالتالي بداية ظهور الحياة والاختبار.

ووفقاً لهذا التفريق بين آدم ممثلاً للجنس البشري وآدم بشراً ضمن الإعداد للحياة على الأرض، تقرأ الباحثة الآية السابعة والثلاثين من سورة البقرة عن توبة آدم، "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". وهي الآية التي رأت بعض النسويات أنها تعطي الدور المركزي لآدم في قصة الخلاص. لكن أسماء عبد الرازق تَعدّ هذا الاهتمام بتوبة آدم مرتبطاً بهذا الرمز الذي يمثِّله في أول ظهوره في السرد القرآني، ممثلاً للجنس البشري. فجُرم آدم أكبر، لأنه هو الذي تلقّى التكليف الإلهي نيابةً عن كل الجنس البشري، مما جعله محتاجاً إلى التوبة.

يتّسق هذا مع الابتعاد العامّ للآيات الساردة لقصة الخلق، والخروج عن أيّ ربطٍ للمرأة بالشر أو الغواية أو كونها مصدراً له، لتصبح خاطئةً مثل آدم. وهو ما تصِرّ عليه الآيات في سرد وسوسة الشيطان لآدم وحواء معاً، مثل الآية العشرين من سورة الأعراف التي تقول "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [. . .]". فمعصية آدم وحواء معاً، وخروجهما من الجنّة معاً، وتكليفهما الأرضي معاً.

تستعيد الكاتبة في هذه الدراسة الرؤية التوراتية، ليس اعتماداً على تصوراتٍ تَرِد في كتاب حول القرآن أو أحد كتب التفسير والقراءات المعاصرة، بل في بعض الأعمال الأدبية. ومنها "هذه الشجرة" لعباس محمود العقاد سنة 1945، ورواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ سنة 1959. وكلاهما يعرضان رؤيةً تجعل المرأة علامة الضعف ومصدر السقوط.

وفي الإطار نفسه لتجريد القضايا الكبرى من النوع الاجتماعي، تتناول منال يحيى في دراسةٍ من تلك من الأربع، عنوانها "ملكة سبأ: نموذج لحكم المرأة في القرآن"، قصة ملكة سبأ في سورة النمل. تَعدّ الباحثة النصَّ عرضاً قرآنياً لأحد أنظمة الحكم بدلاً عن كونها قصّةً تخصّ المرأة أو الرجل. وتنطلق من التصنيف الثلاثي الذي قدَّمه ابن خلدون لأنظمة الحكم. الحكم الطبيعي الذي يعتمد على مبدأ العدالة والفطرة السليمة، والحكم السياسي وهو القوانين التي يسنّها البشر، والحكم الشرعي المعتمد على التشريعات الدينية. وترى الباحثة أن سورة النمل تعرض هذه الأنواع الثلاثة. فيمثِّل فرعون الحكمَ القائم على القهر وغياب العدل، ويمثِّل داوود وسليمان الحكمَ الشرعي المستمدّ من التشريع الإلهي، وتمثِّل ملكة سبأ الحكمَ السياسي القائم على رؤية العقلاء واختيارهم.

يبرز القرآن هنا طبيعة هذا النوع من الحكم كما يتجلّى في قصة ملكة سبأ، سواءً في استشاراتها لقومها، أو في حكمتها وعدم تعجّلها في حرب سليمان. وترى منال يحيى أن القرآن لم يهتمّ بكون ملكة سبأ امرأةً، وإنما عرض طبيعة حكمها وحسب. وعموماً، يبدو القرآن وكأنّه يضع مبادئ عامةً للسلوك البشري ولوضع المرأة في المجتمع، ويترك للتفاعل البشري في الزمان والمكان مهمة الحركة داخل هذه المبادئ والقيم. لذا، فالحكم الأمثل في ضوء القرآن وظيفةٌ وليس مسألةً جندريةً متعلِّقةً بجنس القائم بهذا الحكم.

ثمّة دراستان متتاليتان من الأربع تناولتا صلة المرأة بالنبوّة، وهل يمكن للمرأة أن تصير نبيّةً، أم أن النبوّة وما يتعلق بها مسألةٌ مرتبطةٌ حصرياً بالذكور. ففي "المرأة والنبوة في القرآن"، تبتعد الباحثة عزة جلال عن محاولة حسم إجابة هذا السؤال، وتطرح في المقابل مفهوماً حول "أمومة الدعوة". إذ ترى أن عرض القرآن لقصص النساء يُبرِز دورَهنّ في رعاية الدعوة، خصوصاً في بداياتها. فأخت موسى وأم موسى ومريم العذراء، كلهنّ قدّمن دعهمنّ للنبوة في بداياتها، يتوازى هذا مع تقديم خديجة الدعم للنبي محمد في بداية الدعوة. وتقول عزة جلال إن أمّهات المؤمنين (زوجات النبيّ) يمثِّلن هذا النموذج لأمومة الدعوة، سواءً برعايتها، أو بنقل المعرفة والنموذج للمسلمين. وكونهنّ إلى جانب النساء المذكورات في القرآن، قدّمن أمثلةً عن التضحية من أجل الدعوة.

غير أن طيبة شريف تطرح سؤال المرأة والنبوّة جليّاً في دراستها "سيدة المحراب: مريم ابنة عمران"، وتجمع الحجج عن كون مريم حازت ما حازه الأنبياء من اصطفاءٍ ومعجزات. وترى أن شيوع الرأي بعدم نبوّة مريم سببه الخلط بين النبوّة والرسالة، وغضّ الطرف عن سمات النبوّة التي تتمتع بها مريم وتشارك بها الأنبياءَ الذكور. وتُبرِز شريف أنه، رغم الخلاف في نبوّة مريم – بين من يعتقد بأنها لم تأتِ برسالةٍ تؤهّلها للنبوّة وبين من يرى مخاطبة السماء لها دليلاً على هذه النبوّة – فثمّة رأيٌ شبه مستقرٍ بين كلّ هؤلاء يقول بولايتها. فالنبوّة مقام التلقي المباشر للوحي، بينما الولاية مقام القرب من الله. تحاول الدراسة بهذا فكّ الصلة بين النوع الاجتماعي وبين والنبوّة والولاية، وإبراز كون النبوّة غير مرتبطةٍ بنوعٍ معيّنٍ، حتى لو ارتبط به وفق سياقات الثقافة مهامّ الإرسال والتبليغ.


قدّمت الكاتبة التونسية ألفة يوسف رسالتها للدكتوراه سنة 2002 عن موضوع اللغة "تعدد المعنى في القرآن". غير أن تعامل ألفة يوسف مع القرآن يمتاز بالأساس بكونه "فوق نصّي"، بمعنى أنه يتعامل مع القرآن بما يتجاوز كونه فضاء نصّي مغلق. وتمثِّل مقاربتها إخراجاً للقرآن من سيطرة الأدوات النصّية، وهي السيطرة التي تكرّست في معظم المقاربات المعاصرة للقرآن. وتتجلّى مثلاً في حديث الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد في كتابه "مفهوم النصّ"، المنشور سنة 1992، عن كون المنهج الأمثل لفهم الإسلام هو التحليل اللغوي لنصّه.

تجمع كتابات ألفة يوسف بين الخبرة الشخصية والتحليل النفسي وبين محاولة تقديم قراءةٍ جديدةٍ في الدين وفي القرآن، ويتجاوز القرآن في طرحها حدوده النصّية. وفي تحليلها النفسي، تلجأ إلى "علم النفس اللاكاني"، نسبةً إلى عالم النفس الفرنسي جاك لاكان، وهي مدرسةٌ في علم النفس تركّز على دور اللغة ورموزها في تشكيل السلوك البشري واللاوعي.

تحاول يوسف، ومثلها مثل الكاتبات اللاتي ذكرنا، مَوْضَعة الأنثى داخل القرآن. ليس فقط بتقديم تأويلاتٍ جديدةٍ لبعض الآيات التشريعية ولا بمساءلة قضايا النوع والأخلاق والنبوة، بل هذه المرّة بتحويل الأنثوية إلى فضاءٍ لاستكشاف النصّ نفسه. وتنطلق الباحثة في كتاباتها من عددٍ من الثنائيات المركزية التي تحددها بين الذكوري والأنثوي. يمثِّل الذكر في النصّ بمنظورها المؤسسات والتفكير الفقهي والقانوني، ويمثِّل الوضوح والمعنى المباشر والواحد. في حين تغيب (أو تصمت) الأنثى، لتعدّد المعانى المتعلقة بها وغموض هذه المعاني أحياناً.

إن خروج ألفة يوسف من التحليل النصّي وحده للقرآن يقوم على ما تعدّه ذكوريةَ اللغة. ولهذا، فاللغة القائمة بنظرها غير قادرةٍ على شمول الأنثوي، على الأقل بالقدر الكافي. فاللغة العربية قد تبدو متحيزةً في مفرداتها وبنيتها إلى جنس الذكورة. وإن فرّقت في استخدام الأفعال والضمائر المذكرة والمؤنثة، إلّا أن الخطاب الذكوري باعتباره خطاباً شمولياً يبدو غالباً. مع ذلك، تحاول ألفة يوسف الاحتفاء بهذا الأنثوي الموجود في النصّ القرآني، ولكنه غائب ظاهرياً، ويحمل ما لا يمكن ترميزه. واحتفاؤها بالصمت القرآني، أي غياب الإشارة المباشرة للبعد الأنثوي في النصّ، يُعدّ مفتاحاً للخلاف مع التفسيرات "الذكورية" للنصّ القرآني.

وترى ألفة يوسف في كتابها "حيرة مسلمة" الصادر سنة 2008 أن صمت القرآن في بعض المساحات انفتاحٌ لمساحةٍ لا يمكن ترميزها باللغة. غير أن التفسيرات الذكورية تحاول دوماً مقاومة هذا الغياب، بمصادرة هذه المساحة لصالح الرؤى المؤسسية الجاهزة التي يغلب عليها الطابع الذكوري. وتضرب ألفة مثالاً بالتعامل مع ميراث المرأة. تنطلق الكاتبة من الآية رقم 10 في سورة النساء "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"، ولا تنطلق من النقاش المتكرِّر في وراثة المرأة في الجاهلية وموقع الإسلام تجاهها. بل تنظر للآية واحدةً من مساحات الصمت في القرآن. فهي ليست آيةً عن المرأة، بل آيةً عن المساحة الأنثوية في النص.

ترى كذلك أن الآية من منظورٍ لغويٍّ لا تبيِّن مقدار نصيب البنتين المنفردتين، وهو ما رجّحه المفسرون لغوياً بالفعل. إلّا أن معظم المفسرين والفقهاء، من الطبري إلى الرازي وابن عاشور، قرروا قياس نصيب البنتين المنفردتين على ما فوق الاثنتين، "فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ". وألفة يوسف هنا لا تحاول الوصول لإجابةٍ عن النصيب المحدد للبنتين المنفردتين، وإنما تستثمر حالة الصمت القرآني عن نصيبهن. وتسلِّط الضوء عليها باعتبارها مساحةً معبِّرةً عن حكمةٍ إلهيةٍ قد تتمثل في فتح النقاش والتفكير في قضية الميراث، واعتبارها مسألةً متغيرةً متروكةً للتطور البشري.

بيد أن هذه الممكنات، حسب ما ترى الكاتبة، بسبب الإصرار الفقهي على إلحاق هذه الحالة بمنظومةٍ فقهيةٍ متماسكةٍ وشاملةٍ ونهائيةٍ "مفترضة" للتوريث، تقوم بالأساس على معطياتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ غير ثابتة. كما تسلِّط الضوء على الاحتكار أو المصادرة الذكورية لمساحة الصمت القرآني "الأنثوي"، الذي يتجلّى في جعل "التعصيب" المرجع النهائي للحالات التي يسكت القرآن عنها في المواريث. والتعصيب أحد أشكال الإرث في الفقه الإسلامي، ويعني استحقاق الوارث العصبة جميع المال أو ما تبقى منه بعد أن يأخذ الورثة أصحاب الفروض حصصهم المنصوص عليها شرعاً. إذا مات رجلٌ مثلاً وترك أمّاً وابناً وبنتاً، فالابن يرث بالتعصيب كلّ ما بقي من المال بعد نصيب الأم والبنت.

من المنطلق نفسه، تقرأ ألفة يوسف تناول القرآن المثلية الجنسية. إذ تتساءل عن تعامل القرآن معها من منظور رؤيته للعلاقة بين الأنوثة والذكورة.

وكما في مسألة المواريث، تستثمر يوسف الصمت القرآني، وتحاول إلقاء الضوء على الاحتمالات المتعددة لبعض آياته، استنطاقاً للمساحة الأنثوية الغامضة في النص. تبدأ بالآية الأشمل عن الذكورة والأنوثة، الآية رقم 13 في سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، وتتساءل عمّا يعنيه التبعيض (التجزئة) في الآية، أي ما الذي يعنيه أن بعض الناس ذكور وبعضهم إناث. فمع أن المعنى الأكثر شيوعاً هو أن الناس مخلوقون من ذكرٍ متمكّنٍ من الذكورة، وأنثى متمكّنةٍ من الأنوثة، إلّا أنها تطرح إمكانية "التبعيض المتصل". ويعني هذا أن البشر يحملون داخلهم السمات الأنثوية والذكورية معاً.

كذلك، ترى الكاتبة أن الآية تحتمل الحديث عن الذكورة والأنوثة لا باعتبارها شيئاً عضوياً، بل بناءاتٍ ثقافية. أي أن نوع الجنس وطبيعته وسماته محكومٌ بمحدّداتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ أكثر ممّا هي عضوية. فالأنثى تربَّى حسب معايير يراها المجتمع أنثويةً، وكذلك الذكر يربَّى حسب معايير يراها ذكورية. أيْ أن القرآن هنا لا يقرّ بالضرورة انفصالاً حاسماً بين الذكورة والأنوثة، كما ترى.

وفي حين يتحدث القرآن بوضوحٍ عن "اللواط"، إلّا أنه لا يتحدث بالوضوح والكثرة ذاتهما عن "السحاق". تحاول ألفة يوسف قراءة هذا من منظور علم النفس اللاكاني، فاللغة تظلّ دالّةً ذكورية، بما يعني انفلات الأنثوي منها. وتتساءل يوسف: هل الذِكْر القليل لموضوع السحاق يندرج حقاً في الخانة نفسها، أيْ أنه تعبيرٌ عن خروج العلاقة الأنثوية الأنثوية من الدالّ اللغوي الذكوري؟

تطرح الكاتبة احتمالاتٍ أخرى، مثل أن التنظيم الاجتماعي الجنسي الذي يجعل المرأة محض متعةٍ للرجل يمعِن في التنظيم الذكوري ويتجاهل الاهتمامات الأنثوية. يصبح هنا تجاهل السحاق، إمّا تهميشاً وقلّة اهتمامٍ بشيءٍ لا يمثل أزمةً للبنية الذكورية للمجتمع، أو ربما استنكاراً لانفلاته من هذا التنظيم. ومنطق الاحتمالات نفسه نجده في تجريم العلاقة الجنسية بين الذكور. إذ تتساءل ألفة يوسف فيما إذا كان تجريم القرآن لفعل قوم لوط يرتبط بتجريم بالعلاقة الذكورية الذكورية فقط، أم أنه يرتبط برفض إتيان النساء تحديداً، الذي يهدِّد استمرار النوع والتنظيم الذكوري نفسه. 

في كلّ هذه الأمثلة، لا تهتمّ ألفة يوسف بالوصول لإجابةٍ نهائيةٍ، إذ ستظلّ هذه الإجابة اندماجاً داخل المنطق الذكوري نفسه. تحاول تفكيك هذا المنطق وفتح باب الاحتمالات، بالنظر للمساحة الأنثوية (الصامتة) في النص القرآني.


تمثِّل القراءة النسوية المعاصرة مقاربةً فريدةً وذات أثرٍ مهمٍّ، سواءً النسوية العربية منها أو التي تقدّمها النسويات المسلمات الغربيات. يتجلّى هذا الأثر في القدرة على تحويل النظر لقضايا المرأة من الحيّز الفقهي، أيْ مساءلة ما قيل وكُتِب عن القرآن إلى الحيّز الوجودي الأوسع والأشمل. والأهمّ، يتجلّى في تجذير التساؤل عن قضايا المرأة متجاوزةً الحضور النصّي للقرآن إلى الارتباط الجسدي والشعائري والنفسي.

كذلك، فإن سحب القرآن لمساحة الأسئلة حول النوع الاجتماعي وعلاقته بالنبوّة والشرّ يعني تغيّراً في التعامل مع القرآن عن ما عهدناه منذ المقاربات النهضوية للقرآن، وما شابَها من "تكييف إصلاحي" مع متغيرات الحداثة والمدنية. يعود هنا القرآن ليصبح "فضاءً تأويلياً هائلاً"، كما يعبّر علي حرب في كتابه "نقد النص" المنشور في طبعاتٍ عديدة. وهو الفضاء الذي يتسع لمنهجياتٍ متعدّدةٍ لفهم النصّ وما وراءه، ويفسح المجال براحاً للبعد الأنثوي، الظاهر منه و"الصامت"، كما تراه ألفة يوسف.

اشترك في نشرتنا البريدية