صارت الحادثة موضوعَ سجالٍ على مدار أيامٍ بين إسرائيل وحزب الله. وبينما أكّد الجيش الإسرائيلي شنّه هجوماً استباقياً بمئة طائرةٍ لإحباط ردّ حزب الله على اغتيال شكر، نفى حسن نصر الله الأمين –العام للحزب حينئذٍ– روايةَ الاختراق الأمني. وأكّد أن الجيش الإسرائيلي استهدف "المجاهدين" بعد رصد حركتهم المعتادة إلى المرابض والمنصات، وأن الأماكن المستهدَفة لم تكن نفسها التي استخدمها الحزب في عمليته.
حارَ محمد فيمن يصدِّق. فما رآه بنفسه زرع الشكّ لديه. لكنه يثق في قيادة الحزب التي تنفي الاختراق. إلّا أن مسار الحرب وحجم الخروقات الإسرائيلية لحزب الله التي ظهرت فيما بعد يؤكّدان أن تل أبيب خدعت حزب الله استراتيجياً، على نحوٍ لم يتوقعه في تخطيطه للحرب.
حُكمت مساندة حزب الله لغزّة بضوابط حدّدها الحزب لنفسه. فبقيَ مصرّاً على تجنّب الحرب الشاملة والتزَمَ مسارَ "حرب الإسناد" التي حدّدت سلوكَه السياسي والعسكري. إلّا أن قراءته الخاطئة للموقف بعد السابع من أكتوبر سمحت لإسرائيل باستغلال تفوّقها التقني والاستخباراتي في توجيه ضرباتٍ مؤلمةٍ له. وبعد انتهاء الحرب، يجد الحزب نفسه مجبراً على مراجعة مواقفه وتغيير بعضها ليواكب المتغيرات المحلية والإقليمية الكبيرة.
استبعد الحزب الخيارَ الأوّل تجنّباً لردّ فعل حلفاء إسرائيل الغربيين، خاصّةً الولايات المتحدة، وخشية دخولهم الحرب مباشرةً. واستُبعِد الخيار الثاني لما يعنيه من تخلّيه عن شعاراته وأدبياته التي حَمَلها منذ التأسيس وعن دوره في محور المقاومة. حاول الحزب الخروجَ من ضيق الخيارين بخيارٍ ثالثٍ، هو فتح "جبهة إسناد" كما وصفها نصر الله. أراد الحزب بذلك فتح جبهةٍ محدودةٍ في أراضي مزارع شبعا تربك إسرائيل وتساعد الفلسطينيين في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، من غير أن تتطور لحربٍ شاملة.
اختار حزب الله حرب الإسناد بناءً على تقديره للظرفَين، السياسي والعسكري. في حديثه مع الفِراتْس قال غالب أبو زينب، عضو المجلس السياسي للحزب، إن الرأي استقرّ على عدم الدخول في معركةٍ مفتوحةٍ "لأن الصورة في تلك اللحظة كانت تظهر تحرّكَ الأسطول الأمريكي والدول الغربية" ظنّاً منها أن محور المقاومة يقود هجوماً منسقاً شاملاً على إسرائيل.
ويضيف الصحافي قاسم قصير، المقرّب من حزب الله، أن قياديَّين في الحزب أخبروه أن الحزب قد يحقّق بعض الإنجازات العسكرية التكتيكية مثل الدخول إلى مناطق في إسرائيل إذا فتح جبهةً كاملةً. ولكن ذلك سيحوّل الحرب المحدودة حرباً كبرى تدخل فيها القوى الغربية مباشرةً. ساهم الموقف الإيراني في قرار الحزب الاقتصارَ على حرب الإسناد. بحسب قصير، رأت إيران في سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سعياً للحرب الشاملة التي تضطر الولايات المتحدة للتدخل العسكري المباشر، فأرادت تجنّبها. ويؤكد الصحافي المقرّب من الحزب حسين مرتضى ما قاله قصير. إذ يشير مرتضى لانتظار إيران "تقدير حزب الله لطبيعة المعركة وحجمها" مع حرصها وأركان محور المقاومة على تجنّب توسيع الحرب.
أسهَمَ العامل الداخليّ في تحديد موقف حزب الله أيضاً. فقد كانت مشاهد الدمار والتهجير التي شهدَتْها بلدات الجنوب وقُراه والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت في حرب 2006 مطبوعةً في أذهان مسؤولي الحزب. وبحسب أبو زينب، حاول الحزب تجنيبَ لبنان تكرار هذه المشاهد. وحالت الظروف الداخلية اللبنانية، كما يشير قصير، دون اكتمال التجهيز اللازم لخوض الحزب حرباً شاملة. عملية 7 أكتوبر والاستنفار الإسرائيلي الذي أعقبَها أفقدَت الحزبَ عنصرَ المفاجأة الذي يلزم للنجاح في الحرب الشاملة. ويروي مرتضى مشاركتَه في لقاءٍ خاصٍّ مع نصر الله قبل 7 أكتوبر بعدّة أشهرٍ تَمَحوَر حول "الحرب الاستراتيجية المقبلة". أثناء الاجتماع، شعر مرتضى أن "الحرب باتت قريبة". بَيْد أن الحرب التي أرادها نصر الله "كان يخطَّط لها من قِبل محور المقاومة"، أمّا "طوفان الأقصى" فكان مفاجأةً للحزب، الذي لم يعلم به ولم يشارك في التخطيط له.
لم يكن هذا الخيار محلَّ اتفاقٍ في الحزب أو في حاضنته. فبحسب مرتضى، الذي التقى أثناء حرب الإسناد بعضَ قادة الحزب، فقد أبلغه بعضهم اعتراضَه على حرب الإسناد وتأييده إمّا فتح الجبهة كاملةً أو عدم الدخول بحربِ استنزاف. ويؤكد مصدرٌ في الجناح السياسي للحزب (رفض ذكر اسمه لأسبابٍ أمنيةٍ، وسنشير إليه بالمصدر الخاص) أن قيادات الحزب اختلفت في مواقفها بسبب اختلاف مواقعها وخلفياتها العسكرية. فقد تبنّى حرب الإسناد فؤاد شكر، المشرف على القوة الصاروخية، التي يمكن استخدامها للضغط على إسرائيل وتفادي الخسائر البشرية الكبيرة. فيما تبنّى فتحَ الجبهة كاملةً إبراهيم عقيل، قائد قوة الرضوان الهجومية والتي أُسست بهدف تنفيذ عمليات اقتحام وعمليات خلف خطوط العدو. كان رأي نصر الله هو العامل المرجّح في اختيار حرب الإسناد، بحسب المصدر نفسه.
استند الحزب إلى وجود ترسانة سلاحٍ يستطيع بها الضغط على إسرائيل لفرض شروط المعركة. وفقاً للمصدر الخاص، فإنّ الحزب كان يعتقد امتلاكه الإمكانات والقدرات العسكرية التي تمكّنه من تشكيل نوعٍ من التوازن في حال توسّع المواجهة. واستخدم الحزب هذه الأسلحة تصاعدياً للردّ على التصعيد الإسرائيلي وإجبار إسرائيل على التزام "قواعد الاشتباك". يعلّق أبو زينب على ذلك بقوله: "إنّ أيّ عدوٍّ يدرك أنك لا تريد توسيع المعركة سيكون مرتاحاً، علماً أنه كان قلقاً من جبهة لبنان لأنه رأى القدرات العسكرية لدى حزب الله بالكثير من الجدية. فكان هناك نوعٌ من النزال".
انتهج حزب الله سياساتٍ تستهدف إبقاء الحرب محدودة. فقد اقتصرت، بحسب أحد مقاتليه الذين التقتهم الفِراتْس، على إطلاق الصواريخ من الخطوط الأمامية المحاذية للحدود لحصر الردّ الإسرائيلي ضمن هذه البقعة الجغرافية دون الداخل اللبناني ذي الكثافة السكانية المرتفعة. ومع تجاوز إسرائيل هذه القاعدة وتوجيهها ضرباتٍ خارج خطوط المواجهة، ردّ الحزب بتوسيع ضرباته داخل إسرائيل. لكنه حرص مع ذلك على "أن تبقى الأمور مدروسةً بعنايةٍ شديدة"، فلا تزيد هجماته في الداخل إلى الحدّ الذي يؤدّي لحربٍ شاملة. إذ ظلّ الخطّ العام "أن نُبقي الأمور تحت الضغط".
يصرّ أبو زينب على صحّة فرضية عجز تل أبيب عن فتح أكثر من جبهة. ويرى أنها ضمن الأسس التي قامت عليها قرارات الحزب. ويدلّل على صحّتها بأن إسرائيل لم تشنّ حرباً واسعةً على لبنان، مع كلّ العبء الذي تشكّله هذه الجبهة، إلّا حين استنفذت كلّ "ما تستطيع أن تفعله في غزة ولم يعد هناك شيءٌ بغزة للقتال." أي إن هذه الفرضية أثبتت فعاليتها طوال الأحد عشر شهراً حين كان القتال محدوداً على الجبهة اللبنانية. وذلك قبل أن تتصاعد وتيرة القتال والهجمات المتبادلة، ثم استهداف إسرائيل قيادات الحزب في نهايات صيف سنة 2024.
أدرك حزب الله سريعاً عمق الاختراق الأمني الإسرائيلي. ومع الاستهداف شبه اليومي لعناصر الحزب، تصاعدت الأسئلة عن قدرة إسرائيل الوصول إلى عددٍ كبيرٍ من العناصر. أرجعت قيادات حزب الله حينئذٍ الاختراق الأمني إلى التفوق التقني. حينئذٍ التقى قصير قياديَّين بالحزب قالوا إن الحزب يراقب آلية المعركة ويلحظ الثغرات التي تبرز، خصوصاً الجانب التقني، ويحاول معالجتها. وفسّرت قيادات الحزب سهولة الاستهداف بمحدودية المساحة الجغرافية للمعركة، التي تسهّل لإسرائيل المراقبة.
يحكي مرتضى حادثتين تدلّان على مساهمة التقنية الإسرائيلية في اختراق الحزب. أولاهما عند مرافقته أحد عناصر الحزب في الخطوط الأمامية. يقول مرتضى إنه فَوْر استخدام العنصر جهازَ الاتصال، حاولت إحدى المروحيات الإسرائيلية استهدافَهما. أما الحادثة الثانية، فكانت حين نشر الإعلام الحربي للحزب مقطعاً لأحد العناصر يطلق نداءً معيّناً مع إطلاقه الصاروخ. تعقبت إسرائيل العنصرَ بعد ذلك ببصمةِ صوته واستهدفَتْه. فبدأ الإعلام الحربي يعدِّل أصواتَ العناصر قبل نشر مقاطع الفيديو. وأصدر الحزب قراراً بمنع بعض مسؤوليه من استخدام أجهزة الاتصال الصوتي وشبكاته، حتى الداخلي منها.
اعتمد حزب الله وسائلَ تخفّف حجم الاستهدافات. التقت الفِراتْس عنصراً في حزب الله قال إنّ الحزب حاول تدارك التفوق التقني، وإنّ اختراق إسرائيل اتصالاتِ الحزب جعل الأمر يبدو وكأن الحزب يستخدم في اتصالاته شبكةً إسرائيليةً لا شبكةً داخليةً طوّرها بنفسه ليؤمِّنها ضدّ الاختراق. حذّر نصر الله مراراً عناصرَ الحزب من استخدام الهواتف. وطلب من أصحاب المنازل التي تحتوي على كاميرات مراقبةٍ فصلَها عن شبكة الإنترنت. وبحسب المصدر الخاصّ، اتّخذ الحزب قراراً في الأشهر الأولى لحرب الإسناد بقَصْر التواصل بين المقاتلين على التبليغ الشفوي. إن كان بواسطة شخصٍ ثالثٍ أو عبر الكتابة على الورق.
وقد طوّرت إسرائيل أساليبها وطوّعت التقنية بسرعةٍ فاقت سرعةَ حزب الله على تغيير أساليب عمله. يلفت المصدر الخاصّ إلى أن حزب الله لم يستطع مواجهة التطور التقني الإسرائيلي بالسرعة المطلوبة. ويشير مع ذلك إلى تحقيقه بعض الإنجازات التكتيكية، مثل الاستمرار في إرسال المسيَّرات.
على أن الاختراق الأمني لم يكن تقنياً فحسب. إذ تبيّن لاحقاً أن إسرائيل كانت تملك ما هو أكثر من مجرّد أدواتٍ لتحقيق خرقٍ تقنيّ. فقد كانت تملك معلوماتٍ أمنيةً عن حزب الله عسكرياً وأمنياً، ما مكّنها من توجيه ضرباتٍ عسكريةً لمراكز الصواريخ وتنفيذ اغتيالاتٍ لمعظم قادة الصف الأول والثاني.
يشكِّك عناصر الحزب في دعوى إسرائيل تجنيدَ عملاء. وبحسب المصدر الخاصّ، فإن "جميع الروايات التي تتحدث عن الكشف عن عملاء في الصفوف القيادية لم تثبت لغاية الآن وتُحاط بسرّيةٍ عالية". أمّا عن سبب الاختراق الكبير، فهو المعلومات الهائلة التي جمعتها إسرائيل بسبب اختراق أجهزة اللاسلكي والبيجر، "التي تعاملت معها العناصر براحةٍ باعتبارها آمنةً وغير متصلةٍ بالإنترنت".
بدأ التصعيد الإسرائيلي سريعاً. في 30 يوليو استهدفت غارةٌ جويةٌ فؤاد شكر في بناءٍ قريبٍ من المصرف. ردّ الحزب على اغتيال قائده العسكري باستهداف قاعدة غليلوت العسكرية في ضواحي تل أبيب بعددٍ من المسيّرات ومعها ثلاثمئة وأربعون صاروخ كاتيوشا. لم يكن الردّ متناسباً مع حجم الضربة الإسرائيلية باغتيال أهمّ قياديٍّ تاريخيٍّ في الحزب. بحسب أبو زينب، أرادت بعض القيادات ردّاً أكبر. لكن اعتبارات "الوضع الداخلي ومعرفة انعكاساته الإقليمية والظروف المحيطة دولياً" حالت دون ذلك. إضافةً إلى الرغبة في الحفاظ على قواعد حرب الإسناد، حتى وإن لم تلتزمها إسرائيل، لتجنب المواجهة الشاملة.
لم تبادل إسرائيل حزبَ الله التزامَ قواعد حرب الإسناد. ففي الشهرين اللذين أعقبا اغتيال فؤاد شكر، نفّذت إسرائيل مجموعةً من الاغتيالات والعمليات النوعية المتصاعدة. بدأت العمليات باغتيال قادة وحدة الرضوان. ووصلت ذروتها في النصف الثاني من سبتمبر باغتيال القائدَين العسكريَّين إبراهيم قبيسي ومحمد سرور، ثم عملية تفجير أجهزة البيجر وبعدها أجهزة اللاسلكي، قبل اغتيال نصر الله في 27 سبتمبر واغتيال خليفته هاشم صفي الدين بعد أيام.
أربك التصعيد الإسرائيلي والاختراق الأمني حساباتِ حزب الله. بحسب المصدر الخاصّ، خطّط الحزب لاحتمال تغييب نصر الله بتجهيز صفي الدين لخلافته، وعايَش الأخير "كلّ تفاصيل المجلس الجهادي والمجلس التنفيذي" للحزب. ساعد ذلك في الحفاظ على النظام في الحزب بعد اغتيال نصر الله. حينها عرضت إيران على صفي الدين الانتقال إليها بغية تأمينه، إلّا أنه فضّل البقاء في غرفة العمليات لإدارة المعركة. وباغتياله "كُسِر ظهر حزب الله من الناحية التنظيمية". فكانت الأيام التالية "الأصعب والأشدّ خطورةً على الحزب" بسبب الفراغ الكبير الذي خلّفه في اتخاذ القرار وإدارة المعركة العسكرية. تجلّى الارتباك، بحسب المصدر، في تراجع وتيرة إطلاق الصواريخ قبل أن يقرّر مسؤولو الوحدات والبقع العسكرية ضمنياً المبادرة بإطلاق الصواريخ دون انتظار توجيهات القيادة متى سمحت الظروف بذلك.
مرّت أيامٌ قبل أن يستعيد حزب الله توازنه. بعد نحو عشرة أيامٍ من اغتيال صفي الدين، تمكّن أعضاء المجلس الجهادي الناجون من خلق آليّة تواصلٍ بينهم وبين قادة المحاور. أمّا قادة الوحدات في المناطق الحدودية فلم يتّصلوا بالقيادات بانتظامٍ، لكنهم حافظوا على آليّة تواصلٍ فيما بينهم وأداروا المعركة بناءً على تقديرهم للموقف. بعد نحو أسبوعين من اغتيال صفي الدين التقيتُ نائباً في البرلمان اللبناني له علاقات بالدوائر الغربية والسفارات الأجنبية في بيروت، فضّل عدم ذكر اسمِه. ينقل النائب عن الدوائر الغربية والسفارات أنها تقدّر أن الحزب "يمتلك قدراتٍ عسكريةً تمكّنه من إعادة تنظيم هرميّته"، بدليل أنه لم يطلق صواريخ بعددٍ "مبالَغٍ به" ردّاً على استهداف قياداته، وبدليل نجاحه في صدّ التوغلات الإسرائيلية.
حافظ الحزب على موقفه طيلة حرب الإسناد. يؤكّد مرتضى تلقّيَ الحزب رسائلَ أمريكيةً غير مباشرةٍ تدعو لوقف الحرب، وتدّعي أن ذلك سيُسهِم في توقّفها في غزة. حينئذٍ لم يبدِ الحزب أيَّ مرونةٍ للمطالب الأمريكية، لاستبعاده فتحَ إسرائيل أكثر من جبهةٍ في وقتٍ واحد. ويلفت مرتضى إلى أن اغتيال نصر الله جاء في اجتماعٍ عقده مع عددٍ من المسؤولين العسكريين لإبلاغهم بوقف المعركة، وهو لهذا يَعدّ النداءَ الدولي لوقف الحرب "خديعة إسرائيلية" استهدفت طمأنة الحزب في حين كانت إسرائيل تخطّط لتوسيع عملياتها العسكرية.
تغيّرَت مواقف الأطراف مع تغيّر موازين القوى على الأرض. بعد تنفيذ إسرائيل سلسلةَ العمليات النوعية من تفجيرات أجهزة البيجر ثمّ أجهزة اللاسلكي، اضطر حزب الله إلى التراجع والقبول بالنداء الصادر عن عددٍ من الدول الغربية والعربية بوقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار. بحسب أبو زينب، فرضت التطورات على الأرض واقعاً جديداً أدرك الحزب معه أن تغيير المعطَيات في غزة المدمَّرة بالكامل لم يعد ممكناً، لأنه لم يَبْقَ فيها من الأهداف العسكرية ما يمكن التفاوض عليه. في تلك اللحظة أدرك الحزب أنه يخوض حرباً غير متكافئةٍ والاستمرار بها سيجلب مزيداً من الخسائر. فقرّر التوقف عنها بعد أن "قام بمهمّته، بصرف النظر عن نجاحها أو عدم نجاحها، إذ أن ذلك مرتبطٌ بمعطياتٍ خارج سيطرتنا".
محاولة بعض القيادات تجنّب النقد العلني لا تعني غياب المراجعة. يروي المصدر الخاصّ "أن الخلاصات التي يحاول حزب الله الوصول إليها تشمل جميع نواحي الحرب، وتركّز على الشقّ المرتبط بالثغرات العسكرية والأمنية أكثر من ارتباطها بقرار الدخول في حرب الإسناد. وأحد المؤشرات على ذلك هو عدم قدرة إسرائيل على تنفيذ اغتيالات لقياديين عسكريين من الصفوف الأولى بعد انتهاء الحرب". ويؤكد المصدر أن الحزب بدأ منذ فترةٍ تعييناتٍ جديدةً في مراتب القيادة العليا في إطار ما سمّاه "خطة التعافي وإعادة النهوض".
هذه المراجعة يفرضها تغيّر الأوضاع الإقليمية. تضاعفت خسائر الحزب في الحرب مع سقوط نظام بشار الأسد، حليفه الإقليمي الذي وفّر له خطّ إمدادٍ وإسنادٍ خلفيّ. يعترف أبو زينب بحجم هذه الخسارة معتبراً أن التعويض عن ذلك لن يكون بسهولةٍ ولا بالحجم نفسه.
على أن هذه المتغيرات لم تحوّل بوصلة الحزب. يؤكّد كلّ من التقتهم الفِراتْس أن الثابت لدى حزب الله هو استمرار مقارعته إسرائيل بصرف النظر عن حجم القوة بين الطرفين، وإن اختلف شكل المواجهة. فيقول أبو زينب إن المعطيات التي يملكها هي التي ترسم محدّدات العمل، "فوجود خطوط إمدادٍ يختلف عن غياب هذه الخطوط. وكلّ مرحلةٍ لها مقتضياتها. ولكن يبقى الأساس هو اعتبار إسرائيل عدوّاً وينبغي منعها من استباحة لبنان". ويضيف أن الحزب مثل كلّ اللبنانيين "يراهن في الوقت الحالي على المسار الدبلوماسي"، مع معرفته أن هذا المسار لا يمكن الاتكاء عليه بالكامل، وأن "الصيغ القتالية للمقاومة تتغير حسب الظروف".
بالتوازي مع ذلك بدأت تتشكل ملامح خطابٍ جديدٍ للحزب، تُقدِّم الانخراط في المسائل الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على "حماية ظهر المقاومة". تصرّ بعض القيادات أن التوجه ليس جديداً. فيشير أبو زينب للوثيقة السياسية التي أطلقها الحزب سنة 2009، والتي ركّز فيها على الواقع اللبناني. ويفسر تهميشها في السنوات التالية بانشغال الحزب بالتطورات الإقليمية، مثل انخراط الحزب عسكرياً وسياسياً في سوريا، والحصار الأمريكي على لبنان سنة 2016 واتساع رقعة الضغوط الأمريكية على الحزب. ويلفت أبو زينب إلى أنه بعد انتهاء الحرب وانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ووضع الأخير برنامج عملٍ يرتكز على استكمال تنفيذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، "نرى أنه هناك إمكانيةٌ في هذه اللحظة السياسية للذهاب بعمليةٍ إصلاحيةٍ ونحن نريد مواكبتها بقوّة".
وعن مستقبل سلاح حزب الله، يوضح المصدر الخاصّ أن رؤية الحزب ترتكز على قاعدة أن السلاح سيبقى حاجةً قائمةً في ظلّ استمرار المشروع الإسرائيلي. "إلّا أنه سيكون منفتحاً على النقاش الداخلي حول الإستراتيجية الدفاعية وهو بصدد إعداد رؤيته لها. وهذا ما تبيّن من خلال الإعلان عن فتح حوارٍ بين رئيس الجمهورية جوزيف عون وحزب الله حول حصرية السلاح بيد الدولة في كلّ لبنان، وتأكيد عون أن الحزب متعاونٌ في ذلك".
في تقييمه لكلّ تلك الحرب، يقول أبو زينب إنه "في لحظةٍ واحدةٍ تغيّر وجه المنطقة، وهي لحظة السابع من أكتوبر، ممّا أدّى لتردّداتٍ سلبيةٍ وإيجابية. منها ما كان متوقعاً وآخر لم يكن متوقعاً. فكان هناك وضع قائم حرَّكه السابع من أكتوبر، وبعض نتائج ذلك كانت كارثية وحافلة بأحداث قاسية جداً. يمكن القول إنها من أقسى ما يمكن أن يمرّ".
تدرك الشخصيات الذين التقتهم الفِراتْس أن حزب الله بات في موقعٍ مختلفٍ عمّا كان عليه قبل "حرب الإسناد". ويمكن استنتاج ذلك من ابتعادهم عن المفردات التي كانت متلازمةً لحديث أنصار الحزب قبل الحرب. ومن ذلك مفردات "وحدة الساحات" و"القدرة العسكرية الهائلة" وصولاً إلى "عدم جرأة إسرائيل على مواجهة الحزب". إلّا أن الثابت لدى كلّ هؤلاء أن إسرائيل عدوٌّ ينبغي مقارعته، وإن كان بطريقةٍ مختلفةٍ للمقاومة، سواءً فكرياً أو إعلامياً. ولعلّ التحدّي الأكبر أمام الحزب في المرحلة المقبلة بلورة هذا الشكل في وقتٍ تتزايد دعوات التطبيع المترافقة مع ضغوطٍ داخليةٍ وخارجيةٍ في عدّة ملفّاتٍ، وفي مقدّمتها إعادة الإعمار وحصر السلاح بيد الدولة.
