الوجوه المنسيّة من إرث أحلام مستغانمي الأدبيّ

عرّفَ كثيرون أدبَ أحلام مستغانمي بالأدبِ "العاطفي"، لكن مسيرة الكاتبة الروائية والأكاديمية والشخصية تخفي وجوهاً أخرى.

Share
الوجوه المنسيّة من إرث أحلام مستغانمي الأدبيّ
تصميم خاص لمجلة الفراتس

صَدَرَت ثلاثيةُ "ذاكرة الجسد" الروائيةُ للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي سنة 1993 وسط ضجيجٍ إعلاميٍ صاخبٍ بين مشكّكٍ ومنبهرٍ. وزادَ ذلك الضجيجُ بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ سنة 1998. زادت الجائزةُ اتساعَ رقعةِ قرّاء الروائية الجزائرية واستمرّت شهرتُها حتى صنّفتها مجلّة فوربس سنة 2006 من بين عَشر نسوةٍ هنّ الأكثر تأثيراً في العالم العربي، وهي الأُولى بينهنّ في مجال الأدب ببيعها أكثرَ من مليونَيْ نسخةٍ، كما أوردت المجلّة. عَرَفَتْ مستغانمي كيف تخاطِب القارئَ بلغةٍ شِعريةٍ، فقد كانت شاعرةً في الأصل. 

خَلّفَت "ذاكرة الجسد"، و"عابر سرير"، و"فوضى الحواسّ" عاصفةً أدبيةً في العالم العربي. ما كان لغبار تلك العاصفة أن يَصِلَني وأنا طفلةٌ في الثانية عشر من عمري، فقد كان سنّي يحول بيني وبين فهمِ ما تحمله الكتبُ من أفكار. كنّا في بداية الألفية قبل ربع قرنٍ من الآن، وكان هناك إعصارٌ آخَرُ يهزّ الجزائرَ تمثّل في عشر سنواتٍ من الحربِ على الجماعات الإسلامية لم تترك للجزائريين من وقتٍ ولا مزاجٍ للحديث عن الأدب. وكان الكتّاب والمثقفون يتساقطون في حربٍ مُشهَرةٍ على الفكر. وكنتُ طفلةً صغيرةً أهرب من أخبار الموت التي تهيمن على الشارع إلى ما عثرتُ عليه في مكتبة بيتنا الكبيرة من كُتُب. فاكتشفتُ روايةَ "ذاكرة الجسد" واكتشفتُ بعدها من كتبِ أحلام مستغانمي الأُولى أن نظرتنا لما قرأنا تتباين من حينٍ لآخَر. فقراءتي لذاكرة الجسد في مرحلة الدراسة المتوسطة ليست كقراءتي لها في الثانوية، ولَم أعِش التجربةَ ذاتها عندما قرأتُها في الجامعة. وبكلّ تأكيدٍ اختلفَت البتّةَ عند قراءتي لها الآن، إذ صِرتُ أقرأ الأدبَ بجدّيةٍ أكثر في الكتابة النقدية عنه، وتعمّقت ُفي فهمه واحتككتُ بعالمه الواسع. 

ما زلتُ أَحفظُ، كما قرّاءُ أحلام مستغانمي، مقاطعَ كاملةً من كتابتها كما لو أحفظُ نصّاً شعريّاً. فهي القائلة: "عندما نفقد حبيباً نكتب قصيدةً. وعندما نفقد وطناً نكتب روايةً". أدخلَتْ أحلامُ على رواياتها الصيغَ التأمّليةَ في السياسة والحبّ والحياة التي كانت تضعُها على لسان أبطالها، والتي تحوّلَت مع الوقت وفي زمن الإنترنت إلى مقولاتٍ رائجةٍ جعلَتْ اسمَ قائلتِها في قائمةِ الأكثرِ تداولاً في المواقع. 

كلّما قرأتُ "ذاكرة الجسد" أعيدُ اكتشافَها من جديد. أكتشفُ في الروايةِ أفكاراً جديدةً، لا سيما أني تعرّفتُ بعدها على الكاتبة وعرفتُ كثيراً عن كتاباتها السابقة، أي التي سَبَقَت ذاكرةَ الجسد. واكتشفتُ أفكارَها التي حَصَرَها كثيرون في العالم العربي في قالبِ "الرواية العاطفية" الذي طعّمَت به رواياتها. وللكاتبة في هذا الصدد عبارةٌ شهيرةٌ تعبّر فيها تماماً عن فكرتِها هذه، فتقول: "الرواية هي آخِر حقيبةٍ لتهريب التاريخ. إنها تحايلٌ على الرقابة العربية، وعلى نقاط التفتيش. كيف أهرّب هذا التاريخَ المتآمَرَ عليه. هاجسي ألاّ تُمنَع رواياتي في أيّ بلدٍ عربيٍّ. سأكون حينها كاتبةً فاشلةً، تماماً كمهرّب ممنوعاتٍ غبيّ". ولمّا ناقشتُها في هذا التصريح، قالت أحلام بأن الرواية أسلوبٌ قبل أيّ شيءٍ آخَر؛ أي أنها اعتَمدَت أسلوبَها الخاصَّ في كتابة الرواية مستخدِمةً القصّةَ لإعادة كتابة التاريخ، بعيداً عن نقلِه حَرفيّاً وإثقالِ الرواية به. قد يلجأ بعضُ الكتّاب إلى إذابة التاريخ في المتن، بينما يُثقِل بعضٌ آخَرُ الروايةَ به على سبيل التوثيق. لكنَّ مستغانمي اختارت أن تذيبه بطريقتها الخاصّة.

كثيراً ما حُصِرَتْ أحلام مستغانمي في قالبٍ واحدٍ، مع أنّ من يتعمّق في قراءتها يجدُ وجوهاً أُخرى لأحلام، في رواياتها أو كتاباتها الأخرى. تُظهِر سيرتُها الذاتيةُ الروائيةُ "أصبحتُ أنتَ" المنشورةُ سنة 2023 وجهَ أحلام مستغانمي ذاك الذي تتحدث فيهِ عن أبيها محمد الشريف مستغانمي، السياسيّ والمثقّف الجزائريّ، وكأنّها أصبحَتْ أباها. وعلى من اطّلَع على معرفة أحلام مستغانمي الأكاديمية، وسيرتها الروائية في آخِر سيرتِها هذه يدرك تماماً مرجعيّتَها الفكرية والثقافية. قلّةٌ يَعلمون بأنّ لمستغانمي كتاباً باللغة الفرنسية بعنوان "الجزائر: المرأة والكتابة" صدر عن دارِ آرماتان الفرنسية سنة 1985. والكتابُ رسالةُ تخرّجها في علم الاجتماع من جامعة السوربون في فرنسا، بإشرافِ عالِم الاجتماع الفرنسيّ الشهير جاك بيرك. هذا الكتاب الذي قدّمه أيضاً جاك بيرك مُشِيداً بأهمّيته، لم يترجَم، بعدُ، إلى العربيّة، مع مرور أربعين سنةً على صدوره. ولعلّ الكاتبة استندت، في الفكرة الأولى لموضوعه، إلى تجربتها ومعاناتها الشخصية. فقد كانت من أوائل الجزائريات اللائي كَتَبن بالعربية، فكان عليها مواجهة مجتمعٍ خرجَ توّاً من الحرب، لا تختلف فيه عقلية المثقف عن الرجل العامّي في التعامل مع المرأة والتفكير بها.

حظيَت أعمالُ أحلام مستغانمي بشهرةٍ واسعةٍ لكنها قُرئت أحياناً قراءةً سطحيةً، فاكتُفِيَ بالقصّة بدلاً من الأفكار العميقة التي ناقشتها. ومَن يربط أعمالَها المختلفةَ، مثل رواية "ذاكرة الجسد" وسيرتها الذاتية "أصبحتُ أنتَ" مع دراستها عن المرأة والكتابة في الجزائر، فضلاً عن علاقتها بأبيها، سيكتشف أبعاداً جديدةً لشخصيتها أكاديميةً وأديبةً جزائرية. فهي استلهمت تجربتها الأدبية لاستعادة تاريخ الجزائر والدفاع عن قضايا المرأة.


عندما قرأتُ "ذاكرة الجسد" أوّلَ مرّةٍ أدخلَتْني إلى عالم الأدب. وعندما أعدتُ قراءتَها مرّةً ثانيةً وثالثةً اتّضحَت لي رسائلُ أحلام مستغانمي المتّصلةُ بالتاريخ، أو ما عبّرت عنه بقَولِها إنَّ "الرواية آخِرُ حقيبةٍ لتهريب التاريخ". إذ يكتشف القارئُ أنَّ الشخصية الروائية "حياة" في الرواية هي الجزائر التي تَنافَس للفوز بها المثقّفُ والمجاهدُ واليساريُّ والثائرُ، وفاز بها العسكريُّ. وتتّضح للقارئ رموزٌ عدّةٌ نثرتها الكاتبةُ في النصّ، كرمزِ يدِ خالد بن طوبال المبتورةِ، وقصّة زياد الشاعر الفلسطيني الذي تعرّف عليه خالد يومَ عُيّن رئيساً للمؤسسة الرسمية للنشر وجاءه بديوانٍ للنشر، فأبَى أن ينشرَه لعنف تعبيراته السياسية وتهجّمه على بعض الأنظمة العربية، وحين حاول أن يغيّر بعضَ ألفاظه رفض زياد ذلك، وقال وهو يستعيد الديوان ملمّحاً لذراع خالد: "لا تبتر قصائدي … سيدي، رُدّ لي ديواني".

نالت أحلام مستغانمي شهرةً واسعةً بفضل هذه الرواية التي فازت بجائزة نجيب محفوظ سنةَ 1998. تلك شهرةٌ لم تخطّط لها كما عبّرت في سيرتها الذاتية "أصبحتُ أنتَ". ولعلّ ما كَتَبَته في هذا الكتاب واصفةً أوّلَ أمسيةٍ شعريةٍ أَحْيَتها وهي في السابعة عشر من عمرها يختصر شخصيّتَها؛ إذ تقول: "لَم أطارِد الضوءَ يوماً. هو الذي اشتهاني. دخلتُ تلك القاعةَ أحلام، وغادرتُها أحلام مستغانمي". 

كانت بدايةُ أحلام في الجزائر صعبةً ومليئةً بالعراقيل. فقد كانت ظاهرةً أدبيةً نسائيةً يمكن أن تفسح الطريق لغيرها. وشكّلَت طموحاتُها عائقاً لمن أرادوا للأبواب أن تبقى موصدةً في وجه الجيل الجديد. طُرِدَت من اتحاد الكتاب الجزائريين، وطُرِدَت من المدرسة الثانوية لأنَّها كانت تعدّ برنامجاً شعرياً يومياً وتقدّمه، لتعيل به أهلَها. فقد كان والدها محمد الشريف مستغانمي في المستشفى إثر انهيارٍ عصبيٍّ بعد ثلاث محاولات اغتيالٍ، كما ورد في الموقع المخصّص للحديث عن والدها، الذي يحملُ صِنْوَ اسمِ سيرتِها "أصبحتُ أنتَ".وفي تحدٍّ آخر تقدّمت أحلامُ إلى شهادة الثانوية العامّة "الباكالوريا" من غير أن تكون مسجِّلة في المؤسسات التعليمية. وحين تخرّجَت من كلّية الآداب ضمن أوّل فوجٍ مُعَرّبٍ، بعد موجة التعريب في الجزائر المستقلّة، ذَكَرَت أحلام أنّ أساتذتها منعوها من إتمام دراستها العليا، وكانوا هم أنفسهم كتّاباً يسيطرون على المؤسسات الثقافية المعرّبة.

فتحت السيرةُ الروائيةُ "أصبحتُ أنتَ" كلّ تلك الجراح غير الملتئمة في دفاتر الكاتبة. فهي كثيراً ما ردّت على العداوات بالصمت، معتقدةً أنّ "الصمت جزءٌ من الإبداع" وأن كلّ ما هو خارجٌ عن الكتابة "ثرثرة" كما تردّد دائماً. شكّلت تلك العداوات التي وجدَتها في طريقها، سبيلاً لتعرّف مستغانمي نفسَها؛ إذ تسردُ في سيرتِها مشهداً مؤثّراً تصف فيه بكاءها لحظةَ أَعلَنَت اللجنةُ في جامعة السوربون نَيْلَها الدكتوراه بتقدير جيّدٍ جداً. وكيف أسرعَت وهي حبلى في شهرها السابع إلى أوّل مقصورةِ هاتفٍ لتخبرَ والدها المريض. وحين قال لها متأثراً: "كم يسعدني أن تحملي لقب "دكتورة" أجابته: "لن أوقّع بهذا اللقب يوماً. لقد غادرتُ الجزائرَ بسبب من يحملونه. فوزي به كان من أجلك وحدك". وَفَت مستغانمي وعدَها ذاك في أربعين عاماً. لن نعثر لها على أيّ نصٍّ بتوقيع دكتورة، حتى لَتبدو وكأنها تتبرّأ منه. تقول الكاتبة في سيرتِها: "لو حملتُه، لتحوّلت الهدية إلى مجرّد شهادةٍ أكاديميةٍ ترافق اسمي، وتميّزني عن قرّائي". 


ويبدو أنّ ما واجهَتْه أحلام في بداية مشوارها الأدبيّ هو ما جَعَلَها تناقشُ صورةَ المرأة في الأدب الجزائريّ موضوعاً لدراستها عند التحاقها بالسوربون. وكانت الدراسةُ شاملةً تجمع بين علم الاجتماع والأدب، وغطّت حِقَبَ ما قبل الاستقلال وما بعده من إنتاجٍ أدبيٍّ باللغتَيْن العربية والفِرنسية وبأقلامٍ نسائيةٍ ورجالية. أرادت أحلام فهمَ أسباب غياب المرأة عن الأدب الجزائري أو ما عبّرت عنه في دراستها بحِيرةِ "الأدب في مواجهة الشخصية الأنثوية". وأوّلت أحلام ذلك بقدسية المرأة الجزائرية وتقديس جسدها في أثناء الثورة والاستعمار، وقد شرحت ذلك مستحضرةً مقطعاً من رواية "رصيف الأزهار لا يجيب" للروائيّ الجزائريّ مالك حداد، عندما استغربَت "مونيك"، إحدى شخصيات الرواية، أن خالداً لم يُهْدِ روايتَه إلى زوجته فسألَتْه عن سبب ذلك، فقال: "أنا عربيٌّ يا مونيك، والحياءُ يمنعني. أعرف أن العاشق لا يخجل أبداً ولا حياء في الحبّ، لكنني مثل نسائنا اللّائي يستحيين من الأكل أمام الغريب". 

تطرحُ أحلام في دراستِها أنّ خجَل الجزائريّ من الحديث عن المرأة هو ما جعل الأمّ المرأةَ الوحيدةَ التي تشغل روايات الجيل الأول من الروائيين في الستينيات والسبعينيات. شغلت الأمُّ المساحةَ الأنثوية في أغلب الأعمال الجزائرية بالعربية والفِرنسية، لأن معظم الأعمال تنطلق من الطفولة بحيث غدت صورةُ المرأة ممثَّلةً في الأمّ المتعلّقة بابنها حدَّ الجنون، لأنه رجلُ حياتِها الوحيدُ. تقول مستغانمي في كتابها "الجزائر: المرأة والكتابة": "ولذلك لن نستغرب أن نرى معظم الكتّاب 'الذكور' يستمدّون مصدرَهم من الطفولة أو اللاوعي، ويضعون في مقدمة رواياتهم ثنائياً غريباً مكوّناً من الأمّ وابنها. لا يتشابك هذان المصيران فحسب، بل إن الأم أيضاً تحتلّ مكانَ الزوجة. إذا اختفت بمعجزةٍ ما، فسيكون ذلك لصالح زوجةٍ ذات صفات الأمومة". ويبدو هذا واضحاً كما تقول أحلام في رواية "نجمة" للكاتب الجزائري كاتب ياسين التي ترمز فيها شخصيةُ "نجمة" إلى الجزائر، و"الدار الكبيرة" للكاتب محمد ديب، وتسردُ روايتُه معاناةَ العائلات الجزائرية التي تتقاسم أو تعيش في بيتٍ واحدٍ أيام الاستعمار. 

تستمرُ أحلام في الشرح وتقول إنّ الكاتب الجزائريّ لا يتحرّر من قيوده الاجتماعية إلّا عندما يكتب بالفرنسية، شرطَ أن تكون البطلةُ فرنسية. وهذا انتصارٌ ما على فرنسا، لأن المرأة الغربية عنده "أنثى ملوّثة" تأخذ رمزيةَ فرنسا، كما في قصّة "فتاة الغزوات" للكاتب الجزائري عثمان سعدي. والمرأة الفرنسية لدى كتّاب اللغة العربية، كما الفرنسية، هي من تطارِدُ البطلَ المتمنّع غالباً، وفي أحسن الحالات هي سهلة المنال، كما في "لا حظّ ليحيى" للكاتب والمحلّل النفسي نبيل فارس. بينما لم يكتب الكُتَّاب بالعربية أو "المعرّبون" عن المرأة في الخمسينيات، إذ لم تكن هناك رواياتٌ جزائريةٌ بالعربية حينها. اقتصرَ نِتاجُ كتّاب العربية على بعض المجموعات القصصيّة في الستينيات، وذُكِرَت فيها المرأة التونسية تعويضاً عن المرأة الجزائرية. وتضربُ لنا أحلام في دراستِها أمثالاً لذلك المجموعةَ القصصيّة "دخان من قلبي" للطاهر وطار، ورواية "نهاية الأمس" لعبد الحميد بن هدوقة.

وتشيرُ أحلام في دراستِها إلى أنّه، عكسَ كتّاب الجزائر الرجال، كانت الكاتباتُ الجزائريات بالفرنسية أكثرَ توازناً في الحديث عن المرأة الجزائرية، والنظر إلى مشاكلها من الداخل بتعمّق. وأعطتْ مستغانمي مثالاً عن ذلك رواية "القبّرات الساذجات" لآسيا جبار. وتضيفُ أحلام أنّ الكاتبات الجزائريات قدّمن المرأةَ الأجنبيّة بصورةٍ إيجابيةٍ وباتّزانٍ، وأعطت مثالاً على ذلك روايتَيْ "سماء من رخام" و"الشرنقة" للكاتبة عائشة لمسين، ورواية "أبناء العالم الجديد" لآسيا جبار.

الملفت في دراسةِ "المرأة والكتابة" استنتاجُ مستغانمي بأنّ الأمير عبد القادر الجزائري كان أكثرَ تلقائيةً في التعامل مع موضوع المرأة من بعض المثقفين الجزائريين بعد الاستقلال. وتضع مثالاً تسميتَه زوجتَه بأمّ البنين. وتوجّه إليها في أشعاره مفاخراً بها ومتغزّلاً على استحياء. بينما بعد قرنٍ وأكثرَ ما زال الرجل الجزائريّ يتردّد في ذكر اسم زوجته أو إشهار قرابته بها، بل تغيب تماماً عن شعره، بسبب  الاستعمار  والهزّات الاجتماعية التي شهدها المجتمع الجزائري فجعلته يزداد محافظةً، دفاعاً عن هويته. وتستدلُ مستغانمي بدراسةٍ للناقد عبد الله ركيبي بعنوان "دراسة في الشعر الجزائري المعاصر" صدرت سنة 1961، إذ يبدي عبدالله ركيبي دهشته "أمام خلوّ الشعر الجزائريّ باللغة العربية من أيّ قصيدة عاطفية". ويعيد ذلك إلى انَّ الحبّ عند الرجل الجزائري ضعف لا يتناسب مع رجولته، وعليه أن يتفادى الظهور في حالة العاشق الولهان.

دراسةُ مستغانمي تلك دراسة عميقة عن تدخّل اللغة في تشكيل وجدان الجزائريّ، وعليه استطلَعَت انقسامَ المجتمع باكراً إلى قسمين مختلفين: المعَرَّب المُحافِظ والمُفَرْنَس المتحرِّر. ولِارتباط العربية بالدِين انعكست تلك القدسية على كتابات الرعيل الأوّل التي جاءت خجولةً بشأن المرأة، ولَم تأخذ في التحرّر إلاّ مع عبد الحميد بن هدوقة في روايته "ريح الجنوب" المنشورة سنة 1970. أمّا الكتّاب المفرنَسون فقد خفّفت اللغة الفرنسية من حرجهم في الحديث عن المرأة، وإن قاربَ جيلُ الخمسينيات الذي ينتمي إليه الكاتب مالك حداد المرأةَ بشاعريةٍ كبيرةٍ تتجلّى في عناوين رواياته، "سأهبك غزالة". واستعملَ بعده رشيد بوجدرة في روايته الأولى "التطليق" المنشورة سنة  1969 كلماتٍ جريئةً لا عهد للأدب الجزائري بها آنذاك. 

وبالمجمل تُظهِر دراسةُ مستغانمي وجهاً أدبياً لا يعرفه القرّاء العرب عنها. إذ تلتزمُ الكاتبةُ البحثَ العلميَّ الدقيقَ وسبرَ مشكلاتِ المجتمع الجزائري بعد الاستعمار. وإن بدَت أحلام ناقدةً للمجتمع الجزائريّ من أدبِ كتّابِه الرجال وعلاقتهم بالمرأة، إلا أنّ سيرتها الروائية تكشف عن جانبٍ آخَر في تعلّقها هي بصورة الرجل الجزائريّ متمثّلاً في نموذجِ أبيها محمد الشريف مستغانمي.


يكمن مفتاح كلّ آراء مستغانمي ومواقفها في علاقتها بوالدها الذي يَشغَل أكبرَ حيّزٍ في كتاب سيرتها الذاتية "أصبحتُ أنتَ". فهو المناضل الذي عرف السجونَ، والمثقّف اليساريّ الذي كتب الشعر ودافع عن حقوق العمال وحقوق الإنسان وعُرف بنزاهته، حتى كُلّف بتوزيع الأملاك الشاغرة التي تركتها فرنسا بعد الاستقلال، كما حدّثتني أحلام. وأودتْ به أحلامه الوطنية الكبرى وأوصلته الخيباتُ إلى الانهيار العصبي والمصحّ العقليّ. لكنه بقي بكامل قواه العقلية. وحين سألَتْه يوماً صحفيةٌ عن ابنته، أجابها محمد الشريف مستغانمي بما أدهشها: "لقد جئتُ إلى العالَم فقط لأنجب أحلام. أريد أن أُنسَب إليها، كما تُنسَب هي إليّ". 

قد يلتفت القارئُ ممّا كتبته أحلام عن والدها إلى أن العلاقة بينهما لم تكن علاقة أبٍ بابنته التي يحبّ، بل تتعدّاها إلى أبٍ يرى ابنتَه الصورةَ الأمثلَ لتجسيد كلّ أحلامه. ولم يكن محمد الشريف ليثق كلّ هذه الثقة بابنته ما لم يكن يعرف أنها موهوبةٌ، وأنها يوماً ما ستنجح النجاح الذي يفتخر به. وهي ثقةٌ بنجاحٍ أوصلها لكتابة سيرةٍ روائيةٍ تَستحضِر والدَها إلى الحياة بدايةً من سرد تفاصيلٍ عنه، وعن تلك الحقبة المهمّة من تاريخ الجزائر، أي سيرة النضال من أجل الاستقلال وإقامة الدولة بعده. واستحضرتْ أيضاً كلَّ من كان لهم كبيرُ الأثر في حياتها وفي تاريخ البلاد. وهي بهذا جمعت بين العامّ والخاصّ، وبين السياسيّ والشخصيّ، وبين الخيالي والواقعيّ، لتعيد تمثيل حياة والدها بالكتابة. فحين كتبت رسائلَ متخيّلةً عن علاقة والدها بممرّضته في المستشفى، أرادت أن تكتب مشهداً روائياً وأن تفهمَ والدها بالحديث روائيّاً عن أشياء حقيقيةٍ تصف علاقتها به، فقد كانت تراسله في المصحّة مع أنها غادرت الجزائر إلى فرنسا.


لدى أحلام مستغانمي ثلاثة أخوةٍ هُم مراد وصوفيا والراحل ياسين، لكنَّها كانت الأقربَ لأبيها، كما أخبرتني. ورثت عنه ثقافتَه الواسعةَ، وبذرة جنونه أيضاً. فقد أنفقَ الرجلُ في لحظة كبرياءٍ وتحدٍّ كلَّ مدّخراته لشراء كلّ كتب صاحب أكبر مكتبةٍ في الجزائر، وهي مكتبة "العالَم الثالث". وورثَت عنه أيضاً حملَ قضايا كبرى في سنٍّ صغيرةٍ، إذ قالت: "أخطرُ من الوقوع في الحبّ الوقوعُ في قبضة التاريخ"؛ أي الهوس بالتاريخ. هذا ما يؤكّده أخوها مراد متحدثاً عن والده في شهادةٍ أدرجتها أحلام في موقعها. يقول مراد: "كان [أبي] يدري وهو الشاعر أن الكلمة هي الأبقى، وهي الأرفع، ولذا حَمّل ابنتَه إرثاً نضالياً لا نجاة منه. بحكم الظروف التاريخية لميلاد عملها الذي جاء منغمساً في القضايا الوطنية والقومية التي نذرت لها أحلامُ أدبَها، وفاءً لقارئٍ لن يقرأها يوماً. ولم تكتب أحلام سواه. عساها بأدبها تردّ عنه بعضَ ما ألحق الوطن من أذىً بأحلامه". نقع هنا على ألمٍ آخَر في كتابات أحلام مستغانمي، فالكاتبة تكتب لقارئٍ لن يقرأها، وهو والدها، لأنه لا يتقن العربية؛ اللغة التي أصرّ أن تتابع بها ابنتُه دراستَها. وإذا بالعربية تفصله عن أحلام وتفرّق بينهما. تقول أحلام في مقدّمة سيرتها: "ما جدوى ما أكتب ما دام ليس في المقابر مكتباتٌ ليقرأني أبي".


هل كان محمد الشريف يدري كم من معارك على ابنته أن تواجه لأنها اختارت الكتابة بالعربية. فقد بدأت العداوات تظهر واحدةً تلوَ الأُخرى فورَ نَيلِ أحلام مستغانمي جائزةَ نجيب محفوظ. إذ ذهب بعضُ الخصوم إلى نَسبِ "ذاكرة الجسد" إلى غيرها، في حملةٍ تبنّاها كثيرون بعد أن كتبَ مراسل مجلّة "الزمان" التونسيّ كارم الشريف مقالةً بعنوان "من هو المؤلّف الحقيقيّ لذاكرة الجسد" في جريدة "الخبر" الجزائرية سنة 2000. وهي حملةٌ جعلت الكاتبةَ تتصدّاها بجيشٍ من المحامين ضدّ وكالة الأنباء الفرنسية التي تلقّفت دعوى السرقة الأدبية ووزّعت خبرها على ثلاثين صحيفةً عربيةً صادرةً في لندن وتونس والجزائر. وإثر تلك الضجّة كتب الروائيّ الجزائريّ الراحل الطاهر وطّار مدافعاً عن أحلام مستغانمي، قائلاً: "إنما الجزائر كلّها حُسِدت في أحلام، كما تُحسَد في خريطتها وفي شهدائها، وفي كلّ ما لديها حتى من أحزان". ويضيف: إنما استهدفت "التعريب والكتابة الجيدة باللغة العربية بالذات استهدافاً". وهذا ما أخبرتنيه الكاتبة عند الحديث عمّا جرى بعد فوزها بالجائزة. 


تمتاز روايات أحلام مستغانمي بعناوينها الملفتة في إيحاءاتها. لكن ما تكادُ تشرعُ في القراءة حتى تجدَ مفتاحاً آخَر للعنوان، وتجدَ معانيَ تختلف عمّا قد يخطر ببالِ من لم يعرف الكاتبة وكتبها. "ذاكرة الجسد" مثلاً هي ذاكرة بطل الرواية خالد، المحكوم بحملِها في جسده، لأنه فقد ذراعه في الحرب. وهي ذاكرةٌ لا نجاة منها، فكلّما ابتعد زمن الثورة الجزائرية، تغيّرت علاقته بجسده، فما كان يصنع فخرَه غدا عاهتَه، والناس نسوا أنه مَن دَفَعَ ثمنَ حرّيتهم.

في حواري مع الكاتبة ذكرت لي كيف استدلّت على عنوان "ذاكرة الجسد". تقول إنها فكّرت فيه النقاش ذاته مع صديقتها الفرنسية التي نصحتها بتعلّم السباحة آخِرَ أيام صيفٍ ما، وحين علّقت أحلام أنها لو تعلّمت الآن ستنسى الصيف القادم، ردّت صديقتها الفرنسية: "للجسد ذاكرةٌ. فهو لا ينسى أيّة حركةٍ قمتِ بها. حتى لو ألقيتُ بك في البحر بعد عشر سنواتٍ سيتصرّف جسدك تلقائياً بفطرة الذاكرة الجسدية". الأمر نفسه في عنوان رواية "عابر سرير"، الجزء الثاني من ثلاثية ذاكرة الجسد، إذ يحمل إيحاءً لا يشبه محتوى الكتاب، فقد أخبرتني الكاتبةُ أنّه يحيل في الواقع إلى والدها في أثناء مكوثه في المستشفى. وتنقل هذا على لسان خالد بن طوبال، بطل الرواية، حين قال لصديقه الذي زاره في المستشفى وهو على سرير الموت: "قد لا تجدني إن عدتَ غداً فأنا هنا عابرُ سرير". وعندما عاد في غدٍ كي يطمئن على صديقه لَم يجده، بل وجد شخصاً آخَر مكانه، فتَيقّنَ أن صديقَه خالد قد مات.

حظيَت أعمال مستغانمي بشهرةٍ واسعةٍ، لكنها لَم تُقرأ في بعض الأحيان قراءةً جيّدةً؛ ذلك أنها حُصرَت في دائرةٍ ضيّقة، وهي دائرة القصّة لا القضايا التي ناقشتها الكاتبة بأسلوبها الخاصّ. ومن يعيد قراءةَ "ذاكرة الجسد" ويربطها بباقي ثلاثيّتها، ويقرأ كتابَها الأخير "أصبحتُ أنتَ" ويربط ذلك برسالة تخرّجها عن المرأة والكتابة، ويستحضر باقي أعمالها؛ سيعيد اكتشافَ وجوه أحلام مستغانمي الأُخرى. فهي البنتُ التي نالت الدكتوراه لأجل والدها. وهي الأكاديمية الجزائرية التي كتبت دراسةً عن المرأة والكتابة في الجزائر انتصاراً للمرأة. وأحلام الأديبة التي تستعيد برواياتها تاريخَ الجزائر.

اشترك في نشرتنا البريدية