بعد ثلاثة أيامٍ من انفجار أجهزة "البيجر" في لبنان، قابلتُ شخصاً أعلمُ أنه يَستعمل جهازَ بيجر، بحكم انتمائه إلى حزب الله. بادرتُ بسؤاله عن تفاصيل الحادث وكيف نجا، ليردَّ عليَّ بتهكّم: "اللي بيقلّك انّو التدخين بيقتل، قلّو كذّاب" موجِزاً قصّةَ تركِه جهازَ البيجر قبل ثوانٍ من انفجاره على مكتبه، ليدخّن على الشرفة سيجارةً كانت حبلَ نجاتِه.
شهد حزب الله ذلك اليوم أكبرَ اختراقٍ لمنظومة اتصالاته بتفجير آلاف أجهزة البيجر التي يستعملها عناصرُه للتواصل، في عمليةٍ أوردت وكالاتُ أنباءٍ مثل رويترز أنَّ الموساد الإسرائيليّ نفّذها مستهدِفاً إيقاعَ أكبرِ عددٍ من الإصابات في صفوف حزب الله، بغضّ النظر عن الكلفة العالية في صفوف المدنيّين، ليصل عددُ الجرحى إلى 3250 مصاباً. وتجدّد عند كثيرٍ من اللبنانيين شعورهم القديم بانعدامِ الأمان، وضبابية المستقبل أمامهم.
توالَت الأخبار عن أمرٍ غريبٍ في البلاد، ولم يجد أحدٌ تفسيراً منطقياً له. عشرات الإصابات في مناطق مختلفةٍ وفي لحظةٍ واحدةٍ. انتشرت الشائعات في تفسير ما يجري، ما بين خبرٍ يحكي عن عمليات إطلاق نار من مجموعة مسلحة مرتبطة بإسرائيل، وآخر تصدّر مجموعات واتساب يروي عن حالات انتحار جماعي في مناطق متفرقة.
دبَّ الرعبُ بين اللبنانيّين مع توارد الأخبار عن الإصابات في الضاحية الجنوبية لبيروت ومحافظتَي الجنوب والبقاع، حيثُ معاقل حزب الله الذي يخوض مواجهةً شرسةً مع الجيش الإسرائيلي منذ 8 أكتوبر 2023. تحدّثتُ مع محمد (33 سنة)، المقيم في الضاحية الجنوبية، وأخبرني عن تجربته في ذلك اليوم "المشؤوم" كما يصفُه، إذ انتابته التوتر والذعر والصدمة ممّا يحدث، ولم يستوعب حينها ما يحصل من حوله.
كان محمد لحظةَ الانفجار أمامَ التلفاز. وقبل أن تتداعى أصواتُ سيارات الإسعاف خرج إلى المقهى الذي يزوره عادةً رفقةَ أصدقائه حائرين متسائلين عن الضحية التالية بعد أن علموا بإصابة عددٍ من أصدقائهم. وأمام هذا الغموض سلّموا جميعاً بأن شيئاً عظيماً ومخيفاً يحدث، فسيارات الإسعاف لا تبرح تنقل المصابين إلى المستشفيات، والدعوات إلى التبرع بالدم انتشرت بسرعةٍ ومعها مقاطع مصوّرةٌ لمصابين مُمَدَّدين في الشوارع والمحالّ التجارية.
وفي شارعٍ آخَر من الضاحية الجنوبية، كان ميكانيكيُّ السيارات حسين (28 سنة) يتسوّق في محلٍّ للخضار حين سُمع صراخُ رجلٍ فظنّ الناسُ أن شخصاً ما أَطلقَ عليه الرصاص. سارعَ حسين ومَن حوله لنقل الشابّ المصابِ إلى إحدى المستشفيات القريبة، وسط صرخاته، ليتفاجأ الجميع بتوافد أعدادٍ كبيرةٍ على المستشفى بحالاتٍ مماثلةٍ من إصاباتٍ في الوجه واليدين.
روى لي صديقي أحمد الذي زار قريباً له في المستشفى بعد أن أُصيب من انفجار جهاز البيجر الذي يستخدمه، أنّ كلّ ما تمنّاه هذا الشابّ العامل في تجارة التبغ، أن يتمكن من علاج بعضِ نظرِه في عينِه اليُسرى، بعد أن أَحَسَّ أنّه ما زال يشعر بها، آملاً أن يتمكّن من رؤية زوجته وابنته الوحيدة. سافرَ هذا الشابّ بعدَ أيامٍ إلى إيران لاستكمال علاجه مع عشرات الحالات المنقولة إلى العراق وإيران، ولكن بعد أقلّ من شهرٍ على إصابته، مات الشابّ في أثناء عمليةٍ جراحية.
أبدَت إيران والعراق إثرَ الحادثة استعدادَهما لاستقبال عددٍ من الجرحى لعلاجهم، وأرسلوا فِرَقاً طبّيةً وموادّ إغاثية. وذلك بسبب العلاقة الوثيقة بحزب الله، عدا عن الخوف من عجز القطاع الطبي في لبنان عن استيعاب عدد الجرحى الكبير، مع شعور الجميع بإمكانية تصاعد الضربات الإسرائيلية. وتحدَّث بعضُهم عن البُعد الأمنيّ الذي يفرض إخراج بعض الجرحى من لبنان خوفاً من الكشف عن هويّاتهم نظراً لمواقعهم الحساسة في الحزب.
غداةَ الهجمات، شهدت البلادُ موجةً ثانيةً من تفجيرات أجهزة اتصالٍ لاسلكيةٍ محمولةٍ من نوع "ووكي توكي آيكوم"، يستخدمها عناصر حزب الله أيضاً. أسفرت الهجمات عن سبعة وثلاثين قتيلاً، بينهم طفلان، وإصابة آلاف الجرحى، لم يتحدد العدد لعدم وجود رقمٍ رسميٍّ نهائيٍّ، كما صرَّح وزير الصحّة اللبناني فراس الأبيض، الذي قال إنّ الانفجار لم يكن محصوراً بأجهزة بيجر عناصر حزب الله. وذكر الوزير أنَّ مِن القتلى أربعةً يعملون في القطاع الصحّي بمستشفياتٍ خاصّةٍ، وكان بحوزتهم أجهزة بيجر وتُوفّوا إثر انفجارها.
ذَكّرَ يومُ البيجر اللبنانيين بمآسٍ قديمةٍ شهدتها البلاد، وبخاصّةٍ يوم 4 أغسطس 2020 الذي شهد انفجاراً ضخماً وقع على مَرّتَيْن في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، مُوقِعاً نحوَ سبعة آلاف جريحٍ ومودياً بحياة أكثر من مئتين وثمانية عشر شخصاً، من بينهم مفقودون لم يُعثَر لهم على أثرٍ حتّى اليوم، فضلاً عن تدمير أحياءٍ كاملةٍ محاذيةٍ للمرفأ وتضرّر الواجهات الزجاجية للمباني والمنازل في معظم أحياء العاصمة اللبنانية. يتخطّى تشابُه الحادثَيْن محضَ وقوعِهما في دقائق معدودةٍ وما نتج عنهما من آلاف الإصابات وذكرياتٍ حُفِرت في أذهان اللبنانيين مخلّفةً صدماتٍ يصعب التخلّص منها، إذ أنّ لبنانيِّين كثراً يَعُدّون الحدثَيْن "نفس الصناعة"، في إشارةٍ إلى ضلوعِ إسرائيل في انفجارَي المرفأِ ويومِ البيجر.
في حديثٍ مع مجلة الفِراتْس، يقارِن الطبيبُ جهاد سعادة، المديرُ العامّ لمستشفى رفيق الحريري الجامعي، بين ما شهده القطاعُ الطبيّ في الحرب الأهلية والحرب الحاليّة، أثناء الحرب الأهلية كانت العاصمة اللبنانية مقسّمةً إلى شطرَيْن، شرقيةٍ وغربيةٍ، وكان القصف العشوائي بين الطرفين سيّدَ الموقف، فضلاً عن السيارات المفخّخة التي انتشرت حينها مستهدفةً المدنيين وقلّما استهدفت المقاتلين. أمّا العدوان الإسرائيلي الحاليّ فما زال إلى حدٍّ بعيدٍ مُحدَّدَ الجغرافيّةِ، مع خروقاتٍ، وليس مفتوحاً على مصراعَيْه مثل العدوان على غزّة. وهذا الوضع يسمح بنقل الطواقم الطبّية والمصابين من المستشفيات في مناطق الاستهداف إلى مستشفياتٍ في مناطق آمنةٍ. ولِلاستعداداتِ والخبرةِ أثرٌ أساسيٌّ في التعامل مع هذا التحدّي.
ويروي جهاد سعادة كيف مَرَّ عليه يومُ البيجر الذي "تفنّن فيه الإسرائيليّ في الإجرام". فعند الساعة الثالثة والنصف كان في مستشفى الجامعة الأمريكية وسط العاصمة. ولاحَظَ وصولَ كثيرٍ من سيارات الإسعاف تُقِلُّ المصابِين. وأَدرَكَ أن حدثاً غيرَ طبيعيٍّ وَقَعَ، خاصّةً أنّ مستشفاه نادراً ما يَستقبِل إصاباتٍ حربية. ولاحظ الطبيبُ أن 90 بالمئة من الإصابات في الوجه واليدين، وأنَّ 10 بالمئة فقط في الخاصرة، حسب موقع البيجر من جسمِ حاملِه لحظةَ الانفجار. تحرّك جهاد مُسرعاً إلى المستشفى الذي يديره، مستشفى الحريري، والطرقات خاليةٌ أمامه خلاف العادة، فقد توجّه المواطنون إلى منازلهم. ومع وصوله باشَرَ تنظيمَ العمل وفقَ الخطّة الموضوعة والمدرّب عليها. ويأسف الطبيب أن معظم الحالات التي شهدها المستشفى "فقدَت البصرَ في كِلتا العينين وليس في عينٍ واحدةٍ فحسب"، ثمّ يفتخر بأن المستشفى لم تشهد حالةَ بترٍ للأصابع، في حين أن "بعض المستشفيات الأخرى كانت تلجأ للبتر بشكلٍ مبالَغٍ فيه".
يخبرني الممرّض محمد شعيتو بأكثرِ ما أثّر به يومَها. إذ كان في منزله، ومع الأخبار نزل من بيته إلى عمله في مستشفى ببيروت. وما إن وطأت قدماه أرضَ المستشفى بدأ وصولُ المصابين تباعاً. عشرات الجرحى في قسم الطوارئ يستجدونه إعطاءهم المسكّنات، فكلُّ من يصل إلى المستشفى يقول "افعلْ ما تشاء ولكن أَوقِف الألمَ". انطبع هذا المشهد المتكرر في عقل محمد، ولا يَتصوَّر أن ينساه. أخذَ نفساً عميقاً وحَمِدَ اللهَ أنّه لم يُصادِف أيَّ إصابةٍ لطفلٍ تُضاعِفُ آلامَهُ من ذلك اليوم. ويَسترجِع محمد الخيباتِ الكثيرةَ التي مرّت عليه فيه عمله بالتمريض منذ سنة 2007. فقد شهد أحداثاً كثيرةً وقعت فيها عشرات الإصابات من تفجيراتٍ مُختلفةٍ، إلّا أن حادثة انفجار أجهزة البيجر لها خصوصيةٌ عنده لتشابه الإصابات وأعدادها الكبيرة.
حاولتُ معرفةَ أعداد الذين استقبَلَهم مستشفى الحريري، أكبرُ مستشفىً حكوميٍّ في لبنان. ولكن اصطدمتُ بتعليمات وزارة الصحّة للمستشفيات بعدم الإفصاح عن الأرقام، بحجّةِ أن بعض المصابين تنقّلوا بين أكثر من مستشفى، ويمكن أن تُضخَّم أعدادهم إذا تكرّر حسابُ الإصابات. وطبعاً لا يخفى أن لهذه التعليمات جانباً أمنيّاً بتفضيل عدم الكشف عن أعداد الأشخاص الذين تمكّن الاحتلال من "إعطابهم" وإبعادهم عن المعركة. وكلمة "إعطابهم"، بما فيها من دلالةٍ على نتائج التفجير على مقاتلي الحزب، استُخدِمَت مؤخّراً بكثرةٍ لوصف جرحى يوم انفجار البيجر، فهؤلاء كانوا سيلتحقون بصفوف حزب الله إذا توسّعت المواجهات، لكنَّ إسرائيل أبعدتهم عن ساحة المعركة بعد إصابات الأيدي والعيون.
أعدادُ المصابين الكبيرةُ وَضَعَت القطاعَ الصحّيَّ والطواقمَ الطبّيّةَ أمام الامتحان الجِدِّيِّ الأوّلِ منذ بداية الحرب. فكثيراً ما عَدَّ اللبنانيون بلدَهم "مستشفى الشرق" وقِبلة مواطني الدول العربية الباحثين عن الخدمات الطبّية الممتازة. أصبح قطاع البلد الصحّي يُعاني أزماتٍ متواصلةً، بخاصّةٍ بعد الأزمة الاقتصادية نهاية سنة 2019 التي كلّفَته كثيراً من الكوادر البشرية. فقد هاجَرَ منذئذٍ وحتى بداية سنة 2023 نحو ثلاثة آلافٍ وخمسمئة طبيبٍ، أي نحو 25 إلى 30 بالمئة من أطبّاء البلاد، وفقاً لتصريحاتٍ سابقةٍ لنقيب الأطباء يوسف بخاش.
ثمّ أوردت تقاريرُ جديدةٌ أنّ نحو 50 بالمئة من الأطباء المهاجرين عادوا منذ مطلع الصيف الماضي، ولكنّ آثار الأزمة الاقتصادية ما زالت ظاهرةً على القطاع الصحّي وعمله. والمستشفيات الحكومية، ولاسيّما الجامعية منها، ستواجه في الغالب ضغطاً هائلاً بفعل العدوان الإسرائيلي في وقتٍ تُعاني فيه من محدودية الموارد المادية.
كان لا بدّ للقطاع الطبّي أن يتصرّف بالمُتاح مع إصابات انفجارات البيجر. ويُجمِع كلُّ من التقيتُهم مِن عاملِين في القطاع الطبّيِّ أنّه مِن شبه المستحيل أن يحتوي بلدٌ بحجم لبنان على عدد أطباء عيونٍ يمكنهم التعامل مع هذا العدد الهائل من المصابين دفعةً واحدة. وخلاف المعتاد في عمل أقسام الطوارئ، إذ الأولوية والحاجة الماسّة لتدخّلٍ سريعٍ لأطباء الجراحة العامّة أو الشرايين أو العظام، جاءت الإصابات في يوم البيجر لتضع أطباءَ العيون في صدارة المشهد، على أعدادهم الضئيلة في المستشفيات. وخَفَّف هذا الضغطَ إمكانيةُ تأجيل هذه العمليات الجراحية بعد إعطاء المُصابين جرعاتٍ من المسكّنات، ممّا سَمَحَ للأطباء بجدولة العمليات تباعاً وتنفيذها حتى ساعاتٍ متأخّرةٍ من الليل. وبالتوازي أُعيدَ توزيعُ المصابين بين المستشفيات، ونُقِل عددٌ كبير منهم غدوةً إلى العراق وإيران وسوريا.
تدرّبَت الطواقم الطبّية اللبنانية ميدانياً بتعاونٍ مع وزارة الصحة لرفع جاهزيتها للتعامل مع عددٍ كبيرٍ من الإصابات. ومع الخبرة الكبيرة لهذه الطواقم في التعامل مع الحروب والأحداث الدموية، إلّا أنّ الصعوبة استمرّت عند تنظيم التعامل مع الجرحى، أي إخلاء قسم الطوارئ سريعاً لاستقبال جرحى جُددٍ، وهو إجراءٌ تدرّبَت عليه عدّة مستشفياتٍ لبنانيةٍ منذ بدء الحرب على غزّة، وفقاً للطبيب جهاد سعادة. ولكنّ لقدرات الطبّ والأطباء حدودٌ. ومع التعامل الناجح مع الأزمة، برأيِ الطبيب أنطوان زغبي، مسؤول قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو، إلّا أنّ "نجاحنا يقف عند فقدان البصر لعددٍ كبيرٍ من المصابين الذين لم نتمكّن من فِعل أيّ شيءٍ لهم"، مع مشاركة مئة مؤسّسةٍ صحّيةٍ في استقبال المصابين.
وربما ينتظرُ هذا القطاعَ مستقبلٌ سوداويٌّ إذا اشتدّت الهجمات الإسرائيلية على لبنان، مثلما جرى في مستشفيات قطاع غزة من قصفٍ متعمّدٍ وتدميرٍ وإخلاءٍ إجباريٍّ للمرضى والأطبّاء. ويؤكّدُ لي جهاد سعادة أن التجهيزاتِ اللازمةَ من مستلزماتٍ طبّيةٍ وأولويةٍ وملاجئ ــ وإنْ توفّرَت الآن ــ تظلُّ محدودةً بقدراتٍ استيعابيةٍ مُعيّنةٍ، وتصبح احتياجاتٌ مثل استيعاب خمسينَ جريحاً يومياً مدّة خمسة عشر يوماً تحدّياً ضاغطاً للمنظومة الطبية. وفي حال استهداف مراكز إيواء اللاجئين وما يَنتج عنها من مئات الإصابات فسنكون أمام "مجازر متنقلة" يصعب على المنظومة الصحّية التعامل معها، كما يقول الطبيب جهاد سعادة.
السوادُ الأعظمُ من المصابين في ريعان الشباب. ولأنّ قوَّة انفجار البيجر محدودةٌ، فضررُها ليس حتماً في مُحيط المستهدَف القريب ما لم يلاصقوه. وبما أن لكلّ قاعدةٍ استثناءٌ فكان الاستثناءُ في إحدى الحالات مقتلَ طفلين في التفجير. وهذه حالةٌ أخبرني عنها الطبيبُ أنطوان زغبي، وذكر أن إحدى الحالات الصعبة التي وصلته كانت طفلةً مُصابةً برأسها، إذ انفجر الجهازُ وهي تُناوله لوالدها، ولكنها نَجَت.
وأمام هذا المشهد تتداعى الخواطر والأفكار في أذهان اللبنانيين عن المستقبل ومصير من فَقَدَ بصرَه أو أصابعه أو كليهما. تحوّل هؤلاء في لحظةٍ واحدةٍ من كَسَبةٍ يُعيلون عائلاتهم إلى عاجزين محتاجين المساعدة لقضاء حاجاتهم. يسترجع أمامي الطبيب جهاد سعادة حالةَ ثلاثة أشقّاء فقدوا البصرَ إلى الأبد، مع ما تحمله هذه الصورة من معاناةٍ لهم و لعائلاتهم.
في ذلك الثلاثاء وَجَدَت أمّهاتٌ كُثُرٌ أنفسَهنّ في موقفٍ صعب. تحدَّثتُ مع ريم (47 سنة)، وهي أمٌّ انفجرَت بالبكاء طويلاً أمام العائلة بعدما وصلها خبرُ إصابة قريبها بانفجار. هذا المشهد أثّر على ابنتها ذات الثمانية أعوامٍ التي سيطر عليها الخوفُ لما رأته في وسائل الإعلام. مثلُها مريم (50 سنة) وهي والدةٌ لطفلين. صعب عليها شرحُ أحداث ذلك اليوم لأبنائها، وتقول إنَّ "المشاهد التي تصدرت وسائل الإعلام وصلت إلى أبنائي، وباتت الأسئلة التي يطرحونها أمراً لا مفرّ منه". وتشعرُ مريم بالحيرة أمام هذا الموقف الذي يصعب شرحه لأطفالٍ لا يتجاوز أكبرُهم اثنا عشرة عاماً، وتسعى جاهدةً إلى عزلهما عن الأحداث حولهما، وما يتبعها من ألمٍ وصدمةٍ من المشاهد التي تنقلها وسائل الإعلام.
هذا التتابع السريع للأحداث جعل خبرَ إصابةٍ أو مصرعٍ أحد الأقارب أو الأصدقاء أمراً مقبولاً، أو يكاد يكون طبيعياً. وهكذا استقبلَت زينب (12 سنة) من بلدة الغبيري في الضاحية الجنوبية في بيروت، خبرَ استشهاد زميلتها في صفّ الدراسة. تخبرني أختها الكبرى نانسي أنّها حاولت عزلَها قدرَ الإمكان عن الحرب ومآسيها، ولكنّ "حرب إسرائيل لا تُوفّر أحداً، صغيراً أو كبيراً. بالنسبة لهم كلّ ذلك أضرارٌ جانبيّةٌ، أمّا بالنسبة لنا فهي ضحيّةٌ أُخرى على طريق جرائم إسرائيل". زادَ خوف زينب على من تعرفهم، على أقاربها وأصدقائها وزملائها في الدراسة، وأصبح الموت حاضراً في حياتها. لم تكن زينب تكترث لإسرائيل قبل اليوم، ولم تكن تفهم قبل الآن معنى أن تكون تحت الاحتلال وأن تواجِهَ آلةَ قتلٍ يوميّ. أما اليوم، كما تقولُ أختها نانسي، فزينب هي "الأكثر إدراكاً بيننا أن من قَتَلَ زميلتَها وهجّر أهلَها ودمّر منازلَ أبناء بلدتها هو إسرائيل". تنتظر زينب العودةَ إلى المدرسة مع من تبقّى من زملائها. وتعرفُ الآن لماذا قد يغيبُ بعضهم عن مقاعدهم إلى الأبد.
ترى ريما بجاني، وهي استشاريةٌ لبنانيةٌ في علم النفس العلاجيّ، أنّ "هذا التطور جعل الجميعَ يشعر بعدم وجود حدودٍ أو ضوابط للحرب. ففي السابق كنّا نملك فكرةً مسبقةً عن سياق الحرب ومسارها. أما اليوم بِتنا في مرحلةٍ جديدةٍ لا يملك المواطنون تصوّراً عن كيفية التعامل معها"، وهذا الأمر ظهر جلياً في انفجارات البيجر. فحجم الهجوم وشكله أشعر المجتمع بانعدام الأمان والحماية. والحروبُ عادةً تخضع لقوانين وأعراف وقواعد تنظمها. أمّا الذي حدث في هذه التفجيرات فقد خَرَقَ المعادلةَ وأربك تصوّرات الجميع. وتقول ريما عن وجه التشابه بين انفجار المفرأ وعملية البيجر: "على الرغم من أن المستهدَف في انفجارات البيجر هم أشخاصٌ مُحدّدون، وفي حين أن المستهدفين في انفجار المرفأ كانوا مواطنين عشوائيين، إلّا أن كلا الانفجارين عزَّزَا الشعورَ بعدم الأمان الدائم".
وترى ريما أنَّ انعدام الأمان والاستقرار ليس شعوراً جديداً على أهل لبنان. فالبلاد لم تمرّ منذ أكثر من خمسينَ عاماً بحالةٍ من الهدوء والاستقرار الأمنيّ أو الاقتصاديّ. وحتّى في السنوات النادرة التي تُعَدّ "مستقرّة"، مثل سنتَي 2009 و2010 ومع الاستقرار السياسي والمالي الطفيف، إلا أنّ المجتمعَ اللبناني مرَّ بمشاكل كبيرة. وترى بجاني أيضاً أنّ العنف الهائل المتولّد عن أحداثٍ مُفاجئةٍ في مناطق مختلفةٍ وأوقاتٍ زمنيةٍ متفرقةٍ انعكسَ على حياة اللبنانيين وأثقلَهم بتداعياتٍ نفسيةٍ متراكمة.
وعلى كثرة الأزمات والحروب التي عايشها اللبنانيون، إلّا أن حادثتَي انفجار المرفأ وتفجير البيجر صَبَغَتا الحالةَ النفسيةَ للّبنانيِّين، وجعلَتهم في صراعٍ دائمٍ ومستمرٍّ مع شعور الخوف. فمصدرُ الموت غيرُ متوقّع، كما حدث مع ضحايا البيجر. وهذا ما عاينه اللبنانيون في عشرات القصص لضحايا المرفأ الذين كان قَدَرُهم أن يكونوا قريبين من مكان الحدث، لتطغى فكرةٌ جالت على مخيّلة معظم اللبنانيين: "ماذا لو كنتُ أنا وعائلتي في مكانٍ قريبٍ من المرفأ؟". هذه العبارة عادت لتظهر من جديدٍ مع القصف الإسرائيلي الذي طال المدنيين، وحتّى النازحين منهم، الذين هرعوا إلى أماكن يظنّونها آمنة. وهكذا، باتت احتماليةُ "الموت المفاجئ" طاغيةً في عقل المواطن اللبناني.
وقد تركّزت التغطية الصحفية لتفجيرات البيجر عالمياً، وعربياً إلى حدٍّ ما، على البُعد الأمنيّ والتقنيّ والخرق الاستخباراتيّ، وعن آثار التفجير المستقبلية على الحرب، مع أنَّ تبعات الحادث، على صعيد الخسائر البشرية وعلى المستوى النفسيّ، أشدّ من كلّ ذلك وأوسع، إذ أوصلت التفجيراتُ اللبنانيين إلى حالة فوضى نفسية.
والآن وأنا أكتبُ هذا المقال دوَّى صوتُ انفجارٍ كبير. وكالعادة نسرع للسؤال عن مكان الانفجار الذي بدا أقوى من الانفجارات السابقة، ما يعني أنّ الاستهداف أقربُ لقلب العاصمة وليس في ضاحيتها الجنوبية. وفي قلب العاصمة تعجّ الشوارع بالنازحين. ومهما يكن حجم الضربة أو موقعها، فقد علم الجميع أمراً واحداً مؤكّداً: كثيرٌ من الموت والدمار ينتظرنا، ولن تكون انفجاراتُ البيجر سوى محطّةٍ في بحرٍ من الدم.