كيف أشعلَ التبغ ثورةً في إيران ومقاومةً في لبنان؟

في إيران ولبنان، صاغت شتلة التبغ تحولاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ لايزال أثرها حاضراً حتى اليوم.

Share
كيف أشعلَ التبغ ثورةً في إيران ومقاومةً في لبنان؟
تمسّك أهالي الجنوب اللبناني بزراعة التبغ لأنها تضمن لهم البقاء في أرضهم | تصميم خاص بالفِراتْس

في أحد أيام سنة 1998 في مدرسة كفركلا الرسمية جنوب لبنان، على بعد أمتارٍ قليلةٍ من مستوطنة المطلة الإسرائيلية، تفاجأت المعلمة زينب (اسمٌ مستعار) بأحد طلابها في الصف السادس يخبرها رغبته ترك الدراسة والالتحاق بجيش لحد اللبناني الموالي إسرائيل. ابتغى الطالب تقاضي راتبٍ يبلغ نحو ستمئة دولار، كما يتقاضى أفراد جيش لحد المتمركزين في قرى الشريط الحدودي. في وقتٍ كان راتب زينب لا يتجاوز مئتين وخمسين دولاراً فقط.

في قصة زينب تبيان للواقعَين الاقتصادي والاجتماعي اللذين كانا يحكمان قرى الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني تلك الفترة. فقد اتّبعتْ إسرائيل سياسةَ الترهيب والترغيب في مواجهة الجنوبيين. والترغيب بالذات بدفع أجورٍ مرتفعة للمزارعين الجنوبيين الراغبين في العمل في بساتين المستوطنات المحاذية للبلدة. أغرقت إسرائيل تلك المناطق بالبضائع الأوروبية ذات الجودة العالية بأسعارٍ منخفضة. فهي كانت تصل عبر ميناء الناقورة، ولا تخضع للرسوم الجمركية اللبنانية. تستذكر زينب أن أحد أهالي البلدة القاطنين في بيروت زار البلدة متباهياً بسيارته التي اشتراها حديثاً. فتفاجأ بأن أحد أقاربه اشترى نفس السيارة من مرفأ الناقورة، ولكن بسعرٍ يقلّ بنحو عشرة آلاف دولار. كان من ضمن محاولات الترغيب التزام الإدارة العسكرية والمدنية الإسرائيلية بإقامة مخيّمٍ صيفي مختلط للأطفال اللبنانيين والإسرائيليين.

ضاقت خيارات الجنوبيين شيئاً فشيئاً أمام هذه المحاولات الإسرائيلية. فلم يجد الكثير منهم متنفساً اقتصادياً يجنّبهم الخضوع لإرادة إسرائيل سوى شتلة التبغ، أو "شتلة الصمود" كما يحلو للجنوبيين تسميتها. لم تكن شتلة التبغ مجرد زراعة. كانت محرّكاً رئيساً للأحداث السياسية والاجتماعية في جنوب لبنان، ولاسيما في فترة الاحتلال الإسرائيلي. قبلها بقرنٍ تقريباً، أسهم التبغ في اندلاع ثورةٍ شعبيةٍ بوجه شاه إيران ناصر الدين شاه. فشكلت "ثورة التبغ" وسيلةً لمقاومة الاحتكار الأجنبي وقادت لتغيّراتٍ سياسيةٍ ودستوريةٍ في إيران معززةً من دور رجال الدين. ومن تاريخ التبغ في إيران تسلِّط صورة تبغ لبنان الضوء ساطعاً على نبتةٍ تتجاوز جذورها الفعلية أديم الأرض لتمتدّ وسيلةً ومحفزاً ورمزاً للتمرّد والتغيير.


في القرن التاسع عشر عمل ما يقارب مئتي ألف إيراني، أي نحو 20 بالمئة من سكان إيران آنذاك، في قطاع التبغ. نُسب لهذا الواقع ردّ فعل الشعب الإيراني العنيف على قرار شاه إيران ناصر الدين شاه منحَ احتكار تجارة التبغ الإيراني لشركةٍ بريطانية في مارس 1890. يرِد ذلك في كتاب ستيفن بولسون "سوشال موفمينتس إن تونتيث سنشري إيران" (الحركات الاجتماعية في إيران القرن العشرين) الصادر سنة 2005.

سبق منحَ الاحتكار تردٍ اقتصادي وسياسي تحوّلت معه إيران في فترةٍ بسيطةٍ إلى سوقٍ يستورد السلعَ الصناعية من الدول الغربية ويصدّر مواد الخام الرخيصة، مثل الأفيون والأرز والتبغ والمكسرات. أجبرت الدولة الناسَ على العمل في زراعة هذه المحاصيل وإهمال زراعاتٍ أخرى، ما ساهم في زيادة معدلات الفقر في البلاد.

اعتمدت الدولة في تلك الفترة على الديون والقروض الأوروبية. فاستغلت مؤسسات اقتصادية في بريطانيا وروسيا الفرصة للحصول على الامتيازات الاقتصادية والاستحواذ على الصادرات والواردات الإيرانية. وللحصول على أكبر قدرٍ من الامتيازات، أغدقت هاتان الدولتان الرَشاوَى والهدايا والأموال على الشاه القاجاري ومساعديه. ترتب على ذلك منح الحكومةِ الإيرانيةِ المزيدَ من الامتيازات والاستثمارات لهذه الدول. وذلك حسب مصطفى عقيل في كتابه "ثروة تحريم التبغ في إيران" الصادر سنة 1995.

من ذلك موافقة الشاه في 28 مارس 1890 على منح امتياز احتكار التبغ وبيعه وشرائه وتصنيعه لرجل الأعمال البريطاني جيرالد تالبوت، أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني وقتذاك اللورد ساليسبوري. ويشمل هذا الاحتكار كافة أنواع التبغ. من التبغ المستعمل للسجائر والنشوق والغليون والنرجيلة، في داخل إيران وخارجها لمدة خمسين عاماً. وذلك مقابل 15 ألف جنيه استرليني (ما يقارب ثلاثة ملايين دولار أمريكي اليوم)، وربع ربح صافي الدخل السنوي إلى الحكومة الإيرانية.

ومع أن قرار احتكار التبغ جاء في وقتٍ كانت القوى الاستعمارية تتمتع فيه بالامتيازات الاقتصادية بالبلاد، إلا أنه أثار سخطاً شعبياً كبيراً لأنه يمسّ كل بيت إيراني. وبهذا، شكّل بدايةً لأحداثٍ سياسيةٍ أكبر وأظهر الدور المركزي لطبقة التجار في التأثير والتغيير، فضلاً عن تنامي نفوذ رجال الدين الذين ساهموا بقوةٍ في إسقاط هذا الاحتكار.

أدرك المسؤولون المقربون من الشاه خطورة الاتفاقية وضررها على عموم الشعب وإمكانية أن تثير سخطه على الحكومة. لذا ظلّت الاتفاقية سريةً بعضَ الوقت، بغية تهيئة الظروف المناسبة واتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الاضطرابات. لكن الشعب الإيراني علِمَ بها من الصحف التركية، فتعالت الأصوات المعترضة مهاجمةً الشاه والاحتكار الأجنبي مواردَ البلاد.

تزعم الثورةَ رجال الدين، لارتباطهم بالمجتمع عبر القضاء الشرعي والتربية الدينية وإبرام عقود الشؤون الشخصية وتوثيق عقود التجارة. وقد جاء الأمر في وقتٍ كان رجال الدين يتحيّنون فيه فرصةً لمقاومة ناصر الدين شاه بعد أن ساءت العلاقة بين القصر والمؤسسات الدينية. فاعتلوا المنابر وهيّجوا الشعب بمختلف فئاته ضدّ الحكومة الإيرانية. كان حسن ميرزا الشيرازي أهمّهم، وقد طالب الشاه سنة 1891 من مكان إقامته في النجف بإلغاء الاتفاقية.

اشتبك الأهالي مع القوات الحكومية وسقط عددٌ كبيرٌ من القتلى والجرحى من الجانبَين في أكثر من مناسبة سنة 1891. لم يكتفِ الإيرانيون بانتقاد الشاه والشركة المحتكِرة، بل ظهرت موجة من التعصب ضدّ الحضارة الأوروبية وانتشر بين الناس خطاب عن مفاسدها. ومع تدفق الكثير من الرعايا البريطانيين والأجانب لإيران بعد الاتفاق، وصل الأمر لأعمال شغبٍ ضدّ هؤلاء الأجانب في أماكن مثل مدينة يزد وسط إيران. لم يكن أمام الشاه بعد هذه الحركة الثورية إلا إلغاء امتياز احتكار التبغ داخل إيران في يناير سنة 1892. فاضطرّ لدفع غرامةٍ باهظةٍ لإلغاء الاتفاقية قدرها خمسمئة ألف جنيه إسترليني (قرابة مئة وتسعة مليون دولار اليوم). لجأ لأخذ قرضٍ ضخمٍ لسداد الغرامة، مما زاد من حجم المشاكل الاقتصادية وشكّل بدايةً لانهيار الاقتصاد الإيراني وتفاقم الفقر والجوع. ما نتج عنه انهيار الدولة القاجارية وظهور الدولة البهلوية سنة 1925 مع انقلاب رضا بهلوي، الذي كان أولاً وزيراً للدفاع ثم رئيساً للوزراء في عهد آخر شاهات القاجاريين أحمد مرزا.

ومثلما شكل التبغ في تلك الحقبة التاريخية في إيران أداةً ومحرّكاً لمواجهة سياسات الشاه ومقاومتها، ومثّل شرارة فرضت تغيرات في بناء الدولة وظروفها، كذلك كان التبغ أداةً لأهالي جنوب لبنان لتغيير واقعهم لمواجهة إسرائيل والفقر والعوز في تلك المنطقة المهمّشة. ففي إيران أشعل التبغ ثورة استجابة لرغبةٍ في تغيير واقعٍ مختلّ عطّل سبل الحياة لأغلب الإيرانيين. وفي لبنان ساعد التبغ، وبعد أكثر من قرن وبسبب ظروفٍ مختلفة، على تغيير واقعٍ مختلٍّ آخر.


منذ احتلالها جنوبَ لبنان بين 1982 و2000، أغرت إسرائيل الجنوبيين بفرص العمل في المستوطنات المحاذية الحدودَ، بغية استمالتهم وتطبيع العلاقة معهم. رافق الإغراءاتِ مجموعةٌ من أساليب الترهيب القائمة على التجنيد الإجباري لصالح مجموعة جيش لحد الجنوبي الموالي إسرائيل. وكذلك تعقيد حرية الانتقال عبر المعابر الحدودية مع المناطق التي لم تكن خاضعة لإسرائيل، في محاولةٍ لحصر خيارات الجنوبيين بين الانضمام لجيش لحد أو العمل في المستوطنات.

عن هذا يقول منذر جابر في كتابه "الشريط اللبناني المحتل" المنشور سنة 1999 إن هذه العمالة الجنوبية في المستوطنات مرّت عبر القضاء على الثروة الحيوانية بمصادرة الأراضي المشاع أو تلغيمها مع المراعي، أو عبر التضييق على أصحاب المنتوجات الحرفية. كذلك عبر الإقفال المستمر والمفاجئ للمعابر، مما أخلّ بوارد المواد الأولية والمصنّعة وصادرها. فضربت إسرائيل التركيبة الاقتصادية للشريط الحدودي وجعلت كثيراً من أهله رهائن أبواب الهجرة، أو ربطتهم بسوق العمل الإسرائيلية التي أُوجدت في الشريط الحدودي. وذلك قبل عودة زراعة التبغ في أوائل التسعينيات لتكون باب رزقٍ للسكان.

وفقاً لمنيرة خياط في كتابها "إي لاندسكيب أوف وور" (أرض الحرب) الصادر سنة 2022، فإن زراعة التبغ في الجنوب اللبناني (وتسمّى نبتة التبغ محلياً "النبتة المُرّة") تعود بجذورها للقرن السابع عشر، وقد قدِمت بها الدولة العثمانية لمنطقة شرق المتوسط. ولعلّ نجاح هذه النبتة عائد لطبيعتها المرنة في الظروف المناخية والبيئية الصعبة، بما في ذلك التضاريس الجبلية الوعرة التي تميّز أجزاءً واسعةً من لبنان. انتقل احتكار التجارة بالتبغ من الدولة العثمانية للاستعمار الفرنسي بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وكما احتكرت شركاتٌ بريطانية التبغَ في إيران قبلها بأربعة عقود ونيف، منحت سلطات الاستعمار الفرنسية سنة 1935 حقوقاً خالصة لشركاتٍ فرنسية للاستفادة من التبغ المنتج في لبنان وسوريا.

ضمنت السلطات الفرنسية بهذا المحصول ولاءَ "الزعامة" المحلية من ملاك الأراضي. وقد أضرّ احتكار النبتة المُرّة بمصدر رزق الإيرانيين ثم تطور لثورةٍ على الشاه. كذلك تسبّب الاحتكار الفرنسي في فقدان الكثير من العاملين أعمالَهم، فتحوّل الأمر لاحتجاجاتٍ في لبنان وسوريا في يونيو 1935. جاءت الاحتجاجات وتطورت في جوِّ امتعاضٍ عامٍّ ضدّ الوجود الاستعماري البريطاني والفرنسي في المنطقة، امتدّ من العراق مروراً بسوريا وفلسطين ومصر.

تقول خياط في كتابها إنه بعد استقلال لبنان سنة 1943 حوّلت السلطة اللبنانية تركيزَها ومواردها على بيروت ومناطق جبل لبنان وأهملت المناطقَ الريفية، لاسيما في الجنوب حيث تركزت مزارع التبغ. ولكن ظلّت الترتيبات الناتجة عن الاحتكار الفرنسي للتبغ قائمة، وديدنها سيطرة أصحاب الأراضي وعوز المزارعين.

استمر الاعتماد على التبغ مورداً للرزق مع تغيّر الوضع السياسي في لبنان بعد إنشاء إسرائيل سنة 1948، واشتعال الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، واجتياح إسرائيل جنوبَ لبنان سنة 1982. استمر الاعتماد على التبغ حتى بعد اتفاق الطائف سنة 1990 الذي أنهى الحرب الأهلية وتبعه سنة 1993 تأميم زراعة التبغ. ظلّت زراعة التبغ والاستفادة منه مصدراً للرزق أثناء الاحتلال الإسرائيلي جنوب لبنان حتى سنة 2000. ولكن مع تحدياتٍ جديدةٍ فرضها واقع الاحتلال العسكري.

عمدت إسرائيل إلى التضييق على مصادر عيش الجنوبيين، وأبرزها زراعة التبغ. في المقابل عمد الجنوبيون إلى التمسك بهذه الزراعة. فصارت نبتة التبغ بنظرهم "شتلة الصمود" القادرة على تثبيتهم بأرضهم من ناحية، وتفادي شبح العوز والحاجة من ناحيةٍ أخرى. فضلاً عن دورها في خلق نسيجٍ اجتماعي يربط أهالي الجنوب ببعضهم، متجاوزاً التنوع الطائفي والمناطقي.

يشرح رئيس اتحاد نقابات مزارعي التبغ حسن فقيه للفِراتْس دور شتلة التبغ وعلاقتها بالجنوبيين ما قبل التحرير سنة 2000. فيشير إلى أنه "في تلك الحقبة كانت زراعة التبغ تشكِّل أحد عوامل الصمود في وجه الاحتلال. فالمزارع، على خلاف التاجر الذي يمكنه نقل تجارته إلى أماكن أخرى، محكومٌ بالبقاء إلى جانب أرضه. وكانت شتلة التبغ المتجذرة في الجنوب دافعاً أساسياً لهذا البقاء".

شهدت هذه المنطقة في فترة احتلال إسرائيل حرباً من نوع آخر. فقد كان الاحتلال يعمد لإغراء الجنوبيين للعمل في حقول التفاح الإسرائيلية داخل المستوطنات. وفي المقابل كانت الدولة اللبنانية عبر "الريجي" (إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية) تعمد لشراء التبغ من داخل المنطقة المحتلة. وهذا ما أمّن العيش الكريم للجنوبيين وحافظ على نوع من الروابط بين الدولة والجنوبيين القابعين تحت الاحتلال.

التقيتُ مديرَ التبغ الورقي في الريجي عبد المولى المولى الذي استذكر تلك المواجهة بتفاصيلها قائلاً: "حاولنا أن ننمّي ونشجع ونحافظ على هذه الزراعة في مناطق الشريط الحدودي. وأن نعطي المزارع أكثر مما يستحق من الناحية التجارية. وكنا نعتقد أن هذه الأموال من شأنها مساعدتهم على البقاء في أرضهم ورفض التطبيع الاقتصادي من خلال العمل داخل المستوطنات الإسرائيلية". وأضاف: "كنا نعمد إلى إرسال لجان الشراء إلى الداخل المحتل لشراء المحصول، ولا نضع أي سقف لمنتوجهم على غرار مناطق أخرى".

وبالإضافة إلى دورها في تأمين صمود الجنوبيين، شكلت حقول التبغ المنتشرة في قرى الشريط الحدودي ملجأً للمقاتلين الذين كانوا يتخفون في حقولها ويعبرون منها لتنفيذ عملياتهم العسكرية ضدّ إسرائيل. في تلك الفترة سعت إسرائيل إلى استغلال حاجة الجنوبيون لمتطلبات الحياة وغياب مؤسسات الدولة عن تلك المنطقة لتكريس التطبيع وتقديم نماذج مزيفة عن رفاهية المناطق الواقعة تحت سيطرته وحسن معاملة إسرائيل لسكان المنطقة.

ومن هذه النماذج قصة "بوابة فاطمة"، وهي بوابة العبور الحدودية بين لبنان وإسرائيل. أخبرتنا زهراء (اسمٌ مستعار) أن البوابة باتت مزاراً للبنانيين والسياح بعد التحرير. يشاهدون منها "الأراضي الفلسطينية المحتلة" ويرمون الحجارة على أحد المواقع الإسرائيلية القريب منها. وتفيد الرواية الشعبية المتداولة أنه، بعد إحدى العمليات الفلسطينية المنطلقة من كفركلا، ردّ الجيش الإسرائيلي باستهداف أطراف البلدة. أُصيبت إحدى السيدات، وتُدعى فاطمة، كانت تعمل في زراعة شتول التبغ في منطقةٍ قريبةٍ من الشريط الحدودي. نقل جيش إسرائيل فاطمة إلى داخل إسرائيل للعلاج لإظهار "نيّة حسنة" تجاه أهالي الشريط الحدودي. فبات يطلق أهالي البلدة على تلك النقطة اسم "فاطمة"، وعند إنشاء البوابة صار اسمها "بوابة فاطمة".

المساعي الإسرائيلية لجذب الجنوبيين للعمل في المستوطنات مرّت عبر قضم الأراضي الزراعية وتلغيم مساحاتٍ منها بحجة الأمن، أو عبر تلغيم جوانب الطرق الزراعية، أو عبر استحداث وسائل للقضاء على مواسم زراعية كاملة. فمثلاً ظهر "الفأر الأبيض"، وهو فأر مختبرات وليس برياً، بعد منتصف الثمانينيات لأول مرة في تاريخ المنطقة. فأتلفَ موسمين متتاليين من الحبوب في المروج القريبة من الحدود، ولم ينل من المزروعات الإسرائيلية المقابلة في المستعمرات. شاعت شكوك بين الجنوبيين أن الفأر الأبيض جيء به من المختبرات الإسرائيلية لإتلاف المزروعات في الجانب اللبناني. يقول منذر جابر في كتاب "الشريط اللبناني المحتل" إنه قُضيَ على آفة الفأر الأبيض بمساعدةٍ إسرائيلية، بعدما كانت خطوات التجنيد الإسرائيلية وإغراءات رواتب جيش لحد والمؤسسات الإسرائيلية قد امتصت الآلاف من الشباب الحدودي. وقد كان للقضاء على الزراعة أثرٌ كبيرٌ في ذلك.

وحسب جابر، فقد أدّت هذه الممارسات الإسرائيلية في تراجع نسبة زراعة التبغ في مناطق الشريط المحتل. في سنتَي 1985 و1990 وصل التراجع إلى 75 و95 بالمئة على التوالي. أي أن المساحة المزروعة سنة 1975، والبالغة نحو ثمانية وعشرين ألف دونم (الدونم في بلاد الشام يعادل ألف متر مربع)، تقلّصت في عامَي 1985 و1990 إلى 7061 و1217 دونماً على التوالي. وفي الطرف الآخر كانت إسرائيل بإغراءاتها المادية لرواتب جيش لحد الجنوبي جاهزة تنتظر على باب الحاجة والعوز، وباب إقفال المعابر وأبواب الرزق مع باقي الوطن.

بعد سنة 1990، عرفت زراعة التبغ في الجنوب وفي الشريط الحدودي قفزاتٍ سريعة متوالية أعادت إلى هذه المنطقة هويةً زراعيةً كانت شبه مفقودة. بلغت المساحة المزروعة في الشريط الحدودي 19486 دونماً في سنة 1996، مقتربةً من الحد الأقصى المسموح بزراعته بموجب التراخيص الممنوحة رسمياً من الدولة اللبنانية حتى تلك السنة، والبالغ 21968 دونماً. ويشير عبد المولى المولى إلى أن هذه الزراعة وصلت في أوائل التسعينيات إلى البقاع، وحبذها المزارعون لأنها مدعومة والريجي مجبَرة على شراء المحصول.


يروي لنا أحد كبار مزارعي التبغ في بلدة الظهيرة الحدودية، فادي سويد، حكاية عائلته مع هذه الزراعة المتوارثة عبر الأجيال. يقول: "جدي الذي ولد سنة 1885 كان مزارعاً للتبغ، ومن ثم ورثها والدي. وما إن أتممت التاسعة من عمري حتّى بدأت العمل في حقولها". يجزم سويد أنه "لولا شتلة التبغ لما تمكَّنا من الصمود، سواء خلال الاحتلال أو بعد التحرير، فهي مصدر رزقنا". ويوضح أنه في فترة الاحتلال "[. . .] كنّا ننقل إنتاجنا إلى أحد المستودعات في بلدة عيتا الشعب، بحيث يأتي موظفي الريجي بعد أن يحصلوا على أذونات للعبور من جيش لحد لاستلام المحصول". ويستذكر أنه في أحد الأعوام في أوائل الثمانينيات لم يتمكنوا من نقل المحصول إلى هذا المستودع بسبب الأحداث الأمنية، فأمنت اليونيفيل –وهي قوة الأمم المتحدة "المؤقتة" في جنوب لبنان– شوادر لاستخدامها للتخزين بانتظار موظفي الريجي.

يصف معظم مزارعي التبغ هذه الزراعة بأنها مثل "القجة"، أي صندوق إدخار المال. فالمدة الزمنية الفاصلة بين زراعتها وحصادها تبلغ نحو تسعين يوماً، وتحديداً بين شهرَي يونيو وأغسطس. يدفع أثناءها المزارع بعضَ الأموال للتسميد وغيرها، إلا أنه يعوّض ذلك عند تسليمها إلى الريجي. وهذه "المحاصيل النقدية"، أي التي تزرع من أجل الربح لا المعيشة، تتميز عن أي زراعة أخرى باستدامتها. فإذا كان المزارع يملك ألف كيلوغرام تبغ، يعني أنه يملك نحو ستة آلاف دولار (في حال كان سعر الكيلوغرام بدولار واحد) مهما طال الزمن. لكن إذا كان المزارع يملك ألف كيلوغرام فواكه أو خضار، فبعد فترةٍ من الزمن لن تكون هذه المنتجات صالحة للأكل وبلا أيِّ قيمةٍ مالية.

يلفت رئيس اتحاد نقابات مزارعي التبغ حسن فقيه إلى أن هذا المبلغ "يشكِّل دورةً اقتصاديةً كاملةً في تلك المناطق. فمن يريد أن يزوّج ابنه أو يبني غرفةً جديدة في منزله أو يسدّ ديناً، ينتظر انتهاء الموسم". وتتميز هذه الزراعة البدائية غير المروية بطابعها الوراثي، إذ يغلب عليها العمل الجماعي للعائلة، فيعمل ربّ الأسرة وزوجته وأولاده.

وثمة مفارقة لافتة هي رفض المزارعين الجنوبيين تطوير هذه الزراعة باستخدام الآلة. فقد أشار المولى إلى أن "الريجي لم تتمكن من إدخال الآلات الحديثة عليها بسبب رفض المزارعين. فمثلاً قدّمت الريجي للمزارعين آلات لشكّ التبغ [تلقيطه وفرزه] ولكنهم رفضوها مفضّلين الشك اليدوي، بذريعةِ أنها تقلِّل من نوعية وجودة النبتة. وهذا الرفض مرتبط بالموروثات والعادات".

مما يميّز هذه الزراعة كذلك ضمان تصريف المحصول. فالريجي مُجبرة على تسلّم المحصول وفقاً لسعرٍ لا ينخفض من عامٍ إلى آخر، فإما أن يبقى ثابتاً أو يزداد مع السنوات. إذ حددت الريجي سنة 2024 السعر للكيلوغرام الواحد بين ستة دولارات ونصف إلى ثمانية دولارات ونصف بحسب جودته، ومن غير المرجح أن ينخفض لسنوات مقبلة.

لم تكن زراعة التبغ أداةً لتحدي الغبن الاستعماري في التسعينيات أثناء الاحتلال الإسرائيلي وحسب، بل كانت أيضاً مرآة للصراعات الداخلية الطبقية في لبنان.


انتقلت زراعة التبغ تاريخياً من كونها أداة بيعٍ للطبقة الغنية إلى مصدر رزقٍ مباشر للمزارعين. كان نظام "الرُخَص" الذي يسمح بزراعة التبغ محصوراً بعائلاتٍ غنية نظراً لارتفاع قيمتها المادية. وهذا ما جعل المزارعين الفقراء أُجَراء لدى طبقة اجتماعية ثرية، فيعملون وفق نظام "الساعة" وبأجرٍ زهيد. فيما ذهبت أرباح الموسم الوفيرة إلى خزائن المحتكرين.

شكَّل هذا الواقع بيئةً مناسبةً للفكر اليساري لإطلاق فكرة الصراع الطبقي في تلك القرى، فباتت قرى الجنوب بذلك حاضنةً لهذا الفكر وأحزابه. ساهم هذا الفكر في تحريض مزارعي التبغ على رفض نظام العمل القائم. تخطى التبغ كونه مجرّد شتلة تُزرع إلى رمزٍ للنضال ضدّ المحتكرين. وأخذ بُعداً إضافياً مع تحوّل الجنوب إلى ساحةٍ للعمل الفلسطيني المسلَّح المتحالف مع القوى اليسارية، فأصبحت شتلة التبغ شعاراً يُرسَم إلى جانب البندقية الفلسطينية. ومن مظلومية مزارعيها، وجد اليسار اللبناني بيئةً خصبة للتوسع.

أحد أبرز تجليات هذه العلاقة الشائكة بين مزارعي التبغ والقوى اليسارية والمقاومة الفلسطينية آنذاك ظهر في انتفاضة مزارعي التبغ سنة 1973 في وجه سياسات شركة الريجي الفرنسية الاحتكارية والداعمة العائلاتِ الغنية. فبعد تراجع زراعة التبغ في مناطق الشمال، باعت الشركة رُخَصاً لأراضٍ كبيرة لكبار المزارعين في الجنوب بأسعارٍ زهيدة، بينما باعت رخصاً لأراضٍ صغيرة لصغار المزارعين بأسعارٍ عالية. خلَّفَ هذا نقمةً في نفوس المزارعين الفقراء ضدّ الدولة والشركة والنقابة (التي كانت تمسِك بها العائلات الغنية) دفعتهم إلى رفع لواء الثورة. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن مقتل مزارعَين وعددٍ من الجرحى.

يروي الراحل هاني فحص، أحد قادة تلك الانتفاضة، في مقابلته مع صحيفة "جنوبية" اللبنانية في مايو 2013، أن "وراء هذه الثورة إضافةً للأسباب المطلبية 'نتعة' [دوافع] يسارية وأسباب سياسية. وإلا لو كانت الأسباب مطلبيةً فقط، لما وصلت الأمور بالثورة إلى هذا الحدّ". ويشرح ظروف تلك المرحلة قائلاً: "في تلك الفترة كان لبنان تحت ضغط تغيير المرافق الإنتاجية في الدولة بذهنيةٍ طبقية. فشهدت المرحلة إضراب عمّال معمل غندور ومقتل أحد العمال، وأيضاً المعلمين المصروفين من الخدمة، حيث بادرت الدولة إلى صرفهم من الخدمة بضغط من الرئيس كامل الأسعد [رئيس مجلس النواب آنذاك والمنتمي إلى إحدى العائلات الغنية] بتهمة الشيوعية".

وأضاف فحص أن "الجو السياسي آنذاك كان صعباً والحكومة مضغوطة جراء وجود مشروع إشكالية عميقة بين المقاومة الفلسطينية واللبنانيين والدولة. فكان الطرفان ذاهبان إليه. والحركة الوطنية [المكونة من عدة أحزاب وحركات قومية ويسارية] تبحث عن فرصتها. في هذا التناقض البيّن [استغلت القوى اليسارية ذلك] لتصفّي حساباتها مع الدولة اللبنانية بعناوين مطلبية، جاءت إجراءات الريجي وتميّزت بقساوتها على المزارعين ولتؤكد الزبائنية والسمسرة والتمييز الطبقي بين صغار المزارعين من جهة وكبار المزارعين من جهة أخرى، فكيف الحال والمزارع الصغير غير منصف حتى قبل تلك الإجراءات الجديدة".

هذا الحراك الطبقي ضدّ الاحتكار ربما ساهم في بداية التسعينيات باعتماد الدولة اللبنانية سياسة "تفتيت الرخص" وإعطائها مباشرةً للمزارعين، بعدما كانت حكراً على أصحاب المزارع والأغنياء، ما ساهم بإعادة ضخ الحياة في هذه الزراعة. ومن ناحية أخرى خلقت زراعة التبغ شبكةً من العلاقات بين أبناء قرى الشريط الحدودي. فقد كانت هموم التبغ المشتركة العامل المشترك بين فلاحي رميش وعيتا الشعب المسيحيتَين، وعيترون وجوارها المسلم.


لم تنتهِ قصص زراعة التبغ مع اسرائيل مع انتهاء احتلالها جنوبَ لبنان، بل استمرت مع حروبها المتكررة على لبنان منذ ذلك الحين. في آخر أيام حرب 2006 مثلاً، وفق تقريرٍ لهيومان رايتس واتش سنة 2008 أطلقت إسرائيل أكثر من مليوني ونصف قنبلة عنقودية طالت وديان الجنوب وأحراشه وحقوله المزروعة تبغاً وزيتوناً وحمضيات. أصيب بسبب انفجار القنابل العنقودية عشرات المدنيين بين قتيلٍ وجريحٍ، من بينهم الكثير من مزارعي التبغ.

وفي حرب 2024، ومع تكثف موجات القصف الإسرائيلي بعد شهر أغسطس، حُرم غالبية المزارعين من زراعة أرضهم. فتراجع معظم المحصول عن معدّله، حسب ما تورد صحيفة الأيام في أغسطس 2024. حاولت الريجي التسريع في استلام المحصول. وكان لافتاً تصميم المزارعين على استغلال الموسم قدر الإمكان حتّى تحت القصف الإسرائيلي. وضعت الريجي نظام تعويضٍ للمزارعين الذين لم يتمكنوا من ذلك، وصل لدولارين ونصف عن كل كيلوغرام سلّموه الموسم الماضي. ووفقاً لتقريرٍ في صحيفة الشرق الأوسط في أغسطس 2024، فإن الريجي استأجرت أيضاً مستودعاتٍ لتخزين منتوج التبغ في مناطق آمنة عوضاً عن تلك المنتشرة في الشريط الحدودي والتي أُمطرت قصفاً إسرائيلياً. واستحدثت الريجي مشاتل مجانيةً في قرى آمنة لمساعدة المزارعين.

مع بوادر نهاية الحرب، أخبرنا المزارع محمد مراد، المهجَّر من بلدة عيترون الجنوبية الشهيرة بزراعة التبغ أنه يبحث عن أرضٍ تمكّنه من زراعة التبغ في المناطق المحيطة بمدينة صور. فمراد، الذي عاش تجربة التعامل مع القنابل العنقودية بعد حرب تموز 2006، يتخوّف من تكرار التجربة. فضلاً عن مخاوفه من أن تكون التربة في بلدته قد تعرّضت للفسفور الأبيض الذي أشارت تقارير استخدام إسرائيل له في قصفها جنوب لبنان. قال لنا في وقتها: "[. . .] عائدون إلى قرانا بعد أن نتلقى التطمينات من الجيش اللبناني، وسنزرع حقولنا بالتبغ كما فعل أجدادنا وآباؤنا وسيفعل أبناؤنا".

مع إبرام صفقة وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في نهاية نوفمبر 2024، بدأ الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من غالبية المناطق التي احتلّها في الشريط الحدودي أثناء الحرب وهدأت نسبياً ذروة القصف. فعاد عشرات الآلاف من اللبنانيين المهجّرين من قرى الجنوب وبلداته لبيوتهم. ومع عودتهم بدأت الحياة بالعودة تدريجياً إلى مزارعهم، بما في ذلك مزارع التبغ. أما محمد مراد، فلم يحالفه الحظ مثل آخرين. فمازال غير قادرٍ على زراعة أرضه لوقوعها بمحاذاة الحدود الإسرائيلية، ولاتزال منطقةً غير آمنة.

يلفت حسن فقيه في تصريحٍ لموقع "النشرة" اللبناني إلى أنه مع بداية 2025 انطلقت مزارع التبغ على أشدّها، ويأمل أن يصل محصول التبغ مليونين ونصف المليون كيلوغرام. وكأن النبتة المُرّة تعود مرةً أخرى رمزاً للبقاء مقابل الحرب الإسرائيلية، كما كانت عصيةً أمام الاحتكار الأجنبي الفرنسي وسطوة المحتكرين المحلّيين.


يمكن وصف حالة الجنوب اللبناني باستذكار جملةٍ شهيرة لرئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري. فبعد تحرير سنة 2000، قررت الحكومة اللبنانية عقد جلسةٍ لمجلس الوزراء في ثانوية بنت جبيل الرسمية. وبعد انقضاء الجلسة، قرر الحريري أن يتجوّل في القرى والبلدات الحدودية مطلقاً عبارته الشهيرة "لم أر أخضرَ إلا التبغ". كان في كلامه إشارة إلى غياب الزراعات الأخرى عن الجنوب. وقد رسمت هذه العبارة الوضع الذي كان قائماً في تلك المنطقة ومازال. إذ تحوّل التبغ إلى شريان حياة الأهالي في مواجهة إسرائيل والفقر.

وكما كان الأمر في ثورة الإيرانيين ضدّ محتكري التبغ في بلادهم منذ قرن ونيّف، مثَّل تبغ اللبنانيين عبر تاريخه ثورةً أيضاً لظروفٍ مشابهة وأخرى مختلفة.

اشترك في نشرتنا البريدية