كيف نتصور الإسلام بعيداً عن أفكار الإسلاميين؟

يقدم خالد محمود تصوراً للإسلام يقوم على القواعد المعرفية الموروثة، ويُراعي اختلاف الزمان، ويسعى إلى إزالة ما أضيف للإسلام من تصورات الإسلاميين

Share
كيف نتصور الإسلام بعيداً عن أفكار الإسلاميين؟
تصميم خاص لمجلة الفراتس

تقوم مشروعات الإسلاميين على فكرة مركزية هي "شمولية الإسلام"، ويقصدون بها أن الإسلام دين ومنهج حياة شامل، تُرشد نصوصه إلى المعارف المختلفة ويوصل الالتزام به إلى النجاح في الدنيا والآخرة. وتحتل الفكرة موقعاً متميزاً في كتابات الإسلاميين التأسيسية. فيجعل حسنُ البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، فهمَ الإسلام "نظاماً شاملاً يتناول مظاهر الحياة جميعاً" الأصلَ الأول من الأصول العشرين التي وضعها لفهم الإسلام في رسالة التعاليم. وترتبط المقولات والمعتقدات الأساسية التي يقوم عليها المشروع الإسلامي بالشمولية منذ ظهوره في الثلث الأول من القرن العشرين، مثل صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وتقديمها الحلول للمشكلات الحياتية المختلفة كما في شعار "الإسلام هو الحل"، ونصر الله المؤمنين إن استنفذوا الوسع في الأخذ بالأسباب، وإن كانت أسبابهم قاصرة في ذاتها عن بلوغ المراد.

تجاوزت هيمنة هذه الفكرة الإسلاميين وصارت التصورَ المهيمن عن الإسلام. يتجلى ذلك في شعبية الخطابات والمشروعات والمؤلفات التي تعدّ النصوصَ الإسلاميةَ مصادرَ للمعرفة، مثل المؤلفات التي تحض على أكل مأكولات بعينها وشرب مشروبات محددة لإشارة نصوص إسلامية إلى أنها مفيدة. ومثل المؤسسات التي تبحث في الكيفيات الاقتصادية الناجعة بناء على مرويات القرآن والسنة، والبرامج التي تؤكد سبقَ القرآنِ البحثَ العلمي إلى علوم شتى. 

وقَلَّ أن يناقشَ خصومُ الإسلاميين الفكريون هذا التصور. ففي تعاملهم مع النصوص التي ترشد إلى التداوي بأبوال الإبل، أو غمس جناح الذبابة في الشراب لإزالة الداء، أو قصر عرض الطريق على سبعة أذرع، أو التي تجعل المرأة أنقص من الرجل، أو تؤسس للتمييز على أساس ديني، يسلكون في الغالب أحد سبيلين. الأول التشكيك في صحة هذه النصوص وفي دقتها ليبقى الإسلام بريئاً منها ومن تصورات الإسلاميين، والثاني التسليم بصحتها واتخاذ ذلك دليلاً على بطلان الدين. وفي الحالتين تبقى الفرضية الأساسية، وهي وجود تصور إسلامي للحياة بعلومها الطبيعية والاجتماعية المختلفة يقوم على النصوص المنقولة، قائمة.

ثمة سبيل لفهم الإسلام بعيداً عن أفكار الإسلاميين يقدمها العالم الأزهري خالد محمود، الذي تلقى العلوم الشرعية على أيدي العلماء في الجامع الأزهر وغيره. في العقد الأخير صدرت لمحمود أربعة كتب عكست انشغاله بقضايا المسلمين المعاصرين الذين يعيشون واقعاً مختلفاً عن الذي ظهر فيه الإسلام. يسأل محمود عن أثر هذا التغير في الواقع على الأحكام الشرعية، وعن صحة الأفكار الدينية التي يروجها بعض المعاصرين وينسبونها للدين، وهو في نقاشه هذه القضايا يظهر انتماءه للتراث العلمي للمسلمين واشتباكه النقدي معه من داخله. الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مشروع محمود في كتابيه "إزالة الأوهام عن دين الإسلام"، الصادر سنة 2017 و"الاجتهاد والتجديد في فهم القرآن" الصادر سنة 2023 هي وجوب النظر إلى الإسلام ديناً وطريقاً لعبادة الله، لا مشروعاً اجتماعياً أو منهجاً لمعرفة الواقع أو سبباً لتحصيل الدنيا. يحاجّ محمود بأن هذا النظر كان هو الأصل طيلة قرون، ثم طرأت متغيراتٌ في القرنين الأخيرين سببت خللاً أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم جميعاً.

لا يناقش محمود فكرة شمولية الإسلام مباشرةً ولكنه يرد الخلل في فهم الدين إلى قضيتين رئيستين هما من لوازم فكرة الشمولية وثمارها. أُولاهما علاقة الإسلام بالواقع، وهي العلاقة المختلة بتصور أن الوحي جاء يُعَلِّم الناس الدنيا، وبفصل النصوص الدينية عن الواقع الذي ظهرت فيه، وجعلها "بكل ما اشتملت عليه من أمور الدنيا في زمن الخطاب بها منطبقة على كل واقع". وأما القضية الثانية فالسببية، وبسببها يتصور المسلمون استثناءهم من سنن الكون أو خرقها لأجلهم. وفي الكتابين يفصِّل محمود في بيان أوجه الخلل وأثرها على التصورات الدينية والاجتماعية السائدة، وهو تفصيل يصلح نقضاً لفكرة شمولية الإسلام ولوازمها ولإعادة ضبط العلاقة بين الدين والحياة.


كيف يمكن لمسلمي اليوم، وقد تطورت العلوم في القرنين الأخيرين وصارت نتائجها أقرب للقطعية، أن يفسروا التناقض الواقع أحياناً بين المنسوب للدين في فروع العلوم المختلفة والموثوق به علمياً فيها. وهل تؤدي هذه التناقضات إلى فقد الثقة بالدين، المفترض فيه العصمة كونه إلهي المصدر، أو دفع المتمسكين بالدين إلى معاندة العلم. وهل تسمح مناهج البحث العلمي بالتشكيك في صحة نسبة هذه النصوص الدينية إلى مصادرها المزعومة مع قيام الأدلة على صحة نقلها. هذا الخلل في علاقة الدين بالعلوم الدنيوية هو أحد أسباب اضطراب حياة المسلمين المعاصرين، وهو ما يناقشه محمود في مشروعه.

لا تناقض بين الدين والعلوم الحديثة لاختلاف موضوع البحث فيهما. فالوحي لم يأت بشيء من هذه العلوم لأنَّ الدين طريق لعبادة الله وليس طريقاً لمعرفة علوم الدنيا، ولا يتعلق بها إلا "من جانب التعبد لله بالخضوع له وطاعة أوامره". ونسبة العلوم الدنيوية التي تتسع مجالاتها وطرق البحث فيها مع الزمن إلى المصادر الدينية كانت محل انتقاد الفقيه المالكي أبو محمد الشاطبي، المتوفى سنة 590 هجرية، في كتاب "الموافقات"، لمخالفتها ما ثبت من جريان الشريعة على مذاهب العرب وعلومهم وما ألفوه، أي لم تأت بجديد في علوم الدنيا ليتعلموه من مصادرها. 

ونصوص القرآن تدل على خطأ طلب العلوم الدنيوية من النصوص الدينية. يظهر ذلك في إجابة القرآن عن السؤال عن ماهية الأهلة بقوله "هي مواقيت للناس والحج" وإعراضه عن الإجابة عن حقيقتها، "تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن يُسأل الرسول عن تلك الأمور الدنيوية وأنها ليست من مهمته". إذ بيان حقائق الأمور الدنيوية وجوانبها الفنية وطرق أدائها وسبل تطويرها يُبحث فيه ويُطلب بعيداً عن النصوص الدينية. ولو كان الوحي يُعَلِّم المسلمين أمور الدنيا لكان أولى أن يُعلِّمهم الاكتشافات العلمية الهائلة التي سبقهم إليها غيرهم في الطب والحرب والفيزياء وغيرها. إذ "كيف يليق بالعليم القدير إذا أراد أن يعلم رسوله ما ينفعه وينفع المسلمين من علوم الدنيا، في آخر رسالة من الله للناس إلى يوم القيامة، أن يعلمه فائدة طبية تتعلق بوقوع الذباب في الشراب، أو بأكل العجوة في علاج السم والسحر . . . ولا يعلمه مثلا المضادات الحيوية التي تعالج الناس من الجراثيم الشائعة بينهم، أو صناعة البارود لقهر الأعداء ونصرة الدين؟" فإذا لم يكن للدين قول في المعارف الدنيوية فيستحيل أن يناقض العلم الحديث فيها. 

أما التناقض فبين العلم الحديث وما أسميه العلوم القرشية، أي العلوم التي كانت سائدة في البيئة القرشية التي عاش فيها الرسول. لا يشكك محمود في صحة نسبة الأحاديث التي ترشد إلى التداوي ببول الإبل مثلاً إلى الرسول، ولكنه ينفي أن يكون الرسول أَرشد إلى شيء من ذلك بناءً على الوحي. فهو بنص القرآن، "بشر مثلكم يوحى إلي"، يجتمع فيه الوحي والبشرية. وإذا كان العلم الذي مصدره الوحي معصوماً فالرسول في غير الوحي بشر من زمان ومكان معينين يتحدد علمه بهما. وهذا ما يدل عليه حديث "إني فيما لم يوح إليَّ كأحدكم"، وكذا حديث "إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"، وهو الحديث الذي أورده مسلم في صحيحه وعلق عليه المحدث والفقيه الشافعي محيي الدين النووي المتوفى سنة 676 هجرية، في كتاب "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن حجاج" بقوله: "قال العلماء أن المراد برأيه هو ما كان في أمر الدنيا ومعايشها . . . وقالوا بوجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي".  ولولا وجود هذا التمييز بين ما يقوله الرسول بناء على الوحي على سبيل التشريع وما يقوله رأياً ومشورةً دنيوية من غير وحي، لما جاز للصحابي الذي أمره الرسول أن يغير اسمه من حزن إلى سهل أن يعصيه، ولكنه، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري، رفض تغيير اسمه لأنه كما يقول محمود "فهم أن هذا الأمر نصح وإرشاد، لا حكم شرعي تجب طاعته، لأنه في أمر من أمور الدنيا، فلم يقبله".

وما يُنسب للوحي من كلام الرسول في العلوم الدنيوية إنما قاله بخبرته القرشية لا بالوحي. ومن ذلك إرشاده للحجامة وغيرها من سبل التداوي التي نصح بها أطباؤهم، وكذلك إرشاده الأعراب لشرب ألبان الإبل وأبوالها، والذي يعلق عليه أبو العباس القرطبي المحدث والفقيه الشافعي، المتوفى سنة 656 هجرية، في كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" بقوله إنه أرشد "أن يُطب كل جسم بما اعتاد"، لا أنه أخبر عن طريق الوحي بفائدة لتلك الألبان والأبوال.

ولا عجب في هذه الأمور الدنيوية غير القائمة على الوحي أن يكون الرسول معتقداً شيئاً بخلاف ما هو عليه. فالعلوم القائمة على البحث والتجربة والنظر تتطور، والمتأخر فيها أقرب للصواب من المتقدم. وجاء في الحديث "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله". يعلق النووي على هذا الحديث بقوله: "ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا [يقصد خطأ ظنه بشأن تلقيح النخل]"، أما آية "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى"، التي يكثر الاستدلال بها على أنَّ كلام الرسول كله من الوحي، فلا تفيد هذا المعنى، إذ معناها أنه "لا ينطق بشيء يكون فيه متبعاً هواه، لا أن كل نطقه عن وحي، فإن ذلك محال، لأنه كبشر ينطق بما يعبر عن فرحه وحزنه وتعجبه وسؤاله وطلب حاجاته البشرية، وتصور أن الله يوحي إليه أن امزح فقل كذا . . . يجرده عن بشريته، بل وعن عقله حاشا لله".

إذا كان كلام الرسول فيه الوحي إلهي المصدر والإرشاد بشري المصدر، فكيف يمكن تمييز أحدهما عن الآخر. الأصل في ذلك أن الرسول متى ناقش أمراً من جنس القُرُبات أو الأمور الغيبية، مثل الصلاة أو الذكر أو الحديث عن الملائكة والشياطين والحساب والثواب والعقاب الأخرويين، كان كلامه من الوحي. أما إن تحدّث عن أمور الدنيا من فوائد بعض الأشياء وكيفية أداء بعض الأمور، فالأصل أن كلامه إرشاد غير مبني على الوحي إلا إن كان في كلامه ترتيب ثواب أو عقاب أخروي على فعل الشيء أو تركه أو ربط ذلك بأمر غيبي كحضور ملائكة أو شياطين بسببه، فيكون وحياً. إذ لم يكن ذلك موجوداً قبل الشرع ولا سبيل لمعرفته بغير الوحي. 

يظهر بذلك أن كثيراً مما يُنسب للدين من آراء في أمور الدنيا أولى أن يُنسب إلى القرشية. فمثلاً ما يوصف بالطب النبوي، بما فيه من ذكر لفوائد بعض المواد كالحبة السوداء والقسط الهندي وغمس الذباب في الشراب والحجامة والشرب جالساً أدق أن يقال عنه الطب القرشي إذ ليس فيه شيء من الوحي، بل هو من اجتهاد الرسول ومعارفه المبنية على قرشيته. وختان المرأة ليس من الشرع وإن كان الحديث صحيحاً. إذ كان ختان النساء، المسمى بالخفض، عُرفاً عند العرب قبل الإسلام، "وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم التقليل من ضرره، فقال للقائمة به اخفضي ولا تنهكي . . . وكأنه قال لها إن كنت لابد فاعلةً فلا تبالغي . . . ومن يفهم الأسلوب العربي يعرف أن هذا ليس طلباً للقليل من القطع في الختان، بل هو نهي عن زيادته، وهو مُشعر بأن تركه أفضل". والختان من أمور الدنيا، لم يذكر الحديث أن فعله من الوحي، ولم يرتب عليه ثواباً ولا عقاباً، "فيكون كسائر الإرشادات الطبية التي يقول فيها برأيه وخبرته والمعلومات المتوفرة في عصره وبيئته". 

وقد يُعتَرض على ما سبق من أن الوحي ليس طريقاً لمعرفة الدنيا بما جاء في القرآن من إخبار عن أمور دنيوية. من ذلك الإخبار عن الأعراب أنهم "أَشَدُّ كُفرَاً ونِفَاقاً" وبعض أهل المدينة أنهم "مَرَدُوا عَلَى النِّفَاق"، واليهود أنهم "أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلذِينَ آمنوا". ويخبرُ القرآن أيضاً عن تميّز الرجالِ عقلاً على النساء اللائي وصفهنَّ بغير المبينات في الخصام كما في آية "أَوَمَنْ يَنَشأ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِين"، وهذا كله لا سبيل لنفي أنه من الوحي لأنه موجود في القرآن. بناء على ذلك لا سبيل لنفي أن النصوص الإسلامية مصدر معرفة للواقع. 

يجيب محمود عن هذا الاعتراض بأن هذا الإخبار "خاص بزمنه"، ولا يتجاوزه إلى غيره. فالقرآن يقطع بعداوة يهود معينين للمسلمين، ولا يصح أن يؤخذ من ذلك تعميم. والرغبة في التعميم تخالف الواقع المشاهد من وقوف جماعات يهودية ضد الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني برمته على سبيل المثال، وتعكس كذلك موقفاً فكرياً  للإسلاميين الذين يطلبون المعرفة الدنيوية من النصوص الدينية بدل طلبها من النظر في الواقع، وتخلّ في فهم مراعاة القرآن لأحوال المخاطبين. 


في سنة 1944 كتب المستشرق الإيطالي جورجيو ليفي ديلا فيدا أنَّ الإسلام "معقد جداً، لدرجة أنه لا يمكن أن يطابق إلا نفسه". قصد فيدا بذلك أنه لا يحسن فهم الإسلام ضمن إطار محدد سلفاً، بل ينبغي السعي إلى فهمه من غير أفكار سابقة عن ماهيته وحدود ما يناقشه من موضوعات. هذا الكلام صحيح من جهة أن القرآن نصٌّ متفرّدٌ يناقش أموراً متعددة بخطابات متباينة. فهو يتحدّث عن التشريع وعن خبر الغيب من جنة ونار وكيفية حساب ويخبر معها عن أمور مشاهدة مثل مراحل تكوين الجنين في الرحم وأن العسل "فيه شفاء للناس" وأثر السحر والحسد. بيد أن ذلك لا يعني أنَّ الشرع له في هذه العلوم موقف. وهذا أمر يحتاج ضبطه لفهم علاقة النص القرآني بالواقع الذي ظهر فيه. 

لا يخاطب القرآن مسلمي زماننا هذا أصالةً، فالمخاطَب به هم معاصرو الرسول. يدل على ذلك مثلاً حديثه عن صور الشهوات "مِنَ النِّسَاءِ والبَنِين والقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ والحَرْث". فهذه الشهوات ليست عامَّة في كلِّ زمان، وغالب الناس اليوم انصرف عن اشتهاء الخيل المسومة إلى المركبات والأسلحة الحديثة وصار الجاه والثراء بامتلاك الشركات والمصانع أكبر بكثير من اقتناء الأنعام والحرث. والآية لم تذكر استمتاع النساء بالرجال مع وجوده ولم يذكره سائر القرآن سواء المتعلق بشهوات الدنيا أو جزاء الآخرة "لما تقتضيه الآداب المرعية" عند المخاطَبين من ترك التصريح بذلك. ولو كان مسلمو اليوم مخاطبين بالقرآن أصالة لما ظهر وجه امتنان الله على البشر بإجراء السفن في البحر وأنه لو أسكن الريح لركدت على ظهره، إذ لا تحتاج سفن اليوم للريح لاعتمادها على الآلات.

ومراعاة هذا الواقع وظروفه شرط فهم معنى الكلام. فالقرآن يصف نعيم الجنة بما يناسب أحوال المخاطَبين، فيحدثهم عن الأنهار والعيون والفواكه وأنهم يجدون فيها ظلاً ظليلاً، "والحقيقة أن الجنة فيها كل نعيم، ولكن الخطاب القرآني بذكر بعض تفاصيل هذا النعيم يتوخى حال المخاطبين، ليكون تأثيره فيهم أعظم". ولو كان المخاطبون به في بلاد البرد لكان المناسب لهم الحديث عن الدفء والضياء. والعرب تعرف بالتجربة من قبل الإسلام أن العسل فيه شفاء للناس، وتعرف بالمشاهدة مراحل تكوين الجنين. فلم يأت القرآن بذلك على سبيل الإخبار والإعلام وإنما جاء به على سبيل الامتنان بذكر النعم تارة والاعتبار بحسن صنعة الخالق تارة أخرى. واستنكار القرآن على المخاطبين أنهم يجعلون لله البنات ولهم البنون ليس إقراراً منه بأنَّ البنات أدنى النوعين، ولكنه استنكار أن ينسبوا إليه ما يرونه أدنى. "واعتبار الأنثى أدنى من الذكر إنما كان باعتبار عرف المخاطبين وحالة المرأة في واقع حياتهم، وليس أمراً قرآنياً استبقاؤها على تلك الحالة، كسائر أخبار القرآن عن الواقع".

ويقال مثل ذلك في السحر والحسد، وهي صور للأذى يستند الاعتقاد في تأثيرها إلى ما يُتَصور أنه إقرار ديني بذلك. لا ينازع محمود في صحة النصوص المستند إليها في ذلك كآية السحر في سورة البقرة وكالتعوذ من الحسد في سورة الفلق. ولكنه ينازع في ما يفهمه الناس منها بناء على عدم مراعاتهم ظروف الواقع في معنى الكلام. فالعرب كانوا يعتقدون تأثير السحر من قبل الإسلام، وكان هذا الاعتقاد هو ذاته سبب التأثير. إذ التأثير قد يقع بالتوهم والتخيل وهو ما يقوله المحدث والفقيه الشافعي ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 للهجرة، في كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري". وبهذا يُفهم أيضاً حديث "العين حق"، أي الإصابة بها حاصلة على ما يعتقده الرسول ويراه في بيئته. والفرق بين السحر والعين أن الأول يُطلق على ما يقع من الساحر من أفعال واستخدام مواد وليس النظر بالعين فقط. وتأثير السحر يحصلُ بأحد أمرين: تأثّر الإنسان بطرق من المهارة والحيل حتى يُخيَّل إليه ما لا حقيقة له كما حدث لموسى مع سحرة فرعون، أو باعتقاد  الإنسان حصول التأثير بسبب اعتقاده السابق في أثر السحر كما حدث للنبي، "فكان يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، أي إتيان الزوجة. وهو حال نفسي أثر على الحال العضوي. وقد أفتاه الله بالعلاج النافع لديهم، بفعل ما يعتقد أنه يبطل السحر ويدفع شره". 

يميز محمود بين أنَّ الحسد آفة نفسية، وأنَّه مضرٌّ بالمحسود. أما الآفة فهو طوية الحاسد الخبيثة التي تتمنى زوال نعمة غيره، وهي آفة مهلكة للحاسد في آخرته وقد تفسد عليه دنياه باضطرابه الناتج عن عدم رضاه. ولكن ضررها لا يتعداه لغيره بنفس هذا التمني، وإنما يحصل الضرر بما يدفع إليه هذا الشعور من فعل مضر. "والقرآن بَيَّن ذلك، فقيد شر الحاسد المستعاذ منه بما إذا حسد، فقال: ومن شر حاسد إذا حسد. أما الحاسد الذي لم يقع منه الحسد فعلا أو قولا فلا ضرر للمحسود في مجرد كونه متمنياً".

يظهر من هذا كله مقصد الوحي، وهو بيان طريق عبادة الله فيتضح أن النصوص الدينية ليست من مصادر معرفة الواقع البتة. وتظهر المضار المترتبة على تصور تلك النصوص مصادر لمعرفة العلوم الدنيوية، إذ يؤدي إلى طلب المعرفة من غير مظانها وتعطيل العقل عن البحث في الكون عن الأسباب والوسائل والكيفيات، واعتقاد تناقض العلم والدين، وإساءة فهم نصوص القرآن. والأصل في هذا كله "بدعة" التزيد في الدين بإدخال ما ليس منه فيه بسبب فرضية "شمولية الإسلام".


إذا كانت العلوم الدنيوية لا تطلب من الدين فإن الأحكام الشرعية التكليفية تتعلق، بنص الفقهاء، بالأفعال الاختيارية للمكلفين بما في ذلك تصرفاتهم في الأمور الدنيوية. معنى ذلك أنه ما من فعل يُقْدِم عليه المكلَّف سواء كان فعلاً دينياً مثل الصلاة أو دنيوياً مثل الأكل والتجارة إلا وله حكم شرعي من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حرمة. وهذا الحكم يُستَمد من النصوص الشرعية التي خاطبت معاصري الرسالة أصالة. فكيف يؤثر اختلاف الواقع في الحكم الشرعي، يولي محمود اهتماماً كبيراً بضبط علاقة الحكم الشرعي بالواقع، إذ يرى الخلل فيها أحد أهم أسباب فساد الدين والدنيا جميعاً.

تختلف الأحكام الشرعية في تأثرها بتغير الواقع بناء على ثلاثة اعتبارات. الاعتبار الأول أن تكون المسألة من الأحكام المتعلقة بالدين والآخرة، أي من جنس القربات كالصلاة والذكر، أو أن تكون متعلقة الأحكام الدنيوية كالبيوع والنكاح والأكل. وأما الاعتبار الثاني فأن تكون تعبدية أو معقولة المعنى. فالحكم الشرعي "إما أن يُظهِر للعقل أن التكليف به يحقق مصلحة دنيوية فيكون حكماً معقول المعنى، كوجوب إعداد القوة للعدو وعقاب السارق، أو لا يظهر للعقل مصلحة دنيوية في التكليف فيكون حكماً تعبديّاً غير معقول المعنى، كوجوب الصلاة وحرمة أكل الخنزير". وعلى اختلاف نظر العلماء في تمييز أفراد هذين النوعين أحياناً فالبحث عن معقولية المعنى يقوم عند الجميع على تتبع العلة، ويشترط اطرادها في كل أفراد المسألة. وغالب الأحكام التعبدية تقع في العبادات لذا قالوا "العبادات محل التعبدات"، والقليل من الأحكام يقع خارج العبادات مثل تحريم الزنا وأكل الميتة. وأما الاعتبار الثالث فكون الشارع أمر بصورة معينة لامتثال الأمر، كما هو الحال في الصلاة، أو أمر بمعنى عام من غير صورة محددة، ومنه مطلق الأمر بالعدل والسماحة والرفق والرحمة. 

ينتج عن ذلك تقسيم الأحكام الشرعية في علاقتها بالواقع إلى خمسة  أنواع. النوع الأول الأحكام الدينية التعبدية وتشمل القربات  التي شُرعت بطريقة محددة مثل الصلاة. فيجب أن تؤدى بالهيئة المعروفة والمحددة ولا يمكن استبدالها بأي شكل آخر يعبر عن التضرع والخشوع. هذا النوع من الأحكام نص الشرع على كل مسائله فلا يقاس عليها لأن مقصوده التعبد من غير نظر لمصلحة دنيوية، والعقل "لا يستقل بإدراك ما هو تعبد مقبول عند الله".

النوع الثاني الأحكام التعبدية المتعلقة بالدنيا والتي شرعت بصورة معينة. وهي الأحكام التي لا تظهر منها فائدة دنيوية واضحة، فلا يمكن فهمها إلا بأنها أمر تعبدي مثل تفضيل استخدام اليد اليمنى على اليسرى واستحباب الوتر في سائر الأمور وتحريم أكل الميتة ولحم الخنزير وكذلك تحريم الزنا والربا. هذه الأحكام دل الدليل على أنها تعبدية شُرعت لإظهار التعبد والامتثال لأوامر الله، لا لتحقيق مصلحة أو تجنب ضرر دنيويين. فلم يحرم الشارعُ الزنا لتجنب اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض وغيرها من المضار التي يمكن تجنبها بتحريم البغاء خصوصاً لا الزنا عموماً. فالزنا قد يقع في علاقة مستقرة حصرية بين طرفين لا يُخشى فيها اختلاط الأنساب وقد يقع من عقيم، والنص يدل على حرمة هذه الصور كلها. فيدل ذلك على أن تحريم الزنا تعبدي. ومثل ذلك الربا لم يحرم لتجنب الاستغلال، لأن بعض صوره تتطابق في معناها وأثرها الاقتصادي مع بعض صور التجارة المباحة، وهو ما أشارت إليه الآية "ذَلِكَ بَأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيعُ مِثْلُ الرّبا"، وأقرته وجعلت سبب التفريق بين التجارة والربا تعبديا وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. ولأنَّ هذه الأحكام تعبدية والعقل - كما سبق - لا يستَقِلُّ بإدراك التَّعبد المقبول عند الله فهي أحكام لا يُقاس عليها. 

ثالث الأنواع هو الأحكام معقولة المعنى المتعلقة بالدنيا والتي نصَّ الشرع فيها على صورة معينة. وهذه الصورة كان امتثالها واجباً وقت ظهور الإسلام، حتى لو كان غيرها يشترك معها في تحقيق المعنى، لأن الشرع قصر الامتثال عليها وإن لم تكن مقصودة لذاتها. ومع تغير الواقع وجب النظر في علاقة الصورة بتحقيق المقصد، فإن كانت تحققه ظل امتثالها واجباً، أما إن تغير الواقع ولم تعد الصورة تحقق المقصد، وجب تحقيق المقصد بصورة جديدة. ومثال ذلك الأمر القرآني بإعداد رباط الخيل للعدو الذي كان على المسلمين الأوائل امتثاله حرفياً، أي بإعداد الخيل لأنه كان يحقق المقصد، ولكن مع تغير الزمن لم تعد الخيل تحقق المقصد فلم يعد إعدادها امتثالاً للأمر، لأنَّ "الحكم المعقول المعنى يتعلق التكليف أصالة بمعناه"، لا بصورته. وامتثال الأمر بصورة جديدة لا يتعارض مع الإجماع السابق لأنَّ الأحكام الشرعية ترتبط بظروف الزمن الذي نشأت فيه وتتغيرُ بتغير هذه الظروف، فهي "متوقفة في استمرار العمل بصورتها على استمرار وجود الظروف التي نشأت فيها، توقف الحكم على وجود محله". وليس الانتقال في الامتثال من الصورة القديمة إلى الجديدة نوعا من القياس، لأن شرط صحة القياس ألا يلغي الأصل، وامتثال الصورة الجديدة في هذه الأحكام يلغي القديمة. والانتقال عنها مع ذلك واجب لأنها إنما وردت "تنبيها على تحقيق المعنى المقصود بما يلائم الواقع، ومن أدرك الواقع اليوم أيقن بوجوب تغيير الكثير من تلك الصور كطرق إثبات الحقوق والجرائم والنسب المنصوص عليها بعد التطور العلمي الهائل فيها".

أما النوع الرابع فهو الأحكام المعقولة المعنى التي لم يحدد لها الشرع صورة معينة، والمتعلقة بأمور الدنيا، مثل الأمر العدل والإحسان، وهو أمر تتغير طريقة امتثاله من واقع لآخر. في زمن البعثة كانت غاية الإحسان إلى الحيوان عند ذبحه حد الشفرة وعدم ذبحه أمام غيره، فكانت هذه الصورة التي امتثلها الرسول والصحابة. ومع تطور العلوم صار بالإمكان  استخدام العقاقير والمسكنات لتقليل ألم الحيوان عند الذبح. ينبه محمود على أن المطلوب "اتباع" الرسول والسلف لا "محاكاتهم"، والمحاكاة في حالة الذبح تتجلى في الإصرار على الصورة الموروثة من غير تعديل، أما الاتباع فيكون بامتثال ما فيها من أحكام شرعية تتعلق بكيفيات الذبح واستخدام ما ظهر من وسائل حديثة لتقليل الألم التفاتا لمعنى الإحسان لأن الاتباع في محاسن الأخلاق، كما يقول محمود، إنما يكون بالصورة المناسبة لكل عصر. 

أما الأحكام التي يقصد فيها الشارع الصورة والمعنى جميعاً مثل أحكام الحدود، فيناقشها محمود في إطار التطور الكبير في العلوم الطبيعية والاجتماعية وفي سبل تنظيم الحياة الذي جعل الجمع بين الصورة والمعنى مستحيلاً أحياناً وغيّر الأسس التشريعية لهذه الأحكام في أحيان أخرى.


لم يكن "التطور الهائل" الذي شهده العالم في القرنين الأخيرين علمياً فقط، بل شمل كلَّ مناحي الحياة الاجتماعية. فالشرع حين ظهر كان الرقُّ منتشراً والرجال مفضلين على النساء بقدرتهم على الكسب وعلى حماية الجماعة البشرية بسبب تفوقهم في القوة الجسدية، والرابطة الدينية هي أساس قيام المجتمعات. وكانت قريش متميزة عن سائر العرب وكان السفر بين البلدان قطعة من العذاب محفوفاً بالمخاطر وكان السيف والفرس أدوات الحرب. ولما كان الإسلام ديناً لا مشروعَ تغييرٍ اجتماعي أقام الشرع أحكامه على هذا الواقع، فلم يلغِ الرقَّ ولا التراتبية بين الرجل والمرأة وجعل الرابطة الدينية أساس المجتمع وجعل الرئاسة في قريش. وظلَّ التغيير محدوداً قروناً قبل أن تتغير الأوضاعُ في القرنين الأخيرين، فاندثر الرّقُّ تدريجياً بعد الثورة الصناعية ثم أُلغيَ كليةً بعدها بقرنٍ تقريباً وحلَّت الآلاتُ الحربيَّةُ المتطورة محلَّ السيف والفرس والقوة البدنية في الحروب وتساوى الرجال والنساء في قدرتهم على الكسب وعلى الدفاع عن الجماعة البشرية وتفكَّكت المجتمعاتُ القديمة وقامت أخرى على أساس المواطنة لا الرابطة الدينية وصار العالم "قرية صغيرة" يسهل التنقل بين أرجائها من غير مشقة، وصاحب هذا كله تطور علمي لا يقلّ عنه أهمية. فكيف يؤثّر هذا كله على الحكم الشرعي؟

ينطلق محمود في بحثه عن الحكم الشرعي في المسائل المتعلقة بالواقع من إدراك الواقع الجديد والقبول به. هذا القبول له سبب شرعي وآخر عقلي. أما السبب الشرعي فإدراك أن الواقع القديم ليس من الدين. فلا يعني قبول الشرع بالتراتبية بين الرجل والمرأة على سبيل المثال أنها صارت جزءا منه، فالدين لم يأمر بها ابتداء وإنما وجدها قائمة، ثم هو "لم يأمر باستبقائها على ما هي عليه، ولا أرشد إلى تطويرها، ولم تأت الرسل أصلاً لتعلم الناس أمور دنياهم، فلا تؤخذ هذه الأمور من الدين البتة". وأما السبب العقلي فهو أن تغير الواقع سنة كونية حتمية لن تمنعها الرغبة في العودة إلى الواقع الأول أو استبقائه، ولذا فلن تثمر مقاومتها إلا إهدار الوقت والجهد. وأما إدراك الواقع فيقوم على فهمه بالنظر فيه وطلب العلم به من مظانه لا من نصوص الشرع. 

يظهرُ أثرُ هذا الإدراك في الأحكام المتعلِّقَةِ بالمرأة. فانتفاء الأسباب الاجتماعية التاريخية لتمييز الرجال عنهنَّ يوجب تغيرَ صورةِ الحكمِ الشرعي لتحقق المعنى المطلوب في الواقع الجديد، ولئلا تنتقل الأحكام من العدل إلى الجور. ففي الأسرة مثلاً، لم يعد مسوغ سلطة الرجال على النساء كما كان سابقاً، فلم تكن تلك السلطة في صورة القوامة تعبديّة، إنَّما كانت "من أعرافهم وعاداتهم، وكانت حياتهم تنصلح بذلك". يقول محمود: "صارت الحياة بين الزوجين تستقيم بالتعاون والمشاركة في العمل والإنفاق وتعليم الأولاد وغير ذلك، وصار قهر المرأة وضربها ظلماً وإهانة. وإذا تغير العرف إلى ما فيه مصلحة الناس وجب العمل به". 

وفي المجال العام تستوي المرأة والرجل في حق تولي الولايات العامة، وأما حديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فدلالته محل اختلاف. وعلى فرض عمومها فقد ورد "في زمن كانت المرأة فيه معزولة عن شؤون السياسة العامة، وكانت حياتها غالباً مقصورة على بيتها وزوجها ولا تخالط الحياة العامة إلا قليلا". فلم تكن في الغالب مؤهَّلةً لهذه الولاية، ولم يعد الأمر الآن كذلك. وكانت هذه العلة سبب قصور شهادتها عن شهادة الرجل. إذ أدت قلة احتكاكها بالحياة خارج بيتها إلى "ضعف الضبط عندها فيما يتعلق بالشؤون العامة، لقلة ممارستها لها، وليس لأنها أضعف ضبطاً من الرجل بمقتضى الخلقة في جميع الشؤون". ودليل ذلك أن رواية الحديث تشبه الشهادة في حاجتها إلى الذاكرة القوية والأمانة، فلو كانت المرأة بمقتضى خلقتها أضعف ذاكرة من الرجل أو أقل منه أمانة، لما كانت تُقبل رواية الواحدة للحديث، ولكنها تُقبل إجماعاً، على نحو يدلّ على أن ضعف الذاكرة الذي يشير إليه القرآن بقوله "أَن تَضِلَّ إِحداهُما فتُذَكِّرَ إحداهُما الأخرى" ليس جِبِلّياً، ولكنه ناتج عن ظرف اجتماعي خاص بزمنه، وهو قلة معرفتها بتفاصيل المعاملات المالية لقلة تدخلها فيها ذلك الزمان. وتغير الواقع لا يُبقي سبباً لبقاء هذا التمييز. وأما فيما يتعلق بالديات، فكانت ديتها أنقص من دية الرجل لأنَّ قتله أكثر ضرراً بالأهل لمسؤوليته عن الإنفاق، لا للذكورة والأنوثة في ذاتهما. ودليل ذلك أنَّ دية الأطفال من الجنسين كانت واحدة. ولمَّا تغيرت الأحوال وتساوت المرأة مع الرجل في النفع للأهل والمجتمع، صارت مساواتهما في الدية حتمية.

أثَرُ تغيّر الواقع على الديات لا يقتَصِرُ على مساواة المرأة بالرجل. بل أدَّت التطورات العلمية إلى تغييرات أُخرى. إذ الأصل في ضمانِ المتلفات في الشرع أن يُغرَّمَ الجاني مثل ما أتلف فيؤدّيه للمجني عليه، فإن أتلف دابة مثلاً وجب عليه أن يؤدّي إلى مثلها، فإن تعذَّرَ وجودُ المثل يؤدّي القيمة. وكان المثل في إتلاف الأعضاء متعذراً، إذ لم يوجد عندهم ما يؤدي وظيفة العضو، فقدَّر الشرعُ كلَّ عضو بقيمةٍ معينةٍ صارت ديته. ولم يعد الأمرُ بالضرورة كذلك، إذ أصبحَ مِن الممكن اليوم علاج العضو التالف، أو تركيب عضو صناعي يقوم بجل مهامّه الأساسية، بتكلفةٍ تفوقُ أحياناً كثيرةً الدية المقررة في الكتب، "فتعين النظر فيما يلزم الجاني ليكون إصلاح التالف بما يلزمه من تكاليف الإصلاح، وليس بالقدر الوارد للدية، فالوارد مثلا في إذهاب بصر عين هو نصف دية، فنقول يغرم الجاني اليوم قيمة علاجها إن تيسر، زاد عن قدر ديتها أو نقص".

وفي مجال السياسة والحكم تغيرت أحكام كثيرة لتغير الواقع. إذ صار الحاكم موظفاً أعلى في السلطة التنفيذية، فلم تعد أحكام الإمامة التي وردت من طرق تعيينه وعزله وصلاحيته ومسؤولياته كما هي، ولم تعد له سلطة دينية كما كان في السابق. ولم تعد طاعته واجبة إنَّما الواجب التزام الشرط المتفق عليه بينه وبين المواطنين، الذي هو الدستور، لأنَّ المسلمين عند شروطهم. وكان الشرع نهى عن طلب الإمارة، التي هي الوظائف العامة، لأن توليها كان بيد الحاكم وحده، "فكان طلب الإمارة يعد طمعاً في المنافع والسلطة والوجاهة وتدخلا في شأن الحكم وصلاحيات الحاكم وتفتح بابا للرشوة". أما وقد تغيّر الوضع وصارت الوظائف حقّاً عامّاً تُطلب بالانتخاب أو بالوسائل التي يُحدِّدها الدستور وتنظّمها القوانين ولم تعد منوطةً بنظرِ الحاكم الفرد الذي يمنحُ ما شاء لمن شاء، فإِن طلبها والتنافس عليها بالمؤهّلات اللازمة صار الوسيلة الأضمن لوصولِ الأفضلِ للمنصب.

أما قيامُ المجتمعات على أساس المواطنة لا الرابطة الدينية فأثَّرَ في الأحكام الشرعية من جهات. أولها أن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر لم يعد له محل، فزالت الأحكام المعقولة المعنى التي كانت مبنية عليه، "كأحكام الذمة ومعاملة غير المسلمين بالإخضاع والتقييد وانتقاص الحقوق". وثانيها انتفاء الأحكام التي بنيت على وجود الرابطة الدينية كقتل المرتد عن الدين. وثالثها عدم جواز فرض عقوبات على المعاصي الدينية كما كان شائعاً في القديم. وهذه العقوبات هي "حدّ الزنا، وحدّ قذف المسلم بالزنا، وحدّ شرب المسلم الخمر، والتعزير الذي يراه الحاكم على فعل المعاصي، وهي أمور تعبدية غير معقولة المعنى"، لا يتأتى فرضها بصورتها إلا إن كانت الدولة مبنيةً على الأساس الديني، لأنَّ الدولة إنَّما تفرض العقوبات على مخالفة نظامها المبني على أسس قيامها. فإن قامت الدولة الدينية "فلتفرض هذه العقوبات بضوابطها الشرعية ولتفرض حكم الردة والأحكام المتعلقة بغير المسلمين. أما وجوب إقامة تلك الدولة فينظر فيه إلى مقارنة المصالح والمفاسد الدينية". ويظهر من بحث محمود هذه المسألة ترجيحه أن مفاسد إقامة الدولة الدينية صارت الغالبة في هذا الزمان فينبغي الإعراض عنها. 

على أنَّ العقوبات التي تقرِّرها الشريعة ليست كلها على المعاصي الدينية، بل بعضها على جرائم يُعاقب عليها الكافر كالسرقة والقتل وقطع الطريق. يناقش محمود هذه المسألة من جهتين، أولاهما أنّه على كون معاقبة فاعل هذه الجرائم أمر معقول المعنى، يُقصد به زجر مرتكبي الجرائم لما فيها من عدوان على الغير، فإن الصورةَ المعينةَ للعقاب دينية. نعم، بعض العقوبات كان معمولاً بها قبلَ الإسلام، "كقتل القاتل، وقطع يد السارق، وصلب قاطع الطريق، والقصاص بالمثل"، ولكن إقرار الشرع لها، ووضعه ضوابطها، يجعلها بهذه الصفة دينية لا تكون إلا في الدولة القائمة على أساس ديني. وأما الجهة الثانية فهي أنَّ صورة العقوبة الشرعية في الحدود لا يجوز تعديها إلى غيرها ولو بدا أنَّ هذا الغير يُحقق المعنى المقصود، "ويظل الأمر على ذلك ما دام محققا للمعنى الذي شرعت العقوبة من أجله". فإذا تغيَّر الواقع بحيث لم يعد الجمع بينَ الصورةِ والمعنى ممكناً، كان النظر إلى المعنى أولى. ويظهر هذا في الديات كما سبق، ويظهر أيضاً في قطع يد السارق. من جهة، صار بإمكان الطب إعادتها في بعض الحالات، ووجدت الأجهزة التعويضية التي تعمل بكفاءة عالية، وتناقص الاعتماد على اليد في العمل، وصارت الدولة ترعى الضعفاء والمرضى والعاجزين عن الكسب فيستحق من قُطعت يده الإنفاق فتزيد أعباء الدولة بسبب القطع. ومن جهة أخرى، تغير مفهوم السرقة فلم تعد صورتها التي تُقطع فيها اليد، وهي أخذ المال خفية من حرز مثله، هي الأخطر، بل صارت أغلب السرقات تحصل بالاختلاس والغصب والاحتيال والجرائم الإلكترونية وغيرها مما لا يدخل في الصورة المُعاقَب عليها شرعاً بالحد. فلو عُمل بالقطع بشروطه لما شمل إلا الأقل من الجرائم، ولتميز الغني فيها عن الفقير بقدرته على تحمل العلاج، ولزاد العبء على الدولة، ولكان ذلك "ظلماً لسارق القليل بعقابه بشدة مع إعفاء سارق الملايين من هذا العقاب". لا يقطع محمود بأثر ذلك على الحكم، بل يكتفي بالإشارة إلى وجوب النظر في شأن العقوبة بناء على هذه التطورات، كما هو الحال في المسائل المختلفة، بيد أن النظر في أمر هذه العقوبات وتحقيقها المقصود منها "يحتاج إلى بحث دقيقٍ في أحوال المجتمع وأثر تطور الحياة على أنواع الجرائم وأساليبها، وابتكار وسائل جديدة للعقوبات تناسب هذا التطور، وتطور علم النفس لتمييز المجرم عن المريض".

لا يقف التجديد القائم على تغيير الواقع عند هذه المسائل، بل يتخطّاها إلى مسائل لا تُحصر. فالنظام القضائي الذي كان قائماً على الأخلاق الدينية للأفراد وإحجامهم عن شهادة الزور لم يعد يقوى على إقامة العدل بسبب تردي الوازع الديني، فصار اللجوء لوسائل أخرى لإقامة البيّنات حتمياً. وكذلك سبل تنظيم الاقتصاد المنصوص عليها في كتب الفقه لم تعد تُناسب العصر، وغير ذلك ممّا صار التّمسك بصورته الأولى مع تغير الزمان مضيعة لمعناه. وهذا كلّه يقوم على القبول بتغير صورة الحياة في الحاضر عنها في الماضي، وهو ما يرفض أكثر الإسلاميين في هذا الزمان تبعاته لتعلّقهم بالصورة السابقة وعملهم على تعميمها بدعوى صلاحيتها لكلّ زمان ومكان.


لا تقلّ دعوى "صلاحية الشريعة لكلِّ زمان ومكان" مركزيةً في خطاب الإسلاميين، خصوصاً المشتغلين بالسياسة والحكم، عن دعوى "شمولية الإسلام". وهي دعوى تقوم في صورتها الرئيسية على افتراض أن محل الأحكام الشرعية والسياق الذي ظهرت فيه باق، وأن تغير الواقع محدود، على نحو يجعل الإسلام مرادفاً للماضي. تمثل هذه الدعوى أحدَ أركان مشروع الإسلاميين، ولذا يصعب حصر الأبحاث والمقالات والكتب التي ألَّفها رموز التيارات الإسلامية المختلفة للتأسيس لها. فقد ألَّف يوسف القرضاوي "شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان"، وخصَّص لها صلاح الصاوي فصلاً في كتابه "شبهات حول تطبيق الشريعة الإسلامية"، وكتب فيها عبد العزيز بن باز، وغيرهم. والسمة الغالبة على هذه الكتابات تأكيد أن الدين كان بناء على آية "اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً". والتأكيد أن المسلمين في العصور كافّةً مخاطبون بأحكام الإسلام التي لا تقف عند حدود زمان أو مكان. وقلَّما تُميز هذه الكتاباتُ الدينَ عن الواقع الذي ظهر فيه. فهي لا تميز الأمور التي شُرِعت تعبُّداً لله عن التي شُرِعَت لكونها وسائل مناسبة للزمان، ولا تميزهما عن أمور دنيوية فعلها الرسول "باعتباره بشراً من ذاك المكان والزمان" مثل اللباس والطعام والتداوي والتزين والتعطر ووسائل الانتقال والحساب والفلك. وغياب هذا التمييز يجعل الكل ديناً فيصير الدين مرادفاً للماضي.

يرى محمود هذا الماضي قاتلاً يُفسِدُ على المسلمين دنياهم بدفعهم لمعاندة واقعهم طلباً لدينهم. لا يُقاتل أحدٌ اليوم بالسيف والخيل ولا ينظّمُ أحد الجند في القتال صفَّاً كالبنيان المرصوص ويزعم أن ذلك هو الدين، مع أنَّ تلك الصورة في القرآن محمودة. ومع ذلك فثمة مَن "يميل إلى التفسيرات الغيبية لأمور الحياة بدلا من التجربة والبحث، ويعزو الأضرار والأمراض للعين والجن والسحر، ويبحث عن علاج لها بالرقى واستخراج الجن وإبطال العمل". أو يسعى إلى التداوي بالحبة السوداء والريق والتراب وألبان الإبل وأبوالها والاكتحال بالإثمد ويعادي الفنون بأنواعها ويرتدي الأزياء المناسبة لبيئة الحجاز ويقبل بالحكم الوراثي الاستبدادي ويعارض تغيير طرق إثبات الحقوق والجرائم والنسب، ويعدّ ذلك كله من الدين. والنتيجة الحتمية لترك أسباب الشفاء والقوة والعلم هي المرض والضعف والجهل. 

وتضييع الدنيا على هذا النحو لا يؤدي للفوز بالدين، فمعاندو الواقع هم أبناؤه شاؤوا أم أبوا ولا سبيل لهم إلا استعمال أدواته. وليس ما يطلبه هؤلاء ديناً، إنما هو بدعة فيه بالتزيد عليه تارة بجعل الأمور الدنيوية التي قام بها أهل زمان سابق من الدين، وبإهدار المعنى المقصود من أحكامه معقولة المعنى تارة أخرى. وهذا المسعى يزيد أتباعَه انفصالاً عن الحياة حتى يُصبح الواحد منهم "مختل العقل مضطرب النفس، ويبوء بالخيبة والخسران". وهو مع ذلك يحسب نفسه فاز بالدين وصارَ من الغرباء، وأنه طوبى له كما جاء في الحديث "طوبى للغرباء". "وليس الأمر كذلك، فكيف يكونون الغرباءَ المشارَ إليهم في حين أنهم يفهمون الدين كما يفهمه السواد الأكبر من المتمسكين بالدين" بل الغريب اليوم هم من "يميزون بين التعبدي والمعقول، ويدركون المعنى المقصود من التشريع فيتبعونه بحسب ما يقتضيه الحال، وهؤلاء كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، فطوبى لهم من غرباء".

ولا يقف هذا التصور للدين عند الإسلاميين، بل يتجاوزهم لخصومهم كذلك. يتجلى ذلك في نفور هؤلاء الخصوم من فكرة التمسك بالسنة لأنها تعني عندهم التصرف "بغرابة عن الواقع وانفصال عنه"، إذ السنة عندهم وعند الإسلاميين هي محاكاة الماضي لا الاقتداء به. ويتجلى تصور الماضي بوصفه مرادفاً للإسلام في الانتقاد الموجه، من منظور زماننا هذا، للشرع لأنه لم يلغ الرق ولم يُنهِ التراتبية بين الرجال والنساء أو التمييز على أساس ديني أو غير ذلك. بينما يرى الموقف المقابل أنَّ نصوص الإسلام ألغت الرّق وضرب النساء ثم انحرف المسلمون عن ذلك بتأويلات باطلة تبقي لذوي القوة قوتهم. يرى محمود في هذا الموقف "سخفاً وحمقاً وجهلاً"، يتصور الإسلامَ مشروعَ تغيير اجتماعي لا ديناً. 

ما كان الشرع  ليأتيَ بشيءٍ من أساليب الحياة قبل أوانه، "لأن الله لم ينزل الدين لخرق نظام الأسباب الذي وضعه للدنيا، وأراد لها أن تخضع له، كأنه وضعه مختلا فأراد إصلاح ما به من خلل". وكما كانت نشأة الرق مرتبطة بأسباب تاريخية على رأسها قيام المجتمعات الزراعية، فإن إلغاءه لم يكن مُتَصَوَّراً قبل الثورة الصناعية التي أحلَّت الآلات محل العبيد. ولا يُعاب أهلُ العصور التالية على عدم إلغائهم الرّقَّ مع حضِّ الشرع على العتق، إذ كانت أسباب وجوده باقية، والإنسان "إنما يعاب على تخلفه وقصوره عما يمكن الإتيان به حسب مقتضيات عصره، وإلا ظلت البشرية كلها مذمومة أبدا". وبالمفهوم: يُعابُ أهل هذا الزمان إن هم تمسَّكوا بصورة لم يعد أصلها موجوداً، وتناقض العدالة وليست من الشريعة، مثل تمييز الرجال على النساء وغير ذلك. 

مصدر الخلل في هذا كلِّه تصوّر إمكان مخالفة الأسباب، تارة بمعاندة الواقع والسعي إلى استعادةِ الماضي لظنّه ديناً، وتارة بذمِّ هذا الدين لأنَّه في صورته في زمنٍ مضى لم يلغِ صورَ القهر والتمييز التي لم تكن أسباب بقائها قد زالت. وبإصلاح هذه الخلل يتَّضحُ أنَّ المسلمين الأوائل عاشوا واقعهم واختلط الدين به، ثم تغيَّرَ الزَّمن فأنتج واقعاً جديداً يعيشه مسلمو اليوم فعليهم أن يعيشوه مقتدين بما سبق من غير محاكاة له، وإلا صادموا قانون الأسباب الذي لا سبيل إلى مغالبته. 


ثمة افتراضٌ يلازم فكرة "شمولية الإسلام"، وهو أن التزام الحكم الشرعي يجعل الفرد والجماعة أقرب إلى النجاح وإن قصرت عنه الأسباب، بالبركة أو التوفيق. يسلم كثير من المسلمين بوجوب الأخذ بالأسباب، ويُسلّمون أنَّ أسبابَ القوَّة والنصر والنجاح عندهم أقل منها عند غيرهم، لكنهم لايُسلّمون بالضرورة أن السبب هو الانصراف عن طلب الأسباب من مظانها. ويأملون على ذلك أن تكون الغلبة لهم، إما لأنهم أتوا بما يستطيعون من أسباب وهذه حدود التكليف، إذ "لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وسْعَهَا". وإمّا لأنَّهم جمعوا إليها الدعاء الذي وعد الله بالاستجابة له في قوله "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم". أو لأنَّهم آمنوا بالله ونصروه فاستحقُّوا النصرَ لقوله "إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدّنيا ويومَ يَقُومُ الأشهاد". لا يقطع جلُّ المسلمين بحصول النصر مع عدمِ كفاية الأسباب، كما لا يقطعون بحصوله بِتوفّر الأسباب. لكنَّهم يطمعون في الحالتين بالنصر. أمَّا محمود فيقطع بحصولُ ما حَصلت أسبابه، سواء كان نصراً في حرب أو شفاء لمريض أو نجاحاً في امتحان. ويقطعُ بعدم حصول ما لم تحصل أسبابه، إذ "دعوى أن الله يتكفل للمؤمنين بحصول النتائج مع قصور أسبابها هي دعوى باطلة مخالفة لصريح القرآن وإجماع العلماء"، واعتقادُ غير ذلك خللٌ في فهمِ قانونِ الأسباب يُسهِمُ في إفساد دين المسلمين ودنياهم.

أصل هذا الخلل تصوّر أن القدر والأسباب مجالان مختلفان بينهما صدام، على نحو يقصر ظهور الفعل الإلهي في الكون على لحظات تعطل الأسباب. يرجع هذا الخلل إلى خطأ في تصور معنى القدر ومعنى السببية، أي الاعتقاد بأن كل حدث أو شيء ناتج بالضرورة عن سبب أدى إلى وقوعه وحدوثه. أما القدر، فهو "تحديد الله سلفا للأشياء بما تكون عليه". وحصول هذه الأشياء في الواقع، وإن كان ممكناً بلا أسباب، فقد اقتضت إرادة الله ألا يكون إلا من الأسباب. وإلى هذا يشير الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي، المتوفى سنة 626، في كتابه "أنوار البروق في أنواء الفروق" بقوله "ما رتب الله سبحانه مقدوراً إلا على سبب عادي، ولو شاء لما ربطه به". والإيمان بقدرة الله على إنفاذ قدره بغير الأسباب العادية، أي قوانين الطبيعة، وبأنه خالق قانون الأسباب لا يتقيد به، "لا يتنافى مع ما ثبت شرعاً من اقتضاء إرادته أنه ينفذه بها"، إلا في الخوارق التي سيأتي الكلامُ عنها. يظهر بهذا أن "جميع المقدرات سببية"، وأن خضوع الكون لقانون الأسباب "إنما مرجعه هو إرادة الله لذلك". وعليه فالأسباب من القدر، بل السببية هي مقتضى القدر.

وقانونُ الأسباب يسري على الجميع بلا تمييز. لأن السبب متى وُجِد وجدت النتيجة، كأنَّ السبب والنتيجة طرفا معادلةٍ رياضية، على نحو يجعل مجمل الأسباب عين النتيجة. فالنار متى وجدت تحرق، كما يقول أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 في كتابه "معراج السالكين"، لأن الله كتب "في كتابه السابق، وقضى بقضائه المحتم، بأن يمكن الطبائع من مطبعاتها، فالنار متى تمكنت من القطن أحرقت ضرورة"، والأسباب جميعها كذلك. وعليه فحصول الشيء متوقف على وجود أسبابه "دون أن يتوقف على الرغبة أو القصد أو العلم بوجود الأسباب أو العلم بأنها أسباب أو معرفة كيف تؤدي إلى النتائج، وأعني بوجود الأسباب ما يشمل وجود الشروط وانتفاء الموانع". والسببُ يؤدّي إلى النتيجة سواء كانت مقبولة ديناً وعرفاً وأخلاقاً أو لا. فمَن حاز أسبابَ النصر انتصر ومن تهيأت له أسبابُ النجاح نجح سواء كان مؤمناً أو كافراً أو ظالماً أو مظلوماً أو مجتهداً أو متكاسلاً.

وتصوّرُ خرق الله الأسبابَ وقانونَ العادة للمؤمنين يهدمُ بنيانَ الدين من القواعد. لأن دليل صدق النبي هو المعجزة، والمعجزةُ أمرٌ خارق للعادة يجريه الله على يد النبي على وجه يدل على صدقه، بتعريف علماء الكلام المسلمين. ووجه دلالتها على صحة دعوى النبوة، كما يقول محمود، أنَّ "العادة المستقرة وإن جاز في العقل تخلفها إلا أننا نقطع بحصول العلم اليقيني الضروري باطرادها وعدم تخلفها". وإلا لما كان هذا التخلّف أمراً خارقاً، يمكنُ إنزالُه منزلةَ قول الله صدق رسولي فيما يبلغه عني. والادّعاء أن الله يخرق العادة في حق المسلمين، "فينصرهم ويرزقهم بالإيمان والصلاة والدعاء والذكر ولو مع قصور أسبابهم ويحرمهم الرزق بالمعاصي ولو مع اكتمال أسبابهم"، معناه اطّراد خرق العادة، وهو يُفضي إلى انهدام الدين وأحكامه لأنَّه "لولا الوثوق باطّراد العادة لما كان لخرقها دلالة على تصديق دعوى النبوة". وقد نبّه القرافي في "الفروق" على عدم جواز طلب خرق الأسباب، حين عدَّ من الدعاء المحرم "سؤال المستحيلات العادية"، وعقَّب على ذلك بقوله "يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله تعالى في تصرفاته في خلقه، وربطه المسببات بالأسباب في الدنيا والآخرة مع إمكان صدورها عن قدرته بغير تلك الأسباب أو بغير سبب البتة، بل رتب الله تعالى مملكته على نظام ووضعها على قانون قضاه وقدره، لا يسأل عما يفعل، فإذا سأل الداعي من الله تغيير مملكته ونقض نظامه وسلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئاً الأدب عليه عز وجل".

لكن إذا كانت علاقةُ الأسباب بالنتائج قطعية فما معنى الدعاء، وكيف للمسلم أن يفهم النصوص الدالة على نصر الله المؤمنين، وعلى عدم مطالبتهم بما يفوق قدرتهم على الأسباب. أما الدعاء "فلا يستجاب منه إلا ما سبق به القدر"، كما يقول النووي في شرح صحيح مسلم. وصور الاستجابة فيه مختلفةٌ كما هو مشهور من أنه قد يحصل للداعي ما يدعو به، أو يُصرف عنه من السوء بمثله، أو يدّخر له ثوابه في الآخرة. وعليه فهو عبادة مستقلة مطلوبة لذاتها لإظهار الخضوع، وليس من الأسباب الموصِلَة إلى النتائج ولا يؤثّر في حصولها. وأمَّا النصوص التي ترتّب المنافع الدنيوية على أعمال الآخرة فينبه محمود أنها إما أحاديثُ ضعيفة واهية أو موضوعة أو ينبغي تأويلها بما يوافق العقل والشرع. ومن المؤوّل الحديثُ الصحيح أنَّ فاطمة شكت ممَّا تلقى في يدها من الرحى وسألت النبي خادماً فقال لها ولعلي: "ألا أدلّكما على خير مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خيرٌ لكما من خادم"، الذي يُستدل به على طلب الدنيا بالأعمال التعبدية الأخروية. يُعلِّقُ ابن حجر على هذا الحديث بقوله "والذي يظهر أن المراد أن نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة، ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى". وهو ما يعقّب عليه محمود بقوله "فأعرض رحمه الله عما ذكره البعض لما فيه من خلط أسباب الدنيا بأسباب الآخرة، واستظهر أن أسباب كل من الدارين مختصة بها، وهو صريح فيما نقول، ويؤيده أن عليّاً رضي الله عنه استمرَّ على هذا الذكر بعد أن أغناه الله وصار أميراً للمؤمنين، ولم يتركه ولا ليلة صفين، وذلك لأنه يتعبد لله به يبتغي ثواب الآخرة لا منافع الدنيا". وأما عدم التكليف بما يفوق الوسع فمعناه أنَّ الإنسان "إذا استفرغ وسعه، وبذل جهده، ثم لم يحقق الأسباب الكافية لحصول هدف معين كالنصر على العدو مثلاً فإنه لا يأثم لكونه لم يقصر، ولكن الهدف لا يتحقق لعدم توفير أسبابه".

وعليه فليس المتدينون أقرب لتحقيق مقاصدهم في الدنيا، سواء التي حضَّ عليها الشرع أو التي سكت عنها، من غيرهم بتدينهم نفسه. بل لا يتحقَّق مقصدٌ بغير أسبابه، والدين ليس من أسباب الدنيا. ولا يبقى بالتالي لشعار مثل "الإسلام هو الحل" محل. فلا العلوم الدنيوية تُعرف من النصوص الشرعية، ولا صورة لوجود الحكم الشرعي في الماضي كصورتها الآن، ولا التزام الحكم الشرعي يجعل الناس أقرب للتوفيق ويجبر قصورهم في الأسباب. بل ربما يكون الإسلام أحياناً هو المشكلة، لا سيما حين تَحولُ الأحكامُ التعبدية في المعاملات دون تحصيل مقاصد معينة على نحو يضطر المسلمين للبحث عن حلول لتلك العقبة يَظهرُ به امتثالهم للشرع بعدم إهدار أحكامه.


هل يبقى من الإسلام بعد هذا التجديد شيء، تتوقف إجابة هذا السؤال على موقع السائل. أما الإسلاميون الذين يرون الإسلام نظاماً شاملاً فيتوجَّسون من انحسار دوره بطلب العلوم من غيره، وعدم الاعتماد على امتثال أوامره لجبر النقص في الأسباب، والتخلي عن الصورة الموروثة لتطبيقه، والتي يرونها الحالة المثالية المتجاوزة التاريخ. أما من منظور محمود فالإسلام كله باق لم ينقص منه إلا "الأوهام" التي أضيفت إليه، فيزيلها عنه ليبقى الدين الذي هو طريق معرفة الله وعبادته وطلب الآخرة. ويبقى مافيه من عقائد وأخلاق وعبادات وأحكام تعبدية في المعاملات، لا تتغير بتغير الواقع، وأحكام أخرى في المعاملات تتغير صورها بتغير الواقع لتُوصِل إلى المقاصد ذاتها. 

ترفع واقعية محمود الحرج عن المسلمين المعاصرين في صلتهم بتاريخهم وحاضرهم جميعاً من غير تلفيق منهجي. فتمييز محمود الاقتداء عن المحاكاة واعتباره أثر الواقع في الحكم الشرعي يرفع الحرج عن المسلمين المعاصرين، فلا يحتاجون إلى إعلان القطعية مع تاريخهم والحكم على العلماء على مدار القرون بالانحراف عن الشرف والنكوص عن مقتضيات العدالة، ليقبلوا بمنجزات الحضارة البشرية، من إلغاء الرق وتأكيد المساواة بين الناس جميعاً. بل يبقى اتصال السند بالسابقين والاستناد إليهم في معرفة أحكام الدين قائماً على نحو يعصم الدين مما ليس منه، وتسلم به الأمة بأجيالها من تهمة الاجتماع على ضلالة. 

وأما الحاضر فلأنه بإدراك الواقع واعتبار أثره في الحكم الشرعي يعصم المسلمين من مخالفة ما يعتقدون وجوب الالتزام به. إذ لا يسع الناس اليوم الاستغناء في حياتهم عن الشركات المساهمة، ذات الشخصية الاعتبارية التي توظِف الناس ويتعاملون معها بالبيع والشراء في كل أمورهم، والفقه القديم مع ذلك لا يعترف بها. وتفرض الحياة على الغالبية العظمى من الأزواج التشارك في حمل أعباء الحياة على نحو لا يُبقي لقصر النفقة على الرجال موضعاً. ولو كان عرض الطريق اليوم سبعة أذرع، كما ينص الحديث، لاستحال التنقل بالسيارات. ولا يسع المسلمون المقيمون في دول غربية التزام المنقول بشأن "دار الحرب" وأدناه المنصوص عليه من حرمة حمل القرآن إليها مخافة العبث به وامتهانه. فلو أصرَّ الناسُ على صورةِ الفقه القديم لخاضوا هذا كله مع اعتقادهم حرمتَه، وكثرة مخالفة الإنسان لما يعتقد "يفسد النفس ويصيبها بالخلل ويخرجها عن السواء". ولو لم يراعِ المسلمون أثر الواقع في الحكم الشرعي لكان ترك التداوي مباحاً، وهذا يناقض مقصد الشرع بحفظ النفس. وإنما نصَّ الفقهاءُ على جوازه بناء على ظنية أثر الدواء في زمنهم، وقد تغيَّر الواقع وصار أثر الدواء أقرب إلى اليقين في حالاتٍ لا تُحصى.

ويزيل تصور محمود لأحكام الدين وعلاقتها بالواقع وهماً آخر تعيشه قطاعات واسعة من المسلمين، وهو افتراض متانة الدين في النفوس بسبب انتشار بعض مظاهره. فالمظاهر المخالفة لأعراف الزمن، والتي يعدّها بعضهم دليلاً على الالتزام بالدين، تُخفي ضعف الدين في النفوس. وهذا الضعف "سببه تباعد الزمان بالناس عن الزمن الأول لظهور الدين". والتغافل عن هذه الحقيقة يعمِّق أزمة المسلمين المعاصرين ويحول بينهم وبين إصلاح أوضاعهم. فمجتمعات المسلمين قديماً كانت مبنية "على أن الوازع الديني للأفراد هو الأساس الذي يرتكز عليه انتظام أمر المجتمع من غير منظومة القوة والعدل". فلما ابتعد الناس عن الدين انفرط عقده واختل نظامه وتفشَّى الظلم والفساد. وسيظل الأمر كذلك طالما لم يُلتَفت لفساد الأصل الذي قام عليه هذا النظام، فيعدل عنه إلى نظام تُبنى فيه "أمور الحياة ومتانة بناء المجتمع وطيب عيش الناس على عدالة النظام وقوة السلطان"، كما هو الحال في كثير من البلاد التي يعيش فيها المسلمون أقليات.

وهذا التصور الذي يقدمه محمود للدين مع ذلك يضيع به أمران لا يحسن فواتهما، تحافظ عليهما دعوى شمولية الإسلام بتجلياتها المعاصرة. أما الأول فوسيلة من وسائل الحفاظ على ما يسميه محمود الارتباط الشعوري بالدين. فصورة الأحكام الشرعية، التي يرى محمود عدم مناسبتها أحوالَ العصر، هي الصورة المرتبطة بالعصر الأول لظهور الدين، فهي تُسهم في تعميق الصلة الشعورية بأهل ذلك العصر. وهذه، كما يشير محمود، "فائدة مهمة، لا يُستغنى عنها في الأمور الإنسانية والروحانية، تحافظ على الصلة بين الأجيال واستمرار الارتباط الروحي بينها، ولا تجعل اتباع الدين مقصوراً على النواحي العقلية الصرفة، خالية من انفعالات النفس ومشاعرها". فهذا مقصد ديني يظهر في حثِّ الشرع على  الرَّمَل في بعض الطواف، أي الإسراع بالمشي، مع انتفاء غرضه وهو رؤية الكافرين المسلمين المعتمرين في حالة النشاط والقوة. إذ توحّد هذه الحالة صورةَ الجيلين شعورياً. ولا شكَّ أنَّ مثل هذا الارتباط بالأجيال السابقة يتحقق كذلك بارتداء ملابس تشبه ملابسهم، أو محاكاة أساليبهم في الأكل والكلام والحياة وإن لم تكن ديناً، وإن كانت الصورة غير مقصودة لذاتها. بيد أنَّ محمود يُصِرُّ على تجنَّب هذه المحاكاة للسابقين، على ما فيها من تعظيم التعلق به، لأنها تؤدِّي إلى فواتِ مصلحةٍ أكبر، وهي إدراك الواقع والعيش فيه والعمل بالحكم الشرعي وتمييزه عن العرف التاريخي.

أما الأمر الثاني، فبسبب الواقعية التي ينطلق منها هذا التصور هناك سعي حثيث إلى تغيير الواقع. ذلك أن تقديم الإسلام حلّاً في مشروع الإسلاميين يشحذُ الهممَ الدينيةَ لتجاوزِ الواقع والسّمو عليه. أما الواقعية التي تُدرك تبعية كثيرٍ من أحكام الشرع للواقع، وإن كانت محمودة من جهات عدة، فإنها تكاد تنفي عن الإسلام أي سعي إلى السمو. وهذا السعي غير مرتبطٌ بمشروع الإسلاميين ومقولاتهم، بل تعودُ أصوله إلى عصر ظهور الإسلام. فإذا كان الواقع القديم قد أدَّى إلى القبولِ بالرّق وعدم المساواة بين الرَّجل والمرأة، فثمة نصوص دلَّت على السعي إلى تجاوز قيود ذلك الواقع والسعي إلى بناء عالم يقوم على قواعد أعدل مثل حثّ الشرع على العتق، ومثل التنفير من ضرب الرجل المرأة. وواقعية محمود لا تفتح الباب في هذا الزمان لمحاولة التسامي على المظالم وأوجه القصور الناتجة عن الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة، والتي تغذي الفردية وتعظم من شأن طلب الكسب ولا تحسن للخلق، بل ترى الناس والحيوانات وسائر المخلوقات مصادرَ يمكن استغلالها لتحقيق المزيد من الربح والرفاهية.

اشترك في نشرتنا البريدية