النسويات المسلمات الغربيات.. الطريق لبلورة خطاب علمي جديد عن القرآن

تحاول النسويات المسلمات الغربيات تقديم قراءات جديدة للقرآن والتفسير، تسير في اتجاه بلورة خطابٍ علميٍّ جديدٍ في دراسة القرآن.

Share
النسويات المسلمات الغربيات.. الطريق لبلورة خطاب علمي جديد عن القرآن
استفادت النسويات المسلمات الغربيات من التحرك الذي شهده حقل الدراسات القرآنية الغربي | تصميم خاص بالفِراتْس

لم يعد حقل الدراسات القرآنية الغربي مقتصراً على الباحثين الغربيين غير المسلمين. إذ ينشط على ساحته اليوم كثيرٌ من الدارسين المسلمين غربيّي المولد أو الثقافة. وهو ما يطرح إشكالاً عن العلاقة بين الموضوعية والمعيارية الذاتية في دراسة القرآن. والموضوعية تعني دراسة الظاهرة من خارجها وبمعزلٍ عنها، وهو ما عدّته الدراسة الحديثة أساسَ الدراسة العلمية الدقيقة لأيّ ظاهرة. وهذا الشائع في الدراسة الغربية الحديثة للقرآن، نصّاً تاريخياً يخصّ ثقافةً بعيدة. في حين تنطلق المعيارية الذاتية في دراسة القرآن من استحضار القرآن أفقاً للذات وفضاءً للمعنى – من تجربة المفسِّر الشخصية ومعتقداته وخلفيته – ونقطةً مرجعيةً تؤطِّر البحث عن حلٍّ لإشكالات الواقع.

وبين الموضوعية والمعيارية، تباينت آراء المتخصصين ما بين مؤيّد ومتشكّك. انتقد المفكر الجزائري محمد أركون وعالم الأديان الأمريكي ويلفرد كانتويل سميث نمطَ الدراسة الخارجي (الموضوعيّ تصنيفاً) الذي شاب الدراسة الغربية للدين والقرآن لأنه متحيّزٌ، مع ما يروّجه من نظرةٍ موضوعيةٍ محايدة. وعلى النهج ذاته، يَصِف أستاذ الفلسفة التونسي فتحي المسكيني في مقالته "تحرير القرآن" المنشورة ضمن كتاب "ما وراء الملّة" الصادر سنة 2018 نمطَ الدراسة الغربي للقرآن بأنه "التأويلية السلبية".

في المقابل يخبرنا أستاذ اللاهوت بجامعة أمستردام الحرّة الهولندية بيتر كوبيتر، في ورقته "دراسات التفسير الغربية ومعضلة المعيارية" المترجمة على موقع "تفسير" سنة 2024، أنه طالما تخوّف دارسون غربيّون من سقوط الدراسة الغربية في فخّ المعيارية. وهي برأيهم المنفلتة من كلّ انضباطٍ علمي وتاريخي.

في ربع قرنٍ مضى، توسّعت ساحة النقاش عن الموضوعي والمعياري في الدراسات القرآنية، لتجد لها موطئ قدمٍ في صفوف النسوية الإسلامية في الغرب. فالمسلمة الغربية حين تقدِّم قراءتها الجديدة للقرآن والتفسير داخل حدود حقل الدراسات القرآنية الغربية، تنخرط مباشرةً ضمن الحدود المعرفية والمنهجية لهذا الحقل. وحينئذٍ لا تنطلق مثل الدارسين الغربيين من دراسةٍ محايدةٍ (موضوعية) للظاهرة، بل من مشكلةٍ واقعيةٍ وذاتيةٍ وثقافيةٍ تخصّها هي. وتستحضر في دراستها أو تستبعد تاريخاً وتراثاً يخصّها، ولا يخصّ ثقافةً غريبة. والدارسة الغربية المسلمة لا تتوقف في دراستها القرآنَ والتفسير عند الرصد والوصف فحسب، بل تسعى لتقديم حلولٍ من الظاهرة المدروسة نفسها مرجعاً للأسئلة الكبرى التي تعنيها في حياتها ونظرتها للعالم امرأةً.

يتجلّى عمل النسويات المسلمات الغربيات بالذات في التأويلية النسوية للقرآن مع آمنة ودود، والقراءة الوصفية للتاريخ مع عائشة غايسنغر. مضافٌ لهذا، القراءة الجديدة الجامعة بين مرجعية القرآن والانفتاح على دراسة التقليد التي طرحتها أسماءٌ شابةٌ، مثل سيلين إبراهيم ونعمت شكر. ليمثل هذا الجهد في كلّيته طريقاً نحو خطابٍ علميٍّ مغايرٍ لحقل الدراسات القرآنية الغربي. إذ يروم الموضوعية والانضباط التاريخي والعلمي من جهةٍ، والانطلاق من أفق القرآن ومرجعيته من جهةٍ أخرى. وهذا يجعل عمل النسوية المسلمة الغربية المعاصرة محاولةً لخلق نمطٍ جديدٍ في مقاربة القرآن، يتمثل في "تأويلية رحبة" منفتحةٍ على التاريخ والواقع والذات، وعلى ما وراءهما في آن.


يستهدف خطاب الأمريكية من أصولٍ إفريقيةٍ، آمنة ودود، لبلورة نظرةٍ تأويليةٍ نسويةٍ شاملةٍ للقرآن. وتصبح هذه التأويلية مرجعيةً تشكّل واقعاً جديداً للمرأة المسلمة بكلّ ملابسات واقعها الاجتماعي والنفسي. وتنعكس خلفية ودود الاجتماعية والثقافية على خطابها. فهو خطاب امرأةٍ منفصلةٍ عن التقليد الإسلامي الطويل، لم تولد مسلمةً، بل أسلمت في شبابها. فنشأتُها داخل تقاليد الدراسة الغربية للدين واللاهوت جعلتها تراها غيرَ مفيدةٍ في فهم معنى القرآن، لأنها نظرةٌ من الخارج. أي أنها تنظر للقرآن وتفهمه وتفسّره من خارج الدائرة، بعيون المراقب البعيد لا صاحب التجربة. تقاوم ودود النزعة الخارجية بنزعةٍ معياريةٍ هدفها بلورة تفسيرٍ متعاطفٍ منهجياً مع النصّ ومنفتحٍ عليه.

توضح آمنة ودود في كتابها "القرآن والمرأة"، المترجم سنة 2006، أنها تسعى للتحرر في بنائها تأويليتها الخاصة للقرآن من نوعين من التفاسير. الأول التفسير التقليدي، وتقصد به التفسير التجزيئي الذي يفسّر آيات القرآن بالترتيب (آيةً تِلْوَ آية) ويهمل دراسة القرآن في كلّيته. والثاني هو التفسير القائم على ردود فعل بعض المعاصرين، وسخطهم على ما يرونه تكبيلاً قاسياً للمرأة، وينسبون هذا التكبيل إلى النصّ القرآني ذاته. هذا التفسير يخلط بين الإسلام وبين التفاسير الذكورية له، فيُرفض بسببها الإسلام ذاته.

لهذا، اتجهت آمنة ودود نحو بلورة ما سمّته "المنهج الشمولي" أو "التوحيدي" في قراءة القرآن. وهو تفسيرٌ يهتمّ بثلاثة ملامح من النصّ القرآني، وهي السياق الذي نزل فيه النصّ والتركيب النحوي والنظرة العالمية له. ترى ودود أن هذه التأويلية قادرةٌ على تجاوز المعاني الحرفية للآيات نحو ما يمثل "روح القرآن"، وتُمكِّن من تجاوز الصوت الذكوري المسيطر على قراءة القرآن وتأويله طيلة قرونٍ، وتفسح المجال أمام قراءةٍ أنثويةٍ لها الحقّ في صياغة تجربتها التأويلية الخاصة لنصٍّ لم ينزل للذكور وحسب.

وحين تصف ودود تأويليتها للقرآن بأنها قراءةٌ "أنثوية" أو من "منظورٍ نسائيّ"، كما هو العنوان الفرعي لكتابها، فلا يُفترض أن يعني هذا مجرد قيام امرأةٍ بتأويل القرآن. بل يعني أيضاً تغييراً في العملية التأويلية ذاتها. الحديث هنا عن قراءةٍ محورها الأنثى مقابل رؤيةٍ سيطرت على التراث التفسيري قروناً، وكان محورها الرجلَ والنفسية الذكورية.

أهم الإشكالات التي أثارتها آمنة ودود في كتاباتها هي علاقة لغة القرآن بالغيب والنوع الاجتماعي. ترى ودود أن القرآن كلام ربّ العالمين، فلا يمكن أن ينحصر في الحدود "الجندرية" التي تفرضها لغةٌ ما. وفي قضية النوع الاجتماعي، فإن عجز اللغة العربية عن التعبير تتضاعف، لأنها "لغةٌ مُجَنَّسة" على حدّ تعبيرها. أي أنها لغةٌ تشير للأشياء الجامدة والمتحركة في نطاق الطبيعة أو ما وراءه،ا وفق ألفاظٍ مجنَّسةٍ تذكيراً أو تأنيثاً. على عكس لغاتٍ أخرى، مثل الإنجليزية، التي تحمل مفرداتٍ وأدواتٍ محايدةً تذكيراً وتأنيثاً. ولذلك من وجهة نظر ودود، تظلّ العربية قاصرةً عن التعبير عن تلك القضايا الغيبية التي تتجاوز التجنيس، مثل التقوى والنبوّة والحُكم ومقاصد الهَدْي الإلهي.

تجادل كذلك أن القراءة الحرفية للقرآن تُغلّب الجانب الذكوري البادي في الألفاظ المستخدمة، وتضيع المعاني الحقيقية الشاملة للنص القرآني. فالهدي القرآني بشأن المرأة خاصةً لا يمكن أن يظهر إلّا وراء حدود هذه اللغة، بالتفسير الشمولي أو التوحيدي الذي تقترحه ودود.

تتجلى المساحة الخاصة التي تشتغل عليها تأويلية آمنة ودود في اهتمامها بقصة الخلق وقصص النساء في القرآن، وأيضاً أخبار الجنّة عن النساء. ترى ودود أن ثمّة فئةً مهمةً من فئات النساء المذكورات في القرآن، وهنّ النساء اللاتي ذُكِرن أمثلةً أو نماذج لأفعال التقوى البشرية. مثل زوجة فرعون، ومريم أمّ المسيح، وأمّ موسى، وبلقيس ملكة سبأ. فهؤلاء النساء حسب رأي ودود لم يُذكَرن نساءً يقمن بأدوارٍ أنثويةٍ تقليديةٍ مثل الأمومة والطاعة الزوجية، بل ذُكِرن بتأدية أدوارٍ عُرفت حكراً على الرجال بالغالب مثل الحُكم والنبوّة، وليُثبِتن أن المسؤولية الفردية تجاه الإيمان غير محددةٍ بجنس.

وفي تأويلها الشاملِ النصَّ القرآنيّ، تقدّم ودود رؤيةً جديدةً عن وجود المرأة في الجنّة. تحلّل مثلاً لفظة "أزواج" الواردة في عددٍ من آيات نعيم أهل الجنة، مثل آية "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ". إذ ترى ودود أن هذه اللفظة تعني "الأشباه" في الإيمان والتقوى، لا الأزواج بمعنى زوجات الرجال. وتفسّر مفهوم التزويج بالحور العين مثل آية "كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ"، لا لتعني أن كلّ رجلٍ سيكون له عددٌ من الزوجات الحوريات مثلما هو الفهم الشائع. بل أن لكل رجلٍ حوريةً وفق تصوّر المجتمع المكّي عن الجمال والنعيم يُزوَّج بها رفيقةً في الجنة. وتجادل أن القرآن المدني – أي ما نزل من الآيات بعد الهجرة للمدينة وفصّلت فيه غالباً الأحكام الشرعية والعقدية – وسّع لفظة "زوج" لمفهومٍ أشمل عن الصحبة، تعبيراً عن تشارك المؤمنين وتآلفهم، في مقابل عزلة الجحيم ووحدتها.

تستخدم آمنة ودود في وصولها لهذه النتائج ما سمّته "المنهج الشمولي"، وهو المعتمِد بكثيرٍ من أُسسه على تأويلية المفكر الباكستاني فضل الرحمن مالك (1919-1988). إلّا أنها لا تضع نفسها مقلّدةً له، بل تقدّم تأويليةً خاصةً تناسب خطابها النسوي. يتحوّل حرف القرآن عندها إلى عتبةٍ يتحتّم تجاوزها أحياناً للوصول إلى المعنى المنشود. فالمعرفة بالله، وفق ودود، ليست النص الحرفي وحده، بل من "مصفوفة مركّبة من العلاقات". وقد تجعل هذه المصفوفة الإنسانَ يرفض بعض النصوص نتيجة عدم التصديق بأن هذا النصّ أتى من عند "الإله الذي أعرفه" (لأن بعض النصوص ظاهرياً تتجاوز ما تراه حقاً للمرأة). وهذا وفق ما تنقل عن خالد أبو فضل في دراستها "بحث في القرآن والجنسانية"، ضمن كتاب "النسوية والدراسات الدينية" الصادر سنة 2012.

إن اهتمام تأويلية ودود باستعادة حقّ المرأة في مباشرة النصّ، مرجعاً ومعياراً، أدَّى لطرح مرجعية القرآن فكرةً مركزيةً في النقاش النسوي الغربي المسلم. إلّا أنه أدّى لتحويل تأويليتها إلى تأويليةٍ منغلقةٍ تاريخياً، ومنعزلة علمياً، فأعجزَها عن تحقيق هدفها.

تجاوُز ودود لتاريخ التفسير وعدم دراسته بعمقٍ جعلها تهدر أهمية التقليد الإسلامي، أو "سياق النص" كما يسمّيه شهاب أحمد في كتابه الهام "ما الإسلام؟ في مغزى أن تكون منتمياً إلى الإسلام"، المترجم للعربية سنة 2022، باعتبار السياق جزءاً من النص نفسه وأحد طرق إغنائه والتموضع داخل أُفقه. وهذا ما جعل تأويليتها منغلقةً على عالم النصّ أو على التجربة الفردية الصرفة. 

كذلك، فإن رفضها للمناهج الحديثة وعدم استحضارها للنقاشات المعاصرة في تاريخ التفسير والقرآن أدّى لفصم كلّ صلةٍ لخطابها بالسياق الغربي الحديث والمعاصر القارئ للقرآن والتفسير، فبات خطابها خطاباً غير علمي. إذ يَعُدّ حقلَ الدراسات الغربية للقرآن والتفسير نفسه الميدانَ العلميَّ الوحيدَ لدراسة القرآن. لذا، فحين تعمل آمنة ودود داخل هذا الحقل مع تجاوز حدوده، فإنها تغامر بالخروج منه بدلاً من إعادة تشكيله. وبهذا عجزت ودود عن تحقيق هدفها في بلورة خطابٍ علميٍّ جديدٍ يبني للقرآن تأويليةً رحبةً تراه أفقاً للعيش.

وفيما أغرقت ودود في المعيارية، فنالت من مصداقية تأويليتها علمياً، سلكت عائشة غايسنغر، الباحثة في جامعة كارلتون الكندية وصاحبة الكتابات المهمة في التفسير والحديث، مسلكاً وصفياً تجاهل المعيارية.


في كتابها "الجندر ومباني السلطة التفسيرية في الإسلام" المترجم للعربية سنة 2018، تصرّ عائشة غايسنغر على عدم استدعاء التراث التفسيري. فتكتفي بوصف هذا التراث في علاقته بالمرأة، بتحليل عمل مدونات التفسير مع النساء مصدراً تفسيرياً أو سلطةً تفسيرية.

في كتابها، لا تهتم برصد التفسيرات الذكورية للقرآن أو تحليلها أو تفكيكها، خصوصاً الآيات التشريعية عن المرأة، بل بنزع تحيّز حقل التفسير نفسه. ترى غايسنغر أن حقل التفسير بُنِيَ حقلاً ذكورياً، فالتفسير "أسلوب وشكل نصّي وفئة مجندرة". وذكورية الحقل لا تبرز، وفق غايسنغر، في تحليل نتاجاته التفسيرية الذكورية، بل قبل هذا في بناء الحقل نفسه. أي في أدواته وآلياته وطبيعته التراكمية.

تهتم عائشة غايسنغر بتحليل التعامل مع آياتٍ ثلاثٍ فحسب. وقد تُعَدّ جزءاً ممّا سمّاه فهمي جدعان "المجموع الفقهي"، في كتابه "خارج السرب" الصادر سنة 2010. واختيارها هذه الآيات يأتي من رؤيتها أن التفاعل مع هذه الآيات قد مثَّل أحد أساسات بناء السلطة الذكورية في التفسير.

أُولى الآيات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً". والثانية، "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ". أما الثالثة فهي، "النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ". 

ترى غايسنغر أن الآية الأولى تكشف عن محاولاتٍ حثيثةٍ من المفسرين عبر تاريخ التفسير لتكريس الرؤى "الأسطورية" عن التفريق بين الذكر والأنثى. واستثمار البيانات الطبية المعاصرة لهم، لتثبيت نظرةٍ عن تسلسلٍ يحدّد موضع الرجل والمرأة في المجتمع، يبدأ من قصة خلق حواء من ضلع آدم. وتبرز تفاسير الآية الثانية برأيها رسماً لمعالم التراتبية الاجتماعية. إذ يحضر الزواج واحداً من العلاقات المترابطة هرمياً، إلى جانب الحاكم والمحكوم والسيد والعبد. أما تفاسير الآية الثالثة، فتُبرِز محاولة تدجين دور النساء الأوائل بحصر مصطلح "أمهات المؤمنين" في دلالةٍ تحفظ وجودهن في إطار المنزل، وتجرّدهن من كلّ سلطةٍ دينيةٍ أو سياسيةٍ قد يشي بها المصطلح.

تولِي عائشة غايسنغر كذلك أهميةً للتعامل مع المرويات مصدراً تفسيرياً رئيساً. وتتتبّع تاريخ هذا التعامل منذ المراحل التكوينية في تاريخ التفسير (المرحلة التأسيسية، في القرنين الثاني والثالث الهجري) حتى المرحلة المعاصرة. يُظهر هذا التعاملُ بمنظورها السيطرةَ الذكورية والرغبة في خلق حقل التفسير حقلاً ذكورياً بالأساس عبر عدّة آليّات.

أولى هذه الآليّات تهميش مرويات النساء ضمن مصادر التفسير. فمع أن المصادر في المرحلة التكوينية تذكر كثيراً من المرويات عن النساء، سواءً كنّ صحابياتٍ أو شاعراتٍ، إلّا أن عمل المفسرين الذكور أبرز كيفية تشكيلهم هذه المرويات لتهميش دور هؤلاء النساء. تستدعي غايسنغر "حديث الوزغة" مثالاً ودليلاً على تهميش دور النساء. وهو حديثٌ فيه أنّ مَن قتل وزغةً "فلَهُ مئة حسنة[. . .]". يتضمّن سند الحديث اسمَ امرأةٍ مجهولةٍ تُدعى "أمّ شريك". يزداد تهميش اسم هذه المرأة لدرجةٍ تجعل بعض المحدثين والمفسرين اللاحقين يخطئون في اسمها أو لا يتبيّنونه، أو أحياناً يعدّونها رجلاً. وهذه المرأة لا تمثل إلّا مثالاً واحداً من سياقٍ أوسع، سمّته غايسنغر "النساء الغوامض"، وهنّ اللاتي يهمَّشن في تراث التفسير والحديث.

لكن الأهمّ في التعامل مع المرويات وفق عائشة غايسنغر، ما عدّته تدجيناً لمرويات النساء في تفسير القرآن. والمقصود تحويلها من أعمالٍ تفسيريةٍ وحجاجيةٍ من زوجات النبيّ ونساء المسلمين الأوائل في تفاعلهن مع القرآن تجربةً حيّةً، لمجرّد تدوينٍ باردٍ ونقلٍ سلبيٍّ للأحداث. بهذا مثلاً تصبح المكانة الكبيرة التي احتلتها عائشة، ثالث زوجات النبيّ، في مرويات التفسير مجرد مكانةٍ خادعة. إذ تُحصر مكانة عائشة الكبيرة بكونها مجرد ناقلةٍ للتفسير النبويّ، أو "مورِّد للمواد والأخبار". وليس من كونها تمثِّل سلطةً تفسيريةً مقابلةً لسلطات الرجال، مثل المفسّر والفقيه عبدالله بن عباس، أو منازعةً لها في تفسير آياتٍ ذات طابعٍ عقديٍّ أحياناً.

أطروحات غايسنغر عملٌ وصفيٌّ في التراث الإسلامي التفسيري. لكنه لا يدرس التفسير تاريخاً فكرياً وصنفاً أدبياً، كما يتناوله الدارسون الغربيون. إذ إن وصفها هذا التاريخ مردُّه بالغالب إلى هموم امرأةٍ يمثِّلها هذا التاريخ، على الأقلّ في نظر الآخرين لها. هذا يجعل الوصف الخارجي هنا نوعاً من الإقصاء الواعي لهذا التاريخ، لخدمة تاريخٍ آخَر أوسع يحتوي مساحةً نسوية. وعليه تُرجِع عائشةغايسنغر تاريخَ التفسير إلى قراراتٍ واعيةٍ وغير واعيةٍ ممّن انخرطوا في بناء هذا الحقل. وتراه "خطاب سلطة"، كما تقول يوهانا بينك، أستاذة الدراسات الإسلامية الألمانية، في ورقتها "التفسير باعتباره خطاباً" المترجمة والمنشورة على موقع "تفسير" سنة 2022.


الشكل المنفصل عن التاريخ الذي ظهرت به محاولة آمنة ودود لصنع تأويليةٍ نسويةٍ يقف حجر عثرةٍ أمام تأويلٍ منطلقٍ بالفعل من الذات، وتاريخها والتقليد الذي تنتمي إليه وتنطلق منه. كذلك، فإن عمل عائشة غايسنغر الوصفي، الذي يرفض استثمار هذا التقليد والنصّ المؤسس له، يعرقل خلق رؤيةٍ معاصرةٍ رحبة.

وفي مقابل هذين التعاملين، نجد بعض الأعمال التي تجمع بين الاهتمام بدراسة التاريخ التفسيري (الموضوعي) وفق الشكل الحديث، وبين دراسة هذا التقليد في ضوء قيمٍ قرآنيةٍ معياريةٍ (ذاتية). وهو ما تنتهجه أسماءٌ شابةٌ صاعدةٌ على ساحة الدراسات القرآنية الغربية، مثل سيلين إبراهيم ونعمت شكر.

استجلب كتاب الأمريكية سيلين إبراهيم، المدرِّسة في قسم الدراسات الدينية والفلسفية بمدرسة غروتون بولاية ماساتشوستس الأمريكية، "وومان آند جندر إن ذا كوران" (المرأة والجندر في القرآن) – منذ ظهوره سنة 2020 – اهتماماً كبيراً من الدارسين تحليلاً ومراجعة. ولعلّ أهمّ ما في الكتاب مقدمته، التي تُظهر فيها الكاتبة وعياً وإقراراً بأهمية العلاقة بين "الموضوعية" و"المعيارية".

تشير سيلين إبراهيم إلى المعضلة التي تواجهها حين تقرر الكتابة من داخل حقل الدراسات القرآنية الغربي علماني الطابع، مع الانطلاق من كون القرآن هو الموجّه لأفعالها وسلوكها مسلمةً. وتتحدث عن الدراسات القرآنية الغربية ذاتها التي لم تخلُ يوماً من المصالح والموجهات. وتنطلق في كتابها من رؤيةٍ تضع القرآن مرجعيةً وجوديةً وأخلاقية. فالنصّ المقدس، حسبما تقول في دراستها "المرأة في القرآن" المترجمة على موقع مركز دلائل سنة 2024، "كتاب فيه تفصيل كلّ شيءٍ، من الأمور الكونية إلى الأمور الدنيوية".

تهتمّ سيلين إبراهيم في كتابها بمحاولة تخطّي مساحة تقسيم القرآن للمسؤوليات (بين الجنسين) وفق القواعد الاجتماعية، وتتّجه لتقديم قراءةٍ شاملةٍ عن المرأة في القرآن. ويظهر هذا الشمول في عدم اقتصار عملها على دراسة "نماذج التقوى" النسوية – مثل مريم بنت عمران – اللائي يمثّلن أسوةً للنساء أو للبشرية كافةً، كما هو الحال مع آمنة ودود. بل يتوسع ليشمل وجود كلّ النساء في القصص القرآني النبويّ أو الكتابي. سواءً كنّ مسمَّياتٍ مثل مريم العذراء، أو غير مسمَّياتٍ مثل أمّ موسى وأخت موسى وملكة سبأ وامرأة سورة المجادلة. وسواءً كنّ فاضلاتٍ ممتدحاتٍ أو غافلاتٍ موبَّخاتٍ، مثل امرأة العزيز التي حاولت غواية يوسف وامرأة لوط، التي اصطفت لجانب قومها تحريضاً على زوجها النبيّ. وسواءً كنّ زوجاتٍ أو أمّهاتٍ أو بنات.

وتتناول إبراهيم في كتابها الجنسَ في القرآن، سواءً في الدنيا أو الجنّة. وتنظر للمتع في الجنّة متعاً مقدَّمةً للنساء وللرجال. ولا تقتصر على الرجال وحدهم كما يرى التفسير التقليدي، فيما يتعلق مثلاً بالحور العين وحيازة الرجل إياهن حصراً.

ومع أن سيلين إبراهيم لا تقدِّم قراءةً في التفاسير، إلّا أنها كذلك لا تنطلق من القرآن وحده. على العكس، إذ تقول إن قصص التراث الإسلامي عن النساء في بدايات الإسلام، ودورهن الكبير روحياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، هو الذي شكّل رؤيتها عن المرأة في الإسلام، وسبق تعمّقها في قراءة القرآن وقصصه عن النساء. ما يعني أنها تتحرك في إطار التلقي الأوسع للقرآن. وعدم تناول التفسير هنا ليس انطلاقاً معيارياً صرفاً نحو القرآن وحده كما مع ودود، بل حركةً ضمن سياقٍ تأويليٍّ أوسع له. فليس التفسير بوجهة نظرها ممثلاً حصرياً للتقليد الإسلامي عن القرآن، بل أحد فضاءات تلقّي القرآن التي خضعت للجندرة. وهي بهذا تتفق مع عائشة غايسنغر. 

باحثةٌ أخرى في السياق نفسه هي الألمانية من جامعة هومبولت ببرلين نعمت شكر. تبرز دراسات شكر اهتماماً بمقاربة المناهج التأويلية لكثيرٍ من العلماء التراثيين، مثل الطبري والواحدي وابن عربي، في ضوء همومها النسوية المعاصرة.

كتبت شكر عن الكاتبات المرجعيات في سياق النسوية مثل آمنة ودود، وعن الواعدات كذلك مثل سيلين إبراهيم. وقدَّمت في كتابها بالألمانية "كوران أوند جندر" (القرآن والجندر)، الصادر سنة 2020، قراءةً في أعمالهن وتقييماً لها في ضوء مدى دقّتها في تقديم رؤيةٍ عن التراث التفسيري.

تبحث أعمال نعمت شكر عن اتساقٍ أكبر داخل الخطاب النسوي عموماً. وتشهد أعمالها تأكيداً على انتمائها لهذا التقليد الطويل في مقاربة القرآن، إذ تنظر لعملها أنه "حواشٍ" على هذا التراث. ويذكر محمد الحداد المصطلحَ في كتابه "محمد عبده، قراءة جديدة في خطاب الإصلاح" المنشور سنة 2003، ليعني في أحد أشكاله (في السياق القرآني) عملية "التأويل الإدماجي" للجديد في سياق التقليد. أي تقديم تصوراتٍ جديدةٍ للنصّ المقدس من غير الانفصال التامّ أو التضحية بالتقليد.


استفادت النسويات المسلمات الغربيات من التحرك الذي شهده حقل الدراسات القرآنية الغربي، والفضاءات الجديدة التي فتحها، لإعادة التفكير في حدود النص المقدس وتفسيراته. دفعت الكتابات النسوية هذا التحرك من مساحة التجديد في المناهج إلى خلق نمطٍ أكثر انفتاحاً في دراسة القرآن. وصحيحٌ أن الدراسات التي تقدَّم في هذا السياق ليست كلّها متساويةً في قدرتها على تحقيق معادلةٍ تجمع بين الانخراط الحقيقي في أفق الذات (المعيارية) وفي أفق الدراسة الغربية (الموضوعية).

لكن ما يبدو هو أنها تشارك، ولو بقدرٍ، في بناء تأويليةٍ رحبةٍ ناتجةٍ من هذا الحوار. وهذا يعطي مواقف مهمةً للكتابات النسوية من هذا النمط. إذ لا يتوقف تأثيرها عند نقد الرؤى الغربية عن الإسلام والقرآن والمرأة المسلمة، بل أيضاً يسائل التقاليد العلمية الغربية ذاتها في دراسة القرآن وصلته بالمعنى والأمّة.

اشترك في نشرتنا البريدية