أم كلثوم وتجربة التحديث في تركيا

اشتهرت موسيقى أمّ كلثوم ومحمّد عبد الوهاب في تركيا عقوداً لأن الدولة حظرت الموسيقى التركيّة التقليدية رغبةً في تبنّي الموسيقى الغربيّة، لكنّ الأتراك لم ينصاعوا لهذا الحظر ووجدوا ضالّتهم في الإذاعة والسينما المصرية.

Share
أم كلثوم وتجربة التحديث في تركيا
تصميم حاتم عرفة / الفِراتْس

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

"ليت شِعري كم مرّة استمعتم فيها إلى أم كلثوم، الصوت الكريستالي لراديو القاهرة؟ إنها تُطرِب الناس بصوتها المتلألئ، وبألحانها الرشيقة التي تسحر النفوس". بهذه الكلمات قدَّمَت مجلّةُ "يِدِي غُن" (الأيام السبعة) التركية في ديسمبر 1936 خبراً مهمّاً للجمهور التركي، وهو أنّ "أمّ كلثوم، بُلبل الإذاعة المصريّة، ستبدأ التمثيل في الأفلام الغنائية". وبعد ثلاثة أعوامٍ بِيعت اثنتا عشرةَ مليون تذكرة لفيلم محمّد عبدالوهّاب الشهير "دموع الحبّ" سنة 1939، حين كان عدد سكّان تركيا يربو على سبعة عشر مليون نسمة. تسيّدَ المصريّون حينها نجوميةَ شبّاك تذاكر السينما في تركيا.

هذه الشهرة القديمة لأمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأنور وجدي وغيرهم تُخفي ما هو أبعد من الموسيقى والفنّ؛ فللأمرِ علاقةٌ وثيقة بسياسات تركيا في خضمّ عمليّة تحديثٍ وتغريبٍ كبيرة قادها مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه بعد تأسيس نظام الجمهورية في تركيا عام 1923. وبالرغم من تلك الحملة الشعواء، زاد الاهتمام الشعبي بالموسيقى المصرية؛ ربما لأن كلَّ ممنوعٍ مرغوبٌ، أو لعلَّ الموسيقى العربية، لا الغربية، أقرب إلى الذائقة الشعبية التركية.

استهدفَت سياساتُ التغريب التي تبنّاها أتاتورك تأسيسَ قوميّةٍ تركيّةٍ متمايزةٍ عن الدولة والإرث العثمانيَّيْن. حظرت السلطةُ الموسيقى التركيّةَ التقليديةَ حينئذٍ رغبةً في "ثورةٍ موسيقيّةٍ" مبنيّة على أساس الموسيقى الغربيّة. لكنّ الجمهور التركيّ الذي قَبِلَ ـــ أو سايَرَ ـــ عدداً من القرارات الاجتماعية والدينيّة التي فرضَتها السلطة لم يستطع أن ينفصل عن إرثه الموسيقيّ العريق. وهنا برزَت أمّ كلثوم بأغانيها وعبد الوهّاب بألحانه وأفلامه ليساهما في حفاظ الأتراك على ذوقهم الموسيقيّ الشرقيّ، خلافَ ما أرادت السلطة التركية حينها.

ثم انتشرت الأفلام المصريّة الغنائيّة في تركيا انتشاراً كبيراً، إلا أن السلطات التركية حظرت الأفلام العربية وأغانيها رغبةً في دفع الجمهور نحو الغرب لا الشرق، بَيْد أن هذا الحظر شجع الفنانين الأتراك على ترجمة الأغاني والأفلام المصرية، فصارت خطوات السلطة لفصل الأتراك عن الموسيقى الشرقية خطوةً نحوَ تأثّر الموسيقى والسينما التركية الحديثة بالموسيقى والسينما الشرقيّة. 

لم يكن لأم كلثوم ومثلها عبدالوهاب صلة بهذا السياق التغريبي، سوى أنّ إبداعهما تجاوز الحدود والاختلافات السياسية بين العالم العربي وتركيا الجديدة، وبين الشعب التركي وذوقه الموسيقيّ الشرقيّ المرتبط بالموسيقى العربية. وهذا الترابط والتأثير الفني بين التقليدَين الموسيقيَّين العربي والتركي هو عينُه ما ينطلقُ منه الكاتب التركي مراد أوزيلدريم في كتابه "وحدة الموسيقى العربيّة والتركيّة في القرن العشرين"؛ إذ ناقَش هذه العلاقةَ الموسيقيّة المركَّبة بين الأتراك والعرب وحلَّلها وأرَّخها.

وعلى أهمية هذا الكتاب والرؤية الجديدة التي يطرحها لعلاقة الموسيقى التركية بالعربية في النصف الأول من القرن العشرين متمثلةً بكواكب لامعة مثل أم كلثوم وعبدالوهاب ومحاولات السلطة التركية الناشئة السيطرةَ على الذائقة الموسيقية التركية، فإن ذلك كان في سياق سعي أتاتورك ورفاقه إلى صوغ هُويّة جديدة لتركيا وشعبها؛ هُويّة تنهل من الثقافة ومظاهر الحياة والإدارة الغربية، وتبتعد عن إرث الأمّة الذي بنَتْه الإمبراطورية العثمانية قروناً.

كثيراً ما قُرئَت ثورةُ أتاتورك باختزالٍ في العالم العربي. فأتاتورك بَنى نظاماً يَفصل بين تركيا من جهة، والعالم العربي والثقافة العثمانية المرتبطة بالعربيّة من جهة أخرى. لَم يبتدع أتاتورك هذا النظام؛ فجذور بَعضه ضاربة في نقاشات المثقفين والمسؤولين بالدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي قبل عقودٍ من تأسيس الجمهوريّة التركيّة. يُمكن المحاجّة بأنَّ أتاتورك طبّقَ نسخةً أكثر تشدداً وصلابةً وقوميّةً، لكنّ ثورته التغريبيّة لم تُخلَق من بناتِ أفكاره على حين غفلةٍ من الزّمن.

بدايةً مُنِعَت المدارس الدينيّة في الجمهورية التركية التي أسَّسها أتاتورك، ثمّ حُدِّدَ عدد المَساجِد، وأُغلِقَت بعضها من ذوات الرمزيّة مثل جامع الفاتح، وحُوِّلَ مسجد آيا صوفيا إلى مُتحَف. كان أبرزُ مَن اعترَض على هذه التغييرات هي الطرق الصوفية ومشايخها، وهي طرقٌ لها تأثير واسع في المجتمع التركي إلى اليوم. كانت قبضة أتاتورك صلبةً لا تلين في مواجهة كلّ من عارَضه، حتَّى بعض رفاق سلاحه السابقين؛ فما إن عارَضته الطرق الصوفيّة حتَّى حظرَها جميعاً، ثمّ أغلق المزارات وقبور الأولياء والسلاطين، وحَصَر اللباس الديني أثناء الصلاة في المساجد فقط.

أسطوانة أغنية إنتَ عمري تتوسط أسطوانتين لاثنين من أشهر المغنّين الأتراك (تصوير عزام عبدالحكيم / الفِراتْس)

ثم حَظَر على النساء لبْسَ الجلباب وأَجبَرهنّ على لبْس الثوب الأوروبيّ، وإذا لم يلتزمن فسيُحاكم أزواجهنّ أو أقاربهنّ الذكور. أما الذكور فقد أُلزموا جميعاً بارتداء القبّعة بدلاً من الطربوش العثماني، ومن ارتدى الطربوش قُدِّم لمحاكمةٍ جنائية وصلت أحكامها في بعض الحالات النادرة إلى الإعدام.

وفي غضون خمس سنوات طُبّقت كثيرٌ من هذه التغييرات بحكم القانون، حتَّى حُظِرت العربيّة واستبدل بالحرف العربي من التركيّة أبجدية بحروف لاتينية عام 1928، وجُرِّمَ رَفْعُ أذان الصلاة بالعربيّة قانونيّاً، وأصبح الأذان بِلُغةٍ تركيّةٍ خالصة عام 1932.

بعربيّةٍ فُصحَى يشوبها عُجمةٌ أخبَرني أحد كبار السنّ الأتراك، الذي رَفضَت عائلتُه الامتثال للتغييرات الجديدة، أنّ التخلّي عن العربيّة، لغة القرآن، كان صعباً على أتباع الطرق الصوفيّة والمتديّنين، فهربوا إلى الجبال بعيداً عن عيون وأصفاد الرّقيب، حفاظاً على اللغة العربية وتقاليدهم الدينيّة.

اتّسمت بعض هذه التغييرات الاجتماعية والدينية بالتعصّب، حتَّى أنّها نوقشت وقُيِّمت علناً في العقود الأخيرة داخل تركيا. لكنّ إلغاءَ الكتابة العثمانية ذات الحرف العربيّ واستبدال حرفٍ لاتينيّ بها، مسألةٌ لها أصولٌ أبعد؛ فجذورها موجودة في النقاشات العثمانية ما قبْلَ أتاتورك. لذلك يُمْكن قراءةُ عمليةِ التحديث بهذه القضية، ولو جزئياً، ضِمن إطار التاريخ العثماني المتأخّر.

لم تكن كلّ القوانين التي طُبِّقت بدايةَ الجمهورية التركية نتيجةً لنقاشات داخل الدولة العثمانيّة، فهناك عوامل أُخرى منها الهزيمة في الحرب العالمية الأولى وتفوُّق الغرب. لكنَّي أحاول تبيان أنّ مساحات كثيرة من هذه النقاشات كانت تدور في الإطار الثقافي والفكري والسياسي العثماني قبل الجمهوريَّة، وإنما لَم تسندها سلطةٌ حاكمة.

قبل نحو مئة وثلاثين عاماً من قرار كتابة التركية بالأحرف اللاتينية بدلاً من العربية، سُجِّلت رسائل خديجة سلطان مع الفنان الفرنسي أنطوني إجناس ملينج، بلغةٍ تركيّةٍ مكتوبة بالحرف اللاتينيّ. ليس مصادفةً أنّ خديجة سلطان هي أخت السلطان العثماني سليم الثالث، وهو مِن أبرزِ مَن قادوا عملية التحديث في الدولة العثمانيّة وكلّفه ذلك حياتَه سنة 1808. ثمّ أكمل أخوه السلطان محمود الثاني عملية التحديث تأسِّياً بتجربة والي مصر حينها، محمد علي باشا. 

وفي هذا العصر ظَهَر النمط المعماري العثماني المختلط، أو كما يصِفُه أحمد حمدي طانبنار أحدُ أهمّ الروائيين في الأدب التركي الحديث بأنّه "ذو أسلوبٍ هجين. معمار عثماني جديد يجمع بين أنماط الزخرفات الغربية والأصل التقليدي". ولا يحتاج مَن يسير على جنبات البوسفور أو في طرقات إسطنبول كثيرَ  تفحُّص ليكتشف الفرق بين العمارة العثمانية التقليدية والعمارة العثمانية المُحدَّثة، المتأثّرة بالطراز الباروكي الذي طغى على أوروبا في القرن السابع عشر.

لا يبدو أنّ خديجة سلطان كتبت رسائلها بحروفٍ لاتينية رغبةً منها بتحويل التركية العثمانية إلى الحرف اللاتيني، وإنّما هو دليلٌ على كتابتها بحروف الحضارة السائدة حينها. ففكرة استعمال الحرف اللاتيني لكتابة التركية قد راودَت بعض المثقفين العثمانيين الذين ناقَشوا استعمال الحروف اللاتينية منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل ولادة أتاتورك نفسه.

يذكر المؤرخ التركي إلبر أورطايلي في كتابه "حقائق التاريخ التركي الحديث" الذي ترجمه من التركية أحمد زكريا ونشرَته سنة 2022 الدارُ العربية للعلوم، أنّ نقاشات القوميّة التركيّة كانت تدور في الفضاء العثماني في القرن التاسع عشر، ولم يتبنّها الأتراك عِرقاً فقط، بل إنّ مجموعات من الضباط المجريين والبولنديين الذين لجؤوا إلى الدولة العثمانية سنة 1849 اعتنقوا الإسلام واتّخَذوا التركيةَ قوميةً لهم.

وأثناء مناقشات قانون الانتخاب في "مجلس المبعوثان"، أوّل برلمان للدولة العثمانية سنة 1877، صعد أحمد وفيق باشا رئيسُ المجلس إلى المنصّة مخاطباً النوّاب العرب، قائلاً: "إن بقيتم عقلاء حتّى الانتخابات المقبلة، فسوف تتعلّمون التركيّة خلال هذه السنوات الأربع". لم يكن وفيق باشا تركياً بالعِرق، فأصوله يونانيّة. وقد تولَّى منصب الصدر الأعظم مرّتين، وهو أعلى منصب عثمانيّ بعد السلطان.

عند النظر إلى استعمال الحروف اللاتينية بدلاً من العربية في الكتابة التركية لا نغفل أن تعليم السلاطين العثمانيين الأوائل كان بلغاتٍ عِدّة، منها اللغتان العربية والفارسيّة، حتّى أُثِرَ أنّ بعض السلاطين العثمانيين كان يَنظِم شِعراً بالعربيّة. لعل هذا كان طبيعياً لأنّ العربية آنذاك كانت لغةَ حضارة لديها إنتاج وتفوُّق أدبي وفكري وعلمي وتكنولوجي. ومع أُفول نجم هذه الحضارة أمام الحضارة الغربيّة، ومحاولات التحديث للدولة العثمانية نفسها كان أولياء العهد من بني عثمان يدرُسون بالتركية العثمانية والفرنسية والإيطالية وغيرها، فتراجعت مكانة العربيّة. ينطبق الأمر نفسه على مثقّفي الدولة العثمانيّة الذين دعا بعضهم إلى تعليم مواطني الدولة العثمانية - متنوعة الأعراق واللغات - اللغةَ التركيّة، حتَّى يصبحوا أتراكاً. كان هذا اقتراح ضياء جوك ألب أبي القوميّة التركيّة، الذي اختاره أتاتورك ليكون نائباً في البرلمان بعدَ أن تأثَّرَ بكتاباته.

من المهم أيضاً النّظر لتجربة أتاتورك في سياقها الجغرافي والزمني؛ إذ تصاعدت النظريات القومية في القرن التاسع عشر بينما تقلّصت مساحة الدولة العثمانية وخسرت أراضيها بسبب ثوراتٍ قومية في البلقان. وأمام هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى لم يكن أمام أتاتورك سوى بناء الدولة على أساسٍ قوميّ في محيطٍ قوميّ. وثمة تجارب سبقت أتاتورك في إقصاء الحرف العربي، كما في ألبانيا سنة 1908، وأذربيجان سنة 1921، ومثلهم فعلت الشعوب التركية في آسيا الوسطى التابعة للإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي، كما يذكر كلاوس كرايزر في كتابه "أتاتورك سيرة حياة".

تلقّى بعضُ المثقفين العرب ثورةَ أتاتورك التحديثيّة حينها بالقَبول. فقد أيّدت أم كلثوم مثلاً في أحد لقاءاتها مع مجلةٍ تركيّة إصلاحات أتاتورك الكبيرة المتعلقة بالمرأة التركيّة؛ ربّما بسبب ما عانته في بداية طريقها لأنها امرأة. 

في ثلاثينيات القرن الماضي كان أتاتورك قد أرسى كلّ ما في جعبته من أفكار عن التحديث والقوميّة التركيّة وتغيير اللغة وجعل الأذان بالتركيّة، ولم يبقَ إلا تغيير الذوق الموسيقي للأتراك ليكون غربياً؛ لهذا حُظرت الموسيقى التركية التقليدية سنة 1934، أي قبل وفاته بأربع سنوات.

تَقرّر مصيرُ القومية التركيّة أخيراً سنة 1932 في المؤتمر التركي الأول للتاريخ، الذي رأى أن الأتراك لونُهم أبيض وهُم أصل كلّ الحضارات في العالم. سَبقَت المؤتمرَ نقاشاتٌ وأبحاثٌ أحيائية وآثارية شِبهُ علميّة دَرسَت سِماتٍ جسديةً لـستّة وأربعين ألف تركيّ، بإشراف ابنة أتاتورك بالتبنّي عِفَّت إينان البالغة حينها أربعة وعشرين عاماً. 

من المهم الإشارة إلى أن رعاة التحديث في تركيا بناءً على نظرية الأصل التركي لكل الحضارات اعتقدوا أنّ استيراد العلم والحداثة - وحتَّى اللغة - من الغرب ليس إلا استعادةً لما هو بالأصل تركيّ؛ لأنّ العرق التركي أصل كلّ حضارات العالم. أي أنّ هذه التوليفة كانت جسراً لاستيراد كلّ ما رغب به التحديثيون من أوروبا من غير المساس بشعورهم بالتفوُّق العرقي. 

ونوقشت فكرة  "البياض التركي" على نطاقٍ واسع أيضاً بين القوميين العثمانيين منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكنّ هذه النقاشات لم تتوفَّر لها الأدوات التي أُتِيحَت لعفّت إينان، فقد سَخّر أبوها الدولةَ كاملةً لتخرج بهذه النتيجة، وقمع أتاتورك أساتذةَ التاريخ الأتراك الكبار الذين شكّكوا في الأساس العلمي لنظريّتها، مثل محمد فؤاد كوبريللي وزكي وليدي طوقان. باتت مُخرَجات هذا المؤتمر تُدرَّس في مناهج التعليم الرسمي. 

أصبح الشغل الشاغل للتحديثيين في تركيا أن يجعلوا كلّ شيءٍ تركيّاً خالصاً؛ فاقتبسوا ما شاؤوا من الحضارة الغربيّة من غير حساب؛ لأنّ الأتراك "أصلُ كل الحضارات". وكانت الموسيقى من أولويات الثورة الثقافية الكبرى، التي أرادت تغيير الشخصية التركية لتصبح أوروبيّة و"متقدّمة".

بدأ الصراع مع الموسيقى التركية التقليدية الشرقيّة أو العثمانية مُبكّراً بعد تأسيس الدولة سنة 1923. ويتتبّع كتابُ "وحدة الموسيقى العربية والتركية" للكاتب مراد أوزيلدريم الذي نقلَته للعربيّة المترجمةُ ملاك دينيز أوزدمير، وصدر عن مشروع كلمة للترجمة سنة 2023، هذه التفاصيل بعددٍ غزير من المصادر والوثائق والمقابلات مع بعض من عاصروا أو عاصر آباؤهم تلك الفترة. 

تغيّرت المناهج رويداً رويداً مع فتح أقسام لتعليم الموسيقى الغربيّة. وفي ديسمبر 1926 أَغلقت وزارةُ المعارف قسمَ الموسيقى الشرقيّة تماماً، وحُظر تعليمها رسمياً خمسينَ عاماً حتى عادت سنة 1976.

في سنة 1928 أحيت الفنانة المصرية منيرة المهديّة حفلاً حضره أتاتورك في إسطنبول. وكانت منيرة تلقَّب وقتئذٍ "سلطانة الطّرب"، وفرقتُها إحدى أفضل فرق الموسيقى الشرقيّة. استمع أتاتورك لمنيرة المهديّة، التي غنّت يومَها قصيدةً بالعربيّة في مدح أتاتورك. بعد الحفل دعاها أتاتورك وتبادلا الحديث ونصحها بتعلُّم الموسيقى الغربية قائلاً: "بهذا الصوت يمكن أن يستمع إليكِ العالم كلّه. لتُطْبِق شهرتُكِ الآفاقَ".

يورِد مراد أوزيلدريم في كتابه أنّ أتاتورك في حياته الخاصّة كان يحبّ سماع الموسيقى الشرقيّة أكثر من الغربية، ولكنّه خرج بعد حفل منيرة المهديّة بتصريحاتٍ عُدّت تمهيداً لحظر الموسيقى الشرقيّة. قال أتاتورك حينها: "الليلة استمعتُ بالصدفة إلى أكثر الفرق الموسيقية تميزاً في الشرق، خاصّةً منيرة المهدية هانم، التي اعتلت المسرح أولاً. كانت ناجحةً في فنّها. لكن بالنسبة لشعوري بوصفي تركيّاً، فإنّ هذه الموسيقى البسيطة لا تكفي لإرضاء الروح والشعور التركي. وقد استمعتُ أيضاً إلى موسيقى العالم المتحضّر [فرقة موسيقى جاز في السهرة نفسها]. إنّ الشعب الذي بدا خاملاً حتى هذه اللحظة أمام ما يسمّى بالموسيقى الشرقية، تحرّكَ على الفور، إنهم جميعاً يرقصونَ بروحٍ مرحة، إنّهم مبتهجون وسعداء حقّاً".

شاب تركي يعمل في محل لبيع أسطوانات في حيّ بلاط بإسطنبول، حاملاً أسطوانة رباعيات الخيّام لأم كلثوم (تصوير عزام عبدالحكيم / الفِراتْس)

آنذاك حدثَ تغيُّرٌ ما زال يسبّب مشكلةً حتَّى الآن. إذ اعتُمد لحن النشيد الوطني التركي سنة 1924، وقد صيغ على المقام الموسيقي الشرقي "عجم عشيران". استمرَّ النشيد الوطني يعزف بهذا اللحن ستّ سنوات، وفي سنة 1930 عُدَّ هذا اللحن فجأةً موغِلاً في الشرقية، واستُبدِل به لحنٌ غربيّ ما زال يُعزَف حتَّى اليوم، لكنّه لحنٌ موسيقيّ يتعذّر قراءتهُ قراءةً صحيحةً، فلا هو شرقيّ ولا هو غربيّ.

اكتملت أركان ثورة القومية التركيّة في المؤتمر التركي الأول للتاريخ سنة 1932. واكتمل لثورة التحديث ما أرادت في سنواتٍ معدودةٍ إلا عائق الموسيقى التركيّة التقليدية، أي الشرقيّة.

في الأول من نوفمبر 1934 خطب أتاتورك في مجلس الأمّة التركي، قائلاً: "مقياس التغيير الجديد للأمّة هو قدرتُها على إدراك التغيير في الموسيقى، وفَهمه". في اليوم التالي قرّر وزير الداخلية إزالةَ الموسيقى التركية من البرامج الإذاعية تماماً، وإذاعةَ المقطوعات الموسيقية التي تُعزَف على الطراز الغربي فقط. 

اعتمدت الرؤى التحديثية للموسيقى على تصوّراتٍ قوميّة شديدة التمركز حول الذات، وشديدة الانبهار بالحضارة الغربيّة في آن؛ فانبرت أقلام الصحافيين والمنظّرين والموسيقيّين تهلِّلُ لقرار وزير الداخليّة، بينما حُيّدَ منتقدو القرار. ترى السرديّةُ القومية أن الموسيقى العثمانية دخيلةٌ على الأتراك، ويحاجِج بعضُ منظّري القومية التركية أنّها مزجٌ من الموسيقى الفارسية والعربية والبيزنطيّة. وجادَل بعضُهم أنّها موسيقى نخبويّة كان يسمعها السلطان وحاشيتُه فقط، ولهذا وجب حظرُها بسلطة الجمهورية التي تمثّل هذا الشعب.

في مقابلةٍ شهيرة لأتاتورك مع صحفي ألماني، نُشرت سنة 1930، كشف مؤسس الجمهورية التركية عن تأثّره بهذه الآراء، وقال إنّ هذه الموسيقى الشرقية بيزنطيّة. وعندما سأله الصحافي عن إمكانية تحسين الموسيقى التركية كان أتاتورك واضحاً: "كم مضى من الوقت لتصبح الموسيقى الغربيّة على ما هي عليه اليوم؟" أجاب الصحافي: "أربعمئة عام"، فردّ أتاتورك: "لا وقت للانتظار، لذا نأخذ الموسيقى الغربية".

يتبنَّى كتاب "وحدة الموسيقى العربية والتركية" سرديةً مغايرة؛ فالعربُ والأتراك عاشا معاً ألف عام قبل الدولة العثمانية بقرونٍ، فكان طبيعياً أن تتأثّر الموسيقى العثمانية بالموسيقى العربية والفارسية وغيرهما، والعكس صحيح، لا سيما أنَّ حواضر الدولة العثمانية الكبرى كانت إسطنبول وحلب ودمشق والقاهرة.

استمرّ الحظرُ المضروب على الموسيقى التركيّة أقلّ من عامين، فقد رُفع في سبتمبر سنة 1936. وصرّح أتاتورك بعدها: "للأسف، لقد أساءوا فهْم كلماتي. قصدتُ أنّنا يجب أن نجدَ طريقة ليسمع الغربيون موسيقانا التركيّة التي نسمعها ببهجة. لم أقصد أن نتخلّص من الألحان التركية، بل أن نأخذ الموسيقى الغربية ونجعلها خاصةً بنا. لقد أساؤوا فهْم كلامي، وأثاروا ضجّةً حتى أنّني لم أستطع التحدُّث عن الأمر مرَّةً أخرى".

لَم يتراجع أتاتورك، وهو القائد العسكريّ الشُّجاع عن أحد قراراته التحديثية التغريبيّة، لكنّه اضطُرَّ للتراجع أمام قوّة الموسيقى الشرقيّة المتأصّلة في الشخصيّة التركيّة مئات السنين. وفي هذا يقول المؤلف: "كانت الموسيقى في المقام الأول مسألة ذوق، وهيهات تغييرُ أذواق الناس الموسيقية بتغييرٍ يمكن إجراؤه بين ليلةٍ وضُحاها".

للموسيقى أثرٌ بادٍ في الوجدان التركي، يمكن قراءته وتلمُّسه في مقاطع مصوَّرة يُغنِّي فيها الرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان في حملاته الانتخابية الحاسمة مع الجمهور، أو في لقاءٍ جَمعَه مع فنّانٍ ما. وكثيراً ما تُجسِّدُ الدراما التركيّة شخصيةً ما قويّة أو متجبّرة تتلاشى قوّتُها فجأةً عند سماع أغنيةٍ ما أو مقطوعةٍ موسيقيّة. 

ولهذا فقد بلغَ من كُره الشعب التركي للموسيقى الغربيّة التي كانت تُذاعُ قسراً في ذلك الوقت أن شبَّهوها بغزو تيمورلنك، القائد المغولي الذي كاد يقضي على الدولة العثمانية بعد أن غزا أراضيها وأَسَر سلطانَها بايزيدَ الأوّل وبَدَّدَ مُلكَه سنة 1402.

حاول بَعضُ الباحثين لاحقاً، مثلَ البروفيسور يالتشين تورا، تفسيرَ سماع وحبّ الأتراك للموسيقى العربيّة وقتئذٍ بتعريفها أنّها موسيقى تركيّة مُعدَّلة صارت تُعزف حسب الذوق العربي. أي أنّ الشعب التركي يراها موسيقى تركيّة الأصل. لكن يبدو أنّ الأمر يتخطَّى هذا التفسير المتعلّق بالموسيقى فقط. فحظرُ الأذان بالعربيّة طُبّقَ سنة 1933، مع محاولاتٍ هنا وهناك لجعل التركية لغة العبادة، ثم مُنِعَت الموسيقى الشرقيّة عام 1934.

يورِدُ كتابُ "وحدة الموسيقى التركية والعربية" مقالاً كَتبه الكاتبُ والشاعر أحمد طلعت أوناي في الثلاثينيات، يحكي فيه ما عاشه الأتراك مع الإذاعة المصريّة، فيقول إن رغبة الناس في الاستماع للموسيقى والقرآن بلسانٍ عربيّ قد ازدادت. ويقول المقال إنّ الأتراك، متدينين وعلمانيين، كانوا يريدون سماع القرآن الذي تبثّه الإذاعة المصريّة كما تبثّ مقطوعات موسيقى تركية أحياناً، وهو ما أشعرَهم بأنّ هذه الإذاعة تنتمي إليهم. يقول أوناي: "إنّ النّاس يستمعونَ إلى الإذاعة المصرية بخشوعِ مَن في المساجد، وهُم في مقاهي إسطنبول وأنقرة وبعض أجزاء الأناضول".

مع منتصف الثلاثينيات كانت أمّ كلثوم قد استوت على عرش الطرب أشهرَ نجوم العالم العربي. ومعجَبوها في تركيا يومئذٍ لا يقلّون كثرةً وهياماً بصوتها "الأسمر الوقّاد" - كما تصِفها إحدى مجلات ذلك العصر، والإشارة هنا للسُمرة المصرية - عن معجبيها في العالم العربي.

افتُتحت الإذاعة المصريّة في 31 مايو 1934، قبل الحظر الذي طبّقَته تركيا على الموسيقى الشرقيّة مطلعَ نوفمبر من العام نفسه. وكانت الإذاعة تبثّ أغاني أم كلثوم منذ اليوم الأول للبث.

أصبح صوتُ أم كلثوم مألوفاً لجموع الأتراك بعد سنوات قليلة. وزادَ ارتباطَهم بها دخولها مجال الأفلام الغنائيّة، فأصبحت أخبارُ أم كلثوم مِن أكثرِ المستجَدّات متابعةً في الصّحف التركيّة. بدأ الصحفيون يقصدون كوكبَ الشرق بُغْيةَ لقائها وسؤالها عن رأيها في تركيا وجمهورها من الأتراك. بل تجاوز الأمرُ الصحفيين إلى الملحّنين والفنانين والفنانات الأتراك الذين زاروها في القاهرة. وفي لقاءٍ صحفي معها نُشر سنة 1940 ذكرَت أنّ بعض نوّاب البرلمان التركي قد زاروها أيضاً.

في لقاء صحفي مع قاندمير لمجلّة "يني مجموعة" سنة 1940 سألها: "هل تعرفين حجم قاعدة المعجَبين بأمّ كلثوم في تركيا؟" فردّت أمّ كلثوم: "أكوام الرسائل التي أتلقّاها كلَّ يومٍ من جميع أنحاء تركيا تنقذني من الصمت أمام سؤالكم المهم". وفي لقاءٍ آخر أخبرَت أمُّ كلثوم الصحافيَّ التركي بأنها تملك مئات الأسطوانات التركية في منزلها بالزمالك، وأنها تستمعُ إليها دائماً ولا تجد المتعةَ نفسَها في أيّ موسيقى أُخرى. وفي حوارٍ مشابه تمتدح أمُّ كلثوم إصلاحاتِ أتاتورك المتعلقة بحريّة المرأة. استمرّت العلاقة بين أمّ كلثوم والأتراك، ثمّ بين أمّ كلثوم والموسيقيين والفنانيين الأتراك حتى وفاتها منتصف السبعينيات. وقد غنَّى بعض الفنانين الأتراك أغانيَ بالعربيّة لأمّ كلثوم، مثل أغنيّة "غنّي لي شويّ شوي" التي غنّتها الفنانة بريهان ألتنداغ سوزاري. ويمكن لمن يريد الآن أن يبحث باسم أمّ كلثوم بالتركية على يوتيوب ليجد أغانيها مترجمةً للتركيّة. ما زالت أمّ كلثوم حاضرةً في الوجدان التركي، وإنْ كان حضوراً لا يقارَن بلحظاتِ عظَمَتها في الثلاثينيات والأربعينيات، يومَ كان الأتراك ينصِتون إلى كلّ ما يتاح لهم من أغانيها على الإذاعة المصريّة.

عُرضت الأفلام المصرية في تركيا أوّل مرّة سنة 1936. وحين ظهرت أفلام أمّ كلثوم الغنائية حازت النصيب الأوفر من النجاح. ونجحت أسماء لامعة أخرى مثل يوسف وهبي وليلى مراد وأنور وجدي ومحمد عبدالوهاب في تأثيرها على الأتراك. فمنذ سنة 1936 وحتَّى 1948 عُرضَ مئة وثلاثون فيلماً مصرياً في تركيا؛ أي بمعدّل عشرة أفلام كلّ سنة. وبمقارنة عدد الأفلام التركية والمصرية المعروضة في تركيا بين عامَي 1938 و1944 نجدُ أن السينما كانت تعرض سبعة عشر فيلماً تركياً مقابل ستة عشر فيلماً مصرياً.

كان فيلم "دموع الحب" لمحمد عبدالوهاب أكبر نجاح سينمائي مصري في تاريخ السينما التركيّة. ففي سنة 1939 بيعت اثنتا عشرة مليون تذكرة لذلك الفيلم، حين كان عدد سكّان تركيا يربو على سبعة عشر مليوناً. ففي إسطنبول وحدها بيعت سبعة ملايين تذكرة في ذلك العام، ما يعني أكثر من سبعة أضعاف تعداد سكان إسطنبول البالغ عددهم آنذاك تسعمئة ألف نسمة. وما زال هذا الفيلم وتأثيره المُمتدّ يَشْغَل الباحثين في السينما التركيّة. ثم أصبح هذا الفيلم مصْدراً لعدد من الأفلام التركية، فقد أُنتج الفيلم بصبغةٍ ولُغةٍ تركية عام 1959 ومرة أخرى عام 1966. بل إن بعض الكتّاب ترجموا قصّة الفيلم إلى التركيّة وباعوها في كتيِّبٍ صغير عليه صورة محمد عبد الوهّاب. لَم يدُمْ تَميّزُ الأفلام المصرية في السينما التركيّة طويلاً. فقد تُوفِّي أتاتورك سنة 1938 وتسنَّم السلطةَ بعدَه صَديقُه ورفيقُ سلاحه عصمت إينونو، وقد حُكِمت تركيا بنظام الحزب الواحد الذي أسّسه أتاتورك حتَّى سنة 1950، عندما تغيَّر الوضع مع صعود المحامي المُفوّه عدنان مندريس إلى سدَّة الحكم.

عندما زادت شعبيةُ الأفلام المصرية زادت شعبيّةُ الأغاني؛ فقد كانت الأفلام المصرية حينها أفلاماً غنائية، قد يحتوي الفيلم الواحد منها على عشر أغانٍ أو أكثر. ولهذا تملّكت أسماءُ أم كلثوم وليلى مراد ويوسف وهبي وعبدالوهاب وأنور وجدي اهتمامَ المواطن التركي ذي الذائقة الشرقيّة. أقلقَ هذا النخبةَ الحاكمةَ في تركيا التي أرادت أن تنفصلَ عن الشرق، فإذا بالشرق يصبح مركز الاهتمامات الفنيّة للمواطن التركي العادي.

وهكذا، قدّمَ الحزبُ الحاكمُ حينها "حزبُ الشعب الجمهوري" الحالي عريضةً لوزير الداخلية في 10 فبراير 1942، قال فيها: "لقد قلَّ اهتمام الناس بالتركيّة في المدن المتأثرة بالثقافة العربيّة ــ أي المواطنين ذوي الأصول العربية جنوب تركيا ــ بسبب تأثير الأفلام العربيّة، ولذلك يجب منع بثّ الأفلام بالعربيّة". تلا ذلك حظرُ المديرية العامَّة للمطبوعات عرضَ أفلامٍ فيها أغانٍ بالعربية. 

زاد الحظرُ شعبيةَ الأفلام والأغاني المصريّة؛ إذ ظهرت الأفلام المترجمة والمدبلجة من العربيّة إلى التركية. وقد زاد تأثُّر صناعة الأفلام والأغاني التركية بشكلٍ غير مسبوق بالسينما والأغاني العربيّة. وهكذا أصبح كتّاب الأغاني والملحّنون الأتراك يترجمون كلمات الأغاني للتركيّة، ويبدعون لها لحناً تركياً. كان الأمر صعباً ومبدعاً في آن، فبعد ترجمات الأغاني على أساس اللّحن، كان على المُلحّنين أن يضبطوا ألحانهم بدقّة لتتوافق مع اللّحن المصري. وقد اشتُهِر الملحّن التركي سعد الدين كايناك لأنه أكثر من لحَّنَ أغاني الأفلام المصرية المدبلجة والمترجمة؛ إذ لحَّنَ أغاني خمسة وثمانين فيلماً مصرياً بين عامي 1940 و1950. وكثيرٌ منها ما زال محبوباً ويُسمَع حتى اليوم في تركيا. 

بوستر لأم كلثوم مكتوب عليه باللغة التركية والعربية معلقاً على باب أحد محلات بيع الأسطوانات في إسطنبول (تصوير عزام عبدالحكيم / الفِراتْس)
بوستر لأم كلثوم مكتوب عليه باللغة التركية والعربية معلقاً على باب أحد محلات بيع الأسطوانات في إسطنبول (تصوير عزام عبدالحكيم / الفِراتْس)

وما بين فرض الحظر وإلغائه أخفقت الثورة الموسيقية. فها هو الشعب التركي يسمع أمَّ كلثوم وعبد الوهّاب، ويَطرب لهما أكثر من طربه لأيّ مغنٍّ أو موسيقيٍّ غربيّ. وامتدّت طوابير الناس في إسطنبول وأنقرة في البرد القارس منتظرين تذكرة سينمائيَّة لفيلمٍ عربيّ. بل غيّرت الأمّهات التركيات تهويدة النوم لبناتهنَّ من "شعرها مثل الحرير/جبهتها مثل ورق الكاتب/نامي يا ملاك أمّك" إلى "وجه أمينة رزق/شعر هيدي لامار/قامة فاطمة رشدي/نامي يا طفلتي واذهبي إلى السينما".

 نمت جذور تأثّر الموسيقى والسينما التركية الحاليّة بالموسيقى والسينما العربيّة، أو بالأحرى المصرية، ما بين الثلاثينيّات والخمسينيّات. فأحد أعظم الملحنين المصريين محمّد عبد الوهّاب استدخَل أشكالاً موسيقيّة غربيّة في موسيقاه، وقد أثّرت موسيقاه في الموسيقى التركيّة أكثر من غيره من الملحنين العرب، لذا فبعض رياح التغريب هبّت من تجربةٍ موسيقيّةٍ عربيّة اقتُبست من الغربيّة، من غير أن تفرّ هاربةً خوفَ حظرٍ أو قرار سلطة أرادت أن تشكّل أذواق الناس برؤية محددّة. استمرَّ هذا التأثير نسبياً حتَّى الستينيات والسبعينيات لكنَّه قلَّ تدريجياً بعد ذلك؛ ربّما لخُفُوت الإنتاج الفنّي العربيّ نفسه، أو لأنّ الأتراك قد وجدوا طريقهم نحوَ الأغاني والسينما بعيداً عن تدخُّل السلطة؛ إذ عاد تدريس الموسيقى التركية التقليدية عام 1976.

من بين كلّ أنواع الموسيقى التركيّة الحديثة برزت موسيقى شرقيّة في الستينيات اسمها "الأرابيسك". يُنظر للأرابيسك على أنها أغاني تركيّة بموسيقى عربيّة، ويتفق كثيرٌ من الباحثين الأتراك على أنّ المغني التركي سعاد ساين استوحى ألحان إحدى أغانيه من أغنية لمحمد عبد الوهاب سنة 1960، ويرى الباحثون أنّ هذا التاريخ هو بداية انطلاق فنّ الأرابيسك التركي.

تبالغ المسلسلات والأفلام التركيّة في الدراما خصوصاً في قصص العشق الملحميّة والحب الممنوع وهذه الأنماط. ربّما ساهمت الأفلام المصريّة من الثلاثينيات إلى الخمسينيات بوضوح في صياغة السينما والدراما التركيّة؛ إذ كانت أغلب قصص الأفلام المصرية حينها قصصاً عن العشق الممنوع وصراع الطبقات في مصر والحبّ بين ابنة ذوي النفوذ وابن الفلاح أو الفقير المتعلّم المجتهد.

لم تزُر أم كلثوم تركيا، بالرغم من شهرتها الواسعة هناك ورغبتها العارمة بزيارتها وتصريحها المتكرر للصحفيين بحبّها لتركيا. يرى مؤلّف كتاب "وحدة الموسيقى التركيّة والعربيّة" أنّ حظر السلطات للأفلام العربيّة كان سبباً لعدم زيارتها تركيا؛ لما فيه من مساس مباشر بفنّها. ويرى أن السبب الأكثر وضوحاً هو اعتراف تركيا بإسرائيل عام 1948، ثمَّ انضمامها إلى الحلف الغربي في مواجهة الزعيم العربي آنذاك جمال عبد النّاصر، إذ إنّ لِأُمّ كلثوم التزامات وطنيّة وعلاقات مع الزّعيم ورجال السلطة منَعَتها من زيارة تركيا.

هُزمَت الثورة الموسيقيّة، وأفضى حظر الموسيقى الشرقيّة إلى تشبّث الأتراك بشرقيّتهم حتى أصبحت الإذاعة تشدو بعربيّةٍ خالصة. ولمّا حُظرت الأفلام العربيّة أقبل الأتراك عليها بالحفاوة نفسها، وجعلوا الأفلام والموسيقى الشرقيّة تركيّة بترجمتها. لَم تصبح الموسيقى التركيّة غربيَّةً كما أُريدَ لها، لكن رياح التغريب هبّت على الموسيقى العربيّة التي دمج فيها محمد عبد الوهاب موسيقىً غربيّة بعبقريته الفذّة. وربّما كان استماع الناس وتأثّرهم بالموسيقى والغناء والأفلام العربيّة، حنيناً إلى هويتهم القديمة التي غُيِّرَت بقوّة الدولة لا الإقناع.

اشترك في نشرتنا البريدية