كتاب رنّات المثالث والمثاني: عن إسهامات الآباء المسيحيين في إحياء اللغة العربية

يروي الكاتب قصّةً مع كتابٍ دَرَسَه الملكُ الحسن الثاني في شبابه وسَعَى لطباعته ونشره بعد تولّيه مُلْكَ المغرب، لكنّه لم يعثر عليه، واستدلّ عليه الكاتبُ لاحقاً

Share
كتاب رنّات المثالث والمثاني: عن إسهامات الآباء المسيحيين في إحياء اللغة العربية
مجموعة من كتب الآباء المسيحيين في المكتبة الشرقية ببيروت (تصوير رافائيل غيلارد / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

قام جزءٌ كبيرٌ من النهضة العربية على أكتاف مسيحيِّين عربٍ نَذروا أنفُسَهم لخدمة اللغة العربية. منهم مَن طَبَقَ ذِكرُه البُلدانَ كبطرس البستانيّ وفارس الشدياق والأب لويس شيخو. ومنهم مَن بقي معروفاً في دائرةٍ ضيقةٍ كالأب أنطون الصالحاني (1847 - 1941) الذي لَم يُتَحْ له مِن الشهرةِ ما أُتيحَ لسابقِيه.

بَيْدَ أنّ كتابَ الصالحانيّ "رنّات المَثالث والمَثاني في روايات الأغاني" المطبوع سنة 1888 كان من الكتب التي طارت في الآفاق واشْرَأَبَّت إليها الأعناقُ زمنَ النهضة العربية، فتلقَّفَه المتعلّمون يتدارسونه، واختاره المعلّمون يُدرّسونه. فقد استَخلَصَه من "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، الموسوعة الشعرية التاريخية التي توثّق الأدب والموسيقى العربية. وكان من الكتب التي بَلَغَت المغربَ في الأربعينيات من القرن الماضي، واختارها واحدٌ من المتأدّبين، هو المربّي والسياسيّ المغربي امحمد باحنيني مرجِعاً دراسياً. والعربية حينَها مَهِيضَة الجَناح وضعيفة الجانب في هذه الرُبوع، بعد أن استَحكَم الاستعمارُ الفرنسيّ وشاعت اللغةُ الفرنسية.

وكان من المتعلّمين الذين درسوا كتابَ "رنّات المَثالث والمَثاني" شابٌّ سيَكون له شأنٌ، وأيُّ شأنٍ. هو الفتى مولاي الحسن، الذي عُرِفَ لاحقاً بالحسن الثاني حين تولّى حُكمَ المغرب. لي قِصةٌ مع هذا الكِتاب النادر لا تَنْفَكُّ تُلِحُّ عَلَيَّ أَنْ أُدَوِّنَها. لي قِصةٌ مع هذا الكِتاب النادر خليقةٌ أن تُروى، إحقاقاً لِحَقٍّ، وإقراراً بالدَور العظيم لكُتّاب النهضة وأُدبائها من المسيحيِّين العرب. 


قد يختلف الساسةُ في شأن الملك الحسن الثاني ويتوزّعون. بَيْدَ أنّ الأَمْرَ الذي لا يَختلف فيه اثنان، أنه كان عارفاً باللغة العربية ومولَعاً بالأدب العربيّ شغوفاً بمَوارده وحامياً لخِدرِ الضاد مدافِعاً عن حَوْضِها. فقد جَمَع في حاشيته بعضاً من أساطين الأدب وآخَرِين من رُواته. وكان يحبّ أن يُرصّع خُطَبَه ببعض الأشعار العربية مرتجِلاً، ومنها بيتٌ لأبي تمّامَ، استَشهَد به في خُطبةٍ له بعد أحكامٍ قاسيةٍ جَرَت على ساكنةِ مراكش وقد تمرَّد بعضُ شبيبتها سنة 1984:

وَقَسَا لِيَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ رَاحِماً   ...   فَلْيَقْسُ أَحْيَاناً عَلَى مَنْ يَرْحَمُ

أَوْ لَمّا أَتَى عميدُ أَمْنٍ تصرُّفاً مَشيناً سنة 1993، استَشهَد الملكُ بالمتنبّي في خطابٍ له:

وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهاءُ قَوْمٍ   ...   وَحَلَّ بِغَيْرِ جارِمِهِ العَذابُ

ومَرَّةً استَشهَدَ ببيتٍ للأديب اللبناني ميخائيل نعيمة:

سَقْفُ بَيْتِي حَدِيد   ...   رُكْنُ بَيْتِي حَجَر  

والطفلُ أبُ الرَجُلِ، كما يقول الشاعرُ الإنجليزيّ ويليام وردزورث، فالرجلُ بَعْدَ إِذْ يَكتمِلُ يَحملُ مَلامِحَ ما اعتَرَى طفولتَه وشبابَه. والمَلِكُ الأديب هو ابنُ الشابِّ المتأدِّب. وتعُود معرفةُ المَلِكِ العميقةُ بالعربيةِ وشغفُه بها لِسِنِيِّ دراستِه على يدِ امحمد باحنيني.

كان امحمد باحنيني من أوائل المتأدِّبين المغاربة في النصف الأوّل من القرن العشرين. فقد درس في المدارس المزدوجة، وأتقن اللغة الفرنسية إتقاناً مبهراً. ولكنَّ هَواهُ كان لِلُّغة العربية، ومَلَكَتْ عليه شِغافَ قلبه، فارتحَلَ إلى الجزائر بعد أن حصل على إجازةِ الدراساتِ القانونية بالفرنسية كي يدرس الأدب العربيّ في جامعة الجزائر. وكانت الجزائرُ حينها قرطبةً ثانيةً، تمزِج بين الشرق والغرب، وتُعنى بعيون الأدب العربيّ بمنظورٍ حديث. درس الحاجُّ باحنيني على يدِ واحدٍ من أساطين الأدب المختصّ بالجاحظ، وهو المستشرق الفرنسيّ شارل بيلا.

كان الحاج باحنيني عَلَماً من أعلام اللغة، ولذلك اخْتِيرَ مدرّساً للأمير مولاي الحسن. وكان ممّا اختارَه باحنيني مرجِعاً في الآداب كتابُ "رنّات المَثالث والمَثاني". ولئن أُشْرِبَ المَلِكُ الحسنُ الثاني معرفةَ اللغة العربية وشغفَه بها، فإن الفضلَ يعودُ في جزءٍ كبيرٍ إلى الحاجّ باحنيني.

أُتيحَ لي أنا أيضاً أن أَدرس على يدِ الحاج باحنيني في المدرسة المَولوية المَلَكية. ولم يَحِد باحنيني في النصوص التي كان يُدرِّسها في سبعينيات القرن الماضي عمّا كان قد درَّسه في الأربعينيات منه. وكان من النصوصِ المُنْتَقَاةِ "المُجمَل في تاريخ الأدب"، الذي أَشرَف عليه كلٌّ من طه حسين وأحمد أمين، و"تاريخ الأدب العربي" لبطرس البستاني، فضلاً عن كِتابِ رنّات المَثالث، الذي كان أَخرَجَه الأبُ أنطون الصالحاني.

ثمّ غارَ الاهتمامُ بكِتاب رنّات المَثالث ولَم يعُد يُذكَر. وكاد أن يُبعَث ولَم يُبعَث حينما طلب الملكُ الحسن الثاني من رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط في التسعينيات عثمان العمير أن يُخرِجه.

كان الملكُ الحسن الثاني قد أجرى حواراً مطوّلاً. كان مادةً لكتابٍ حَمَلَ عنوانَ "ذاكرةُ مَلِك" سنة 1993. نُقِلَ أَوَّلَ ما نُقِلَ على صفحات جريدة الشرق الأوسط. واستفتى الملكُ العميرَ، بعد نشْرِ الحوار وطَبْعِه في جريدة الشرق الأوسط، عن كتابٍ كان ممّا درس وهو فتىً، يُعَدُّ من عيون الأدب العربيِّ القديم. ذَكَرَ عنوانَه وأنه منتخَبٌ من كتاب "الأغاني"، ولكن ذَهَبَ عنه اسمُ مؤلِّفه.

نقّبَ عثمان العمير في المكتبات عن كتاب رنّات المَثالث ولم يجِد له أثَراً، وارتَأَى أن يُخرِج عِوَضاً عنه كتابَ "مَجانِي الأدب في حدائق العرب"، للأبِ لويس شيخو.

أُتيحَ لي بعدَ إِذْ صَدَرَ كتابُ الأبِ شيخو أن ألتقيَ بعثمان العمير صيفَ 1995، وأخبرتُه أن الكتابَ الذي دَرَسَ منه الملكُ الحسن الثاني في شبابه هو كتابُ "رنّات المَثالث والمَثاني" وليسَ "مَجانِي الأدب في حدائق العرب". فما كان جوابَه إلا أنّه وفريقاً له بَحثوا عن كتاب الصالحاني ولَم يجِدوا له أَثَراً، فارْتَأَى أن يُخرِج كتابَ "مَجانِي الأدب في حدائق العرب" للأبِ شيخو لأنه لا يَحْسُنُ أن يَرْجِع عند الملك خاويَ الوِفاضِ. قلتُ له إني أَمْلِكُ نسخةً كان أهْدانِيها باحنيني، وكان قد انتقل إلى عفوِ الله، فكان رَدُّه، أو ما معناهُ، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُحُف.

على أنّ علاقةَ المغاربةِ بكتابِ الأغاني تسبِقُ المثانيَ قُروناً طويلةً؛ ذلك أنّ الخليفةَ الحَكَمَ، إبّانَ حُكْمِ بني أُمَيَّة الأندلسَ، جازى الأصفهانيَّ قبل أن يُنشَرَ الكِتابُ في بغداد، عاصمة العباسيين، أندادِ الأُمويين بالأندلس، بعد أن تحصَّلَ على أوَّل نسخةٍ منه. وظَلَّ الكتابُ ممّا يُدرَّس في جامعِ قرطبةَ.


يُحسَب للأبِ أنطون الصالحاني تشذيبُه لكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. وهذا الكتابُ من أُمَّهَات الكتب في التراث العربي، ولكنّ قراءتَه عسيرةٌ، تُضِلُّ بقارئه في متاهاتٍ لا يَقوى عليها إلا المختصّون في أصوات الغناءِ وقصصِ المُغنِّين ومقاماتِ الغناء؛ حتى لَيَعْسُرُ على القارئ غيرِ المتمرّس بفنون الغناء القديم وأنواع الأصوات وأخبار المغنّين أن يذهب فيه، ولا لِغير الجَلْدِ أن يصطبِرَ عليه. وقد انصرَفَ جهدُ الأبِ أنطون الصالحاني أن يَستخلِص منه ما يصلُح مادّةً أدبيةً، فشذّبَ ما قد يَصرف اهتمامَ غيرِ المستأنِس بالغناء وقصصِ الغناء. انتقى منه أخبارَ الأدب، واختارَ قصصَ الشعراء وأيامَ العرب وشؤونَهم قبل الإسلام وبعدَه. فَعَلَ ذلك في جُزْأَيْن هُما ثمرةُ جهدٍ جهيدٍ، انتقى فيه زُبدةَ الأغاني في الأدب والتاريخ، وجَعَلَ الجزءَ الأولَ منه عن الروايات الأدبية، واختصَّ الجزءَ الثانيَ بالروايات التاريخية.

ولا مِراءَ أن كتاب "مجاني الأدب في حدائق العرب" للأبِ شيخو من الكتب القَيِّمة، ولكنه لا يَرْقَى لكتاب "رنّات المَثالث والمَثاني". فكتاب مجاني الأدب تجميعٌ لبعض النوادر والأخبار، تختلف طولاً وقصراً، وتختلف في أسلوبِها. أمّا كتابُ "رنّات المَثالث والمَثاني" فيلتقي في وحدةٍ موضوعيةٍ ويجتمع في اتّساق الأسلوب، مع جميلِ الرَّصْفِ وقوّة السَبْكِ. وأبو الفرج الأصفهاني مِن أسنانِ اللغة العربية المالِكِين لناصيتها في طبقة الكبار، أمثالِ ابن المقفَّع والجاحظِ وأبي حيانَ التوحيديِّ وابنِ قُتَيْبة.

وأحسنُ من يُستشهَد به على أبي الفرج الأصفهاني هو الأبُ الصالحاني، إذ يقول فيه: "فهو مِن أبرعِ أهلِ العربيةِ وأَدَقِّهم عِلماً بمَواضع اللفظِ، وأَرْحَبِهم فَهْماً برَوْنَقِ التأليف. أَلَا وهو البليغُ الذي لَم تَكْسِر الفَهاهَةُ معنىً خَلَجَ في صدره، والفصيحُ الذي لم تَحجُب اللُّكْنةُ خاطِراً دارَ في خَلَدِه، فأيُّما خاطِرٌ خَطَرَ له وأيُّما معنىً تَصوَّرَه، أَبْرَزَهُ كاسِياً بِحُلَّةِ البيان".


ويَستحقّ مِنّا جهدُ المسيحيين العربِ وقفةً لأنهم كانوا سبّاقِين إلى شؤون المعرفة عموماً، وارتيادِ السُبُلِ العصريةِ في التنظيم مِن قَبيل الجمعيات والصحافة وسَلْكِ المناهج العصرية في البحث والكتابة. وإليهم يعود الفضلُ في نفض الغُبار عن اللغة العربية خاصّة. وكان مسيحيّو لبنان وسوريا، ولا سيّما المَوارِنَةُ، أسبقَ الناسِ إلى إضاءةِ مَشْعَلِ النهضةِ، كما يقولُ الأديب واللغوي بطرس البستاني، لِرُقِيِّ مَدارسهم وتقدُّم عهدِها ولسهولة امتِزاجِهم بالغربيّين.

ويُعَدُّ المُطرانُ جرمانوس فرحات أَوَّلَ الماهِدِين في الارتقاء باللغة العربية. وعلى يديه درس بطرس البستاني صاحبُ المعجم اللّغوي "محيط المحيط" الذي خَطَّهُ على سَنَنِ معجمِ "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، وله كتبٌ عن أُدباءِ العرب في عدّةِ مجلّداتٍ، وهو مَن أَطْلَقَ صحيفةً بعنوانِ "نَفِير سوريا". ومِن هؤلاءَ أيضاً الخوريُّ نعمة الله باخوس، وكان أستاذاَ في مدرسة الحكمة، والشيخُ سعيد الشرتوني، وكان أستاذاً في الكلية اليسوعية ببيروت.

ومِن الروّاد المسيحيين ناصيف اليازجي، الذي وضع كتباً عدّةً في اللغة، منها أُرْجُوزَةٌ في النَحْو سمّاها "نار القِرى في شرح جوف الفَرا"، وله أرجوزةٌ في الصرف بعنوان "الجمانة في شرح الخزانة"، ومَقاماتٌ عددُها ستّون مَقامةً في اللغة وقواعدِها وطَرائفِها، تحمل عنوانَ "مجمع البحرين". وأتى بعدَه رشيد الشرتوني، وهو صاحب معجم "أقرب الموارد"، وكان من هيئة التدريس في الكلية اليسوعية، والأديبُ الصحفيّ جبر ضومط، ومِن آثاره "فكّ التقليد في الصرف" و"الخواطر العِراب في النحو والإعراب" و"الخواطر الحِسان في المعاني والبيان". ومن أسنان اللغة والمتفقّهين فيها أحمد فارس الشدياق، وكان مسيحياً مارونياً اسمُه فارس. أخذ بالمذهب البروتستانتي في اتّصاله بالمُرسَلِين الأمريكيّين، وما لَبِثَ أن التحَقَ بباي تونس أحمد باشا وتحوَّل إلى الإسلام وتسمّى بأحمد. ومن مؤلَّفاته "الجاسوس على القاموس" انتقَدَ فيه القاموسَ المحيطَ للفيروزآبادي. وحذا ابنُه إبراهيمُ حَذْوَهُ في الاهتمام باللغة، ووضعَ مصنَّفاً سمّاهُ "نجعة الرائد في المترادف والمتوارد". وكان مما انصرف إليه الاهتمامُ لدى هؤلاء الروّادِ وضعُ القواميس، ومنها "المُنْجِد" للأبِ لويس معلوف اليسوعي و"المعتمَد" لجُرْجِي عطيّة.

وأَتَى بعد هؤلاء خَلفٌ ساروا على هَدْيِهم وأَخرجوا بطونَ اللغة واعتمَدوا مَظانَّهَا. منهم الأبُ لويس شيخو، وهو كِلْدانِيٌّ من جزيرة الفُرات، وُلِدَ بماردينَ وانتقل إلى لبنان، واتّخذ اسمَ الأبِ لويس شيخو بعد أن تَرَهْبَنَ. وهو صاحب كتابٍ ضخمٍ في مجلّدَيْن؛ الأوّلُ بعنوان "شعراء النصرانية قبل الإسلام" والثاني "شعراء النصرانية بعد الإسلام"، فضلاً عن "مَجاني الأدب". وممّن تجدُرُ الإشارةُ إليه الأبُ أنستاس الكرمليّ من بغداد. وكان يَعْقِدُ مجلِساً للُّغةِ في دَيْرِ الآباءِ الكرمليِّين في محلّةِ سوق الغَزْلِ ببغداد، وله معجمٌ سمّاهُ "المُساعِد".

وثمّةَ فئةٌ من الشوَامِ استقرّت بمصر وأسهمَت في نهضتها. منهم جُرْجِي زيدان، وقد وُلِدَ ببيروت واستقرّ بالقاهرة وبِها بَرَزَ نشاطُه، وهو مَن أصدرَ مجلّة الهِلال. ومِن أهمّ كُتُبِه "تاريخ التمدن الإسلامي"، وهو مِن المَراجع الأساسية التي لا يُعْلَى عليها و"تاريخ آداب اللغة العربية"، فضلاً عن رواياتِه التاريخية. ويَدخلُ في هذه الخانةِ أنطون فرح، الذي وُلِدَ بطَرابُلْسَ الغَرْبِ وارتحَلَ إلى مصر وعُنِيَ بفِكر الأنوار عند الفرنسيِّين. وأفرَدَ دراساتٍ ضافِيةً عن مفكّرين مسلمِين من ذوي النزوع العقلاني، كابن رشد، وترجم كثيراً من الكتابات الفرنسية إلى العربية، واشتغل بالصحافة  في جريدة الأهالي.


وبَعدُ، فإنّ كتاب المثاني يَستحقّ أن يُعادَ تقديمُه للقُرّاءِ، لنتذكَّرَ الأبَ الصالحاني وشأنَه العظيمَ في الحِفاظ على اللغة العربية مع مَن جايَلَهُ من مسيحيِّي العربِ من جهةٍ، ولِموقع كتاب الأغاني في الحضارة العربية من جهةٍ أُخرَى. فالكتابُ، كما قال عنه الصالحانيُّ، كالتِّبْرِ في معدنِه واللؤلؤِ في صَدَفِه، وصاحِبُه أبو الفرج الأصفهانيُّ مَلَأَهُ بالأسانيدِ وشَحَنَهُ بأَسماءِ الرُّواةِ ومختلف الروايات ممّا يَصْدِفُ عَنْهُ السامِعُ ويَضِيقُ دُونَهُ صَدْرُ المَطالِع. والكتابُ حقّاً عسيرُ القراءةِ، يَضِلُّ بالقارِئِ في مُنْعَرَجاتٍ مُضْنِيَةٍ واستِطراداتٍ مُمِلَّةٍ. ولذلك عَمَدَ الصالحانيُّ إلى استخراج جواهرِه وانتقاءِ أَطايِبِه وأَخايِيرِه، فأَتَى في حُلَّتِه الجديدةِ التي ارتضاها له الصالحانيُّ مُنتخَباً يُغْرِي ورَوْنَقاً يُصْبِي. وهاجِسُ الصالحانيّ، كما ورد في تقديمه، هو "إتحافُ طُلّاب البلاغة بكِتابٍ يُرشِدُهم إلى سَعَةِ اللغة العربية في التعبير عن الوِجدانيّاتِ والإفصاح عن حركاتِ النُفُوس على اختلافِ المَقامات".

ومِن باب إطْلاع قُرّاءِ العربية على بعض جواهر "رنّات المَثالث والمَثاني"، أَعْرِضُ نُتَفاً أُوجِزُها على طريقتي من الكتاب، أَبْدَؤُها بقصّة حرب البَسوس التي سارَت بذِكرِها الرُكْبانُ متبوعةً بحديثٍ عن الشاعر المخضرَم، الحُطَيْئَة، المشهورِ بسَلاطةِ لِسانِه.


وَرَدَت أسبابُ نُشوبِ حرب البَسوس في كثيرٍ من المَظانِّ، ولكنّ كتابَ المَثالث والمَثاني يتميّزُ بشيءٍ طريفٍ وهو ظُروف مقتَل قاتِلِ كُلَيْبٍ؛ جَسّاسٍ.

والقصّةُ، كما وردَت في كُتب الأدب، أنّ كُليباً بن وائِلٍ كان أَعَزَّ قَومِه وبَغَى بَغْياً شديداً. يُنْزِلُ الناسَ مَنازلَهم ويَمْنَعُهم الاستسقاءَ في حِياضِ الماءِ إلّا بإِذْنٍ. وكان متزوّجاً من جليلةَ مِن تَغْلِبَ، وهي أُختٌ لِجَسّاسٍ. ونَزَلَتْ خالةٌ لها عندها تُسمَّى البَسوس، ولَها ناقةٌ رَعَتْ في غيرِ مَرْعىً فعَقَرَها كُلَيْبٌ. فذَهَبَ إليه ابنُ أُختِها جَسّاسٌ فطَعَنَه برُمْحٍ وقَتَلَه. وأَضحَت جليلةُ زَوْجُ كُلَيْبٍ مَوْتُورَةً مِن جِهَتَيْنِ، لأنّ القَتيلَ زَوجُها والقَاتِلَ أَخُوها فقالت في ذلك شِعراً جميلاً تداولَتْه كُتُبُ الأدب: 

فِعْلُ جَسّاسٍ عَلَى وَجْدِي بِهِ   ...   قَاطِعٌ ظَهْرِي، وَمُدْنِ أَجَلِي
يَا قَتِيلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ   ...   سَقْفَ بَيْتَيَّ جَمِيعاً مِنْ عَلِ
هَدَمَ البَيْتَ الّذِي استَحْدَثْتُهُ   ...   وَانْثَنَى فِي هَدْمِ بَيتِي الْأَوَّلِ
خَصَّنِي قَتْلُ كُلَيْبٍ بِلَظىً   ...   مِنْ وَرَائِي وَلَظىً مُسْتَقْبِلِي
لَيْسَ مَنْ يَبْكِي لِيَومَيْنِ كَمَنْ   ...   إِنَّمَا يَبْكِي لِيَوْمٍ يَنْجَلِي
يَشْتَفِي المُدْرِكُ بالثَّأْرِ وَفِي   ...   دَرْكِي ثَأْرِيَ ثُكْلُ المُثْكِلِ
إِنَّنِي قَاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ   ...   وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْتَاحَ لِي

أمَّا الطريفُ ممّا لَم تُورِدْه كتبُ التاريخ وتَضَمَّنَهُ مُنتخَبُ الصالحانيِّ فهُو أنّ زوجَ كليبٍ كانت حامِلاً لمّا قُتِلَ زوجُها، ووضَعَت غُلاماً سَمَّتْه الهَجْرَسَ، رَبّاهُ جَسّاسٌ فكان لا يَعرف أباً غيرَه فزوَّجه ابنتَه. وحدثَ أن وقعَ بين الهجرس وبين رجلٍ من بكر بن وائل كلامٌ، فقال له البكريُّ: ما أنت بمُنْتَهٍ حتّى نُلحِقَك بأبيك. فأَمَسَكَ عنه ودَخَلَ إلى أُمِّه كئيباً، فسألَته عمّا به، فأخبَرَها الخَبَرَ. وعَلِمَ جسّاسٌ أَمْرَ ابنِه بالتبنّي فأرسل إلى الهجرس، فأَتاهُ، وقال له: إنما أنتَ وَلَدِي ومِنِّي بالمكان الذي عَلِمْتَ، وقد زوَّجتُك ابنتي وأنت معي، وقد كانت الحربُ في أبيك زماناً طويلاً حتى كِدْنا نَتَفانَى، وقد اصْطَلحْنا (تصالَحنا) وتَحاجزْنا (منعَ بعضنا عن بعض)، وقد رأيتُ أن تَدخُلَ فيما دخلَ فيه الناسُ من الصُلْح وأن تنطلقَ حتى نأخذَ عليك مثل ما أُخِذ علينا وعلى قومِنا. فقال الهجرسُ: أنا فاعلٌ، ولكنّ مِثْلِي لا يَأْتي إلّا بلَأْمَتِه (لباس الحرب وعتاده) وفَرَسِه. فحمله جسّاسٌ على فرسِه وأعطاه لَأْمَةً ودِرْعاً. فخَرَجا حتى أَتَيا جماعةً من قومهما، فقال جسّاسٌ: هذا الفتى ابنُ أُختي قد جاءَ ليَدخُلَ فيما دخلتم فيه ويعقدَ فيما عقدتم فيه. فلمّا قاموا إلى العقد أَخَذَ الهجرسُ بوسطِ رمحِه ثم قال: وفرسي وأُذُنَيْه ورُمحي ونَصْلَيْه وسَيْفي وغِرارَيْه (حدّ السيف) لا يَترك الرجلُ قاتِلَ أبيه وهو ينظرُ إليه. ثمّ طَعَنَ جسّاساً (أباهُ مَن رَبّاهُ) فقتله ثمّ لَحِقَ بقومِه.


وأمّا القصّةُ الثانية فعَن الحُطَيْئَةِ. وكان الملك الراحل الحسن الثاني يحبُّ أن يَستشهد في خُطَبِه، بل في مَجالِسه الخاصّة، ببيْتٍ شهيرٍ للحُطَيْئة:

دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها   ...   وَاقْعُدْ فإِنَّكَ أَنْتَ الطاعِمُ الكاسِي

ويَشْفَعُ الملكُ بالقَوْلِ إنّه أَهْجَى بيتٍ قالتْه العربُ. ولا أَسْوَأَ لَدَى العربيِّ مِن أَنْ يَقْبَعَ حيثُ هو عالةً على مَن يكفُلُه، وحَرِيٌّ بالحُرِّ أن يرحَلَ للمَكارِم ولَو ارْتَدَّ دُونَه.

وقد وردَت قصّةُ الحُطيئةِ في كتاب رنّات المَثالث والمَثاني، فهي من القصص الجميلة التي اختارَها الصالحانيُّ. ونورِدُها هنا بأسلوبِ الأصفهانيِّ، مع تصرّفٍ طفيفٍ. والحُطيئةُ لقبٌ لُقِّبَ به صاحبُه لقِصَرِه وقُرْبِه من الأرض. أمّا اسمُه فهو جَرْوَل بنُ أَوْس ويُكنَى أَبا مُلَيْكَةَ. وهو مِن فُحُولِ الشُعراءِ ومتقدِّميهم وفُصَحائهم. متصرِّفٌ في فُنون الشِعر من المَديح والهِجاء والفَخْر والنَسيب. مُجِيدٌ في ذلك أَجْمَعَ. وكان ذا شَرٍّ وَسَفَهٍ. مُخضرَمٌ، أَدْرَكَ الإسلامَ فأسلَمَ، وارتَدَّ، ثمّ عادَ وأسلَمَ، وقال في ذلك:

أَطَعْنا رَسُولَ اللهِ إِذْ كانَ بَيْنَنا ... فَيا لعِبادِ اللهِ ما لِأَبِي بَكْرِ
أَيُورِثُها بَكْراً إِذا ماتَ بَعْدَهُ   ...   وَتِلْكَ لَعَمْرِي قاصِمَةُ الظَهْرِ

وكان ما قاله الأصمعي عن الحطيئة، مما ورد في كتاب الصالحاني، إنه كان جشعاً سؤولاً مُلحِفاً دنِيء النفس كثير الشر قليل الخير بخيلاً قبيح المنظر رثّ الهيئة مغموز النّسب فاسد الدّين. وكان الحطيئة بذياً (بذيئاً) هجّاءً فالتمس ذات يوم إنساناً يهجوه فلم يجده، فضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:

 أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إِلَّا تَكَلُّماً   ...   بِشَرٍّ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُه

وجعلَ يُدَهْوِرُ هذا البيتَ في أشداقِه ولا يَرى إنساناً، إذْ اطّلَعَ في رَكِيَّةٍ (حيث يجتمع الماء) أو حوضٍ، فرأى وجهَه فقال:

أَرَى لِيَ وَجْهاً شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ   ...   فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُه

وأوردَ الصالحانيُّ قصّةً للحُطَيْئَةِ مع الزِبْرِقانِ، سارَتْ بذِكْرِها الرُكْبانُ. وهي أنّ الزِبْرِقانَ آوَى الحُطَيْئةَ في سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ ونازَعَه في ذلك خُصُومٌ مِن آلِ بغيضٍ وحرَّضوا الحطيئةَ على أن يأتيَهم ويهجوَ الزبرقانَ، فَأجابَهُم الحطيئةُ إلى الحِلِّ لا الهِجاءِ. ثمّ إنّ الزبرقانَ اسْتَهْجاهُ بقولِ شاعرٍ يُقالُ له دِثارُ بنُ شَيْبانَ، وقد هَجَا بغيضاً. فلَم يجِد الحطيئةُ بُدّاً من الردّ في قصيدةٍ يُعَرِّضُ بما لَقِيَ مِن هَوانٍ في جِوار (ضيافة) الزبرقانِ، قال فيها:

جَارٌ لِقَوْمٍ أَطَالُوا هَوْنَ مَنْزلِهِ   ...   وَغَادَرُوهُ مُقِيمَاً بَينَ أَرْمَاسِ
مَلّوا قِرَاهُ وَهَرَّتْهُ كِلَابُهُمُ   ...   وَجَرّحُوهُ بِأَنيابٍ وَأَضْرَاسِ 
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا   ...   وَاقْعُدْ فَإنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ   ...   لَا يَذْهَبُ العُرْفُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ

وقد ذهبَ البيتُ الأخيرُ مذهبَ الأمثال. فاسْتَعْدَى الزبرقانُ عمرَ بنَ الخطابِ على الحطيئةِ فسأل عمرُ حسّاناً "أتُراهُ هَجاهُ؟" فقال حسّانُ: "نعم، وسَلَحَ عليه" (تغوّط عليه). فحَبَسَ عُمَرُ الحطيئةَ، فقال الحطيئةُ وهو في الحَبْسِ يَستجدي عمرَ:

تَحَنَّنْ عَلَيَّ، هَدَاكَ المَلِيكُ   ...   فَإنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالا
وَلَا تَأْخُذَنِّي بِقَوْلِ الوُشَاةِ   ...   فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ رِجَالا

فلَم يَلتفِتْ عُمَرُ إليه إلّا حينَ استعطَفَه الحطيئةُ في قصيدةٍ أُخرى، وَرَدَ فيها: 

مَاذَا تَقُولُ لَأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ   ...   زُغْبِ الحَوَاصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
ألْقَيْتَ كَاسِبَهُم فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ   ...   فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ يا عُمَرُ
أَنْتَ الإمامُ الّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ   ...   أَلْقَى إِلَيْكَ مَقالِيدَ النُّهَى البَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا   ...   لَكِنْ لِأَنفُسِهِم كَانَتْ بِهَا الأُثُرُ
فَامْنُنُ عَلَى صِبْيَةٍ بالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ   ...   بَيْنَ الأبَاطِحِ تَغْشاهُمْ بِهَا القِرَرُ

ويُقال إنّ عمرَ بنَ الخطّابِ اشترى من الحطيئةِ أَعْراضَ المسلمِين؛ أي أنّه أعطاهُ مالاً شريطةَ ألا ينالَ أعراضَ الناسِ بسوءٍ. فتَولّى الحطيئةُ عن قولِ الشِعرِ، وقال مُعْتاضاً:

وَأَخَذْتَ أَطْرَافَ الْكَلَامِ فَلَمْ تَدَعْ   ...   شَتْمَاً يَضُرُّ وَلَا مَدِيحاً يَنْفَعُ 
وَحَمَيْتَنِي عِرْضَ اللّئِيمِ فَلَمْ يَخَفْ   ...   ذَمِّي وَأَصْبَحَ آمِناً لَا يَفْزَعُ


زُبْدَةُ القَولِ، إنّ اللغة العربية جامِعةٌ أَلَّفَتْ بين فارسيٍّ يكتُبُ عن الآداب العربية ويَنتصِرُ لها، يَدِينُ بالإسلامِ فيَقْتَفِي أَثَرَ عيونِ الأدب وأيام العربِ، ومسيحيٍّ يَنتخِبُ دُرَرَ تلك العيون، وأديبٍ مغربيٍّ مُسلِمٍ يُدرِّسُ طَلَبَتَه كتاباً صَدَرَ في الشرقِ، وآخَرَ من العِلْيَةِ بلْ مِن ذُؤَابَتِها العُلْيا يبحثُ عَنه ُويَسعَى في بَعْثِه.

فعَسَى أن يُتَاحَ بَعْثُ هذا الكتابِ مِن جديدٍ، أَعْني "رَنّات المَثالث والمَثاني في روايات الأغاني" الذي هو بحَقٍّ واحدٌ من عيون الأدب وأُمّاتِ (أُمَّهات) الكُتب، يُضاهِي "البَيان والتَبيِين" للجاحظ، و"الشِعْر والشُعَراء" لابن قُتَيْبة، و"الكامِل" للمُبَرِّد، و"الأَمالي" لأبي عليٍّ القالي، وعَسَى أن يكونَ هذا الحديثُ تذكِرَةً لآصِرَةِ اللغة العربية وقُوَّةِ لُحْمَتِها ومَتِينِ سَداها.

اشترك في نشرتنا البريدية