علامات الترقيم من أصول الفصاحة والبيان إلى فوضى الاستخدام الحديث

استخدم العرب علامات الترقيم في كتاباتهم بأشكالٍ متنوّعة مبثوثة في التراث ظلّت بلا ناظم حتى جُمعت وقُعّد لتنظيم استخدامها الحديث.

Share
علامات الترقيم من أصول الفصاحة والبيان إلى فوضى الاستخدام الحديث
تصميم خاص لمجلة الفراتس

رُوِيَ أنّ رجُلاً معه ثوبٌ مرَّ بأبي بكرٍ الصّدِّيقِ رضي الله عنه، فقالَ له أبو بكرٍ: "أَتَبيعُ الثَّوبَ؟" فقال: "لا ‌عافاك الله". فقال أبو بكر:"لقد عُلِّمْتُمْ لو كُنتُمْ تَعلَمونَ. قُلْ: لا، وعافاك الله". وقد نوَّهَ بعضُ القدماءِ بهذهِ الواو الفاصلة بينَ "لا" النّافيَةِ، والتّركيب الفعليّ الدُّعائيِّ، وقدّروها تقديراً.

وقال الثّعالبيُّ:"إنَّ المأْمُون قالَ يَوْماً ليحيى بن أَكْثَم:"هَل تغدَّيْتَ اليَوْم؟" فقالَ: "لا، وأيَّدَ اللهُ أَمِيرَ المُؤمنِينَ"؛ فقالَ الـمأْمُون: "ما أظرفَ هَذِه الواوَ، وأحْسنَ مَوقِعَها!". وذَلِكَ أنَّهُ لو قالَ: "لا، أَيَّدَ الله أَمِير المُؤمنِينَ" لَكَانَ أَشبهَ بالدُّعَاءِ علَيهِ لا لَهُ، ولكنَّهُ استَظهَرَ بالواو، وجعَلَهَا حاجِزةً بَينَ "لا" و"أيَّدَ الله أَمِير المُؤمنِينَ" حَذَراً من وُقُوعِ الشُّبْهَةِ.

في هذه الأخبار التي تَصِلُنا بأعماقِ التّاريخ دعوةٌ إلى التزامِ أدبٍ حَسَنٍ من آداب الخطاب يَفصِل بين أداة النّفيِ وجملةِ الدُّعاءِ بالواو، أو يؤخِّر الأداةَ عن جملة الدُّعاء لئلّا ينقلب الكلام من الدعاء للمخاطَبِ إلى نقيضِه. وذلِكَ إذا كان الكلامُ مُشافهةً. وقد تلجَأُ إلى سَكْتَةٍ مناسبةٍ بعد أداة النّفْيِ، ثُمَّ تأتي بالجملة التّالية. فإذا كان النَّصُّ مكتوباً كانَ منَ السّهل حفظُ المعنى وتحقيق مقصدِ الكاتبِ فيه بفاصلة (،) تكون بين "لا" والجملة اللّاحقةِ لها. ورأى بعضُ المحْدَثين وَضْعَ علامة الاستئناف بينهما هكذا: "لا.. أكرمَكَ اللهُ".

وهذه الطُّرفةُ تدلّ على أهمّيّة الفاصلةِ علامةَ تّرقيمٍ، وأنَّ إهمالَ وضعِها في موضعِها المناسبِ قد يُفضِي إلى خِلاف المقصود ويؤدّي إلى الزّلَلِ. ولِعلامات التّرقيم وظيفةٌ هامّةٌ في النّصِّ المكتوب. فهي علاماتٌ تُساعدُ في بيانِ العلاقاتِ التّركيبيّة النّحويّة، وكشفِ بعض المعاني والدّلالاتِ المتوارِيَةِ أوِ الدّفينة فيما وراءَ الكلمات أو بين السّطور. وقد يكون بعضُها أحياناً أَسبَقَ وأَقدَرَ منَ الكلماتِ في الدّلالة على مُرادِ الكاتب ومقاصدِه، ولا سيّما إذا وُضِعَت تلك العلامات في مواضعِها مُحكَمَةً مُتمكّنةً كأنّها قطعةٌ من نسيج النّصِّ. والتَّنبيهُ على بعضِ ما يُلحَظُ في مشهد الكتابة العربيّة المعاصرة في استعمال علاماتِ التّرقيم من إهمالٍ أوِ اضطِرابٍ مطلوبٌ ومحمودٌ.

والمثالُ الّذي صُدِّرَت به هذه المقالةُ برواياتِهِ دليلٌ على أنّ العربيَّ كان حريصاً على البيانِ، قادراً على تمييز الصَّوابِ مِن الخطأِ. فإذا أَدَرَك الخطَأَ نَبَّه عليه وقوّمَه ونَهَى عنه ودَعا إلى ما صحَّ وفَصَح. وقد كان حريصاً على ذلك إذا تَكلّمَ أو خَطَبَ أو أَنشَد. وكان يستعين للبيان بإعرابِ الكلام وصياغتِه على وجهِه مِن الإحكام وإجرائِهِ على مقتضى معناه ومقاصده وصلاً ووقفاً وتنغيماً ومدّاً وإشباعاً، أو نبراً، أو بحركات الجسم وتعبيرات الوجه الدالّة، وغيرها من أدواتٍ ممكنةٍ. 

وإذا كان المتكلّمُ العربيُّ العارفُ يستعين لبيانِ كلامِه بوسائلَ متنوِّعةٍ تُبلِّغُ المخاطَبَ مُرادَهُ، وتَصونُهُ ممّا يُفضي إلى خلافِ المقصود، فهل كان للكاتبِ وسائلُ مُساعِدةٌ إذا ما أنشَأَ نصّاً ودَوَّنَه. وهل كان في نظام الكتابةِ العربيّةِ قديماً علاماتٌ كتابيّةٌ معيَّنةٌ من حروفٍ أو رموزٍ تُعينُ الكاتِبَ على حِفظِ كلامِهِ، أو تُساعد في تنظيم النّصِّ. وإذا كان ذلك فهل ثَمَّةَ صِلةٌ له بنظام علاماتِ التّرقيمِ المُستعمَلِ في زماننا.


بالنَّظَر في كلام القدماءِ ونُصوصِهم وما انتهى إلينا من مخطوطاتِهم، خَلصَ بعضُ العلماء والباحثين إلى أنَّ ما كان يَلجَأُ إليه الكُتّابُ والنُّسّاخُ والوَرّاقونَ في كتابَتِهم منَ العلاماتِ والرُّموزِ الدّالَّة على ما وراءَها من وُجوهِ التّنظيم والبَيانِ والتَّمييزِ ضَئيلٌ غيرُ مُطّردٍ. فهي علاماتٌ تظهر حيناً وتختفي أحياناً. تراها في مخطوطةٍِ وتغيب عن نظرِك في عشراتٍ غيرها. ولَم تَأتلِف تلك العلامات والرُّموز يوماً في تاريخ الكتابة العربيّة القديمة المتطاولِ على قلمِ ناسخٍ أو ورّاقٍ، أو بين دفَّتَيْ مخطوطةٍ واحدةٍ، بل كانت متناثرةً هنا وهناك.

ومنَ العلاماتِ الظاهرة التي تردَّدَتْ في غير مخطوطةٍ، ونصَّ عليها بعضُ العلماءِ الدّائرةُ المفرَغةُ (○) التي كانَتْ تَقومُ مَقامَ النُّقطةِ، وكانت تفصل بين الجُمَل وأقسام الكلام وبين الأحاديث، وتُختتَمُ بها الفِقْرَاتُ. 

وممّا كان له حُضورٌ قديمٌ في بعضِ النُّصوصِ المكتوبةِ القديمة: النُّقطةُ التي كانَتْ تُكتَبُ مُمتلِئةً كالدّائرةِ المطموسةِ هكذا (•)، والفاصلة (،)، والنّقاطُ الثّلاثُ المتراكبةُ (∴). وتلك العلاماتُ وغيرُها دالَّةٌ غيرَ شكٍّ على وعيِ العرب القدماء بما لهذه العلاماتِ من وظائفَ ودلالاتٍ، وعلى ما لهم من قديمِ أَثَرٍ في ابتكارِ أُصولِ علاماتِ التّرقيمِ. بَيْدَ أنّ تلك العلاماتِ لم تؤلِّفْ نظاماً متكاملاً.


حتّى إذا جاء العصرُ الحديثُ كان للعرب في كتابتهم نظامُ علاماتِ ترقيمٍ متكاملٌ، كان  للأستاذ أحمد زكي كبيرُ فضلٍ فيه، إذ وَضَعَ كُتَيِّبَهُ "التّرقيم في اللُّغة العربيّة" سنة 1912، واستنبطَ بعضاً ممّا فيه مِن كُتبِ السَّلَف في الوقف والابتداء، واقتبس بعضَ علاماتِه ممّا جَرَت عليه الكتابةُ الأجنبيّةُ، وجَنَحَ كما قالَ إلى التّوفيقِ بين القواعدِ العربيّة والعلاماتِ الأجنبيّة. وقد كان فيهِ أوَّلَ الأمر شيءٌ من الاضطرابِ والتّخليطِ، فلمّا استشارَ أهلَ الفضلِ والأدبِ والعِلم ومَنْ إلَيهم، هذَّبَ منه وأَصْلحَ ما ينبغي، حتّى قام على ساقِهِ بعضَ القيامِ.

وقد ضمَّ هذا الكُتيِّبُ عَشْرَ علاماتٍ، وهي: الشَّوْلَةُ، أيِ: الفاصلةُ (،)، والشَّوْلَةُ المنقوطةُ، أيِ: الفاصلةُ المنقوطةُ (؛)، والنُّقطةُ (.)، وعلامةُ الاستفهامِ (؟)، وعلامةُ الانفعالِ (!)، والنُّقطتانِ (:)، ونُقَطُ الحَذْفِ والإضمارِ (...)، والشَّرْطةُ أوِ الوصلة (-)، والتَّضبيبُ، أي: علامةُ التّنصيص (" ")، والقَوسانِ ((  )). وزادَ عليها علامةَ الشَّوْلَةِ المُثنَّاةِ وهي فاصلةٌ تحتَها نقطتانِ، للفصلِ بينَ السَّجَعاتِ. وبيَّنَ مواضعَ استعمالِها ووجوهها ودلالاتِها.

والفاصلةُ المنقوطةُ نقطتَيْن التي أحدثَها أحمد زكي للفصل بين الجُمَل المسجوعة لم يُكتَبْ لها الحياةُ والسّيرورة. ومن العلامات الدّالّة على ذلك أنّك لا تجدُها في المشهور المعتاد من علامات التّرقيم الّتي تراها وتستعملها على لوحة المفاتيح في الحاسوب.

ثمّ استَدرَك مَنْ كان بعدَه مِن المختصِّين العارفين الحُرصاءِ، تعديلاً وتصحيحاً وزيادةً، حتّى قام نظامُ علاماتِ التّرقيم في العربيّة على سوقِه، وباتَ اصطلاحاً متعارَفاً في غالبهِ بين المشتغلين بالنّصِّ العربيِّ من الكُتّاب والنُسّاخ والمنضّدين والنّاشرين. 

ومن وجوه التعديل والزِّيادة تعديلُ صورةِ علامةِ الاستفهام، لتصبحَ فتحتُها باتّجاه الكلام المكتوب (؟)، وزيادة القوسَيْن المركَّنَيْن [   ] الدّالَّيْن على زيادة ما في أصلِ الكلام، وعلامة (=) الدّالَّة على المتابعة في الهوامش، أو على أنّ ما بعدها أحدُ رُكنَيِ الكلام الّذي فُصِلَ عن قرينِهِ الآخَر بفاصلٍ طويلٍ.


كانَ المأمولُ بعد مرور عقودٍ على اكتمال هذا النّظامِ واستعمالِهِ أنْ تجِدَ النَّصَّ العربيَّ المكتوبَ في زماننا هذا وما قبلَهُ ملتزِماً به على وجهه الصّحيح الوافي، منضبِطًا بقواعِدهِ وأصولِهِ. لكنَّ النّاظرَ في كثيرٍ من النُّصوصِ العربيّةِ المكتوبةِ التي تملأُ الفضاءَ مِن حولِهِ يُصدَمُ بما لا ينبغي أن يكون فيها في هذا الباب.

وقد لَحَظَ بعضُ المحدَثين مِن أهل العِلم والخبرةِ والرّأيِ ما كان في استعمال علامات التّرقيم في كتابات المحدَثين والمعاصِرين من مشكلاتٍ، ونَبَّهوا عليها. ومِن أولئكَ  فخرُ الدين قباوة اللّغويُّ السوريُّ الّذي نَقَلَ شكوى بعضِ أصدقائِه من ذلك. فقال في كتابه "علامات التّرقيم في اللغة العربية" المنشور سنة 2007: "ولكِنَّكَ إذا تَتبَّعْتَ ما نُشِرَ منَ الكُتُبِ والرَّسائلِ والمقالات، لترصُدَ أنماطَ التّوظيفِ لهذا التّرقيمِ، أَخَذَكَ العَجَبُ والدّهْشةُ والدُّوارُ، لما يَصدِمُكَ من تَخبُّطٍ واعتِباطيّةٍ واضطِرابٍ. ذلكَ لأَنَّكَ لن ترى صَفْحتَينِ من كِتابٍ واحدٍ لمؤلِّفٍ، تَتّفقانِ في تَوزُّعِ العلاماتِ المعتَمَدةِ؛ بَلْهَ أن تَتصَفَّحَ كِتابَينِ لهذا المؤلِّفِ الكريم. فما قولُكَ في النُّصوصِ الّتي يَكتُبُها المتطفِّلونَ على البحْثِ والتُّراثِ والأَدبِ في الشّرقِ والغربِ؟ لقد فُجِعَ القُرّاءُ لهذا الزّادِ الضّخْمِ المختلِفِ المضامينِ، في آمالِهِم ومَقاصِدِهِم، لكَثرةِ ما اصطَدَموا بهِ، منَ الفَوضَى والعَشوَائيّةِ والتّناقُصِ في تَوَضُّعِ العلاماتِ هذهِ. حتّى إنّها ضاعَتْ بينَ أَعُينِهِم وخِبرَتِهِم ومَفاهيمِهِم، بما لَقُوا منَ الاضطِرابِ، دلالاتُ تلكَ الرُّموزِ، وأصبَحُوا يَتجاهَلُونَ وُجودَها بينَ التّراكيبِ والمفرداتِ، ...".

وهذا النَّصُّ يدُلُّنا على نَوعَيْن مِن مُشكلاتِ استعمالِ علاماتِ التّرقيم في النُّصوصِ المكتوبة بالعربيّة في زماننا: الأوَّلُ التَّخبُّطُ والاضطرابُ والعَشوَائيّةُ. والثّاني الإهمالُ الكُلِّيُّ أوِ الجُزئيُّ. ولك أن تُضيفَ مِن واقعِ بعضِ النُّصوصِ المكتوبةِ إليهما نَوعاً آخَرَ، وهو التّجريبُ باستيراد بعضِ الرُّموزِ الّتي لا علاقةَ لها بعلاماتِ التّرقيمِ من مجالاتٍ أُخرى، والتلَعُبُّ ببعضِ علامات التّرقيم على غيرِ وجهِها.

ومِن أمثلةِ الضَّرْبِ الأوَّلِ، وهي أمثلةٌ تدُلُّ على ما وراءَها: أن تجدَ بعضَ الكُتّابِ أو المُرقِّمِين، والنُّسّاخ والمنضِّدين، يضع علامةَ استفهامٍ بعد كلمة "هلّا" الّتي للتّحضيضِ. ففي كتابٍ مثلاً: "هلّا أتيتَ إليَّ لأجعلَ رأسَك يشبه البصلةَ؟" وهذا فيه أمرانِ تَرَتَّبَ ثانيهما على الأوَّلِ: قُدِّرَ أنّ "هلّا" هنا حرفُ استفهامٍ، ثُمَّ بُنِيَ علَيهِ وَضْعُ علامةِ الاستفهام (؟) آخِرَ الجملة. والصّحيحُ كما قُلتُ أنَّ "هلّا" هنا أداةُ حضٍّ واستعجالٍ، وقد تأتي في مواضعَ أُخرى للَّومِ، وهي أداةٌ مركَّبةٌ من "هلْ" و"لا"، وقد كان مِن تركيبِ هذينِ الحرفينِ أنِ انسلَخَتِ الأداةُ الحادثةُ "هلّا" من معنيَيِ الاستفهامِ والنّفْيِ اللّذَيْن في "هلْ" و"لا" وحَدَثَ فيها معناها الّذي غَلَبَ عليها.

وفي كتابٍ آخَرَ –وهو كتابٌ جامعيٌّ متخصّصٌ–: "هلّا عَمَلَكَ أتقنتَ؟" وفي المثال الثّاني قَدّمَ المؤلِّفُ للمثال بالنَّصِّ على أنّ "هلّا" من أدواتِ التّحضيضِ. وهذا معناه في غالب الظَّنِّ أنّ المُنضِّدَ أوِ المُرقِّمَ هو الّذي أخطأَ.  

ومن الامثلة أن تجد أستاذاً جامعيّاً يضعُ في ورقة الأسئلةِ الامتحانيّةِ علامةَ الاستفهامِ (؟) آخِرَ كلِّ سُؤالٍ منَ الأسئلةِ المذكورةِ في تلك الوَرَقةِ، مَعَ خُلُوّها كلِّها مِن معنى الاستفهام. ومِن مِثلِ ذلك أن يقولَ: تَحَدَّثْ عَن البِنائيّةِ وركائزِها وأَبرَزِ أعلامِها؟ وأن تجدَ كاتِباً يتركُ علامةَ التّرقيمِ الدّالّةَ على المعنى الأصليِّ الّذي يدُلُّ عليهِ التّركيبُ في ظاهرِه، ويحتَفِلُ بالعلامةِ الدّالَّةِ على المعنى الفرعيِّ الّذي يُنبِئُ عنه. فمِن ذلك مثلاً إهمالُ علامةِ الاستفهامِ (؟) الّتي تدُلُّ على معنى الاستفهامِ الّذي بُنِيَ عليه الكلامُ المُصدَّرُ بأداةِ استفهامٍ الّذي خرجَ عنِ الاستفهامِ الحقيقيِّ إلى معنًى من معاني المجازِ كالتعجُّبِ والإنكارِ، والاقتصارُ على علامةِ التّعجُّبِ (!). ومِن ذلك مثلاً قولُ القائلِ:"فأين هذه الكلماتُ من ضَيْفَن ورَعْشَن اللّتَيْن تدوران في فلك المعنى ذاتِه!"

وهذا خِلافُ الواجب، لأنَّ الأصلَ التّنبيهُ على معنى الاستفهام الّذي دلَّ عليه اسمُ الاستفهام "أَيْنَ" بعلامةِ التّرقيم المناسبة (؟)، وهو ما لم يكن. وإذا أرادَ التَّنبيهَ على معنى التَّعجُبِ الّذي سَرَى في التّركيبِ، لِتَحوُّلِ الاستفهام مِن معناه الحقيقيّ إلى معنى التعجُّب مجازاً كانَ لهُ أن يَزيدَ بعد علامة الاستفهامِ علامةَ التعجُّبِ (!)، فيكونَ التّرقيمُ بمجموع العلامتَيْن (؟!). وزيادةُ علامة التعجُّب هنا نافلةٌ مُستحسَنةٌ لا واجبة.

وأن تجدَ بعضَ الكُتّابِ والطُّلّاب يضعونَ النُّقطتَيْن بعد القولِ وما إلَيهِ، وإن كان بين القولِ ومقولِهِ فاصلٌ كلاميٌّ، قَصُرَ أو طالَ. فيقول بعضُهم مثلاً: قُلْتُ: لَهُ بِشَيْءٍ مِن التّردُّدِ نَعَمْ. ويقول آخَرون: قُلْتُ: لَه ُبِشَيْءٍ مِن التردّدِ: نَعَمْ. ومثلُ هذا دالٌّ على سُلوكِ بعض النّاسِ في باب التّرقيم مسلِكَ التّقليدِ المَحْضِ، وعَدِّ توزيعِ علاماتِ التّرقيمِ في النّصِّ عملاً آليّاً مَحْضاً خِلْواً مِن الحكمةِ والوظيفة.

ومِن وجوه العَبَثِ الجَمْعُ بين علامة التّعجُّبِ وعلامةِ الاستفهام في التعبير الاستفهاميّ الخالي من أيِّ دلالةٍ على التعجُّبِ، نحو: "لا، أبداً، مَن قال ذلك؟!"، أو وضعُ علامةِ الاستفهام والتعجّب معاً في تركيبٍ ليس فيه مِن معنى الاستفهام والتعجُّبِ شيءٌ ظاهرٌ، نحو: "كأنَّكَ متعَبٌ قليلًا؟!"

والضّربُ الثّاني يقومُ على إهمالِ الكاتِبِ أوِ المُرقِّم علاماتِ التّرقيمِ إهمالاً كُلِّيّاً، أو إهمالاً شِبْهَ كُلِّيٍّ ترى ثمَرَتَهُ في تَكرارِ علامتَيْن أو ثلاثٍ من علاماتِ التّرقيم متناثرةً في النَّصِّ هنا وهناك، أو إهمالاً جُزئيّاً تبدو لك بعضُ ملامحِه في الاقتصار على بعض علاماتِ التّرقيم دونَ بعضٍ.

ومِن أمثلة ذلك أنْ كان مِن أَمْرِي في العَقدِ الأَخير مِنَ القرنِ الماضي ومَطلَعِ هذا القرنِ الاطّلاعُ على بعض ما كانَ يكتُبُه أديبٌ صُحُفيٌّ في إحدى المجلّات العربيّة من خواطِرَ ومقالاتٍ ونحوِ ذلك ممّا تخُطُّه يدُ العَجَلَةِ، ولا تُنضِجُهُ نارُ اللُّبْث والأَناةِ، فكان لا يستخدم مِن علاماتِ التّرقيم في مادَّتِه الّتي كانت تمتدُّ على صفْحةٍ أو صفْحَتَيْن إلّا النُّقطةَ ومُضاعفاتِها. فتَرى النُّقطةَ في آخِرِ الفقرة وآخِرِ النّصِّ. وتَرى النُّقطتَيْن الأُفقيّتَيْن أو النُّقاطَ الثّلاثَ وما زادَ عليها متناثرةً بينَ أجزاء الكلام كيفما اتَّفَقَ، تُعلِنُ نفسَها ولا تدُلُّ على ما وراءَها لأنَّ المواضع الّتي كانت فيها هذه النُّقاطُ ليس مِن قَبيل ما اقتُصِرَ فيه على شيءٍ وتُرِكَ غيرُه، أو كان فيه اختيارُ بعضٍ من كُلٍّ والاستغناءُ عمّا سِواهُ، بل كانت تُلقى فيها في مواضعُ الفاصلة والنُّقطة والفاصلة المنقوطة وغير ذلك.

والحقُّ أنّ علاماتِ التّرقيمِ رموزٌ كتابيّةٌ تُساعِد في تنظيمِ النّصِّ وإعلانِ بعضِ مقاصِدِ المتكلِّمِ، وتنبيهِ القارئِ على بعضِ ما كان فيه مِنَ المعاني والمواقفِ والمشاعرِ المُسْتَسَرَّةِ، والحيلولة دونَ ضياعِ بعضِ الدّلالات المُرادَةِ وتلاشيها. وترقيمُ النّصِّ ليس تصرُّفاً آليّاً اعتباطيّاً، بل هو على وجهِه وأُصولِه فِعلٌ مقصودٌ يَحكُمُهُ فَهمُ المعاني وتذوُّقُها وإدراكُ المقاصد، وما يَدفَعُ إليه ذلك من إعمالِ العقلِ وإتقانِ الإجراءِ.

ومِن أمثلة النّوع الآخَر الّتي رُبّما كانَ بعضُها مرتبطاً باللّهوِ أوِ التَّزيُّدِ أوِ العَبَث: استعمالُ الأَقواسِ المُثلّثةِ الّتي تُستعمَلُ في الرّياضيّاتِ أو في برامِجِ الحاسوبِ والإنترنت: («»)، والخطِّ المائلِ المعاكِسِ من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن: (\)، وعلامةِ العَطفِ: (&). والمناسبُ ألّا تُستعمَلَ هذه الرُّموزُ وأمثالُها في النُّصوص العامّة والأدبيّة، وأن تبقى في المجال الّذي تُستعمَلُ فيه. واختتامُ النّصِّ بثلاثِ فواصلَ مُتتاليةٍ. ومن ذلك ما كان في خاتمةِ مقدّمةِ أحدِ الكُتِبِ: "وآخِرُ دَعْوَانا أَنِ ٱلْحَمْدُ للهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِيْنَ ،،،". وتَكرارُ علامةِ التّرقيمِ الواحدةِ في موضعِها، كتكرار علامةِ الاستفهام مثلاً (؟؟؟)، أو إشارةِ التعجُّب (!!!)، والنُّقطةِ (...) والفاصلةِ (،،،). واستعمالُ القوسَينِ المزهَّرَينِ﴿ ﴾ اللّذَيْنِ يُسمَّيانِ العزيزيَّيْنِ لوَضْعِ غَيرِ النَّصِّ القرآنيِّ. وهذا لا ينبغي لما قد يُفضي إليه مِنَ الالتباسِ. وهُما القوسانِ اللّذانِ ألِفَ النّاسُ استعمالَهما للنَّصِّ القرآنيِّ، حتّى كأنَّه بات حقّاً حصريّاً له، يقترنُ بهِ ويميّزه.

واستعمالُ الفاصلة الّتي يكون ذيلُها إلى الأسفل (,). إليها يلجأُ بعضُ النّاس أحياناً فيستعملونها في مواضع الفاصلة المألوفة (،)، مع أنّ الّذي اصطلحَ عليهِ النّاسُ استعمالُ هذه الفاصلة (،) في النَّصِّ العربيِّ في مواضعها، واستعمالُ الفاصلة الأخرى (,) في النُّصوص اللّاتينيّة.

فلَيس مِنَ المناسبِ خَرقُ الإجماعِ فيما اطَّردَ واتّفقَ عليه الناسُ وألِفوه، ولَم يكن في استعمالِهِ بأسٌ، والانقلابُ عليه والتَّحوُّلُ عنه إلى وجهٍ آخَرَ لَم يُعهَدْ، لرأيٍ بَدا أو لِشيءٍ استهوَتْهُ النّفسُ. فمِثلُ هذا لا يجلِبُ إلّا الاضطرابَ والبلبلة.

هذه أمثلةٌ من واقِعِ علاماتِ التّرقيمِ الاستعماليِّ في مشهَدِ الكتابةِ العربيّةِ المعاصرةِ المُمتدِّ، تَراها هنا وهنا حيثُ تَلَفَّتَّ، ولو طَلبْتَ المَزيدَ لزحفَ إليكَ منها حُشودٌ وحُشود.


وممّا يجبُ في رأيي لعلاج هذه المشكلاتِ أو بعضِها أن يسعى المختصّون العارفون والمشتغِلون بالكتابة والنّشْر أفراداً ومؤسّساتٍ إلى البتِّ بما فيه خلافٌ من مواضعِ استعمال علامات التّرقيم، وضَبْطِ قواعدِهِ الضّبطَ الصّحيحَ المبنيَّ على النّظَرِ الصحيحِ والجَدوى المُحقَّقة، والتزامِ ما يكون محلَّ إجماعٍ واتّفاقٍ من ذلك على وجهه في النَّصِّ المكتوب بالعربيّة تأليفاً أو ترجمةً أو تحقيقاً.

ولو كان لي أن أرى في ذلك شيئاً لأَوصَيتُ بالآتي: علاماتُ التّرقيمِ تتراوحُ بينَ الاستِحسانِ والوُجوبِ. فثمَّةَ علاماتٌ لا خِلافَ في تقديرِها وإدراكِ المعنى الّذي تَدُلُّ علَيهِ، فالأخذُ بها في مواضعها على أُصولِها المتعارَفَةِ منَ الواجبِ الّذي لا يَحسُنُ إهمالُهُ. ومن ذلك مثلاً علامةُ الاستفهامِ (؟) وعلامةُ التّعجُبِ (!) والنُّقطة (.). فوضعُ علامة الاستفهامِ آخِرَ التّركيب الاستفهاميِّ المُصدَّرِ بعلامةِ الاستفهامِ واجبٌ، نحو: ما اسمُكَ؟ كيفَ تُفرِّطُ بالواجب؟ كيفَ تغتابُ فلانًا؟؛ ووضعُ علامةِ التّعجُّبِ آخِرَ التّركيب الدّالِّ على معنى تعجُّبٍ معروفٍ لا خِلافَ فيه واجبٌ، نحو: ما أَحسَنَ سَكينةَ ذي السَّكينةِ! سُبحانَ اللهِ! كيف يَطيبُ لك أن تأكلَ لحمَ أخيك؟! ومِن ذلك النُّقطةُ تكون آخِرَ ما تمَّ فيه المعنى مِن نصٍّ أو فِقرَةٍ أو تركيبٍ أو جملةٍ.

وأرى ألّا حاجةَ إلى المبالغةِ والتّكثيرِ من استعمال بعضِ علامات التّرقيم في بعضِ المواضع كالفاصلةِ والفاصلةِ المنقوطةِ حتّى لا يكون ذلك مُفضِياً إلى إرهاقِ النَّصِّ والقارئِ، وإلى تفكيكِ بنْيةِ النَّصِّ في ظاهرِه أو ما يُشبه ذلك. ولا أرى التّقليلَ منها إلى حدِّ الضّنانةِ بها ضنانةً تؤدّي إلى قطع الأنفاس في قراءة النّصِ وتلمُّسِ أقسامِه، وإلى الالتباسِ وتضييعِ بعضِ المقاصدِ المُرادَةِ منه. ومِن ثَمَّ لك أن تقولَ: إنّ استعمالَ ذلك قائمٌ على الاعتدالِ، مبنيٌّ على تحقُّقِ الغَرَضِ والدّلالة.

ثُمّ لا بدّ من النّظر في وجوهٍ لاستعمالِ بعض علاماتِ التّرقيمِ نظراً يقودُ إلى تقويةِ ذلك وتسديدِه وتأكيدِه، أو إلى دفعِه ونقضِه. فمِن ذلك مثلاً نَسْخُ علامةِ التعجُّب أو التأثُّر (!) بعد المنادَى. فلَيس في هذا المقام ما يدعو إلى استعمال هذه العلامةِ. واللّائقُ المناسبُ أن تُوضَعَ مكانَها النُّقطتانِ (:) لأنّ النّداءَ ضَرْبٌ مِن القولِ، فهو على تقدير الفعل (أُنادِي) الّذي قامت أداةُ النِّداءِ مقامَه. أو قد توضع الفاصلة عِوضاً عن علامة التعجّب، على ما يذهبُ إليه بعضُ الباحثِين. 

ومِن ذلك تقييدُ وضع الفاصلة في جوابِ الشَّرْطِ ببُعدِه عنِ الشَّرْطِ لوجود فاصلٍ بينهما، ولا سيّما إذا طال ذلك الفاصلُ. على أنّ أَفضَلَ من ذلك أن يُستعاض عنها بالفاصلة المنقوطة للتّنبيهِ على العلاقة بين الجواب والشَّرْط، والدّلالةِ على العلاقة السّبَبِيّة بينهما. 

وأرى جوازَ الجمع بين علامتَيْ ترقيمٍ إذا ما دعا إلى ذلك الكلامُ واقتضاه ترابُطُه وإحكامُه على وجهِه. فلَكَ أن تقولَ مثلاً: "وأَبْيَنُ –وِزانُ أَحْمَرَ–: رَجُلٌ مِن حِمْيَرَ". أو: "وأَبْيَنُ (وِزانُ أَحْمَرَ): رَجُلٌ مِن حِمْيَرَ". ولَكَ أن تقولَ: "وقالَ لي فلانٌ ذلك –وقولُهُ دعوى لا تنهضُ– لِأمرٍ قديمٍ كان بيننا".

والأفضلُ تقريبُ المَسافةِ بينَ علامةِ التّرقيمِ والكلامِ الّذي قبلَها، فلا يكونُ بينهما فراغٌ ظاهرٌ، بل تلِيهِ مباشرةً دون فاصلٍ. ويمكن الاستغناءُ عن علاماتِ الترقيم الحادثةِ الطّارئةِ الّتي لم تُعهَدْ في العقودِ السّابقةِ، ولم تكن جزءاً من منظومة التّرقيم المعروفة ولم يتوافق عليها النّاسُ في الكتابةِ عامّةً. بل هي علاماتٌ اقتُبِسَتْ من نظام الكتابة في بعض الاختصاصاتِ العِلميّة أو مِنَ الرُّموزِ والأشكالِ المستعمَلةِ في الأنظمة الإداريّة والإجراءات المكتبيّة والإنترنت ومواقع التّواصل. فيمكن الاقتصار في استعمال بعض علامات التّرقيم الطّارئة تلك على مجالٍ محدَّدٍ يَسوغُ استعمالُها فيه واعتادَ النّاسُ مِثْلَه فيه بلا اتّساعٍ.

فمِن ذلك مثلاً استعمالُ الخطّ المائل (/) في مسألة الفَصل في التّاريخ بين اليوم والشهر والسَّنة، نحو: 19/11/2024، أو في الفصل بين الجزء والصّفحة عند التّوثيق، نحو: العقد الفريد: 3/435، أو في الفصل بين رقْمِ الورَقَة أو الصّفْحة والجزء منها (الوجه أو الظّهر) في باب تحقيق النُّصوص التُّراثيّة، نحو: 24/أ، 55/ب وما إلى ذلك. لكنْ ليس منَ المناسبِ أن نلجَأَ إلى استعمال هذه العلامة نيابةً عن حرفَيِ العَطْفِ "أو، و"، ولا سيّما في باب الأدب وما إليه. فلا يَحسُنُ أن تقولَ مثلاً: البيتُ لِامرئِ القيس/ عمرو بن معدي كرب، تريدُ بذلك حرفَ العطف (أو) أي: لِامرئِ القيسِ أو عمرو بن معدي كرب. ولا يَحسُنُ أن تقولَ: كتاب الهوامل والشّوامل لأبي حيّانَ التّوحيديِّ/ ابن مِسكويه، تريد بذلك حرفَ العطف (و).  

وأخيراً مِنَ المناسبِ أن يكونَ النّصُّ القرآنيُّ المُكرَّمُ بمنأىً عن نظام التّرقيمِ الحديثِ لئلّا يجترِئَ عليه مجترئٌ أو غِرٌّ ليس له عِلمٌ أو خبرةٌ في أصولِ التّرقيمِ ومعاني الكلامِ، أو ساهٍ غَفَلَ عمّا يجبُ أو ينبغي بما لا يَحسُنُ من وَضْعِ علامات التّرقيم في غير مواضعها. أو إقحام علامات ترقيمٍ طارئةٍ مبتدَعةٍ غير معروفةٍ. فإذا أُلجِئْنا إلى شيءٍ من نصِّ القرآنِ الكريمِ لغرضٍ علميٍّ أو تعليميٍّ تدريباً على قواعد العربيّة وإملائها وعلاماتِ التّرقيم فيها،كان لنا أن نكتبَ النَّصَّ بحسب القواعد الإملائيّة المعروفة تقريباً وتوضيحاً، وأن نضعَ علاماتِ التّرقيمِ في مواضعها منه بقَدْرٍ موزونٍ ومُحكَمٍ، بعيداً عنِ التّجريب والهَوَى وعمّا فيه خلافٌ من مواضع تلك العلاماتِ ودلالاتها.


إنّ استعمالَ علاماتِ التّرقيمِ الواجبةِ والمُستحسَنةِ في مواضِعِها مِنَ النَّصِّ على أُصولِها أَدَلُّ على بعضِ مقاصِدِ الكاتِبِ في عينِ القارئ أحياناً مِن بعضِ مادّةِ النَّصِّ نَفْسِه. فعلى الكاتِب والمُرقِّمِينَ، مِنَ المنضّدين والنّاشرين والمحرّرين، أن يُعنَوا بذلك ما أَمْكَنَ لما فيه من فوائدَ ووظائفَ مُساعِدةٍ تَحُلُّ منَ النَّصِّ محالَّها، كأنّها قطعةٌ منه وُلِدَتْ وترعرعَتْ فيه.

اشترك في نشرتنا البريدية