تواصل صالح ورفاقه مع إحدى الجمعيات الأهلية التي تبرّعت بـخمسة عشر منزلاً جاهزاً في مرحلةٍ أولى. وُضعت المنازل في موقعها ورَمَّمت المجموعة المتطوّعة المدرسةَ، ووصلت شبكة المياه وركّبت نظامَ طاقةٍ شمسيةٍ وأزالت الركام. إلا أن الجيش الإسرائيلي سارع بإطلاق النار اتجاههم، ما دفعهم للمغادرة.
منذ تلك الحادثة، لم يتمكّن شباب البلدة من تنفيذ مشروعهم. فكلّ من يقترب من المدرسة يطلِق الجيش الإسرائيلي النار بالقرب منه، فضلاً عن التوغلات الإسرائيلية داخل البلدة. يشير صالح في حديثه للـفِراتْس إلى أن "إسرائيل لم تقصف بعد تلك المنازل الجاهزة، ونحن بالمقابل لا نقترب منها خوفاً من استهدافها". ومع ذلك، بادرت أربع عائلات مهجّرة من البلدة إلى بلداتٍ خلفيةٍ، وزرعوا نحو خمسة عشر دونماً من الأراضي، رغم "التضييق الإسرائيلي بإلقاء القنابل الصوتية والطائرات المسيرة التي لا تفارقهم".
قصة صالح ورفاقه واحدة من عشرات القصص التي تلقي الضوء على محاولات أهالي جنوب لبنان إعادة إحياء قراهم الحدودية في مقابل انتهاكاتٍ إسرائيليةٍ تقوّض مظاهر الحياة اليومية وتُبقي الجنوبيين في حالةٍ دائمةٍ من العجز والإحباط. تلك الانتهاكات لا تقتصر على العمل العسكري، بل تعمد في جانبٍ منها إلى تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لأهالي الجنوب. وتستخدم إسرائيل لذلك شتّى الطرق والأساليب، من إحراق المحاصيل الزراعية إلى استهداف المنازل الجاهزة والمقاهي المحلية الجديدة، واستهداف المدنيين عبر المسيرات. فيظهر صراعٌ من نوعٍ آخر في الجنوب اللبناني، بين تمسّك أهالي البلدات والقرى بتكريس حقّهم بالعودة مقابل سياسات إسرائيل في منع الحياة الطبيعية.
يشكّل غياب إعادة الإعمار العائق الأبرز الذي يَحول دون عودة أهالي الجنوب. ويجزم الشعبي، الذي ينتقل يومياً من مكان لجوئه في إحدى القرى الخلفية إلى الناقورة، بأن هذا ما يمنعه من العودة كلياً. ويذكر: "أنا لست خائفاً من الوضع العسكري. لو أرادت إسرائيل استهدافي، فيمكنها ذلك أينما وجدت. وخلال 'حرب الإسناد' [إسناد حزب الله غزة بعد السابع من أكتوبر 2023] بقيتُ في البلدة، ولم نغادر إلا بعد أن بدأ الجيش الإسرائيلي باستهداف المدنيين".
هذه النظرة لقدرات إسرائيل هي الترجمة الفعلية لنتائج الحرب. فقبلها كان أهالي البلدات الحدودية يشعرون بأن إسرائيل تعجز عن استهدافهم بسبب وجود قوة حزب الله. ولعلّ مردّ الأمر كان مخرجات حرب سنة 2006 بين حزب الله وإسرائيل، التي حافظت على هدوءٍ نسبيٍّ على جبهة الجنوب. إذ لم يكن حزب الله راغباً في استجرار ردٍّ إسرائيليٍّ يستهدف بنية لبنان التحتية كما في 2006. ولم تكن إسرائيل متشجعة للانخراط بمواجهةٍ عسكريةٍ مع الحزب قد تنتهي بسقوط مئات القذائف على مستوطناتها ومدنها الشمالية.
حاول بعض الجنوبيين اللجوء لخيار المنازل الجاهزة، إلا أن إسرائيل لم تسمح بذلك أيضاً. فإلى جانب الشعبي، يجلس شقيقه حسين الذي بادر بالمشاركة بالحديث مع الفِراتس، قائلاً: "قبل الحرب كان لدينا بيت، وكان لديّ أربعة أعمال. كنت أملك أرضاً زراعيةً واستراحةً على البحر وباصاً لنقل طلاب المدرسة وملحمة. أما اليوم، فبتّ عاطلاً عن العمل". لا يُخفي حسين غيرته من عددٍ قليلٍ من أبناء البلدة الذين تدمّرت منازلهم جزئياً، وتمكّنوا من إصلاحها والسكن فيها. ويلفت إلى أن "ما يمنعني من العودة كلياً هو غياب إعادة الإعمار. وفكرت أن أشتري منزلاً جاهزاً، ولكن الجيش الإسرائيلي استهدف نحو خمسة منازل جاهزة حاول أبناء البلدة السكن فيها. فهو يحاول منعنا من العودة بالترهيب".
منعت إسرائيل السلطاتِ المحلية من إطلاق أي مبادرةٍ من شأنها إعادة الحياة إلى البلدات الحدودية. فأمام مبنى بلدية الناقورة المدمَّر جزئياً، توجد ساحةٌ كبيرةٌ استحدث المجلس البلدي فيها في مارس 2025 مركزاً مؤقتاً، بوضع حاويةٍ ثابتةٍ تضمّ مكاتب للموظفين. وإلى جانب المبنى، استحدثت جمعية الهيئة الصحية الإسلامية التابعة لحزب الله مركزاً مماثلاً. لم تمرّ سوى أسابيع قليلة، حتى قصفتها الطائرات الإسرائيلية ليلاً. تحدثت الفِراتْس مع رئيس البلدية السابق عباس عواضة، الذي أكد أن "هذه المبادرة كانت رمزيةً وتهدف إلى إعادة بث الحياة في شوارع البلدة وتشجيع المواطنين العودة إليها. غير أن إسرائيل مصمِّمة على منع أي مظهرٍ من مظاهر الحياة في هذه البقعة الجغرافية من لبنان، وهذه حربٌ من نوعٍ أخرى".
هذا ما يفسِّر محاولتهم التصدّي لها بزيادة التمسّك بأرضهم. حسب عباس عواضة، فقد تمكنت نحو ست وخمسين عائلةً من ترميم منازلها والعودة إلى البلدة، والعدد يزداد. ومع غياب أي جهةٍ خدميةٍ حكوميةٍ عن مهمة إصلاح البنية التحتية، من شبكة كهرباء ومياه، يلجأ المواطنون إلى القدرات الذاتية بوضع نظام طاقةٍ شمسيةٍ وشراء المياه بالصهاريج. يلفت عواضة إلى أن "البلدية تسعى لمساعدة هؤلاء ضمن إمكاناتها الضعيفة، عبر وضع خزانات مياه عند مفترق الطرق وإضاءة الشوارع بمصابيح الطاقة الشمسية".
وصلتْ محاولات تضييق الجيش الإسرائيلي على أهالي الجنوب كذلك إلى الجانب الاقتصادي والأمني. فبحكم موقع البلدة الساحلي، يعتمد اقتصادها أساساً على الصيد البحري. وتضمّ من بين أبنائها الكثير من الصيادين الذين عادوا إلى ممارسة عملهم بعد انتهاء الحرب. استهدفهم الجيش الإسرائيلي تكراراً، سواء بإطلاق النار أو الخطف. فقصفَ بطائرةٍ مسيرةٍ في يونيو 2025 مبنى "تعاونية الصيادين" الذي يستخدمه الصيادون لتخزين معدّاتهم وتنظيم عملهم.
لا يوجد إحصاءٌ رسميٌّ لأعداد الصيادين المخطوفين، فليسوا جميعهم من بلدة الناقورة. وما هو موثّق، مثلاً، اختطاف الصياد محمد علي جهير في الثاني من فبراير 2025. لم يُفرج عنه حتى الآن، ومصيره غير معروف. تكرر هذا المشهد في الرابع من يونيو 2025 حين خُطف الصياد علي فنيش من مركبه في المياه اللبنانية قبالة رأس الناقورة، إثر خرق أربعة زوارق حربيةٍ إسرائيليةٍ خط الطفافات – الحدّ البحري الفاصل بين لبنان وإسرائيل – ونقلته إلى داخل إسرائيل. ولم يُفرج عنه حتى نشر هذه المادة.
التقت الفِراتْس الصياد محمد جحا الذي قال: "الصيد هو مورد رزق عدد كبير من أهالي البلدة. ونحن نعلم أن ميناء الناقورة يقع تحت الرصد العسكري الإسرائيلي المتواصل، كونه النقطة البحرية الأقرب للحدود وملاصقاً للمنطقة الاقتصادية التي تضمّ حقول الغاز البحرية المتنازَع عليها. إلا أن مراكبنا المتواضعة والصغيرة لا يمكن أن تشكِّل تهديداً عسكرياً". ويلفت جحا إلى أن "الصيادين ينتابهم الخوف مع كل صباح، فنحن نشعر بعدم وجود أي نوعٍ من الحماية لنا. وفي كلّ مرةٍ نخرج فيها إلى البحر قد تكون الأخيرة، نتيجة إطلاق نار باتجاهنا أو اختطافنا". ويختم حديثه بالقول إن "العودة من التهجير لن تكون مُكتملةً قبل العودة إلى البحر بشكلٍ طبيعي".
ينتمي الصيادون إلى الفئة الاجتماعية الأفقر، وهم مُجبَرون على الخروج برحلة الصيد يومياً بسبب أحوالهم المادية الضعيفة. هكذا، ينعكس استهداف إسرائيل إياهم على مُجمَل الحركة الاقتصادية في بلدةٍ يعتمد معظم أبنائها على عمله في البحر.
يرى العديد من أبناء تلك القرى، الذين قابلتهم الفِراتس، أن إسرائيل تهدف من كل هذه الأعمال إلى تكريس منطقةٍ عازلةٍ خاليةٍ من السكان. ويتعزز هذا الشعور بالاستناد إلى طلباتٍ إسرائيليةٍ سابقةٍ أوردتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 24 نوفمبر 2024، عن إقامة منطقةٍ عازلةٍ في القرى الحدوديّة. حسب الصحيفة، أنكر وقتها مبعوث الرئيس الأمريكي جو بايدن للبنان ومهندس وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، عاموس هوكشتاين، رغبة إسرائيل خلق منطقةٍ أمنيةٍ عازلة. إلا أن الأحداث على الأرض في الجنوب من وقتها لا توحي بكثيرٍ من الطمأنينة لأهل المنطقة. يعتقد هؤلاء أن ما تقوم به إسرائيل، من عمليات إطلاق نارٍ واستهدافاتٍ مباشرةٍ وتحليقِ مسيراتٍ على علوٍّ منخفضٍ وإلقاء قنابلَ صوتيةٍ ومنع المزارعين من زراعة أرضهم والصيادين من عملهم وفرض واقعٍ أمنيٍّ متوترٍ دائمٍ، ما هو إلا تكريس لهذه السياسة. ويعبّر أبناء هذه القرى عن رفضهم هذا المشروع بزيارة بلداتهم وقراهم نهاراً ومغادرتها ليلاً، فضلاً عن أن هذه الزيارات تشكِّل متنفساً لهم بعد أكثر من عامٍ على التهجير.
يعتقد بعض أهالي الجنوب الذين تحدثنا إليهم أن مجرّد وجودهم في قراهم وبلداتهم المدمَّرة فعلُ تحدٍّ ومواجهةٍ لإسرائيل. ففي بلدة الزلوطية على الشريط الحدودي، الذي يمتد لِما لا يقلّ عن 375 كيلومتراً، يجلس علي (اسمٌ مستعارٌ لرجلٍ طلب عدم كشف اسمه لدواعي أمنية) إلى جانب زوجته وأبنائهما الثلاثة. وفي حين يحضّر علي النرجيلة، تعمد زوجته إلى تحضير الطعام. يعمل علي في قوى الأمن الداخلي اللبناني ويُحافِظ في الوقت عينه على إرث أجداده بزراعة التبغ. يقول علي للفِراتس: "يمكنني أن آخذ عائلتي وأتوجّه إلى أي مطعمٍ لقضاء يوم الأحد، إلا أنني مواظب على زيارة البلدة كل أسبوع إلى جانب عددٍ كبيرٍ من أهالي البلدة". يرى في هذه الزيارة الأسبوعية نوعاً من التصميم على العودة، ويقول: "نحن متمسكون بأرضنا مهما حاولت إسرائيل منعنا. هنا خُلقنا وحَيينا وسنموت، وكل ما نريده هو مساعدتنا بوضع منازلَ جاهزةٍ لكي نعود للاستقرار بها".
تشير زوجته إلى الأرض المقابلة قائلةً: "هذه الأرض شاهدةٌ على تعبنا. حين كان أبنائي في عمر الطفولة، كنتُ أجلبهم معي وأضعهم جانباً أثناء عملي بالزراعة". وفي أثناء حديثنا، سمعنا صوت انفجارَين بعيدَين، فسارع علي إلى طمأنتنا بأنّ ذلك "مجرّد قنبلةٍ صوتيّةٍ من طائرةٍ مسيّرةٍ هدفها فقط ترهيب أهالي البلدة لإبعادهم".
يعيش أهالي القرى الحدودية في الوقت الحالي صراعاً بين تمسّكهم بأرضهم والتضييق الإسرائيلي، مع أن السواد الأعظم منهم مازال مُهجّراً، سواء في منازل أو في مراكز إيواء في البلدات الخلفية البعيدة نسبياً عن الحدود. وكما هي حال كل مُهجَّر، يعاني هؤلاء من معاناة التهجير نفسياً ومادياً واجتماعياً، بعد أن تفرقوا في قرى وبلداتٍ مختلفةٍ وباتوا في محيطٍ اجتماعيٍّ جديد.
يجهل معظم اللبنانيين أنه حتى اليوم مازال هناك ثلاث مدارس تحتوي على نحو سبعين عائلةً، بما يقارب ثلاثمئة وخمسين شخصاً من النازحين، بحسب ما صرَّح للفِراتس بلال قشمر المنسّق الإعلاميّ في وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديّات صور. ويضيف أن هذا الإهمال الرسمي يطال كذلك المساعدات والإعانات التي باتت شبه معدومةٍ، مما يزيد من معاناة هؤلاء. فكلّ ما يحصل عليه النازحون في الوقت الحالي هو "وجبة غذائية وحيدة ظهراً".
لم تنتهِ الحرب عند هؤلاء النازحين طالما أن معاناة النزوح، التي بدأت مع "حرب الإسناد" في أكتوبر 2023، مستمرّة. في جولتنا على أحد هذه المراكز، قابلنا أحمد عواضة الذي كان يعمل في الزراعة من بلدة عيترون الجنوبية، مع عائلته المكوّنة من زوجته وأربعة أبناء. يجلس في غرفةٍ تحتوي على بعض المستلزمات، من فرشٍ وغازٍ وثيابٍ وكراسي. ويؤكد عواضة لـلفِراتْس أن "معاناة النزوح باتت أكثر صعوبةً في ظلّ الإهمال ولامبالاة السلطات الرسمية. حتّى أنه لم تعد تقدَّم لنا أي مساعداتٍ من أي طرفٍ، بما فيهم جمعيات وهيئات المجتمع المدني". يرى أن النازحين هم الحلقة الأضعف بين جميع المتضررين، "وما في حدا بيقعد بمدرسة إلا إذا مقطوعة فيه الدنيا".
ومع أن عدد النازحين في الوقت الحالي محدودٌ، إلا أن الدولة اللبنانية وأجهزتها – بما فيها البلديات المحلية – تبدو وكأنها تخلَّت عن مساعدتهم، وهذا ما يضاعف من مأساتهم ومعاناتهم. ولا تنتهي المعاناة عند هذا الحد، إذ يواجه هؤلاء النازحون خطرَ إخراجهم من مراكز الإيواء لإفساح المجال للعمل المدرسي. فهذه المدارس باتت بعد انتهاء الحرب مقسَّمة بين طوابق للمهجرين وأخرى للتلاميذ.
في غرفةٍ أخرى من تلك المدرسة، تجلس ربة المنزل هيام سويد مع زوجها الستّيني بعد أن تهجّروا من بلدتهم يارين. تؤكد سويد في حديثها للفِراتْس أن "الدفاع المدني يبعث رسائل غير رسمية من حينٍ إلى آخر بضرورة الإخلاء، بحجة أن وزارة التربية تريد إعادة تأهيل هذه المدارس لاستيعاب عددٍ أكبر من الطلاب في العام الدراسي المقبل". وهذا ما يؤكده كذلك النازح نادر أبو ساري. تطالِب سويد بإيجاد بديل: "فقدنا منزلنا وثلاث محلاتٍ كنا نملكها في بلدتنا، وبات وضعنا المالي غير ملائمٍ لاستئجار منزل". وتضيف: "إمكانية العودة إلى البلدة في الوقت الحاضر غير واقعية. منذ يومين زرت البلدة ولاحظت وجود طائرةٍ مسيرةٍ فوقي، فكيف سنعود ما دام الوضع على هذا الحال؟".
بات هؤلاء النازحون بين فكَّي كماشة، فلا يمكنهم العودة إلى قراهم ولا استئجار منازل. ومن ناحيةٍ أخرى، هم مُطالَبون بمغادرة مراكز الإيواء، وهذا ما يُنذر بمواجهةٍ بينهم وبين السلطات المحلية في حال إخراجهم من المدارس. يرى هؤلاء النازحون أنهم كانوا قبل الحرب يعيشون "بنعيمٍ" لم يكن يدركون قيمته، ويعلمون أن عودته في الوقت الراهن أمرٌ صعبُ المنال.
يستذكر النازح محمد صالح منزله في بلدة راميا، الممتد على مساحة ثلاثمئة متر مربع، ويقارن بينه وبين الغرفة التي يعيش فيها في الوقت الحالي بمركز الإيواء. يقول صالح إن أكثر ما يُشعره بالألم "هو أن ينتهي بنا الحال، بعد سنوات من الكد والتعب، بالسكن في مركز إيواء". ويضيف: "أعلم أن ما بقيَ من عمري لن يسمح لي بإعادة إعمار ما جرى تدميره". يُلقي صالح اللوم على الجغرافيا: "حظنا العاثر جعلنا إلى جانب عدوٍّ يقتل الحجر والبشر، ولا يعرف معنى الإنسانية".
وفي حين يمكن أن يحلم أهالي الجنوب بإعادة بناء منازلهم، بل وأن يفعلوا ذلك، إلا أنه من الصعب التعويض عن خسارتهم جزءاً من ذاكرتهم الجمعية والمكانية، كما أخبرونا. فإسرائيل لم تكتفِ أثناء الحرب بتدمير المنازل والبنى التحتية، بل استهدفت كذلك الذاكرة المكانية بتدمير ساحات البلدات والشوارع والأسواق التراثية التي يعود تاريخها لمئات السنين. كما حدث في بلدة علما الشعب، البلدة ذات الأغلبية المسيحية. وكذلك منطقة بئر النبي شعيب في بلدة بليدا الحدودية، قضاء مرجعيون، التي جرف الجيش الإسرائيلي في مايو 2025 أحواض المياه التاريخية فيها قبل انسحابه من البلدة. وفي هذا التدمير المُمنهَج محاولة نزع الإرث الإنساني الذي يربط أبناء الجنوب بقراهم، وكأن إسرائيل تريد بذلك ضرب تاريخ هذه البلدات، كما فعلت بسكانها وبيوتها.
وإلى جانب معاناة النازحين في مراكز الإيواء، قرر آخرون منهم استئجار المنازل في المناطق الجنوبية الخلفية، البعيدة نسبياً عن الحدود. لكن يعاني هؤلاء النازحون من غلاء الإيجارات بعد أن زاد الطلب على المنازل جراء عدد النازحين الكبير.
لم يعلم خليل حمّود، النازح من طير حرفا إلى بلدة برج رحال (البعيدة عشرات الكيلومترات شمالاً من طير حرفا) أن نزوحه سيمتد أكثر من عام. يوصّف ما يعيشه بأنه "مأساة بكل معنى الكلمة. كنتُ أملك منزلاً ومعملاً للحجارة وأعمل كذلك بالزراعة، إلا أنني اليوم أعيش على ما يرسله أبنائي لي في المهجر". ويبدو حمود يائساً من العودة، "فبلدتي طير حرفا مدمَّرة بشكلٍ شبه كاملٍ وتحتاج إلى بنى تحتيةٍ كاملة. ومن الواضح أن قرار المجتمع الدولي هو مسايرة إسرائيل بمنع إعادة الإعمار، وهذا جزءٌ من الحرب التي لم تنتهِ فصولها". ويوضّح حمود أن "مشروع إفراغ المنطقة من سكّانها هو حلمٌ إسرائيليٌّ قديمٌ، ولا يوجد أفضل من الظروف الحالية لتطبيقه". ويتساءل: "كيف سنتمكن من العودة ونحن نعيش في دولةٍ لا تكترث لأهالي الجنوب؟ ولو أرادت مواجهة الاحتلال، فهي غير قادرة؟".
في 22 مارس 2025، شنّت إسرائيل غارةً على إحدى الشقق السكنية وسط مدينة صور، ما أسفر عن مقتل شخصٍ وإصابة سبعة آخرين. في مبنى مقابل للمبنى المستهدف، كانت ريم (اسم مستعار) تجلس إلى جانب ابنها وابنتها، ولم تكن انتهت من أعمال صيانة منزلها الذي تضرَّر أثناء الحرب. تشير ريم إلى أنه "بعد انتهاء الحرب، كانت الغارات الإسرائيلية مقتصرةً على بعض القرى الحدودية أو الوديان والجبال. لذا شكَّل استهداف مبنى داخل مدينةٍ مكتظةٍ مفاجأةً لنا جميعاً، فلم نكن نعلم أن الخطر قريبٌ منا لهذه الدرجة".
الشعور بالخوف وعدم الأمان يشمل كذلك التنقل على الطرقات الجنوبية، فكثيراً ما تستهدف إسرائيل سيارةً أو دراجةً ناريةً، وقد يلحق الأذى بأيّ شخصٍ قريب. هذا الأمر تكرر كثيراً رغم سريان وقف إطلاق النار. ففي العاشر من يونيو 2025، قصفت طائرةٌ مسيرةٌ إسرائيليةٌ سيارةً في مزارع شبعا داخل الأراضي اللبنانية، فقتلت رجلاً وابنه. وفي 19 يونيو، ضربت مسيرةٌ مركبةً في بلدة حولا في الجنوب وقتلت سائقها. وفي اليوم التالي، استهدفت مسيرةٌ أخرى سيارةً في بلدة العباسية، ما أسفر عن مقتل سائق السيارة. وبعد الحادثة بأربعة أيام، قتلت مسيرةٌ ثلاثةَ لبنانيين في كفردجال قضاء النبطية إثر قصف سيارتهم. في الحادث الأول، ادّعى الجيش الإسرائيلي أن الضربة طالت "عناصر من حزب الله"، ولكنه لم يعلّق على الاستهدافات الثلاثة اللاحقة.
لم تعد الهجمات الإسرائيلية تنحصر في جنوب الليطاني، بل باتت تطال كذلك الضاحية الجنوبية لبيروت. ففي 5 يونيو 2025، شنّ الجيش الإسرائيلي ثلاث غاراتٍ من مسيّراتٍ وقصفاً من مقاتلاتٍ على الضاحية الجنوبية لبيروت. حدث ذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من إصداره أوامر إخلاء لمبانٍ، تمهيداً لقصف مواقع قيل إن حزب الله يستخدمها لتصنيع مسيرات.
يروي حسن بزي الذي يقطن في أحد المباني المستهدَفة، في حديث لـلفِراتْس، أحداث تلك الليلة. ويقول إن زوجته أبلغته أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي نشر تغريدةً طلب فيها ترقّب بيانٍ مهمٍّ سيصدر قريباً. وما هي إلا دقائق قليلة حتّى "سمعت صوت إطلاق نار من الشارع لتحذيرنا بأن أدرعي قد نشر مجموعة خرائطَ، طالباً إخلاء المنطقة فوراً، ومنزلي ضمن هذه المنطقة".
في تلك اللحظة، شعر بزي لأول مرة أنه مستهدَف وأنه يمكن أن يخسر كل شيء في أي لحظةٍ، عائلته ومنزله وذكرياته. سارع وزوجته وأولادهما الأربعة إلى مغادرة المنزل، ولم يأخذوا معهم أي شيء، "في تلك اللحظة كنا في سباقٍ مع الزمن". انطلق بزي بسيارته مسرعاً، ولكن زحمة السير على بعد أقلّ من مئة متر دفعته إلى ترك السيارة والسير مشياً على الأقدام لمسافةٍ طويلة. في نهاية المطاف، لم تستهدف إسرائيل منزله، لكن المنزل لم يعد صالحاً للسكن بعد استهداف المبنى الملاصق له.
أمام الوقائع الحالية، يطرح الجنوبيون سؤالهم الأهم: من يتحمّل مسؤولية ما يحدث؟ تتنوع آراء هؤلاء، ولكنها تُجمِع على رفض هذا الواقع والحاجة المُلحّة إلى تغييره.
التقت الفِراتْس ابن بلدة طيردبا الجنوبية، علي سعد، الذي يروي اللحظات الأولى لعودة الأهالي إلى البلدة. ففي فجر يوم 27 نوفمبر 2024، توجّه سعد إلى مدخل البلدة ليكون أول المستقبِلين للأهالي العائدين. ويضيف: "إلا أنني تفاجأت أن نحو مئتي شخص كانوا قد عادوا فعلاً، فهم لم ينتظروا حتّى اتضاح الصورة. وهذا الأمر كان قد حصل سنة 2006 حين عاد الأهالي فور الإعلان عن وقف إطلاق النار". وأثناء الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في مايو سنة 2000، لم ينتظر الأهالي الانسحاب الكامل، بل كانوا يدخلون إلى كل قريةٍ تصل أقدامهم إليها. إلا أن ما يواجهونه اليوم أقسى وأكثر إيلاماً. فأرضهم خالية من الجيش الإسرائيلي، إلا أنه يمنع عليهم العودة الكاملة إليها. ومع ذلك، فالرغبة بهذه العودة تبقى همّهم الشاغل.
هذه الرغبة بالعودة مضمونةٌ ومنصوصٌ عليها في اتفاق وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024. ينصّ هذا الاتفاق في خاتمته على أن "تهدف هذه الالتزامات [الواردة في بنود الاتفاق] إلى تمكين المدنيين على جانبَي الخط الأزرق من العودة بأمانٍ إلى أراضيهم ومنازلهم". فضلاً عن هذا، فإن الاتفاق الذي يأتي تحت عنوان "إعلان وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بشأن تعزيز الترتيبات الأمنية وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701" يجعل من القرار الدولي مرجعاً أساساً للنظر بمسألة عودة الجنوبيين. ينصّ قرار 1701، الذي تبنّاه مجلس الأمن بالإجماع بعد حرب 2006، في مادته السادسة على "تسهيل طريق العودة الآمنة للمشردين". وفي مادته السابعة على "العودة الطوعية للمشرّدين".
جميع هذه المواد لم تكن كافيةً لردع إسرائيل عن محاولة عرقلة عودة المواطنين والتضييق عليهم. يرى عباس الأحمد، ابن بلدة حاريص الجنوبية، أن "إسرائيل ضربت هذه البنود بعرض الحائط ولم تلتزم بها. فلا يمكن أن نتحدث عن عودة المواطنين في وقتٍ يمكن لإسرائيل التوغل أو تنفيذ غاراتٍ أو حتّى عمليات خطف". يُحمِّل الأحمد المسؤولية الأولى لإسرائيل، "فهي المعتدي علينا. وفي درجةٍ ثانيةٍ للجنة الخماسية [تضم الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل وقوات اليونيفيل] التي تقف مكتوفة الأيدي أمام كلّ ما يحدث، في حين يقع على عاتقها ضمان تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار".
لا يتفق جميع الجنوبيين على هذه الرؤية بتحميل المسؤولية. فأثناء جولتنا على القرى الحدودية، التقينا ماري غفري في بلدة علما الشعب، وقد ألقت اللوم في كلّ ما حدث على حزب الله. ترى غفري أن "البلدات الحدودية كانت بأفضل حالٍ قبل دخول حزب الله معركة الإسناد". وتُضيف أنه "كما أدّت حربه إلى تدمير الجنوب، فإن تعنّته اليوم بالتمسّك بسلاحه يُعطي حجةً لإسرائيل لاستكمال اعتداءاتها. وبين الطرفين، يدفع أبناء الجنوب الثمن كل يوم".
وبعض الجنوبيين يحمِّلون مسؤولية ما يحدث الدولةَ اللبنانية ومسؤوليها. يرى ابن بلدة حولا الحدودية حسن قعفراني، في حديث لـلفِراتْس، أن "أهالي الجنوب لم يلجؤوا إلى إطلاق المقاومة سوى منذ أواخر السبعينبات بعد أن تخلّت الدولة اللبنانية عن مسؤوليتها بحمايتهم". ويتابع: "اليوم يتكرر نفس المشهد. الدولة تريد أن تنزع سلاح حزب الله، في حين أنها لا تسلِّح الجيش ولا تعطيه القرار السياسي بالمواجهة". ويوضّح أن "الدولة لا تملك أي قدرةٍ على الضغط على اللجنة الخماسية لإلزام إسرائيل بوقف تعدّياتها".
وهكذا تنحصر خيارات أبناء الجنوب في ظلّ صراعٍ غير متكافئ. وفي حين يراهِن بعضهم على تغيير موازين القوى في المنطقة، يرى البعض الآخر أن مشروع تهجيرهم اقترب كثيراً. وبانتظار التطوّرات، لا يسعهم سوى التمسّك بأرضهم.
