الهوية التركية الجديدة بين أتراك المدن البيض وأتراك الأناضول السود

تشكلت الهوية التركية الجديدة من رحم الهجرة الريفية وصعود الفئات المهمّشة، لتعيد توزيع النفوذ بين نخبة المدن وطبقات الأناضول المحافظة.

Share
الهوية التركية الجديدة بين أتراك المدن البيض وأتراك الأناضول السود
شكّل أبناء المناطق المهمّشة طبقة جديدة عُرفت بِاسم "الأتراك السود | تصميم خاص بالفِراتْس

في محطة حيدر باشا العتيقة على ضفاف إسطنبول، يطلق قطارٌ قادمٌ من أعماق الأناضول أنفاسَه الأخيرة من البخار والصخب. يترجل الأب أولاً بخطوةٍ متردّدةٍ ليَعبر عتبةً بين عالَمَين. تلفح وجهَه نسمات البحر المالحة، فيرفع طرف قبعته قليلاً ليلقيَ التحيةَ على مدينةٍ طال انتظارها. خلفه مباشرةً أبناؤه الثلاثة يَخطون إلى الرصيف واحداً تلو الآخَر، وعيونهم معلقةٌ بدهشةٍ على قباب المدينة البعيدة ومآذنها. في أثرهم خرجت الأمّ تضمّ ذراع صغيرتها، تتلمس الأرض الجديدة تحت أقدامها كمن يستجمع ذكرى القرية في خطواتٍ حذرة.

هذه اللحظة السينمائية جاءت من مشهد الافتتاح في فيلم "غُرْبَتْ كوشْلاري" (طيور الغربة) للمخرج التركي خالد رفيق سنة 1964، مقتبساً من رواية أورهان كمال الصادرة بالعنوان نفسه سنة 1962. الفيلم أول عملٍ درامي في تاريخ السينما التركية، يتناول هجرة أبناء الريف الأناضولي إلى المدينة، وما رافقه من تحوّلٍ روحيٍّ وتحوّل بنيةِ العائلة. يُظهِر الفيلم قصةَ أسرةٍ أناضوليةٍ تنتقل إلى إسطنبول بحثاً عن حياةٍ أفضل، فتدخل في دوامةٍ من الفقر والضياع. بينما تتصدع علاقاتها تحت وطأة التحوّل من حياة القرية البسيطة إلى قسوة المدينة وغرابتها.

كما في الفيلم، مثّلت هجرة الأناضوليين الداخلية انفكاكاً من عالم الريف التقليدي ودخولاً قاسياً في متاهة التمدّن. اصطدمت قيم القرية بثقافة المدينة وتمازج الحنين بالاضطرار والطموح بالتيه. ففي خضمّ هذا التحوّل، صعد أبناء المناطق المهمّشة من أحياء الصفيح "القيجيكوندو" (البيوت التي بُنيت في ظلام ليلةٍ على عجالة) على أطراف المدن، ليشكّلوا طبقةً جديدةً عُرفت لاحقاً بِاسم "الأتراك السود". يقابلهم "الأتراك البيض"، أي النخبة العلمانية التي احتكرت حقبةً طويلةً، منذ صعود مصطفى كمال أتاتورك في العشرينيات، مواقعَ النفوذ والثقافة الرسمية في البلاد. حمل هؤلاء القادمون معهم لهجاتِهم الريفيةَ وعاداتِهم المحافِظةَ وفنونَهم الخاصّة، التي وجدت تعبيرها الأبرز في موسيقى "الأرابيسك" الحزينة، والتي واجهت رفضَ النخب الحداثية وإقصاءهم. ومع تراكم التجربة وتحوّل الأجيال، وصل بعض أبناء هذه الأحياء إلى مواقع القرار، ومنهم الرئيس رجب طيب أردوغان الذي خرج من أحد هذه الأحياء المهمشة في إسطنبول، والذي لا يجد حرجاً في بعض اللقاءات والخطابات من كونه "تركيّاً أسود". وأصبحوا محركاً من محركات الاقتصاد التركي، ليتحوّلوا من هامش الحياة التركية إلى مركزها. ومع هذا التحوّل، أعيدَ تشكيل الهوية التركية في العقود القليلة الماضية.


تعكس ثنائية الأتراك السود والأتراك البيض إحدى أكثر الاستعارات تداولاً في الخطاب السياسي والاجتماعي التركي المعاصر. تبلورت هذه المفاهيم في تسعينيات القرن العشرين عدسةً رمزيةً لفهم انقسامات الهوية والانتماء، لاسيّما في أعقاب الصعود السياسي المحافظ والتحولات نحو الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) التي تركّز على العدالة الاجتماعية والحرية الاقتصادية أكثر من الحريات الشخصية.

ظهر المصطلح بدايةً ساخرةً في كتاب الصحفي الراحل أوفوق غولدمير "تكساس مالاتيا" (تكساس مالاطيا) سنة 1992. فقد استخدم مصطلح "الأتراك البيض" للإشارة إلى النخبة الكمالية العلمانية التي رأت في صعود تورغوت أوزال، السياسي المتديّن من أصولٍ قرويةٍ، في بداية الثمانينيات تهديداً لنمطها التاريخي في الهيمنة الرمزية على الدولة والمجتمع.

رُسّخ هذا التصنيف الثنائي في الأدبيات السياسية والاجتماعية التركية. فالأتراك البيض هم أبناء النخبة الجمهورية، مزيجٌ من المسؤولين الإداريين والعسكريين والمثقفين، ورجال الأعمال المتعلّمين في المدن الساحلية. يحمل هؤلاء طابعاً حداثياً غربياً ويرون أنفسهم أوصياء على مشروع أتاتورك التحديثي الذي بدأه مع تولّيه السلطة بداية العشرينيات. فيما يمثل "الأتراك السود" الجماعات المحافظة القادمة من الأناضول للمدن والمراكز الحضرية الكبرى منذ منتصف القرن العشرين، وينحدرون غالباً من خلفياتٍ ريفيةٍ متديّنة. تراهم النخبة المدينية دخيلين ثقافياً ومتخلّفين طبقياً، وأقلَّ استحقاقاً لتمثيل الأمة.

يوضح مجاهد بيليجي، عالم الاجتماع في كلية جون جاي في نيويورك، في مقاله "بلاك توركس وايت توركس" (الأتراك السود والأتراك البيض) المنشور سنة 2009، أن هذه الثنائية لم تكن مجرد توصيفٍ اجتماعيٍّ بريء. فهو يرى أن ثنائية الأتراك السود والأتراك البيض تحوّلت إلى أداةٍ رمزيةٍ في معركةٍ سياسيةٍ لتلوين الانقسام الطبقي بصبغةٍ ثقافية. في هذه الحالة ينصّب التركي الأبيض نفسه مواطناً نموذجياً حاملاً قيمَ الحداثة والعقلانية، وحارساً للهوية التركية النقية. بينما يُحمَّل التركي الأسود رمزياتٍ مضادةً، وتُصوَّر جماهيره على أنّها داكنةٌ من غوغاء الضواحي ناقصي الذوق والانضباط، الذين يُخشى أن يفسدوا توازن الدولة والمجتمع.

ومع رواجها، إلّا أن مفكرين يساريين وأكاديميين نقدوا ثنائية الأتراك السود والأتراك البيض، واعتبروها تبسيطاً يطمس تعقيد الواقع. يقول الأكاديمي في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، أتيلا أيتكين، في مقالٍ بعنوان "بِياز تُرك" (الأتراك البيض) نشره بصحيفة "سول" (اليسار) سنة 2013 أن عبارة التركي الأبيض نشأت أصلاً مفهوماً زائفاً يشير إلى الطبقات المترفة والمستقرة مادياً في المجتمع، وبالتالي حمل مضموناً طبقياً. تبدّل هذا المعنى مع الوقت، وأصبح البعد الطبقي دلالةً ثقافيةً تُختزل في التركي العلماني الكمالي.

وكذا يَعُدّ كمال إنان، أحد مؤسسي حزب الشعوب الديمقراطي، أن ديدن هذه الثنائية احتقارٌ طبقيٌّ مقنَّعٌ بثوبٍ ثقافي. ففي مقاله "بِياز تُركلارين ديانيلماز إكتدارسيزليي" (عجزُ الأتراك البيض الذي لا يُطاق) سنة 2015، يوضح إنان أن هذه الفئة لا تبغض حزب العدالة والتنمية بسبب قادته السياسيين، وإنما بسبب ناخبيه من المسلمين المحافظين ونمط حياتهم اليومي. ويشير إلى أن هذا النفور يعكس ما يشبه كراهيةً ثقافيةً طبقيةً تظهر عند كلّ احتكاكٍ اجتماعيٍّ، وتعبّر عن صراعٍ دفينٍ بين طبقتين تختلفان في القيم والمظهر واللغة وأسلوب العيش.


في خمسينيات القرن العشرين، كانت تركيا تقف على حافة تحوّلٍ سكّانيٍّ غير مسبوق. ففي سهول الأناضول تكرّر مشهد الفلاحين المنهكين وهم يودّعون أرضاً لم تعد تطعمهم. وجوهٌ غطّاها تعب السنين بعدما أخفقت الزراعة التقليدية في مواكبة عجلة الاقتصاد والتحديث. زادها بؤساً حقولٌ أضناها الجفاف، وبطالةٌ وفقرٌ صارا واقعَ أبناء الريف. فشخصت عيون كثيرٍ من هؤلاء نحو المدن الكبرى تحاول أن تبصر خلاصاً. بدأت قوافل الهجرة الداخلية تشقّ طريقها إلى مدنٍ كإسطنبول وأنقرة وإزمير، لتكتب بداية فصلٍ جديدٍ في التاريخ الاجتماعي التركي.

وكانت تركيا قد انضمّت نهاية الأربعينيات إلى خطة "مارشال" الأمريكية. بدأت الخطة ببرنامج مساعداتٍ اقتصاديةٍ أطلقَتْه واشنطن سنة 1948 لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كان المقابل الانفتاحَ على النظام الرأسمالي والتحالف الغربي في مواجهة الاتحاد السوفييتي الشيوعي. وهكذا ضُخّت أموالٌ طائلةٌ في قطاع الزراعة التركي بهدف تحديثه. فشهدت سنوات الخمسينيات إدخال المَيْكَنة الزراعية على نطاقٍ واسعٍ في القرى. فقفز عدد الجرارات من ستّةِ آلافٍ إلى أكثر من ثمانيةٍ وأربعين ألفاً بين 1949 و1958، بحسب تقريرٍ لوكالة الأناضول سنة 2020 تناول الثورة الزراعية في تركيا في منتصف القرن الماضي.

يقدِّر المؤرخ التركي كمال كاربات في كتابه "ذا قيجيكوندو" (أحياء القيجيكوندو) المنشور سنة 1976 أن دخول أربعين ألف جرارٍ في العملية الزراعية أدّى إلى اقتلاع نحو مليون فلاحٍ من أراضيهم، ليجدوا أنفسهم بلا عملٍ في قراهم. بدأت الهجرات الجماعية إلى المدن التي قطنها سنة 1950 أقلّ من خمس السكّان. إذ يضيف كاربات: "أصبح عدد سكان المناطق الحضرية والريفية متساوياً تقريباً بحلول سنة 1980. وأصبح حوالي 40 بالمئة من السكان المنخرطين في الاقتصاد يعملون في قطاعاتٍ أخرى غير الزراعة".

لم تأخذ خطة التنمية الزراعية في البال هذا التحوّل السكاني. يتّضح هذا التباين بين تصريحات المسؤولين والواقع المعاش من تصريح رئيس الوزراء عدنان مندريس، بعد تولّيه السلطة سنة 1950، بأنّ "80 بالمئة من سكان تركيا يعيشون في القرى، والتربة تحتاج إلى بذورٍ جيدةٍ وأسمدةٍ وآلاتٍ ورَيّ. لا يستطيع القرويون تحقيق ذلك بمفردهم، بل علينا نحن الدولة أن نمدّ يد العون". لكن هذا التصوّر، على ما انطوى عليه من وعودٍ بالتحديث الزراعي، كشف عن هشاشة البنية الاقتصادية الريفية. وأسهم أيضاً في تعميق أزمة فائض العمالة، التي دفعت الملايين لاحقاً إلى الهجرة نحو المدن.

لم يكن التحديث الزراعي وحده المسؤول عن تسريع موجة النزوح من الريف للمدن. فقد تضافرت معه عوامل طبيعيةٌ واقتصاديةٌ زادت من اختناق القرى ودفعها نحو الهجرة. يوضح جيرارد روبنز، الباحث بجامعة برينستون الأمريكية، في دراسةٍ عن أسباب هجرة الفلاحين الأولية منشورةٍ سنة 1983 في دورية "ميدل إيست جورنال"، بأنّ موجةَ جفافٍ قاسيةً اجتاحت مناطق واسعةً من الأناضول سنة 1954 أدّت إلى انخفاض محصول الحبوب تقريباً للثلث مقارنةً بالعام السابق.

هذا التراجع الحادّ في الإنتاج الزراعي أفقد كثيراً من الفلاحين ثقتهم بأرضهم، وجعل الاستمرار في الزراعة غير مُجدٍ. وفي ظلّ غياب بدائل اقتصاديةٍ حقيقيةٍ، تحوّل الجفاف إلى قوة طردٍ إضافيةٍ دفعت آلاف العائلات إلى مغادرة قراها بحثاً عن فرصٍ أفضل في المدن.

في الوقت نفسه، كان معدل النمو السكاني في تركيا يشهد تصاعداً سريعاً بعد الحرب العالمية الثانية، مدفوعاً بتحسنٍ نسبيٍّ في الرعاية الصحية. هذا النمو أنجب أجيالاً شابةً في القرى لم تجد لها مكاناً على رقعة الأرض الزراعية المحدودة، خاصةً مع تفتّت الملكيات بفعل قوانين الميراث.

ويشير كمال كاربات إلى أن العمل بمبادئ الشريعة الإسلامية في توزيع الإرث أدّى إلى تقسيم الأراضي الزراعية بين الورثة على مدى الأجيال. فأسهم ذلك في تجزئة الملكية الزراعية إلى حدٍّ جعلها غير قابلةٍ للاستثمار أو الزراعة المُجدية. فبعض الفلاحين كانوا يمتلكون قطعاً صغيرةً ومبعثرةً من الأرض يصعب قياسها. بينما بلغت أراضي آخَرين مساحاتٍ ضئيلةً للغاية، لا تتجاوز بضعة دونمات (الدونم التركي يساوي 1000 متر مربع)، من الأرض الرديئة التي لا تصلح لإنتاجٍ يكفي لإعالة أسرة.
أمام هذا الواقع، نشأَتْ في الريف حالةٌ يمكن وصفها بما يُعرف اصطلاحاً "بطالة مقنّعة". وهي وضعٌ يكون فيه الأفراد مشغولين في أعمالٍ زراعيةٍ شكليةٍ لا تدرّ دخلاً كافياً، ولا تسهم فعلياً في تنميةٍ اقتصاديةٍ حقيقية. الأيدي العاملة متوفرةٌ، لكن الإنتاجية متدنيةٌ للغاية. ولذا لم يكن مستغرباً سعي كثيرٍ من الشباب إلى مغادرة القرى. إمّا بحثاً عن عملٍ حقيقيٍ في المصانع والموانئ، أو طلباً للعلم في مدارس المدن. أو حتى فراراً من رتابة الحياة القروية وضيق أفقِها في محاولةٍ لابتكار مستقبلٍ مختلف.

ومع ذلك، لم تكن الهجرة الداخلية قطيعةً نهائيةً مع الريف. فقد حمل المهاجرون معهم إرثهم العشائري والثقافي بكلّ ما فيه من تراتبيةٍ وولاءات. واستمر هذا الإرث حياً في الذاكرة والممارسة اليومية في المراحل الأولى من الاستقرار في المدينة. كانت مناطق، مثل شرق الأناضول وجنوب شرقها، تحكمها أنماطٌ اجتماعيةٌ تقليديةٌ يتزعمها "الآغاوات"، وهم ملّاك الأراضي الكبار الذين ورثوا نفوذهم من عهد الدولة العثمانية. وكان هؤلاء الآغاوات يجمعون بين السلطة الاقتصادية والاجتماعية، ويشبهون إلى حدٍّ ما شيوخ العشائر في بعض المناطق العربية والإقطاعيين في التجارب الأوروبية. وقد نقل الأناضوليون معهم إلى الأحياء الجديدة في المدن بعضاً من هذه البُنَى والعلاقات.


مع انتقال شباب هذه المناطق إلى المصانع وورش البناء ومؤسسات الإدارة الناشئة في إسطنبول وأضنة جنوب تركيا، بدأ النظام الاجتماعي التقليدي بالترهل والتفكك تدريجياً. فنسجت زمالات العمل وعلاقات الجيرة وروابط المدارس والنقابات أنماطاً اجتماعيةً جديدةً حلّت تدريجياً محلّ البنية التقليدية. ظلّت العشيرة تسكن الوجدان، لكنها فقدت قدرتها على تنظيم الحياة اليومية كما كانت تفعل في الريف.

ويشير يوكسل كوجاك، الباحث في جامعة كافكاس التركية، في دراسته "توركييه ده غوتش أولغوسو" (ظاهرة الهجرة في تركيا) المنشورة سنة 2012، إلى أن انتقال سكان العشائر إلى المدن أسهم في تآكل سطوة الزعامات التقليدية، لاسيما في صفوف الجيل الثاني من المهاجرين.

وقد جاء هذا التراجع تتويجاً لاستراتيجيةٍ اتّبعتها الدولة منذ بدايات الجمهورية في أوائل العشرينيات. فقد ثارت شعوب الزازا – التي تعيش في شرق الأناضول وتتحدث اللغة الزازاكية القريبة من الكردية أو تعدّ لهجةً منها – ضدّ الحكومة التركية في منطقة درسيم شرق البلاد سنة 1937. كانت نتيجة "تمرد درسيم" تهجير السلطات ما يقارب خمسةً وعشرين ألفاً من سكان المناطق الشرقية إلى غرب البلاد. جاء التهجير ضمن سياسة توطينٍ استهدفت تفكيك القبائل وتعزيز سلطة الدولة المركزية. ومع أن هذه الإجراءات سبقت موجة الهجرة الكبرى في الخمسينيات، إلا أنها مهّدت الأرض لتفكّك البُنَى العشائرية لاحقاً.

هكذا مثّلت المدينة مخرجاً اجتماعياً وأمنياً من موروثاتٍ ريفيةٍ قاسيةٍ، أبرزها ثقافة الثأر التي وُجِدت في بعض الأقاليم النائية بسبب النزاعات على الأرض أو "الشرف". لم تجد العائلات المهدَّدة بانتقامٍ دمويٍّ سبيلاً للنجاة سوى الهجرة إلى المدن الكبرى. فقد خفّف صخب الحياة الحضرية وسلطة القانون من وطأة العادات العشائرية، وضَمَنَ حدّاً أدنى من الحماية القانونية لم تكن متاحةً في الأرياف.

تُظهِر دراسةٌ لسِنان تشايا، الباحث في جامعة مرمرة التركية، بعنوان "توركييه قيرصال آلانيندا كان دافاسي" (قضية الثأر في المناطق الريفية بتركيا) المنشورة سنة 2011، أن نحو 6 بالمئة من حالات النزوح الداخلي في قرى غرب البحر الأسود كانت مدفوعةً بنزاعات ثأر. دُفعت عائلاتٌ بكاملها إلى الرحيل نحو إسطنبول أو إزمير بحثاً عن الأمان، وسط مجتمعاتٍ لا تعرفهم ولا تقيّدهم بتقاليد الانتقام العائلي.

في مقابل تَرسّخ مؤسسات الدولة والبنى التحتية في المدن والحواضر المركزية، كانت القرى التركية في الخمسينيات تعاني من حرمانٍ شبه كاملٍ من مقومات البنية التحتية. ووفقاً للكاتب هاكان يلدريم في مقالةٍ بمجلة "يشيل إكونومي" بعنوان "سليمان باي يِن سوروسويلي بشلاياليم" (لنبدأ بسؤال السيد سليمان) سنة 2010، لم تتصل سوى ثلاث عشرة قريةً من أصل خمسة وثلاثين ألفاً بشبكة الكهرباء سنة 1950. وقد كانت الطرق المعبدة نادرةً والمراكز الصحية غائبةً والمدارس تقتصر على المرحلة الابتدائية، إن وجدت. هكذا أصبح البقاء في القرية مرادفاً للحرمان لدى الكثيرين، فيما بدت المدينة وعداً بالخلاص من العوز. وشدّ كثيرون الرحال نحو المدن الكبرى أملاً في علاجٍ لمرضٍ مستعصٍ، أو تعليمٍ للأبناء في مدارس حديثةٍ، أو وظيفةٍ بأجرٍ ثابتٍ في مصنعٍ أو دائرةٍ حكومية. 

لم يكن غريباً أن تتحول الهجرة نحو المدن إلى طموحٍ جماعي. وظلّ الحال كذلك عقدَيْن لاحقَيْن قبل أن تبدأ حملاتٌ جديةٌ لمدّ الريف بالكهرباء. في ذاك الزمان، كانت الإذاعة نافذةً إلى عالمٍ آخَر، ومحرّضةً على الرحيل. فمع كل نشرة أخبارٍ تتحدث عن مشاريع أو فرص عملٍ في المدينة، كان شابٌّ في يوزغات الواقعة في قلب الأناضول، أو محافظة نيدا الجبلية جنوب وسط تركيا، يخطو خطوةً نحو المحطة للهجرة إلى المدينة. ومع كلّ زيارة عائدٍ من إسطنبول بثيابٍ أنيقةٍ وساعةِ يدٍ لامعةٍ، كان حلم الهجرة يكبر في خيالٍ شابٍ آخَر.

مع تسارع موجات الهجرة الداخلية في تركيا، بدأ الميزان السكاني يميل تدريجياً لصالح المدن. وبحلول الثمانينيات، تعادلت الكفّتان تقريباً. أصبح عدد سكان الحضر يعادل عدد سكان الريف، بعدما كان سكان الحضر يشكلون 20 بالمئة من مجمل عدد سكان تركيا في الخمسينيات. واصل معدل التحضّر صعوده حتى اليوم. فقد زادت نسبة السكان المقيمين في مراكز الولايات والأقضية، وهي مناطق حضريةٌ فرعيةٌ تتبع إدارياً للمحافظات، من 64.9 بالمئة سنة 2000 إلى 93.4 بالمئة في 2024، بحسب تقريرٍ لهيئة الإحصاء التركية.


عَبَرَ المهاجرون القادمون من الأناضول إلى المدن فجوةً حضاريةً هائلةً بين عالمَين مختلفَين. جاؤوا بثقافتهم الريفية ووجدوا أنفسهم فجأةً وسط مجتمعٍ حضريٍّ يختلف عنهم في السلوك وأسلوب الحياة. تجاوز التباين المظهرَ إلى نظرة كلّ طرفٍ للآخَر. فقد ورثت نخب المدن الكبرى، خصوصاً في إسطنبول، تصوراً عن نفسها أنها وريثة مشروع التحديث الكمالي. فهي تؤمن بالتمدن الغربي وتتحدث التركية الحديثة التي تبنّتها الجمهورية بعد الإصلاحات الكمالية، وهي اللغة المنقّاة من المفردات العثمانية القديمة والتي اقترضت بكثرةٍ من العربية والفارسية. وترتدي هذه النخب أزياء أوروبيةً وتعيش حياتها اليومية بمقاييس قريبةٍ من العيش الأوروبي.

أما القادمون من أعماق الأناضول، فقد حملوا معهم قيماً اجتماعيةً مختلفة. فكان التصادم بين رؤيتين متصارعتين للهوية التركية. واحدةٌ تعدّ التحديث مرادفاً للتغريب، وأخرى تسعى للاندماج دون فقدان الجذور.

مع الوقت، بدأت تتشكل أحزمةٌ عشوائيةٌ حول المدن الكبرى. أحياءٌ من صفيحٍ وأكواخٌ مؤقتةٌ تُسمّى "قيجيكوندو". بُنِيَت بيوت هذه الأحياء تحت جنح الظلام على أراضٍ حكوميةٍ أو خاصةٍ مهملةٍ مخالفةً القانون. وبحلول السبعينيات كانت تلك الأحياء قد اتّسعَت حتى شكّلت ما يصل إلى 60 بالمئة من سكان مدنٍ كبرى مثل إسطنبول. ما يعني أن الوافدين من الريف أصبحوا الأغلبية في بعض هذه المدن.

بدت هذه التجمعات البشرية وكأنها قرىً جديدةٌ نبتت عند أطراف المدينة الكبيرة. فقد حمل السكان معهم عاداتهم ولهجاتهم، وحتى طرازهم المعماري. تجد بين بيوت تلك الأحياء دجاجاتٍ تلتقط الحَبّ بين الأزقّة الترابية، ونساءَ يجلسن على العتبات وهنّ ينظّفن العدس أو يخبزن الخبز، تماماً كما كنّ يفعلن في القرى. لكن خلفهن ترتفع أبراج المدينة ودخان المصانع ويُسمع ضجيج السيارات والحافلات في الأفق.

أصبحت المدن التركية فسيفساء بشريةً تجمع الحداثة والتقليد جنباً إلى جنب. فابن القرية الذي كان يَنظر له أبناء المدينة نظرةً دونيةً أحياناً، صار هو وجيرانه المهاجرون كتلةً اجتماعيةً ضخمةً لا يمكن تجاهلها. وأصبحوا جزءاً أساساً من هوية تلك المدن الجديدة. توضح الباحثة الاجتماعية عائشة أونجو في كتابها "سبيس، كالتشر، باور" (الفضاء والثقافة والسلطة) المنشور سنة 1997 أن هذه الأحياء لم تكن مجرد عشوائياتٍ عمرانيةٍ، بل فضاءاتٍ ثقافيةً أعادت تعريف مفهوم المدينة ذاته. فقد حملت داخلها روح الأناضول التي كانت مستبعدةً من مشروع الجمهورية المبكر.

قدّمت المدينة للمهاجرين حياةً جديدةً، لكنها قاسيةٌ في الوقت ذاته. وفّرت لهم العمل والمسكن، لكنها جرّدتهم من طريقة عيش مجتمعهم القديم ومن مكانتهم منتِجين على أرضهم. كان الفلاح "سيد الجمهورية الحقيقي"، كما أعلن مصطفى كمال أتاتورك نفسه سنة 1932. وإذا بهذا الفلاح يتحول في المدينة إلى عاملٍ أو بائعٍ متجولٍ يسكن في حيٍّ فقير. هذا الواقع أطلق لدى المهاجرين مشاعر متناقضةً من الحنين والفخر والمرارة والأمل، وصارت تجربة الهجرة مادةً أساسيةً عكستها الإنتاجات الثقافية في تلك الحقبة. فمثلاً، شكّلت أعمال الكاتب التركي ياشار كمال، وعلى رأسها روايته الشهيرة "إنجه مِهمِد" (محمد النحيل) المنشورة سنة 1984، صوتاً أدبياً صادقاً للفلاحين المهمّشين.

تدور الرواية في سهول تشوكوروفا جنوب تركيا، ويحكي الكاتب قصة الشاب محمد الذي يتمرّد على الظلم بعد أن ذاق مرارة الفقر والاستغلال، فيتحوّل إلى "خارج عن القانون" ينتقم من الإقطاعيين وينتصر للضعفاء. تجسّد الرواية صراعاً طبقياً بين الملاك الكبار والفلاحين المعدمين، وتعكس بمرآةٍ أدبيةٍ أوجاع الريف التركي وانكساراته في خضمّ التحوّل نحو المدينة.

مع ذلك، بدأ اندماج هذه المجتمعات تدريجياً في النسيج الحضري مع مرور الوقت. وشكلت هذه المناطق، التي سكنها ملايين المهاجرين من الأرياف، أرضاً خصبةً للإحباط وما نتج عنه حراكاً اجتماعياً وتعبئةً سياسية.


شهدَتْ سنوات السبعينيات توتراتٍ اجتماعيةً في الأحياء الفقيرة، حيث تراكم الإحباط. فقد عانى أبناء المهاجرين من البطالة أحياناً وضعف الخدمات في مناطقهم العشوائية. تحولت إثر ذلك بعض تلك المناطق إلى ساحاتٍ للتظاهر والاضطرابات السياسية. وجد بعض هؤلاء الشباب أنفسهم منجذبين نحو التنظيمات اليسارية، مثل "الحزب الشيوعي التركي" أو مجموعات "الثورة الشاملة". فيما انخرط آخَرون في حركاتٍ يمينيةٍ قوميةٍ، مثل "الذئاب الرمادية" المرتبطة بحزب الحركة القومية. وكما تبيّن عائشة أونجو في دراستها المنشورة سنة 1997 ضمن كتاب "إستانبول: كوسال إيلا يرال أراسيندا" (إسطنبول: بين العالمي والمحلي)، فإن أحياء الهامش الحضري مثّلت مسرحاً رئيساً للصراع على الهوية والانتماء داخل الفضاء المديني.

جذبت هذه الأحياء اهتمامَ الحركات اليسارية التي رأت في ساكنيها قوةً اجتماعيةً محرومةً يمكن تعبئتها ضدّ النظام الحاكم آنذاك. اندلعت منذ سنة 1970 موجات احتجاجاتٍ عمّالية ومواجهات في أحياء إسطنبول وأنقرة. أصبح المهاجرون القادمون من الأناضول وقوداً للحركات اليسارية الثورية التي كانت تناهض النموذج الرأسمالي للدولة، وتعادي طبقة النخبة الجمهورية المهيمنة على جهاز الدولة، بما في ذلك الجيش والإدارة والقضاء. وقد اتهمت هذه الحركات النخبةَ الحاكمةَ بالانفصال عن الشعب وتكريس فوارق الطبقات وحرمان الفقراء من حقوقهم الاجتماعية والسياسية.

قاد الجنرال كنعان إيفرين على إثر هذا الصراع المحتدم في شوارع تركيا، انقلاباً عسكرياً في 12 سبتمبر 1980، بذريعة إنهاء الفوضى السياسية والاقتصادية والعنف بين التيارات اليمينية واليسارية. تولّى بعدها الجيش إدارةَ البلاد ثلاثَ سنواتٍ، قبل تسليمه السلطة تدريجياً إلى حكومةٍ مدنية. سعت الحكومة العسكرية ثم المدنية إلى فرض النظام واستيعاب الطبقات الفقيرة، فمُدَّتْ شبكات المياه والكهرباء إلى كثيرٍ من أحياء المهاجرين. ومنحت السلطات السكانَ صكوكَ ملكيةٍ لمساكنهم العشوائية حتى تكسب ولاءهم. ساهم ذلك في تحسين الأوضاع نسبياً في الثمانينيات. كان هذا التحوّل تعبيراً اجتماعياً عن سعي سكان الهامش لإيجاد من يسمع صوتهم داخل نظامٍ يرون أنّه ظلّ عقوداً طويلةً مغلقاً أمامهم.

جاء عقد التسعينيات لتشهد هذه المناطق تحولاً في انتماءاتها السياسية. اتجهت قطاعاتٌ واسعةٌ من سكان أحياء القيجيكوندو نحو دعم التيارات الإسلامية المحافظة، التي خاطبتهم بلغتهم وشاركتهم همومهم وقدمت لهم وعوداً ملموسةً بتحسين أوضاعهم الحياتية. وفي سنة 1994، حقق حزب الرفاه ذو التوجه الإسلامي – بقيادة الأب المؤسس للتيار الإسلامي في تركيا نجم الدين أربكان – صعوداً لافتاً مدفوعاً بدعمٍ شعبيٍّ واسعٍ من الطبقات المهمّشة في المدن الكبرى.

ففي الانتخابات المحلية ذلك العام، فاز الحزب برئاسة عددٍ من البلديات المهمة. أبرزها بلدية إسطنبول التي تولّى رئاستها رجب طيب أردوغان، وبلدية أنقرة التي آلت إلى السياسي مليح غوكشيك. وقد شكّل هذا الفوز نقطة تحوّلٍ في السياسة التركية، ومهّد الطريق لاحقاً لتأسيس حزب العدالة والتنمية سنة 2001.

توضِّح أستاذة علم الإناسة بجامعة بوسطن، جيني وايت، في كتابها "إسلاميست موبيلايزيشن إن تركي" (التعبئة الإسلامية في تركيا) المنشور سنة 2022 أن حزب الرفاه نجح في مخاطبة سكان الأحياء الفقيرة ليس فقط بشعاراتٍ دينيةٍ، بل بتقديم خدماتٍ بلديةٍ ملموسة. تضمنت الخدمات جمع النفايات وتحسين البنية التحتية وإنشاء أسواقٍ شعبيةٍ وتوفير الدعم الاجتماعي للفقراء. وتنوّه بأنه "حتى أولئك الذين كانوا ضد الحزب، أو ضد أي حزبٍ إسلاميٍّ له مكانٌ في السياسة الوطنية، تحدثوا بإعجاب عن مدى التنظيم الذي بلغه الحزب في حشد أنصاره شارعاً شارعاً".


لم يلغِ هذا الحضور السياسي الشعورَ بالاغتراب العميق الذي رافق المهاجرين الأوائل في المدن. اصطدم القادمون من القرى بنظرة استعلاءٍ من بعض النخب المدينية، ومن سيُعرفون لاحقاً بِاسم الأتراك البيض. فقد رأت هذه النخب في سكان الأحياء العشوائية خطراً على حداثة المدينة.

رصد عالم الاجتماع التركي شريف ماردين هذا التوتر في دراسته "سينتر بريفيري ريلايشن" (علاقة المركز الهامش) المنشورة سنة 1973. يقول إن تركيا شهدت منذ بدايات جمهوريتها صراعاً بين مركزٍ حضريٍّ نخبويٍّ يسعى إلى تغريب المجتمع، وهامشٍ شعبيٍّ يطالب بالاعتراف بقيَمه الخاصة ضمن مشروع الحداثة. لكن الصدمة الثقافية كانت أصعب من كل ذلك، فكثيرٌ من هؤلاء المهاجرين شعروا أنهم غرباء في وطنهم. ووجدوا أنفسهم محلّ سخريةٍ أو نظرةٍ دونيةٍ من سكان المدينة الأصليين. فراحوا يعيشون في مجتمعاتٍ صغيرةٍ مغلقةٍ داخل المدينة، تشبه القرى التي جاؤوا منها، كأنهم لم يخرجوا من قراهم أبداً.

وتناول الكاتب التركي أورهان ترك دوغان هذا التمزق والاغتراب في الهوية في دراسته "تورك توبلومونون سوسيولوجيك يابيسي" (البنية الاجتماعية للمجتمع التركي)، المنشورة سنة 1977. أشار دوغان إلى أن المهاجر الريفي يواجه هويةً مزدوجةً. يتصرف في الخارج وفق سلوكياتٍ مدينيةٍ مكتسبةٍ، لكنه يحتفظ في داخله بقيَم القرية الموروثة، ما يجعله في حالة توترٍ دائمٍ بين الانتماء والتأقلم. وقد تجلّت هذه الحيرة في تفاصيل الحياة اليومية. فعلى سبيل المثال، كان الرجل يرتدي بدلةً رسميةً عند خروجه للعمل أو التعامل مع المؤسسات، لكنه يعود في المساء ليرتدي اللباس التقليدي داخل منزله. أما النساء، فقد يلتزمن بالحجاب في الحيّ بينما يخلعنه في أماكن العمل أو الدراسة، لاسيما مع منعِ الدولة الحِجابَ.

وجد الجيل الثاني نفسه موزعاً بين قيمٍ ريفيةٍ موروثةٍ يتلقاها في البيت، وأخرى مدينيةٍ حديثةٍ يتشربها في المدرسة والشارع. كانت تطلعاتهم التعليمية والمهنية تصطدم أحياناً بتوقعات الأهل الذين يفضّلون مساراتٍ تقليديةً أو زيجاتٍ من نفس الخلفية القروية. وانعكست في السينما كما في فيلم "الفتاة ذات الوشاح الأحمر" سنة 1977 للمخرج عاطف يلماز، عندما نجد رغبة البطلة في الحبّ متصادمةً مع أعراف العائلة التي لا توافق على زواجها من شابٍّ مديني، في صورةٍ دراميةٍ عن انقسام الهوية بين القرية والمدينة.

آمَن كثيرٌ من الآباء المهاجرين من الجيل الأول، ومن شعروا دوماً بأنهم غرباء ومهمَّشون في وطنهم، بأن التعليم هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن ينقل أبناءهم من العشوائيات إلى قلب المجتمع. فكان أن تعلّم الجيل الثاني، ودخل الجامعات، وبدأ يشغل وظائفَ في الوزارات والبنوك والمدارس والمستشفيات. فتحوّل هؤلاء الأبناء من مجرد أبناءِ مهاجرين إلى جسورٍ حيةٍ بين عالَمَيْن. بدأ الأبناء يتملّكون ناصية اللغة المدينية وينحتون لأنفسهم مكاناً في قلب الدولة، دون أن يتخلوا كلياً عن جذورهم. وهكذا نشأ هذا الجيل الوسيط بهويةٍ جديدةٍ هجينةٍ، خليطٍ من القيم المحافظة والانفتاح.

إنه الجيل الذي سيشكل لاحقاً النواة الصلبة لما يُعرف اليوم بالأتراك السود. ومع تنامي نفوذ هذه الكتلة الاجتماعية، بدأت تتشكل طبقةٌ مدينيةٌ محافظةٌ واسعةٌ لم تكن مرئيةً بوضوحٍ قبل منتصف القرن العشرين. لكنها ستصبح لاحقاً الركيزة الأساسية لعديدٍ من التحولات السياسية والثقافية في تركيا، وأهمها صعود حزب العدالة والتنمية سنة 2002، الذي استند إلى هذه الطبقة قاعدةً انتخابيةً صلبة.


في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، واجهت تركيا واحدةً من أسوأ أزماتها الاقتصادية. ترافقت الأزمة مع انهياراتٍ مصرفيةٍ حادةٍ وتدهورٍ حادٍّ في قيمة الليرة، ما أسفر عن فقدانٍ واسعٍ للثقة في الأحزاب السياسية التقليدية. في هذا السياق المضطرب، برز حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان تعبيراً عن تطلعات فئاتٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ كانت تبحث عن بديلٍ يجمع بين القيم الدينية المحافظة والطموح في الاستقرار والتنمية. ما إن تولّى الحزب السلطةَ سنة 2002 حتى شرع في تنفيذ برنامجٍ إصلاحيٍّ واسع النطاق شمل خصخصة مؤسسات الدولة، وضبط سعر صرف الليرة، وإعادة هيكلة النظام المصرفي.

أسفرت هذه السياسات عن تحوّلٍ اقتصاديٍّ لافت. فقد سجّل الاقتصاد التركي بين 2002 و2007 معدلات نموٍّ سنويةً بلغت 6.8 بالمئة، وانخفض العجز المالي من أكثر من 10 بالمئة إلى 0.2 بالمئة من الناتج المحلي. كذلك تراجعت معدلات البطالة، وانخفض التضخم من مستوياتٍ تزيد عن 54 بالمئة إلى 8.8 بالمئة. منحت هذه المؤشرات الإيجابية الطبقةَ الوسطى المدينيةَ شعوراً متنامياً بالثقة في قدرة الحزب على تحسين مستويات المعيشة وتحقيق الاستقرار.

لكن مكامن جاذبية الحزب لم تقتصر على الأداء الاقتصادي. فقد امتدت أيضاً إلى تبنّيه خطاب "الحداثة المحافظة"، الذي دمج بين الهوية الإسلامية الرمزية وتبنّي أدوات اقتصاد السوق. هذا التوازن جذب فئاتٍ متعلمةً من أبناء المدن الراغبين في الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية بلا تفريطٍ في فرص التحديث. وعمد الحزب إلى تعزيز قاعدته الشعبية بإطلاق مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ ضخمةٍ من مطاراتٍ وجسورٍ وأنفاق وشبكات طرقٍ حديثة. الأمر الذي كرّس علاقةً متبادلةً بين الخدمات والولاء بدأت ملامحها منذ عهدة تولّي أردوغان رئاسة بلدية إسطنبول، وانتشر لاحقاً على المستوى الوطني.

لم يكن هذا التلاحم بين الطبقات المحافظة الناشئة والمشروع السياسي الجديد مجرد تقاطع مصالح، بل كان تعبيراً عاطفياً في رموزٍ ثقافيةٍ مشتركةٍ، من أبرزها موسيقى الأرابيسك التي طالما عُدّت صوت المهمشين. وقد أدرك أردوغان هذا الارتباط العميق. فكان لا يتردد في غناء مقاطع من أغاني المغنّي والملحّن إبراهيم تاتليسس في تجمعاته الانتخابية، مجسّداً بذلك صورة "الرجل منّا" القريب من مشاعر الفئات الشعبية.


في ساعات الليل المتأخرة على أطراف إسطنبول وغيرها من المدن، يجلس العمال المنهكون بعد يوم كدحٍ طويلٍ، يرتشفون الشاي ويستمعون بشغفٍ إلى صوت المغنّي التركي أورهان كنجباي. ينساب صوته شجياً عبر المذياع وهو يغني "بير تَسَلّي فَر" (واسيني)، كأنه يتحدث بلسان حالهم.

كانت أغنية أورهان في أواخر الستينيات إعلاناً لميلاد ظاهرةٍ موسيقيةٍ ستغيّر وجه الثقافة التركية، وستُعرف لاحقاً بِاسم "الأرابيسك". والأرابيسك لفظ مقتبَس من الكلمة الفرنسية "أَرَبسْك"، وتعني "على الطراز العربي". وهي مزيجٌ من المقامات الشرقية والإيقاعات المعاصرة والكلمات المفعمة بالحنين والألم والأمل المكسور.

يرى المتخصص في علم الموسيقى مارتن ستوكس، في كتابه "أرابيسك ديبايت" (جدل الأرابيسك) المنشور سنة 1992، أنّ الأرابيسك أكثر من مجرد نمطٍ موسيقيّ. فهي خطابٌ ثقافيٌّ متكاملٌ وُلِد من رحم التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدتها تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين. وهي بذلك خطابٌ يعكس قصة ملايين الأتراك الذين غادروا قراهم النائية، حاملين أحلامهم الكبيرة إلى مدنٍ لم تكن مستعدةً لاستقبالهم، وأقحمتهم بشعورٍ من الاغتراب.

وكما تماهت حياة المهاجرين بين عالمَين، تماهت موسيقاهم بين الشرق والغرب وبين الماضي والحاضر، وبين الريف والمدينة. وتقول الباحثة في الفلسفة والمجتمع، مرال أوزبك، في دراستها "أرابيسك كلتشر" (ثقافة الأرابيسك) المنشورة سنة 1997: "كانت [الأرابيسك] تعبيراً عن هويةٍ ثقافيةٍ جديدةٍ [. . .] هجينةٍ [. . .] تشكلت في سياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها تركيا. كانت صوتَ أولئك الذين وجدوا أنفسهم على هامش المشروع التحديثي التركي".

كان أورهان كنجباي في طليعة روّاد فن الأرابيسك، ابن مدينة سامسون المطلّة على البحر الأسود. استطاع أن يصوغ من تجربته الشخصية ومن تجارب ملايين المهاجرين أمثاله فنّاً جديداً يلامس الروح. في أغانيه مثل "بير تَسَلّي فَر" و"سيفميديم كارا غوزلوم" (لم أستطع أن أحبّك يا ذات العيون السوداء)، نسمع صدى الألم والحنين، لكننا نسمع أيضاً تأملاً في معنى الحياة والقدر والحب.

جاء بعده إبراهيم تاتليسس، ابن مدينة أورفة الفقيرة الواقعة جنوبي تركيا. كان تاتليسس تجسيداً حياً لحلم الصعود من القاع. فمن طفلٍ يبيع الخبز في شوارع أورفة إلى "إمبراطور الأرابيسك"، كما يسمّيه الأتراك، يملأ الملاعب والساحات بجماهيره المخلصة. يرى الناقد التركي تيمل ديميرار، في مقالته "إيليشترال أرابيسك" (قصة الأرابيسك) سنة 2024، أن موسيقى الأرابيسك قد تمثّل "لغة الشعب ولغة الشارع والتمرد الذي ينبع من صدورنا ويتحول إلى أغانٍ"، وفيها جانباً احتجاجياً متمرداً. ويشير إلى أن موسيقى الأرابيسك ساهمت في نقل التاريخ والثقافة والموسيقى، وأن أعمال مطربين مثل تاتليسس تعكس التحولات الاجتماعية في تركيا.

وقد أصبح الفنان مسلم غورساس أيقونةً شعبيةً لقّبها الناس "مسلم بابا"، وارتبط مع جمهوره برابطةٍ روحيةٍ أشبه بالعلاقة الصوفية بين المريد والشيخ. هذا المطرب التركي الذي وُلد أيضاً في شانلي أورفا جنوب تركيا، تحوّل إلى رمزٍ يعدّه معجبوه – ولقبهم "المسلميون" – والدَهم الروحيّ. وقد باتوا تياراً ممتداً في تركيا اليوم يمارسون طقوساً تعبّر عن تماهيهم مع معاناة فنانهم المحبوب أثناء الاستماع إليه، "فهم يُعرفون بضرب أجسادهم بالشفرات، تعبيراً عن الألم وربما الشعور بما أحَسَّ به [غورساس]"، كما يقول عدنان عبدالرزاق في مقالتِه "متحف مسلم بابا" في العربي الجديد سنة 2021.

جسّد هؤلاء الفنانون في حياتهم وفنّهم قصةَ الصعود من القاع، التي تماهى معها ملايين المهاجرين وأبنائهم. وقد تتكرر في كلمات أغاني الأرابيسك مفرداتٌ، مثل قدر وقسمة ونصيب، كأنها تحاول أن تفسر لهؤلاء المهاجرين لماذا انتهى بهم المطاف في واقعهم القاسي. فمثلاً، يخاطب أورهان كنجباي الدنيا في إحدى أغانيه بمرارة: "لتسقطي أيتها الدنيا إن لم تفهمي آلامنا". وفي أخرى، يشدو مسلم بابا بحزن: "نحن المنسيون على أرصفة المدينة".

تحوّلت الأرابيسك، منذ خروجها، إلى ساحةٍ لصراع الثقافة والهوية في تركيا المعاصرة. فقد نظرت المؤسسة الثقافية الرسمية والنخب الحداثية إلى هذا اللون الموسيقي باشمئزازٍ واستهجان. اعتبرته نشازاً غريباً عن مشروع مصطفى كمال الجمهوري، الذي أراد موسيقى "راقية" تستلهم أنغامها من التقاليد الغربية أو من التراث الأناضولي المصفّى من أيّ أثرٍ شرقيٍّ، بما يسمح لتركيا بالمشاركة في الساحة الموسيقية الأوروبية.

أعلنَ أتاتورك صراحةً في يوليو 1924، عن ضرورة تحرير الثقافة التركية من "الخرافات والتأثيرات الشرقية الغريبة عن الطابع الفطري للأتراك"، في إشارةٍ إلى كلّ ما هو عربيّ وفارسيّ في الموروث العثماني، بما في ذلك الموسيقى. تمثّل هذا في رغبة أتاتورك في أن يستمع الأتراك إلى السيمفونيات والأوبرا لنفس الأسباب التي دفعته لفرض ارتداء الملابس الغربية واستخدام الأبجدية اللاتينية على الأتراك.

وضمن هذه الرؤية عُدّت الموسيقى الشعبية الريفية المصدرَ النقيَّ للموسيقى "القومية"، بسيطةً ومؤدّاةً باللغة التركية الخالصة. فيما رُفضت الموسيقى العثمانية الشرقية لأنها بدت معقّدةً ومشبعةً بالتأثير العربي والفارسي، ولا تناسب الذوق الحديث. من هنا جاءت موسيقى الأرابيسك نقيضاً لمشروع النخبة التحديثية الذي حمله "الأتراك البيض"، لاسيما وأن كلماتها وأداءها "يحملان عادةً شجناً واستسلاماً قدرياً" يتعارضان مع الروح التفاؤلية التقدمية للكمالية.

لفظ "أرابيسك" نفسه قُصِد به بدايةً الانتقاص. نحته صحفيون ومثقفون آنذاك لربط تلك الموسيقى بـالجذور العربية فنّاً أجنبياً دخيلاً وغير راقٍ، مقارنةً مع الموسيقى التركية الأصيلة أو الغربية الحديثة. وهذا التنميط اللفظي جعل من السهل على السلطات والنخب إقصاء هذا الفنّ من دائرة الشرعية الثقافية للجمهورية.

حُظر بثّ أغاني الأرابيسك في الإذاعة والتلفزيون الرسميَّين في الفترة ما بين 1970 و1980، بحجّة أنها تفسد الذوق الموسيقي وتسفِّه المدينة. بل إن لوائح البثّ العام لهيئة البثّ التركية الرسمية تضمّنت بنداً صريحاً، هو البند رقم 2 من خطة الإذاعة، يُحظَر فيه أيّ محتوىً قد يؤدي إلى انحطاط الذائقة الموسيقية، وذُكر بين قوسين منع إدراج موسيقى الأرابيسك.

امتدّ التحسّس الرسمي من موسيقى الأرابيسك إلى الفضاءات العامة. وأصدرت البلديات قراراتٍ بمنع تشغيلها في الحافلات والأماكن العامة، لأنها "تبث الحزن وتثبط الهمم". في سنة 2011 مثلاً، أعلن اتحاد سائقي الحافلات في مدينة إسبارطة جنوب غرب تركيا حظر بثّ موسيقى الأرابيسك في حافلات النقل العام، واستبدالها بأغانٍ تراثيةٍ محليةٍ لإضفاء جوٍّ إيجابيٍّ. وبرّر المسؤولون هذه الخطوة بتلقّي شكاوى متزايدةٍ من الركاب، وبالرغبة في تحسين المزاج العام أثناء الرحلات.

ما لم تدركه النخبة المدينية أن ما اعتبرته "ابتذالاً" و"دخيلاً" كان في الحقيقة صوتاً أصيلاً لملايين الأتراك الذين وجدوا أنفسهم في منطقةٍ رمادية. صُوّر عشاق هذا اللون وكأنهم رحّل في قلب المدينة، يحملون في أرواحهم ريفاً لم يغادرهم، ويحاولون تقليد مدنيةٍ لم تفتح لهم قلبها. يقول الموسيقي التركي أورهان كنجباي، في مقابلةٍ مع صحيفة "جمهورييت" سنة 1990، دفاعاً عن فنه: "لقد اتهمونا بأننا نقلّد الموسيقى العربية، لكن ما فعلناه هو أننا أخذنا من كل الثقافات الموسيقية ما يناسبنا. وصنعنا شيئاً جديداً يعبّر عن هويتنا وتجاربنا. إنها موسيقى تركيةٌ جديدةٌ وُلدت من رحم التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدتها بلادنا".


باءت محاولات المنع بالفشل، فقد كانت جماهير الأرابيسك أكبر من أن تُقمع، وكان صوتها أقوى من أن يُخفت. انتشرت أشرطة التسجيل "الكاسيت" في كل مكانٍ، وحقق بعض كبار فناني الأرابيسك أرقاماً قياسيةً في مبيعات المجموعات الغنائية "الألبومات". فقد بيع من مجموعة "مافي مافي" (أزرق أزرق) الغنائية للمطرب إبراهيم تاتليسس سنة 1985 حوالي ثلاثة ملايين نسخة. وبيع من مجموعة "ديل ياراسي" (جرح القلب) الغنائية للموسيقار أورهان كنجباي سنة 1984 نحو مليونين ونصف المليون نسخة. وهي أرقامٌ غير مسبوقةٍ في سوق الموسيقى التركية آنذاك.

تقدّر إيران أوزغور، الباحثة في الدراسات الإسلامية الاجتماعية في جامعة أكسفورد، في دراستها "أرابيسك ميوزيك إن تركي" (موسيقى الأرابيسك في تركيا) سنة 2006، أنه من بين كلّ مئتَيْ مليون شريط تسجيلٍ تنتجه صناعة الموسيقى التركية سنوياً، هناك نحو مئةٍ وخمسين مليون شريطٍ لفئة الأرابيسك.

بدأت الدولة تدريجياً بمراجعة موقفها، فاعترفت ضمنياً بواقع التنوع الثقافي. سمحت في التسعينيات ببثّ بعض أغاني الأرابيسك في الإذاعة، ودعتْ نجومها للمشاركة في برامج تلفزيونيةٍ جماهيريةٍ، بل وبثّ سهراتٍ غنائيةٍ لهم كاحتفالات رأس السنة على التلفزيون الحكومي. ربما كان الإجراء الحكومي لتخفيف الاحتقان الثقافي، وربما أيضاً لاستمالة قلوب الكتلة الشعبية المحافظة التي كانت قد أصبحت رقماً انتخابياً صعباً.

تزامن انفتاح الإعلام الرسمي مع صعود توجّهٍ سياسيٍّ أكثر انفتاحاً على الثقافة الشعبية، مثّله تورغوت أوزال رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية. فقد تبنّى خطاباً تصالحياً تجاه ثقافة أبناء الأحياء الفقيرة والمهاجرين الداخليين الذين يشكّلون قاعدة جمهور الأرابيسك. وهكذا أنهت الدولة عملياً حقبة تهميش الأرابيسك في التسعينيات، واعترفت به جزءاً من المشهد الثقافي العام، ليُسمع صداه في دروب السياسة التركية في الفترات التي تلت.


مع صعود تورغوت أوزال وحزبه، "حزب الوطن الأم" إلى الحكم عقب انتخابات 1983، بدأت السلطة السياسية تنتهج مقاربةً مختلفةً تجاه موسيقى الأرابيسك. أدرك أوزال باكراً الوزن الانتخابي لجماهير الأحياء الفقيرة وعشّاق الأرابيسك. وقد أشارت دراساته منذ أواخر السبعينيات إلى أن أصوات سكان القيجيكوندو المتقلبة هي مفتاح الفوز في الانتخابات الوطنية.

على خلاف من سبقوه، لم يتعامل أوزال مع الأرابيسك على أنّه نقيضٌ لهوية الدولة. أعلن ولعه بهذا النوع الموسيقي وإعجابه بالمطرب الشعبي إبراهيم تاتليسس، معتبراً أن ثقافة الأرابيسك جزءٌ أصيلٌ من وجدان الأتراك العاشقين جميعاً.

تجسّد هذا التحوّل في المشهد العام. بدأ السياسيون، وعلى رأسهم أوزال، يظهرون جنباً إلى جنبٍ مع نجوم الأرابيسك بعدما كان هؤلاء مُبعدَين عن المنابر الرسمية. ففي سنة 1988، ظهر أوزال علناً في مناسبةٍ اجتماعيةٍ وهو يحادث بودٍّ أورهان كنجباي، ما أثار ضجةً على صفحات الجرائد عن دعم رئيس الوزراء للأرابيسك. ولم يكن ذلك مجرد استعراضٍ عابر. فقد تبنّى حزب الوطن الأم في أواخر الثمانينيات واحدةً من أشهر أغاني الأرابيسك شعاراً لحملته الانتخابية، وهي أغنية "سيني سيفمايان أولسون" (فَلْيَمُت من لا يحبّك) التي أصبحت تهتف بها الحشود في التجمعات الانتخابية سنة 1988.

حضر تورغوت أوزال حفلات نجوم الأرابيسك الجماهيرية وجلس في الصفوف الأمامية إلى جانب العامة، وحرص على استقبال المطربين الشعبيين في مكتبه الرسمي تكريماً لهم. وذهب أبعد من ذلك حين اصطحب بعض أولئك الفنانين معه في زياراته الخارجية لإبراز الثقافة الشعبية التركية في الخارج. وسجّل التاريخ موقفاً فارقاً لزوجته سمره أوزال التي أصرّت سنة 1989 على دعوة المطربة بولنت أرسوي، وهي فنانة أرابيسك متحوّلة الجنس كانت ممنوعةً سابقاً من الظهور العلني، للغناء في حفلٍ رسميٍّ منقولٍ تلفزيونياً.

أثمر هذا التحول عن تحالفٍ وثيقٍ بين السلطة الحاكمة ونجوم الأرابيسك. أصبحت أغاني الألم واللوعة التي تلهب مشاعر الملايين بمثابة خلفيةٍ صوتيةٍ للمشهد السياسي في عهد أوزال. وانخرط بعض مطربي الأرابيسك في الدعاية للحزب الحاكم. فقد خرج المطرب حقي بولوت عشية انتخابات 1989 ليعبّر في الصحافة عن قلقه من أن فوز حزب المعارضة، حزب الشعب الديمقراطي الاجتماعي، قد يلحق الضرر بموسيقى الأرابيسك وجمهورها. هكذا أصبحت حماية هذا الفن الشعبي ورعاية رموزه جزءاً من الخطاب الشعبوي لحزب الوطن الأم، في مسعىً لاستمالة الشارع المحافظ والفئات المهمَّشة.

بيد أن هذا الوئام بين الأرابيسك والسلطة لم يخلُ من المصالح المتبادلة ولم يدم طويلاً. فمع حلول انتخابات 1991، قرر النجم إبراهيم تاتليسس نفسه خوض المعترك السياسي مستقلاً عن حزب الوطن الأم في مسقط رأسه شانلي أورفا، ما عُدّ نهايةً لتحالفٍ غير رسميٍّ بين كبار مطربي الأرابيسك والسلطة.

لم يعد مستغرباً أن تجد أبناء الطبقة الوسطى يغنّون الأرابيسك في حفلاتهم، أو أن يرقص أحدهم على لحنٍ قديمٍ كانت النخبة تستهجنه. وقد لخّص أورهان كنجباي المسألة في مقابلته مع صحيفة جمهورييت بقوله إن هذه الموسيقى "ليست سبب الانقسام الاجتماعي بل نتيجته [. . .] إنها المرآة التي عكست ما يجري في قاع المجتمع".


لم تكن النجاحات الرمزية التي حققها سكان أحياء العشوائيات أو "الأتراك السود"، مقتصرةً على مجال الموسيقى أو على اختراق الأرابيسك الذوقَ العام. بدأ هؤلاء في نفس الفترة يتسللون بهدوءٍ إلى فضاءاتٍ أخرى طالما احتكرتها النخبة المدينية، أو "الأتراك البيض". فمنذ منتصف القرن الماضي، بدأت تنمو بصمتٍ الطبقة المرفّهة الأناضولية المحافظة التي سُمّيت "نمور الأناضول"، في تشبيهٍ لما حققته النمور الآسيوية كسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية من نهضةٍ اقتصادية.

أعادت هذه الطبقة رسمَ المشهد بهدوءٍ، ومن غير أن تتصادم مباشرةً مع النخبة القائمة. من المدن الداخلية مثل قونيا وقيصري مروراً بمراكز الصناعة والتجارة كغازي عنتاب ووصولاً إلى طرابزون الساحلية، بدأت تتبلور شريحةٌ جديدةٌ من المؤثرين الاقتصاديين تحمل خلفيةً ثقافيةً محافظةً ورؤيةً أكثر اندماجاً في السوق الوطنية. جاء صعودها تدريجياً محصلةً لتحولاتٍ بنيويةٍ تاريخيةٍ سمحت لسكان الأطراف بالتقدّم داخل بنى الدولة والاقتصاد، والمنافسة على مجالاتٍ طالما ارتبطت بالمدينة المركزية.

مع الانفتاح الاقتصادي في عهد تورغوت أوزال في الثمانينيات، بدأت هذه الشريحة تجد لنفسها متنفساً، مدفوعةً برؤيةٍ اقتصاديةٍ بديلةٍ تتقاطع مع قيمٍ دينيةٍ ومحافظة. فأنشأ رجال أعمالٍ محافظون مؤسساتٍ صناعيةً وتجاريةً. وباتت هذه النهضة تعبيراً عن انتقال التأثير، بعيداً عن احتكار النخبة المدينية المرتبطة بالمركز الكمالي القديم. فأسسوا جمعياتهم الاقتصادية، وراكموا الثروات وشيّدوا المصانع. كانت الظاهرة تعبيراً عن قيمٍ بديلةٍ أرادت أن تضع بصمتها على السوق والمجتمع.

يرى جيهان تورال، الباحث في الحركات الاجتماعية والشعبوية والدين في جامعة ميشيغان الأمريكية، في كتابه بعنوان "باسيف ديفريم" (الثورة الصامتة) المنشور سنة 2010، أن الأحزاب الإسلامية الحاكمة ضمنت تحويل هذه التحولات الاجتماعية إلى وجهةٍ ديمقراطيةٍ ومؤسسيةٍ ومدنيةٍ و"نيوليبرالية". وهو ما منح رأس المال المحافظ أداةً للتمدد في قلب النظام، بعد أن كان محصوراً في الأطراف.

هذا الصعود شكّل ما يسمى "القوة المحركة للتنمية التركية" في العقد الأول من الألفية. وهو ما تحدثت عنه فاليريا جيانوتا، المديرة الأكاديمية لمركز دراسات السياسة الدولية في تركيا، في مقابلةٍ صحفيةٍ سنة 2016. قالت إنّ "هذه الطبقة كانت القوة المحركة للتنمية الاقتصادية التركية وإطلاقها السياسي دولياً". وكذلك لفت توني ألارنتا، الباحث السياسي في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية، في دراسته "ذا إي يو تركي ستيلميت" (الجمود بين الاتحاد الأوروبي وتركيا) المنشورة سنة 2016، إلى أن العديد من المحللين يصفون السنوات العشر الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا بأنها "ثورة صامتة". وهي إشارةٌ إلى أن الطبقة الوسطى الأناضولية المحافظة ثقافياً أصبحت القوة الدافعة في البلاد بين عامَي 2002 و2012.

مثلت هذه الطبقة رافعةً اقتصاديةً أسهمت في تحقيق معدلات نموٍّ قياسية. ففي سنة 2021، سجّل الاقتصاد التركي نمواً سنوياً بلغ 11 بالمئة. وبفضل هذه القفزة في تلك السنة، تصدّرت تركيا قائمة أسرع الاقتصادات نمواً في مجموعة العشرين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأعضائها الثمانية وثلاثين، وبلدان الاتحاد الأوروبي.

تجلى هذا النجاح في ظهور مراكز صناعيةٍ جديدةٍ في مدنٍ كانت هامشيةً سابقاً، لكنها تحوّلت إلى قلاعٍ إنتاجيةٍ تمثل روح "الأناضول الجديد". مدنٌ، مثل دنيزلي وغازي عنتاب وقيصري وبورصة وقونية وأنطاليا، شكّلت النواةَ الصلبة لهذا التيار الاقتصادي المحافظ. نجحت هذه المدن في تطوير صناعاتٍ متنوعةٍ تشمل النسيج والمعادن والأجهزة المنزلية والإلكترونيات، مستندةً إلى موارد محليةٍ وروح ريادة الأعمال. ومع تقليص الاعتماد على دعم الدولة تدريجياً، تمكنت قطاعاتها الخاصة من التصدير وقيادة النمو الإقليمي.

ترافق هذا الصعود الصناعي مع توسّعٍ ملحوظٍ في صادرات تركيا من المنتجات التقنية المتوسطة والعالية. فبحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، بلغت صادرات تركيا من هذه المنتجات مستوىً قياسياً سنة 2023 تجاوز السبعة والتسعين ملياراً. وبرز من بين القطاعات الرائدة شركاتٌ، مثل "أرشليك" التي تنتشر منتجاتها في أكثر من خمسين دولةً، و"فيستيل" التي تصدّر منتجاتها إلى نحو 163 دولة.

مع نهاية التسعينيات، أصبحت هذه الطبقة قوةً اجتماعيةً واقتصاديةً جديدةً، لكنها كانت تفتقر للمظلّة السياسية التي تمكّنها من التأثير. فجاء فوز حزب العدالة والتنمية سنة 2002 ليمثل نقطة التحوّل. كانت الطبقة الأناضولية المرفّهة حليفاً طبيعياً وظهيراً سياسياً للحزب الذي جمع بين السياسات الليبرالية اقتصادياً والقيم المحافظة اجتماعياً. ففي سنة 1990، تأسست جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين "موصياد" لتكون صوت رجال الأعمال المحافظين. وذلك في مقابل جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك "توسياد" التي تأسست سنة 1971، والتي طالما مثّلت كبار الرأسماليين العلمانيين في إسطنبول المرتبطين تاريخياً بالدولة والنخب الكمالية، أي الأتراك البيض.

مع مرور الوقت، برز الانقسام داخل الطبقة المرفّهة التركية بشقَّيْها. فمن جهةٍ هناك "البرجوازية الجمهورية" التقليدية التي تنتمي لعائلاتٍ كبيرةٍ، مثل كوتش وصابانجي وإيجاكباشي، والتي بَنَت نفوذها بقربها من الدولة وتغلغلت في قطاعات الإعلام والبنوك والصناعة عقوداً من الزمن. بالمقابل، برز روّاد أعمالٍ جددٌ من قلب الأناضول، متديّنون ومستقلون، بنوا ثرواتهم بجهدٍ ذاتيٍّ في قطاعاتٍ مثل الملابس الجاهزة والأغذية والإنشاءات، من غير دعمٍ مباشرٍ من الدولة.

شكّل رواد الأعمال الأناضوليون الطبقةَ الصاعدة التي قلبت موازين القوى الاقتصادية في البلاد، وأعادت تشكيل العلاقة بين الدين والدولة والسوق. وهو ما أبرزه تقرير معهد مبادرة الاستقرار الأوروبي "إسلاميك كالفينيستس" (الكالفينيّون الإسلاميّون) المنشور سنة 2005، الذي ربط بين النجاح الاقتصادي لتلك النخبة الجديدة وبين أخلاقيات عملٍ دينيةٍ محافظة. وأوضح التقرير أن النظام الصناعي الناشئ في مدن الأناضول لم يقم على شبكات الولاء السياسي أو الريع، بل على قاعدة رأسماليةٍ حديثةٍ تتعايش فيها القيم الدينية مع حركة السوق المفتوح. وهو ما يمثل نمطاً جديداً من التفاعل بين الدين والدولة والاقتصاد.

في خضم التحولات الاجتماعية التي أفرزت "نمور الأناضول"، برز رجب طيب أردوغان – ابن حيّ قاسم باشا الشعبي – نتاجاً لهذا الصعود ومعبّراً سياسياً عنه، وبلغةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن النخب المدينية التقليدية.

تعمّد أردوغان منذ بداياته السياسية وضع نفسه في خطاب الهوية جزءاً من تركيا المهمشة، متحدثاً بِاسم فئاتٍ شعرت أنها مستبعدةٌ من دوائر القرار والثقافة الرسمية عقوداً. ولعلّ أبرز تعبيرٍ عن هذه الإستراتيجية ما قاله في مقابلةٍ مع صحيفة "نيويورك تايمز" سنة 2003: "في هذا البلد هناك أتراك بيض وأتراك سود [. . .] وأنا طيّب من الأتراك السود". لم يكن هذا التصريح محضَ اعترافٍ شخصيٍّ. هو اختيار دقيق لموقعٍ رمزيٍّ داخل الانقسام الاجتماعي التركي يضعه في مواجهة النخبة الكمالية المدينية، ويكسبه شرعية تمثيل الطبقات التي نمت اقتصادياً، لكنها ظلّت خارج المشهد ثقافياً وسياسياً.

مع صعودِ أردوغان، تغيّرت البنية الرمزية للدولة بفعل التحالف الجديد بين القوة السياسية الصاعدة ورأس المال المحافظ، وأُزيحت النخبة التقليدية تدريجياً من مركز السلطة. ظهرت وجوهٌ جديدةٌ من سياسيين مثل نعمان كورتولموش، المولود في مدينة أوردو شمال شرقي تركيا، الذي حافظ على صلته الوثيقة بالمجتمع المحافظ. وشغل مناصب رفيعةً، من بينها نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والسياحة، قبل أن يتولّى رئاسة البرلمان سنة 2023. عُرِف أيضاً رجال أعمالٍ، مثل أدهم سنجق، المولود في مدينة سيرت جنوب شرقي تركيا. بدأ سنجق مسيرته صحفياً محلياً، ثم أسّس إمبراطوريةً اقتصاديةً شملت قطاعات الإعلام والدفاع. وصُنّف ضمن قائمة مجلة فوربس لأثرى أثرياء تركيا من أبناء الطبقة المحافظة الصاعدة.

هذا التغيير السياسي لم يكن منفصلاً عن تحولٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ أوسع. فقد أصبح للمستهلك من أصولٍ ريفيةٍ وجودٌ محسوسٌ ومؤثرٌ في السوق. وفرض على الاقتصاد أن يعيد توجيه بوصلته، بعدما كان لسنواتٍ مستهلكاً مهمَّشاً. الأمر الذي دفع كثيراً من الشركات والعلامات التجارية إلى إعادة توجيه بوصلتها لتواكب ذوقه وتلبّي احتياجاته، سواءً في المنتجات أو الخدمات أو أساليب التسويق، وأن تفرض حضورها في الفضاء العامّ بنحوٍ يتماشى مع قيمها. فقد ظهرت مجلاتٌ للأزياء الإسلامية الراقية، ومطاعم عائليةٌ لا تقدّم الكحول، ووجهاتٌ سياحيةٌ تسوّق لنفسِها على أنّها "حلال" ومخصصةٌ للأسر المحافظة.

ومع هذا الحضور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، انتعشت الصناعات الثقافية ذات الطابع المحافظ. فقد غزت المسلسلات التاريخية الشاشاتِ، وتحوّلت من عملٍ فنيٍّ إلى حالةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ يتابعها الملايين في الداخل والخارج. مثلما حدث مع مسلسل "قيامة أرطغرل" الذي عُرض للمرة الأولى سنة 2014. يستعرض المسلسل بدايات تشكّل الدولة العثمانية من سيرة الغازي أرطغرل بن سليمان شاه، قائد قبيلة قايي من أتراك الأوغوز المسلمين، ووالد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية. وبحسب تقريرٍ نشرته صحيفة "ذا إيكونوميست" البريطانية، ازداد الطلب العالمي على العروض التركية بنسبة 184 بالمئة بين سنتَيْ 2020 و2023.

كذلك فإن الأغاني الشعبية والكتب الدينية والمنتجات الثقافية التي كانت مهمَّشةً وَجَدَت سوقاً واسعاً ومتعطّشاً. أظهرت بيانات اتحاد الناشرين الأتراك لسنة 2024 أن نسبة المنشورات الدينية من إجمالي الإصدار الوطني تجاوزت 8 بالمئة بإجمالي 36.4 مليون نسخة، مقارنةً بنحو 33.0 مليون نسخة سنة 2022. وقد استجابت دور نشرٍ متخصصةٌ، مثل "أنصار" و"حيّرات"، لهذا الطلب بإعادة طبع كتبٍ مركزيةٍ في التراث الإسلامي، مثل رياض الصالحين للإمام النووي وسيرة ابن هشام، مراتٍ عديدةً في العام الواحد. هذا مع تنويعاتٍ موجهةٍ للأطفال والشباب والنساء، في تأكيدٍ على حيوية هذا السوق ومرونته في مخاطبة فئاتٍ متعددةٍ من المجتمع.

هذا التحول الثقافي لم يكن مجرد انعكاسٍ لطلب السوق، بل كان جزءاً من إعادة صياغة الهوية التركية في ظلّ صعود نخبةٍ جديدةٍ أكثر تمسكاً بقيمها المحافظة وموروثها الديني. فبدأ التمثيل الرمزي لهذه الهوية يتغلغل في مفاصل الدولة، من التقاليد الرئاسية إلى سياسات التعليم والإعلام، ووصل حتى الأزياء الدينية مثل الحجاب.


لم تعد تركيا اليوم ذاتها تركيا القرن العشرين. تشكلت الدولة الجديدة من التقاء تيّارَيْن كانا في تضادّ. ومع مرور الوقت لم تعد العلاقة بين هذين التيارين مجرد خصومةٍ، بل أخذت شكلاً معقداً من تداخلٍ وتوازٍ وتصادمٍ أحياناً، وتوافقٍ ضمنيٍّ أحياناً أخرى. ولم يعد مستغرباً أن تشاهد على شاشات الأخبار فاطمة قاوقجي، المترجمة الشابة للرئيس رجب طيب أردوغان، تقف إلى جانبه خلال لقاءاتٍ مع قادة العالم.

فاطمة، المتخصصة في العلاقات الدولية هي ابنة مروة قاوقجي، أول نائبةٍ محجبةٍ تُنتخَب في البرلمان التركي سنة 1999 ممثلةً عن حزب الفضيلة الإسلامي. حُرمت مروة من أداء القسم في البرلمان حين رفضت نزع حجابها وأُسقطت عضويتها في جلسةٍ علنيةٍ، ثم سُحِبَت الجنسية التركية عنها رسمياً بحجة ازدواج الجنسية، أمريكية وتركية. سنة 2017، مع ازدهار حكم حزب العدالة والتنمية المحافظ، أُعيد لها الاعتبار. فأُلغِي قرار إسقاط جنسيتها، وعُيّنت لاحقاً سفيرةً لتركيا في ماليزيا.

تمثّل فاطمة جيلاً جديداً من الشابات اللواتي يجمعن بين الهوية المحافظة والحضور المهني في أعلى دوائر القرار. هذا التبدّل لم يكن عابراً، بل جاء نتيجةَ طريقٍ طويلٍ من النفي والمواجهة. إذ كان الحجاب مؤشّراً لهويةٍ اجتماعيةٍ منبوذةٍ سابقاً، قبل أن يُعاد تأهيله تدريجياً. فكان صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم سنة 2002 نقطة تحولٍ مفصليةً أعادت فتح النقاش عن هوية تركيا الثقافية وموقع الدِين فيها​.

ومع أن الحزب تحاشى الصدام المباشر في بدايات حكمه، إلّا أنه بدعمٍ شعبيٍّ كبيرٍ حاول تدريجياً رفع الحظر عن الحجاب. سنة 2013، نجح العدالة والتنمية بفرض حزمة إصلاحاتٍ حكوميةٍ تضمنت إتاحة ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية، ثم تبعته المدارس والجامعات والشرطة وحتى صفوف الجيش.

أصبح الحجاب في أحيانٍ كثيرةٍ جزءاً من تمثيل المرأة التركية السياسي والإعلامي. فصار يُرى في شاشة الأخبار كما في ساحات الجامعات، في الوزارات كما في الأسواق. فعلى سبيل المثال، عُيّنت عائشة غورجان وزيرةً للأسرة والسياسات الاجتماعية في أغسطس 2015، لتكون أوّلَ وزيرةٍ محجبةٍ في تاريخ تركيا. وفي مايو سنة 2022 عُينَت كوبرا غوران يغيتباشي في منصب محافِظة أفيون قره حصار، غرب تركيا، لتكون أوّلَ محافِظةٍ محجّبةٍ في البلاد. حتى حزب الشعب الجمهوري التركي، حزب المعارضة الأبرز، الذي كان ولايزال في صفّ منع الحجاب، أعلن قبيل الانتخابات الرئاسية 2023 أنه سيحمي دستورياً حق المرأة في ارتداء الحجاب.

بهذا بدأت تركيا الجديدة تعكس تداخلاً مركّباً بين عناصر ظلّت متعارضةً عقوداً من الزمن. هناك تقدّمٌ تقنيٌّ سريعٌ وتمسكٌ بالمرجعية الدينية وطموحٌ اقتصاديٌّ منفتحٌ، وتشبّثٌ بالرموز الثقافية التقليدية. فلَم تعد قيم التحديث مرادفاً للقطيعة مع الموروث، ولا التديّن عقبةً أمام الانخراط في أنماط الحياة المعاصرة. فظهرت توليفةٌ مجتمعيةٌ جديدةٌ لا تلغي التناقضات، بل توفّق بينها في إطارٍ مرنٍ يعيد تعريف العلاقة بين الأصالة والحداثة.

نتج هذا التحوّل من مسارٍ طويلٍ تبلور عبر عقودٍ، ولاسيما بعد انقلاب 1980. كما يشير أحمد سليم قادي أوغلو، الباحث في جامعة العلوم الاجتماعية في أنقرة، في دراسةٍ نُشِرَت سنة 2020 بعنوان "فورميشين آند ديفيلوبمِنت بروسيس" (عملية التشكل والتطور). حينها تبنّت المؤسسة الحاكمة بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، الذي أصبح الرئيس السابع لتركيا حتى 1989، ما عُرف لاحقاً بِاسم "التوليفة التركية الإسلامية" مشروعاً عقائدياً يعيد تعريف هوية الدولة والمجتمع. وُظفت هذه التوليفة أداةً في السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية تحت رعاية الدولة العسكرية. والهدف مواجهة المدّ اليساري وإعادة هندسة الهوية الوطنية، بمنظورٍ أكثر توافقاً مع القيم الدينية والتقاليد المجتمعية المحافظة.

يقول قادي أوغلو في الدراسة نفسها إن تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية الممتد حتى اليوم، والمعروف بِاسم "تحالف الشعب"، يمكن النظر إليه أحدَ التجلّيات المعاصرة لهذا الخط التركي الإسلامي. إذ يجمع في خطابه السياسي بين النَفَس الديني والتأكيد على الهوية القومية التركية، ضمن سرديةٍ اعتمدت إرث كلٍّ من المنظّر القومي التركي ضياء كوك ألب، والشاعر المحافظ محمد عاكف أرصوي.

يرى أنصار التوليفة التركية الإسلامية أن العلاقة بين الهوية التركية والإسلام لم تكن علاقة صدامٍ بين أطروحةٍ ونقيضها، إنّما انسجاماً طبيعياً بين عنصرين متكاملين. فالقيم الدينية والثقافية التي كان يحملها الأتراك قبل دخولهم الإسلام كانت، بحسبهم، متوافقةً مع جوهر الإسلام. وهو ما جعل نشوء هذه التوليفة وتطوّرها أمراً طبيعياً وسلساً. فهذه التوليفة، التي بلغت أوجها في الدولة العثمانية، ليست مشروعاً سياسياً مختلقاً كما يدّعي خصومها، بل نتاجاً تاريخياً متجذراً.

هكذا تراجع تأثير الثنائيات الحادّة، مثل "متدين" و"علماني" أو "شرقي" و"غربي"، وظهرت بدلاً منها مساحات وسطٍ واسعة. لكن هذا التوازن الهشّ لم يَخلُ من شقوقٍ وتصدّعات. فوسط هذا الاندماج التدريجي، ظلّ الاستقطاب الكامن حاضراً يطفو إلى السطح في أوقات الأزمات. يشعر كثيرٌ من العلمانيين أن روح الجمهورية الكمالية تتآكل، وأن المظاهر الدينية أخذت تزاحم فضاءً طالما عَدّوه حكراً عليهم.

برز تعبير العلمانيين عن مخاوفهم من تراجع روح الجمهورية الكمالية، حين شهدت تركيا ما عُرف بـاحتجاجات الجمهورية في 2007. عندها خرج مئات الآلاف إلى الشوارع معلنين رفضهم محاولة تعديل قانون الحجاب، معتبرين أن المساعي لتخفيف قيود ارتدائه تمثّل تآكلاً في الصدارة العلمانية للسلطات. وعاد هذا القلق إلى المقدمة في احتجاجات "غيزي بارك" (منتزه غيزي) سنة 2013، التي اجتمعت فيها مجموعاتٌ علمانيةٌ ويساريةٌ وتقدميةٌ أوّل مرّةٍ رفضاً لتدخّل الدولة في المساحات المدنية والأزمات البيئية. وتحوّل شعار "كلّنا غازي" لاحقاً إلى رمزٍ لحماية القيم العلمانية.

في الجهة الأخرى، ثمّة قلقٌ مضادّ. يخشى محافظون كثرٌ من أن تذيب العولمة قيمهم، وأن تفرض أنماطاً ثقافيةً لا تنتمي إليهم. يشيرون مثلاً إلى تصاعد الأصوات الليبرالية المطالِبة بمزيدٍ من الحريات الفردية، بما في ذلك ما يتعلق بقضايا النوع والهوية الجنسية. ويعتبرون أن هذه القيم المستوردة تهدّد بنيان العائلة وقيم المجتمع. وقد عبّر الرئيس أردوغان عن هذا القلق في منتدى الأسرة الدولي في إسطنبول في مايو 2025، محذراً من عقائد سياسيةٍ ليبراليةٍ بقولِه إنّ تيّار الحقوق المثليّة أصبح أشبه بالفاشية وإنّه تهديدٌ حقيقيٌ لكرامة الأسرة وكيان المجتمع. وقد اتخذت الحكومة التركية عدّة خطواتٍ لمواجهة ما تَعُدّه تهديداً لقيم الأسرة، تمثّل في إطلاق عقد الأسرة والسكان للفترة من 2026 إلى 2035 جزءاً من رؤيةٍ إستراتيجيةٍ لتعزيز الأسرة وتحفيز الزواج والإنجاب.


السؤال الكبير الذي يواجه تركيا اليوم ليس من سينتصر، الأتراك السود أم الأتراك البيض. بل كيف يمكن أن تتعايش هذه الهويات المتباينة داخل وطنٍ واحدٍ دون أن تنفجر. كيف تُبنى جمهوريةٌ تتّسع للعلماني والمحافظ، حاملَيْ لواء المدنية الكمالية مقابل المنحدرين من الأناضول ممّن هُمِّشوا عقوداً، دون أن يشعر أحدهم أنه غريبٌ في بلاده.

الجواب ليس سهلاً، لكن ربما يكمن في هذه الصيغة الفريدة التي تجرّبها تركيا كلّ يوم. أن تكون حداثياً دون أن تتنكر لروحك، وأن تكون متديّناً دون أن تفرض رؤيتك، وأن تكون تركيّاً دون أن تُقصيَ من لا يشبهك.

اشترك في نشرتنا البريدية