تُمثِّل هذه الديونُ عبئاً على الميزانية العامة، فقد ارتفعَت الاستحقاقاتُ المرتبطةُ بها من فوائدَ وأقساطِ سدادٍ على الديونِ متوسطةِ الأَجَلِ وطويلة الأجل من 3.2 مليار دولار في السنة المالية 2013-2014 إلى 25.4 مليار دولارٍ في السنة المالية 2023-2024. وتبدأُ السنةُ الماليةُ للحكومةِ المصريةِ في الأولِ من يوليو من كلِّ عامٍ وتنتهي في الثلاثين من يونيو من العامِ الذي يليه.
ولِلوفاءِ بالتزاماتِ الحكومة للمُقرِضين، خاصةً الأجانبَ منهم، زادَ الطلبُ على الدولار ففقدَ الجنيهُ المصريُ في عَشرِ سنواتٍ معظمَ قيمتِه وصارَ الدولارُ الواحدُ يعادِلُ خمسين جنيهاً بعد أن كان يعادِلُ أقلَّ من ثمانية جنيهاتٍ في 2014. أدّى هذا الانهيارُ في قيمةِ العملةِ المحلّيةِ مع الاعتماد على الواردات في قطاعاتٍ وسِلَعٍ رئيسيةٍ إلى معدّلاتِ تضخّمٍ غيرِ مسبوقةٍ، إذ زاد سعرُ السكّرِ حوالي 680 بالمئة والدقيقِ 500 بالمئة والأرُزِّ 420 بالمئة والفولِ 360 بالمئة والشايِ 500 بالمئة واللحومِ 320 بالمئة في عشرِ سنوات. وارتفعَت تكلفةُ الخِدمات الأساسيةِ في الفترة ذاتها فزادَ سعرُ الكهرباء 750 بالمئة ومتوسطُ سعرِ تذكرةِ قطارِ الأنفاقِ بنسبة 925 بالمئة وهي بياناتٌ وردَت من الجهازِ المركزيِ للتعبئةِ العامةِ والإحصاء. وبذلك أَكَلَ التضخّمُ كلَّ الزياداتِ في الأُجورِ التي شرَّعَتها الحكومةُ في العَقدِ المنصرِمِ، إذ ارتفَعَ الحدُّ الأدنى للأجورِ في القطاعين العامِ والخاصِ من ألفٍ ومئتَي جنيهٍ في 2014 إلى ستّةِ آلافِ جنيهٍ في 2024، غيرَ أن المقابلَ الدولاريَّ والقيمةَ الحقيقيةَ لهذا الأجرِ انخَفَضا.
تَكثُر مقارنةُ هذه الأزمة بتلك التي عانَت منها مصرُ في حُكمِ الخديويِّ إسماعيلَ في سبعينيات القرن التاسع عشر. تتّسمُ المقارَناتُ غالباً بسِمَتَيْن هُما قراءةُ الحاضر على أنه تَكرارٌ للماضي والنظرُ لعلاقة الدَيْن علاقةً اقتصاديةً حتى عند تمحيصِ آثارِها السياسية والاجتماعية. بسببِ هاتَيْن السِمَتَيْن، تَخْلُصُ المقارَناتُ إلى أن خطورةَ أزمةِ الديون في أنها تُضعِفُ الحكومةَ والسيادةَ الوطنيةَ، إذ يأملُ المعارِضون لِحُكم الرئيس السيسي أن الأزمةَ ستُضعِفُ قبضتَه وربما تطيحُ به كما أطاحت أزمةُ القرن التاسع عشر بالخديوي إسماعيل. لكنّ جوهرَ علاقةِ الديونِ هو ترتيبُ المستقبلِ، فتشابُهُ الأزمةِ الحالية مع سابقتِها في كونِها ناتجةً عن محاولةِ بناءِ المستقبل السياسي وترتيبِه بصورةٍ معيّنةٍ، وأنّ حِدّةَ الأزمةِ لا تعني بالضرورة فشلَ هذا المستقبل.
وإذا كان سعيد باشا هو الذي قصَّ شريطَ الاستدانة فإن أصابعَ الاتّهامِ تتّجِهُ كذلكَ لابنِ أخيهِ وخليفتِه في الحُكمِ، الخديوي إسماعيل، الذي كَثُرَ في عهدِه الاعتمادُ على القروضِ لتمويلِ مشروعاتِه التنمويةِ المختلفة. ففِي العَقدِ الأولِ من حُكمِ إسماعيلَ، شَرَعَت الحكومةُ في حَفْرِ قنواتِ الريِّ وبناءِ الجُسورِ والسِككِ الحديديةِ وخطوطِ التِلغرافِ والموانئِ، وأقامت حفلاً ضخماً لافتتاح قناة السويس. ويُقدّرُ المؤرّخون الاقتصاديون نفقاتِ المشروعات التي نفّذَتها الحكومةُ في عهد إسماعيل بمليارٍ وثلاثمئة مليون فرنك، وهو ما أَورَده جلال أمين في كتابه "قصة الاقتصاد المصري". سلكَ إسماعيلُ مسلكَ سلفِه في الاعتماد على الديون الخارجية لتمويل هذه المشروعات. فقد حصلَت الحكومةُ على ثمانيةِ قروضٍ طويلةِ المدى قيمتُها مليارٌ وستمئةٍ وخمسين مليون فرنكٍ فرنسيٍ في الفترة من 1862 إلى 1873 بضماناتٍ مختلفةٍ، وقد اقتُطِعَت نسبةٌ منها للرسوم الإدارية والعمولات، وتراوحَت مُدّةُ سدادِها بين اثنتَي عشرةَ سنةً وثلاثين سنةً بفائدةٍ سنويةٍ تراوحَت بين سبعةٍ وتسعةٍ بالمئة. فزادت الديونُ الخارجيةُ بين سنتَيْ 1862 و 1876 بنسبةٍ وصلَت إلى 2300 بالمئة.
ظهرَت نتائجُ الاعتماد على الديون سريعاً فقد استَنزَفَت الأقساطُ والفوائدُ مواردَ الدولة التي خُصِّصَ جُلُّها للسدادِ ولَم يَبْقَ للحكومة ما تُغطّي به نفقاتِ تصريف الأعمال فاضطُرَّت للتنازل عن مواردِ دخلِها. فقد قَلَّصَت حصيلتَها الضريبيةَ بإقرار قانون المقابلة سنة 1871 لقاءَ حصولِها دفعةً واحدةً على أموالٍ من أصحاب الأراضي ثم تنازلَت مؤقتاً عن حقّها في 15 بالمئة من أرباح قناة السويس للدائنين سنة 1869 قبل أن تبيعَ أسهمَها في شركة القناة سنة 1875. ومع استمرار تآكُلِ المواردِ وضغطِ الدائنين أذعنَت الحكومةُ لطلبات الدائنين سنة 1876 وأَسّسَت صندوقَ الدَيْن العموميّ الذي أَشرَف على جمعِ إيرادات الدولة من الضرائب وغيرها وعلى توزيعها. وفتحَ الصندوقُ بإشرافِه الأجنبيِّ البابَ على مصراعيه أمامَ التحكّم الأجنبيّ في ماليةِ الحكومةِ حتى عُزِلَ الخديوي إسماعيل عن الحكم سنة 1879 وتولَّى ابنُه توفيق مقاليدَ الحُكم ثم احتلت بريطانيا مصرَ عسكرياً سنة 1882.
ثمّة أسبابٌ تدفعُ المعلّقين لقراءة الأزمة المصرية الحالية على أنها تكرارٌ للماضية. فالرابطُ بينهما مشروعُ "التنمية بالديون" أي اللجوءِ اضطراراً للاقتراضِ من الخارج لتحقيق أهدافٍ تنمويةٍ، والمَلومُ فيهما حاكمٌ فردٌ اتّخذَ قراراتٍ تعسفيةً على غير أساسٍ اقتصاديٍ منضبطٍ ولم يراجِعْه فيها أحدٌ، ما أفقدَ مؤسّساتِ الدولةِ القدرةَ على إدارة الموارد برُشدٍ وتجنُّبَ إهدارِها على نحوٍ يفاقِم الأزمة. والديونُ الخارجيةُ في الحالتين تهديدٌ يتجاوز الاقتصادَ ويقوِّض الاستقلالَ الوطنيَ، أولاً بإشراك الدائنين الأجانبِ في الإدارة المالية كما حدثَ مع ممثّلي الدائنين والبنوكِ الإنجليزية والفرنسية قديماً، والمؤسساتِ الدولية وحكوماتِ بعض دول الخليج حديثاً. وثانياً بالتخلّي عن الأصول العامة للدائنين الأجانب تحت وطأَةِ الدَيْن كبيعِ أسهمِ الحكومة في شركةِ قناةِ السويس للحكومة الإنجليزية سنة 1875 وكصفقةِ "إنقاذ مصر" التي عُقدَت في فبراير 2024 مع مستثمرين إماراتيين حصلوا بموجبها على امتيازِ استغلالٍ لمدينة رأس الحكمة مقابلَ خمسةٍ وثلاثين مليار دولارٍ بالإضافة لمميّزاتٍ أُخرى طويلةِ المدى.
ومع وجاهةِ المقارنةِ بين حالتَي الديون في مصر إلا أن هناك مشكلتَين. أولاً تجاهلُ السياق التاريخي بإجراءِ أحكامِ الحاضرِ على الماضي. ذلك أن ضروراتِ التنمية الاقتصادية التي هي ذريعةُ التوسعِ في الاقتراض في الحاضر لم تكُن كذلك في عهدِ إسماعيل، فلَم تظهَر التنميةُ معياراً للتفاضلِ بين الدول على أساسِ المؤشّراتِ الاقتصاديةِ إلا بعد انتهاءِ الحرب العالمية الثانية. ثانياً غيابُ التمحيصِ لعلاقاتِ الائتمان. فالديون، في هذه المقارنة، علاقةٌ اقتصاديةٌ تابعةٌ لعلاقاتِ الإنتاج والتوزيع ومحكومةٌ بقانون العرضِ والطلبِ نتائجُها الربحُ والخسارةُ الاقتصاديّان والإسرافُ فيها يُخرِجُها عن الإطار الاقتصادي ويحوِّلُها لأداةِ استغلالٍ سياسيٍ، وهو خللٌ يوجِب التقويمَ. وهذه المقارنةُ تجعلُ الديونَ التزاماً مادياً فقط، فلا تسمحُ بفتحِ صندوقِها الأسودِ وفهمِ بنْيَتِها التحتيةِ واستيعابِ الطيفِ الكاملِ لنتائجها الاجتماعية.
تؤدّي هاتان المشكلتان إلى اتخاذِ الحاضرِ نسخةً مكرّرةً من التاريخ، وافتراضِ معرفةِ الإجاباتِ كلِّها سلفاً. ليس غريباً في هذا السياق أن يكثرَ الكلامُ عن خطرِ الديونِ على الاستقلالِ الوطنيِ وأن يُوجَّهَ الاتهامُ إلى المسؤولينَ عن الإنفاقِ الحكوميِ بالإسرافِ وغيابِ الحصافةِ في الإنفاقِ بتنفيذِ مشروعاتٍ كُبرى بقطعِ النظرِ عن عائدِها الاقتصاديِ، وتُجعلَ تلكَ أسباباً رئيسةً للأزمةِ. يُغفِلُ التركيزُ على هذه الأبعادِ أبعاداً أُخرى للأزمةِ، أَزعُمُ أنها أكثرُ جدّيةً، فهذه القراءةُ تَعجَزُ عن تفسيرِ سلوكِ الحكام. فإن كان التاريخُ يُعيدُ نفسَه وهم يعرفون مصيرَ المتوسّعين في الاقتراض في الماضي فما الذي سلكَ بهم ذلك المسلكَ الذي نهايتُه هلاكٌ وعزلٌ؟ لإجابة هذا السؤال لا بدّ من إعادةِ النظرِ في التاريخِ وفي علاقتِه بالواقعِ، وهي رحلةٌ يَحسُن أن تبدأَ من تمحيصِ معنى الائتمانِ أو الاقتراضِ وتطوّرِه التاريخي.
لكي يشتريَ شخصٌ شيئاً من المستقبلِ يجب أن يَثِقَ في أربعةِ أُمورٍ هي وجودُ الشيءِ الذي سيحصل عليه في المستقبل (المَبيع المستقبلي)، وكونُ قيمتِه أعلى من المال الذي يدفعه الآن، وأن يكونَ الذي يقبضُ المالَ الحاليَّ مالكاً للشيءِ الذي سيبيعُه في المستقبل، وأن يكونَ قادراً على تسليمِ المَبيعِ في المستقبل.
لَم يكُن التحقّقُ من وجودِ هذه الشروط حتى بداية القرن التاسع عشر مسألةً معقَّدة. فقد كان الشراءُ من المستقبل محدودَ المجالِ والزمانِ وله صورتانِ أُولاهُما زراعيةٌ وهي شراءُ أربابِ الأموالِ الثِمارَ بسعرٍ مخفَّضٍ من الفلّاحين قبل أن تنضجَ، والثانيةُ تجاريةٌ وهي شراءُ البضائعِ من الشركات التجارية (كشركة الهند الشرقية الإنجليزية أو الهولندية) والسفنُ لمّا تَنزلُ في عُرضِ المحيطِ. مَثّلَت هاتان الصورتان المعيارَ للائتمانِ فلا تزيدُ مُدَّتُه عن السَنَةِ. ويُبَرَّرُ التخفيضُ للدفعِ في الحاضرِ بالمخاطَرةِ المترتبةِ على تأجيلِ القبض. وكان الائتمانُ يُعقَدُ بين أشخاصٍ طبيعيين لكلٍّ منهم ذمّةٌ مستقلةٌ حتى في الشركات المساهمة، كالتي سبقَت الإشارةُ إليها، فيَسهُلُ الفصلُ في ملْكيةِ كلِّ واحدٍ للمَبيعِ.
تغيّرَت العلاقةُ بالمستقبل في النصف الأول من القرن التاسع عشر وصارَ أقربَ لكونِه امتداداً للحاضر. وتغيَّرَت الترتيباتُ الائتمانيةُ المرتبطةُ بالتجارة عبرَ المحيطاتِ فاندثرَت الشركاتُ التجاريةُ أو استحالت مؤسساتٍ استعماريةً ونشأَت شركاتٌ جديدةٌ تَستثمِرُ في وسائلِ النقلِ التي يُمكن تحصيلُ الرسومِ من مستخدِميها وأهمُّها السككُ الحديديةُ والقنواتُ الملاحيةُ والجسورُ والقناطر. وتزامَنَ ذلك مع تَغيُّرِ وضعِ الشركات المساهمة القانونيِّ، إذ تبلورَت الشخصيةُ الاعتباريةُ للشركة وصارت لها ذمّةٌ مستقلّةٌ عن أعضائها وصارت أصولُها مملوكةً للمساهمين على المشاعِ لا يختصُّ أيٌّ منهم ببعضها، وتغيّرَتْ مُدَدُ امتيازات الشركات فصارت تمتدُّ عقوداً متعاقبةً لا سنواتٍ معدودةً.
فرضَ هذا التغييرُ سعياً للتحكم في المستقبل. كانت الشركاتُ المساهمةُ تتشكّلُ في الغالبِ بعد حيازةِ امتيازاتِ حَفرِ القنواتِ وبناءِ السككِ الحديديةِ فيبيع حائزو الامتيازات هذه الإيراداتِ المستقبليةَ المتوقعةَ من المشروع للمستثمرين مخفّضةَ القيمةِ في الحاضر في صورةِ أسهمٍ كشركةِ قناة السويس. وكانت قدرةُ هذه الشركاتِ على تحصيلِ الأرباحِ مرتبِطةً بترتيباتٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ تَضمنُ احتكارَها الطرقَ البريةَ والبحريةَ وتَسمحُ لها بتحصيلِ الرسومِ من مستخدِميها. كانت رؤوسُ الأموالِ المستَثمَرةِ ضخمةً على نحوٍ يوجِبُ توجيهَ الجهدِ والمالِ لضمانِ بقاءِ شروطِ تحصيلِها من المستقبل. وتَوجَّه هذا الجهدُ بالأساسِ لضمانِ بقاءِ الحكوماتِ التي تَمنحُ الامتيازات.
لم يكن ثمّةَ مستقبلٌ للحكومة تبيعُه حين وصلَ محمد علي للحكم سنة 1805. كان المستقبلُ المَبيعُ مملوكاً للأفرادِ لا الحكومةِ، وهو محصولاتٌ زراعيةٌ يبيعُها أصحابُها قبل الأوان مخفَّضةَ القيمةِ لأرباب الأموال، ولم يكن للحكومة من هذا المستقبل سوى الضرائب. وقد كانت الضرائبُ عثمانيةً تُجبَى بِاسمِ السلطان من المزارعين والحِرَفيين وغيرهم ولم تكن هناك ضمانةٌ لوجود الباشا حاكمِ مصرَ الذي يَجبِيها في المستقبل، فقد كانت ولايتُه تتجدَّدُ سنوياً بفَرَمانٍ سلطانيّ. لم يكن تحتَ تصرّفِ الباشا من العوائدِ المستقبليةِ إلا مقدارُ سَنَةٍ من الضرائب فكان يدفعُ أُجورَ عمّالِ حكومته بسنداتِ دَيْنٍ مؤجَّلةٍ تُستَحَقُّ بعد سَنَةٍ، أما الاقتراضُ أو مَنْحُ الامتيازات فلَم يكُن من سلطةِ الباشا.
كان توقيعُ اتفاقيةِ لندن سنة 1840 والأمرُ السلطانيُّ بتاريخ 13 فبراير 1841 نُقطتَيْ تحوّلٍ في العلاقة بين السلطان والباشا ففتحا البابَ أمام بناءِ مستقبلٍ مصريٍ من ثلاثِ جهاتٍ. أُولاها أنهما أَعطَيا محمد علي امتيازاً وراثياً بحكم مصر فصار وجودُ حكومته في المستقبل مضموناً. الثانيةُ أن الاتفاقيةَ جعلَت الملوكَ الأوروبيين وسطاءَ بين السلطان والباشا على نحوٍ قَلّصَ من تبعيّةِ حكومةِ محمد علي للباب العالي وفَتَحَ بابَ التمايزِ بينهما. والثالثةُ أنهما أَلْزَمَتا الباشا باتفاقية "بلطة ليمان" القاضيةِ بإلغاءِ الاحتكارات الحكومية؛ فانفتحَ المجالُ أمامَ الأوروبيين للتعاقد على شراءِ المستقبل من مصر بإقراض المزارعين. بدأَ توافدُ الرأسماليين الأوروبيين إلى مصر بكثافةٍ في العقد التالي بمعدلٍ زادَ على ثلاثينَ ألفَ وافدٍ في السنةِ، وهو ما ذكره ديفيد لاندز في كتاب "بنوك وباشاوات"، ثمّ تُوُفِّيَ محمد علي وابنُه إبراهيمُ وتَولَّى حفيدُه عباس الحُكمَ وبدأَ في عهده الصراعُ على المستقبل.
ظهرَت أُولى حلقاتِ الصراعِ على المستقبل سنة 1851. فقد تأسّسَت أَوّلُ شركةٍ مساهمةٍ عثمانيةٍ وانفتحَ بتأسيسِها سبيلٌ جديدٌ لشراءِ العوائد المستقبلية من الحكومات بحصولِ الشركاتِ على امتيازاتٍ طويلةِ المَدى. وفي العام نفسه، حاولَ العثمانيون استعادةَ سلطانِهم على مصر بانتزاعِ حقِّ التصديقِ على أحكامِ الإعدامِ من الباشا. فقاوَمَهم عباس واستعانَ بالإنجليز الذين انحازوا له بعد أن وَعدَهم بمنحِ امتيازِ بناءِ السككِ الحديديةِ بين الإسكندرية والسويس مروراً بالقاهرة لمهندسٍ إنجليزيٍ، كما تشيرُ هيلين ريفلين في بحثِها "مسألة السكك الحديدية في الأزمة المصرية العثمانية". وهي المرّةُ الأولى التي يقرِّرُ فيها الباشا بناءَ قنواتٍ مستدامةٍ للعوائد المستقبلية وبَيعَها لطرفٍ خارجيّ. اعترَضَت الحكومةُ العثمانيةُ على المشروع وأَصرّتْ على افتقاره لتصديقها كونَها صاحبةَ السيادة. وبعد تفاوضٍ مع الإنجليز أَقَرَّ البابُ العالي أنّ للباشا الحقُّ في بناء السكك الحديدية من غير موافقةِ الحكومة العثمانية. إلا أن الاقتراضَ من الخارج أو مَنْحَ امتيازاتٍ لشركاتٍ أجنبيةٍ يستوجب موافقةَ السلطان، كما يشير عمر عمر في رسالة الدكتوراه التي قدّمَها لجامعة لندن سنة 1966: تَكرّسَ حقُّ الباشا في الاستثمارِ بأيِّ طريقٍ شاءَ، لكنّ عوائدَ الضرائب التي تُدفَع بها أقساطُ الديونِ وعوائدَ المشروعات الممنوحة في صورة امتيازاتٍ بقيَت عثمانيةً لا يجوز بيعُها للأجانب بغيرِ موافقةِ السلطان.
تَمَصَّرَ حقُّ بيعِ المستقبل في عهدِ سعيد باشا فباعَه في صورةِ امتيازات. زادَ النفوذُ الفرنسيُ عند البابِ العالي بسببِ حربِ القِرْمِ (1853-1856) قُبَيْلَ وصولِ سعيد باشا للحُكم. وصارَ النفوذُ الفرنسيُ مقارِباً للنفوذ الإنجليزي فاستَغلَّ سعيدُ باشا تنافُسَهما على استغلالِ فرصِ شراءِ المستقبل. فمَنَحَ امتيازَ حفرِ قناة السويس لدبلوماسيٍّ فرنسيٍّ سابقٍ مقابلَ 15 بالمئة من أرباح المشروع للحكومة المصرية إضافةً إلى نصيبها من أسهمِ الشركةِ، فضَمِنَ دفاعَ الفرنسيين عن قراره لدى الباب العالي. وأَعطَى الإنجليزَ امتيازَ استكمالِ خطوط السكك الحديدية فلَم تكُن معاداتُهم له كاملة. أي أنه انتَزعَ من العثمانيين حقَّ بيعِ المستقبل بأن باعَه للأوروبيين الذين توافَقَت مصالحُهم معه، لكنّ شروطَ البيعِ في هذا السياق كانت مجحِفة. فبسببِ معارَضةِ الإنجليز لمشروع القناة اضطُرَّ لشراءِ ثلاثةِ أضعافِ الأسهمِ التي كان خَطّطَ لشرائها وتَحمّلَ تكلفةَ اللجنة العلمية التي بَحثَت عمليةَ حفرِ القناة وتعهّدَ بتقديم أربعةِ أخماسِ العمالةِ التي يحتاجُها المشروعُ من الفلاحين المصريين بأجورٍ زهيدة. وقد كَلّفَ حَفرُ القناةِ أكثرَ من أربعمئةٍ وثلاثةٍ وخمسين مليون فرنكٍ بينما كانت تكلفتُها الإجماليةُ تُقدَّر قبل الحفرِ بمئتَيْ مليون فرنكٍ فقط، وهو ما ذَكَرَته مَحاضرُ الجمعية العمومية للشركة المحفوظةِ في أرشيفِها، وقد تحمّلَت الحكومةُ المصريةُ خلال عهدَيْ سعيد وإسماعيل نحوَ 90 بالمئةِ منها.
مع ذلك، لَم يكُن استقلالُ المستقبلِ والحُكمِ عن العثمانيين كاملاً. إذ أَدخلَت شروطُ البيعِ المجحِفةُ الحكومةَ في أزماتٍ ماليةٍ ضخمةٍ أَعجزَتها عن الوفاء بالتزاماتها للشركة وعن تدبير الموارد اللازمة لتمويل أنشطتِها. فاحتاجَ سعيد لبيعِ المستقبل بمالٍ حاضرٍ لِيَفِي بتلك الالتزامات، وكان الطريقُ الأقربُ لذلك هو الاقتراضَ طويلَ الأجلِ منخفِضَ الفائدة. لكن هذا الاقتراضَ كان يفتقر إلى موافقةِ السلطان بعيدةِ المنالِ في ظِلِّ توتّرِ العلاقات بين الطرفين بسبب الامتيازات التي مَنحَها سعيد للأوروبيين. اعتمَدَ سعيد باشا على الديونِ السيّارةِ التي لا يُحصِّلُها بالاقتراض وإنما بتأخيرِ سدادِ المستحَقّات عِوَضاً عن ذلك. فكان يَدفعُ أُجورَ موظَّفِي حكومتِه ومستحقّاتِ المقاولين بسَنَداتِ دَيْنٍ تُستَحَقُّ في آجالٍ محدّدَةٍ تتراوحُ ما بين ستةِ أشهرٍ وثلاثِ سنواتٍ بفائدةٍ سنويةٍ تتراوح ما بين 15 و18 بالمئة. فكان يبيعُ الموظفين والمقاولين مالاً مستقبلياً مقابلَ أَجرِهم المستحَقِّ في الحاضر، وكان الموظفون والمقاولون يبيعون تلك السنداتِ للمُرابِين والبنوكِ في الحال، وهو ما أورده جلال أمين في "قصة الاقتصاد المصري". فاقَمَ الاعتمادُ على الديونِ عاليةِ الفائدة الأزمةَ فبلغَت نسبةُ الفوائد على السنداتِ حوالي 30 بالمئة وبلغَت قيمةُ الديون السيّارةِ المستحَقّةِ نحوَ 150 بالمئة من إيرادات الحكومة بحلولِ سنة 1860، حسبما نشرَت جريدةُ التايمز في يناير 1863. سَعَى سعيد باشا لتخطّي الحجرِ على بيعِ المستقبل طويلِ المَدى ليَحتفظَ ببعضِ مواردِه بثلاثِ طُرُق. أُولاها الاقتراضُ من بنوكٍ لا تَأَبَهُ كثيراً بموافقة السلطان لضمانِها القدرةَ على تحصيل هذا المال المستقبلي بطرقٍ أُخرى. فاقتَرَضَ سنة 1860 من بنوكٍ فرنسيةٍ حريصةٍ على بقاءِ حُكمِه لارتباطِها بشركة القناة، ورسالة الدكتوراه التي قدّمها جوزيف ياكلي لجامعة شيكاغو سنة 2013 تؤكد ذلك. والطريقُ الثانيةُ كانت بيعَ عوائدِه الشخصية المستقبلية فاقتَرَضَ على ذمّتِه وبضمانِ أملاكه لا ذمّةِ الحكومةِ وأملاكِها. وفي الحالتين كان القرضُ ضئيلَ القيمةِ مقارنةً بالتزاماتِ الحكومة. فلَم يَجِدْ سعيد باشا بديلاً عن طلبِ الإذن السلطاني للاقتراض سنة 1862 ووافقَ السلطانُ بضغطٍ من بريطانيا بعد أن اقتطَعَ الباشا نصيباً من عوائد حكومته المستقبلية للبنوك الإنجليزية التي التزمَ أن يكونَ القرضُ منها. وحصلَ على قرضٍ بقيمةٍ اسميةٍ بلغَت 2.5 مليون جنيهٍ إسترلينيٍ ما يعادلُ 62.5 مليون فرنكٍ، وهو أكثرُ من ضعفِ القروض التي كان حصلَ عليها من دون موافقة السلطان.
انتُزِعَ حقُّ الاقتراض بغير موافقة السلطان لاحقاً في عهدِ إسماعيل باشا وهو المؤشّرُ النهائيُ على اكتمالِ السيادة. وقد حاوَلَ الحاكمُ الجديدُ تحسينَ شروطِ البيعِ بعد تأكّدِ حقِّ حكومتِه في بيعِ المستقبل؛ فسَحَبَ بعضَ الامتيازاتِ التي كان سَلَفُه مَنَحَها لشركة قناة السويس وتَحَمَّلَ في سبيلِ ذلك أعباءَ ماليةً ضخمةً مَوّلَها بالقروض. شَجَّعَ تمصيرُ المستقبلِ المموِّلين على إقراضِ إسماعيل باشا بقطعِ النظرِ عن الموافقة السلطانية فقد عَمَّقَ التمصيرُ ملْكيةَ حكومةِ الباشا للمستقبل وتأكّدَت قدرةُ المقرِضين من إنجلترا وفرنسا على قبضِ المستقبل بنفوذِ حكومتَيْهما في مصر. لم يعارِض السلطانُ الاقتراضَ؛ فالقروضُ التي حصلَ عليها إسماعيلُ استُخدِمَت جزئياً لدفعِ التزاماتِ الحكومة المصرية المترتّبة على إلغاءِ بعض الامتيازات التي كان سعيد باشا مَنَحَها للشركة وكان السلطانُ يعارِضُها. أَثمَرَت جهودُ إسماعيل باشا وهداياهُ السخيّةُ للسلطانِ وحاشيتِه حصولَه على لقبِ خديوي، فزادَ تمايزُ ولايتِه عن العثمانيين. حَصلَت الحكومةُ المصريةُ على خمسةِ قروضٍ في الفترة من 1864 إلى 1868 بمعدلِ قرضٍ كلَّ سنةٍ من غيرِ موافقةِ السلطان ولا معارضتِه. ثمّ جاءَ افتتاحُ القناة فحاولَ الباشا استغلالَه في تأكيد استقلاله عن العثمانيين فنَظَّمَ احتفالاً ضخماً في الإسماعيلية ودَعا ملوكَ أوروبا ودبلوماسييها ولم يَدْعُ السلطانَ، فتوتّرَت علاقتُه بالسلطان الذي حاولَ تأكيدَ سيادته بإصداره فَرَماناً يَمنعُ الخديويَ من الاقتراض بغيرِ إذنه. لَم يَمْضِ وقتٌ طويلٌ حتى تَراجعَ السلطانُ عن فرمانِه بعد أن أدركَ أن نتيجتَه ليست الحدَّ من قدرةِ إسماعيل على الاقتراض، فلَم يَعُد المُقرِضون يَأْبَهون بالوضع القانوني للطرفين، وإنما كان يَشغَلُهم قدرةُ الخديويِ على الوفاء بالاقتراض، فكانت النتيجةُ الوحيدةُ لفرمانِ السلطان أن استَغَلَّها المُقرِضون فزادوا عليه الفوائد.
وهكذا تأكّدَت سيادةُ الحكومة المصرية كياناً سياسياً مستقلاً عن الدولة العثمانية بانتزاعها الحقَّ في بَيعِ المستقبل بالاقتراض ومَنحِ الامتيازات، فوُلِدَت هذه السيادةُ منقوصةً. وقد نَجَحَت حكومةُ الخديوي إسماعيل في انتزاع هذا الحقِّ بدعمِ الحكومات الأوروبية التي اشترى بعضُ رعاياها هذا المستقبلَ من الحكومة المصرية فصاروا أصحابَ مصلحةٍ في بقائها لِئَلّا تنهدمَ البنيةُ التحتيةُ القانونيةُ والسياسيةُ للعوائد المستقبلية التي اشتَرَوها. كذلك كان من مصلحتِهم امتلاكُ الحكومةِ القوّةَ اللازمةَ التي تُمكِّنُها من تسليمِهم هذه العوائدَ سواءً قبل الاحتلال البريطاني أو بعدَه. وفي هذه السنوات نَمَت قدرةُ الحكومة على استخلاص الأموال من الناس بفرضِ ضرائبَ إضافيةٍ أو إجبارِهم على العمل المجّانيّ أو تخفيضِ الإنفاقِ على مَصالحهم ومرتّباتهم وخدماتهم لتتوجّهَ هذه الأموالُ عوضاً عن ذلك لِمن اشترَى منها المستقبلَ.
رَوّجَ ديليسبس لشركته ومشروعه حلاً للمشكلات التي أَدَّتْ لاندلاع الثورات. فتَكَثَّفَت المراسلاتُ بينه وبين السياسيين والدبلوماسيين وأرباب الأموال في البلدان الأوروبية المختلفة في الأشهرِ اللاحقةِ لحصوله على امتيازِ حفرِ القناة مركّزاً على الأسباب الاقتصادية للثورات. لَم يكُن الفقرُ الذي عانَته قطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمعات هو سببَ الثوراتِ الوحيدَ، فقد كانت قيادةُ الثورةِ في الغالبِ للطبقاتِ الوسطى من المِهَنيين والمثقّفين الذين تعارَضَت مصالحُهم ورؤيتُهم للعالمِ مع كبارِ أربابِ الأموالِ والحكام.
اقتَرحَ ديليسبسُ مسارَيْن لعلاجِ أسبابِ الثوراتِ الأوروبية. أوّلاً تصديرُ "الفائض البشري" غيرِ المرغوب فيه والمتولّدُ من تزايدِ الملْكيّاتِ الخاصةِ وانتزاعِ الأراضي من أيدي الفلّاحين إلى خارج أوروبا. لم يكن لهؤلاء نصيبٌ من أيّ مستقبلٍ في أوروبا فكان تهميشُهم سببَ ثورتِهم، فأراد ديليسبس إزاحتَهم عن أوروبا بإرسالهم لحفرِ القناة في صحراء السويس لكنّ خُطَّتَه لَم تنجحْ. إذ أثارَت الخطةُ مخاوفَ السلطانِ العثمانيِ ومِن ورائِه الحكومةُ الإنجليزيةُ التي توجّسَت من مساعي ديليسبس لبناءِ مستعمرةِ عمّالٍ فرنسيةٍ في خليج السويس تُقوّضُ السلطةَ العثمانيةَ في مصر لصالحِ فرنسا، بسبب الاتفاقاتِ والامتيازاتِ المنظِّمةِ للتعاملِ مع رعايا الدولِ الأوروبيةِ في الأراضي العثمانية.
أمّا المسارُ الثاني فكان رَبْطَ مستقبلِ الطبقات الوسطى بمستقبلِ الحكام وأربابِ الأموال. كانت الأرباحُ المتوقعةُ من المشروعِ أكبرَ من أن تُحصَرَ بسببِ طولِ مدّةِ الامتيازِ الذي حصلَ عليه ديليسبس والذي وصلَ تسعاً وتسعين سنةً من افتتاح القناة. سمحَ ذلك باقتطاعِ نصيبٍ من هذه العوائدِ المستقبليةِ لصالحِ هؤلاء. فبدلاً من أن يبيعَ ديليسبس الأسهمَ جملةً واحدةً لعائلة روتشيلد كما كان المقترحُ، افتتحَ مكاتبَ للشركة في عددٍ من العواصم الأوروبية تبيعُ الأسهمَ للمهنيين الراغبين في الاستثمار. كان سعرُ السهمِ المقدَّرِ بخمسمئةِ فرنكٍ فرنسيٍ أكبرَ من طاقتهم، فنَصَّتْ لوائحُ الشركةِ على أن يُدفعَ 10 بالمئة من المبلغِ ويُدفعَ الباقي على أقساطٍ تمتدُّ سنوات. يُبيّن أرشيفُ الشركة أن أغلبَ المكتتِبين من المحاسِبين والموظفين والقساوسة يمتلكُ الواحدُ منهم سهماً أو سهمَيْن. لقد كان اجتذابُ مثلِ هؤلاءِ لمستقبلٍ يشارِكون فيه أربابَ الأموالِ والحكامَ فتتوافقَ مصالحُهم هو "صمّامَ الأمانِ" في مواجهةِ خطرِ الثورةِ حسبَ تعبيرِ ديليسبس.
كانت لديليسبس مآربُ أُخرى في ربطِ هؤلاءِ بمستقبلِ الشركة، مثلَ ضمانِ تدخّلِ الحكوماتِ لصالحِ الشركةِ متى استدعَت الحاجةُ. كما حدثَ سنة 1859 حين أَدّى الضغطُ البريطانيُ على البابِ العالي لإصدارِ أمرٍ سلطانيٍ بوقفِ أعمالِ الحفرِ، فلجأَ ديليسبس للمستثمرين الفرنسيين الذين كتبوا إليه وإلى الحكومة يطالِبونها بالتدخلِ لدى البابِ العالي لإلغاءِ ذلك الأمرِ، فكان التدخّلُ ناجعاً وعادَ الحفرُ مَرّةً أُخرى بعدَها بفترةٍ قصيرة.
علاقةُ الدَيْن ليست في جوهرها اقتصاديةً وليست الآثارُ السياسيةُ طارئةً عليها. بل الدَّيْنُ في جوهرِه علاقةٌ بين طَرَفَيْن يحصلُ بينهما تبادلٌ في زمانين مختلفين، ويترتّب على هذا التبادلِ قَدْرٌ من ارتباطِ المصالح والاشتراكِ في المستقبل بين الطَرَفين. تؤسِّسُ الديونُ لصورةِ هذا المستقبل المشترَك الذي تُدافِعُ عنه الأطرافُ المختلفةُ بقدرِ مصالحها فيه، فتَختلفُ هذه المصالحُ وطرقُ تأسيسِها والدفاع عنها من زمنٍ وموقفٍ لآخَرَ. كانت مصالحُ حكّامِ مصرَ التي سَعَوا إليها بالاستدانةِ بناءَ كيانٍ سياسيٍّ ذي سيادةٍ مستقلٍ عن العثمانيين. وقد نجحوا في ربطِ مصالحِ الرأسماليين الأوروبيين بالاستقلالِ المصريِ عن العثمانيين. وكانت مصالحُ القائمين على بعض الشركات، كديليسبس، تحقيقَ أرباحٍ ماليةٍ مستدامةٍ وتأمينَ أوروبا ضدّ خطرِ الثورة وضمانَ تأييدِ الحكومة الفرنسية لمشروعِه. وقد نجحَ في ذلك ببيعِ نسبةٍ كبيرةٍ من أسهمِ شركةِ القناةِ للطبقات الوسطى. فما الذي أراده النظامُ المصريُّ الحاليُّ من شبكةِ علاقاتِ الائتمانِ التي بَناها، وما المستقبلُ الذي حاوَلَ صناعتَه منها.
وصلَ الرئيسُ السيسي للحكم على أنقاضِ ثورةٍ شعبيةٍ حدّدَتْ مع هزيمتِها خُطّتَه وأولوياتِه. وليست الأفعالُ الثوريةُ إلا تقويضاً للبنيةِ التحتيةِ الماديةِ والسياسيةِ والقانونيةِ لمستقبلٍ قائمٍ سعياً وراءَ مستقبلٍ آخَرَ جديد. دَمّرَت ثورةُ يناير أركانَ مستقبلٍ كان قائماً ولم تُفلِحْ في صَوْغِ بديلٍ تَبْنِيهِ بترتيباتٍ ائتمانيةٍ تؤمنُ بها فتشتركُ فيها وتدافِعُ عنها أطرافٌ مختلفةٌ ذاتُ شوكة. والمستقبلُ ركنُ أيِّ نظامٍ سياسيٍ وعمادُ استقرارِه، فلمّا لَم يُبْنَ المستقبلُ انهزمَت الثورةُ ووصلَ السيسي للحكمِ في تلك اللحظةِ التي كان فيها المستقبلُ القديمُ قد ماتَ والمستقبلُ الجديدُ تعثّرَت ولادتُه. في هذا السياقِ تشكّلَت السياساتُ الائتمانيةُ لنظامِ السيسي مستهدِفةً تحقيقَ ثلاثةِ مقاصدَ متشابكةٍ: التأمينُ ضدّ تجدُّدِ الثورةِ، وبناءُ مستقبلٍ يسمحُ باستقرارِ حكمِه، وتمكينُ أجهزةِ الدولةِ من استعادةِ هيمنتِها وقدرتِها على المجتمع وعلى تحديدِ مستقبلِه.
كانت علاماتُ تآكُلِ المستقبلِ قد بدأَتْ قبل وصولِ السيسي للحكم. فقد ارتفعَت نسبةُ الديونِ قصيرةِ الأجلِ عاليةِ الفوائدِ إلى إجماليِّ الديونِ من 7.9 بالمئة سنة 2011 إلى 16.3 بالمئة سنةَ 2013، وارتفع الدَيْنُ المحلّيُ من 962.2 مليار جنيهٍ (54 مليار دولارٍ) في 2011 إلى 1.23 تريليون جنيهٍ (69.5 مليار دولارٍ) في 2012 في الوقتِ الذي انخفَضَت فيه الديونُ الخارجيةُ من 34.9 مليار دولارٍ إلى 34.3 مليار دولار. وتراجعَ الاستثمارُ الأجنبيُ المباشرُ من 11.8 مليار دولارٍ في 2012 إلى 10.3 مليار دولارٍ في العامِ التالي. تشيرُ هذه المؤشراتُ مجتمعةً إلى تراجعِ ثقةِ أرباب الأموال، خاصةً الأجانب، في البنيةِ التحتيةِ للمستقبلِ وإحجامِهم عن الشراء منه على نحوٍ اضطَرَّ الحكومةَ للاقتراضِ لفتراتٍ أقصرَ بفائدةٍ أعلى من أطرافٍ داخليةٍ ليس لها في الغالبِ اختيارٌ. لم يَمنع هذا الاضطرابُ في المستقبل من تزايدِ استثمار المصريين فيه لبناءِ مستقبلٍ جديدٍ على نحوٍ تجلّى في تضاعفِ تحويلاتِ العاملين في الخارج من 9.8 مليار دولارٍ في السنة المالية 2010-2011 إلى 18 ملياراً في 2011-2012 ثم 18.7 مليار في 2012-2013 قبل أن تنخفضَ في العام التالي، الذي شَهِدَ صعودَ السيسي للحكمِ، إلى 18.5 مليار دولار.
حاولَ نظامُ السيسي مع صعودِه للحكمِ تثبيتَ أركانِه بقنواتٍ عدّةٍ. أُولاها ربطُ هذا المستقبل بأطرافٍ خارجيةٍ متعدّدةٍ يَعضدُ علاقتَها به بعلاقاتِ الائتمان فتتأكدُ مصلحتُها باستقرارِ حكمِه. على سبيلِ المثالِ تشيرُ دراسةٌ أعدَّتها سلمى حسين للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2016 أن النظامَ اتفقَ سنة 2024 على قرضٍ بقيمة 1.5 مليار دولارٍ من بنك الصادرات والواردات الصيني لتمويل مشروع القطار الكهربائي، وعلى قرضٍ بقيمة 1.5 مليار دولارٍ من بنكِ التنمية الأفريقي لتمويل بناءِ العاصمةِ الإداريةِ الجديدةِ، وعلى قرضٍ بقيمة 1.5 مليار دولارٍ من الصندوق السعودي للتنمية لتطوير سيناءَ، وعلى قرضٍ بقيمة 25 مليار دولارٍ من الحكومة الفرنسية لتمويل محطةِ الضَبعةِ النوويةِ، وعلى وديعةٍ بقيمة مليارَيْ دولارٍ لمدّةِ ستِّ سنواتٍ مع صندوق أبوظبي للتنمية، وعلى وديعةٍ سعوديةٍ بالقيمة نفسِها وبشروطٍ غيرِ معروفة. قدّمَ بعضُ المموِّلين التمويلَ رغبةً في دعمِ نظامِ السيسي بسببِ معاداتها لثوراتِ الربيعِ العربيِ، ومَأْسَسَت القروضُ والودائعُ هذا الدعمَ وحَوّلَتْه لمستقبلٍ مشترَك.
لا تقتصرُ مصالحُ هذه الأطرافِ الخارجيةِ على استقرارِ الأوضاعِ في مصر، فقد باعَ النظامُ جزءاً من عوائدِه المستقبليةِ لهذه الأطرافِ بمالٍ حاليٍّ. وملْكيةُ هذه العوائدِ المستقبليةِ مشترَكةٌ بين النظام والمواطنين الذين يصنعونها، فيحتاجُ تسليمُ هذه العوائدِ إلى المُقرِضين لأَمرَيْن زائدَيْن على بقاءِ النظام، هُما قُدرتُه على استخلاصِ هذه الأموالِ من أيدي المواطنين في صورةِ ضرائبَ والتزاماتٍ يدفعُها المواطنون للدولة، ثم توجيهِ صرفِها بعيداً عن مصالحِهم المباشرةِ من تعليمٍ وصحّةٍ وخِدماتٍ واستثماراتٍ وغيرها. تتحدّد مصارفُ هذه الأموال بالتفاوضِ داخلَ المجتمع. وكلّما قلّت قدرةُ المواطنين على فرضِ إرادتهم على السلطة زادَت قدرةُ السلطةِ على توجيهِ هذه الأموالِ بإرادتها المنفردةِ وفي هذا مصلحةُ المُقرِضين. تترسّخ هذه القدرةُ بسبيلَيْن، أُولاهما الخطابُ الذي تؤدّيه المؤسساتُ الدوليةُ وصاحبةُ الحصّةِ الكبرى من عوائدِ مصرَ المستقبليةِ مبرِّرَةً توجيهَ هذه الأموال لخدمةِ الدَيْنِ استناداً لدعاوىً كالتقشّفِ وترشيدِ الإنفاقِ الحكوميِّ وضبطِ الماليةِ العامةِ وتقليصِ عجزِ الموازَنةِ وغيرها. يتعاملُ هذا الخطابُ مع حقِّ المُقرِضين في هذا المال المستقبلي، الذي بِيعَ من الدولة لا مِن المواطنين أساساً، على أنه حقٌّ لا يُمَسُّ وبالتالي يصبحُ الوفاءُ مقدَّماً على توفيرِ حاجاتِ الناسِ الأساسية. وأما السبيلُ الثاني فالقوةُ الماديةُ التي يستند إليها النظامُ في فرضِ هذا التوجيهِ للمواردِ وهو ما لا يتمُّ بغيرِ تقويضٍ للمؤسساتِ الديمقراطيةِ القادرةِ على التفاوض. يَخدمُ السبيلان مصالحَ المُقرِضين بالقَدرِ نفسِه الذي يَخدمان فيه مصالحَ الحكامِ، وعلى عكسِ الشائعِ أن الحكامَ هم ضحيةُ المؤسساتِ الماليةِ المُقرِضةِ، يُظهِرُ الواقعُ تصالُحَهما واشتراكَهما في المستقبل.
لتأمين ذلك المستقبل ضدّ الثورة، إضافةً إلى ما سبقَ من تقويضِ المؤسسات الديمقراطية وتقويةِ شوكةِ النظام وقدرتِه على استخلاصِ الأموال، كان لا بُدَّ من إشراكِ قطاعاتٍ أوسعَ من المحكومين في هذا المستقبل. في السياق المصري، تمثّلَت هذه القطاعاتُ بشكلٍ رئيسيٍّ في الطبقة الوسطى العليا أو الميسورين من المصريين الذين كان انضمامُهم لصفوفِ الثورةِ سبباً رئيسياً في نجاحِها حسبَ رأيِ الحاكم، فكان ربطُ مستقبلِهم بمستقبلِه. كان للسوق العقارية الدورُ الرئيسيُ في ذلك، فقد شجّعَ النظامُ المصريُ على التوسعِ العقاريِ، واستخدمَ المِنَحَ التي حصلَ عليها فورَ إسقاطِ حكمِ الإخوان المسلمين في 2013 ثم اقترضَ مبالغَ أُخرى على فتراتٍ متلاحقةٍ، قُدِّرَت في 2020 بحوالي 3.9 مليار دولارٍ لبناءِ المرافقِ والبنيةِ التحتيةِ الضروريةِ لهذا التوسع العمراني. يقوم البيعُ في هذا السوق على الائتمانِ لا البيعِ الحالِّ، فيَدفعُ المشتري أقساطاً لمُدَدٍ تتراوح بين ثلاثِ سنواتٍ وسبعِ سنواتٍ ويَستلمُ مقابلَها عقاراً بعد مدّةٍ من التزامِ الدفع. تساعدُ هذه السوقُ في التأمين ضدّ الثورة من جهتين. أُولاهما ربطُ مصالحِ المشترين بالنظام، تماماً كما حدثَ في أسهمِ شركة قناة السويس قديماً. فبقاءُ احتكاراتِ الأراضي والنظامِ القانونيِ والسياسيِ الضامنِ لتسليمِ هذه الوحدات السكنية في المستقبل وتأمينِ المجمّعاتِ المتميّزةِ المُسوَّرةِ، التي تَمنعُ أسوارُها العامّةَ من الدخول إليها، وتُستخدَم في ذلك قوةُ الدولة بصورةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ، ضدّ الاعتداء عليها ممّن يُصوَّرون على أنهم "غوغاء" خارجَها؛ كُلُّ ذلك قائمٌ على بقاءِ شوكةِ النظام. أما الجهةُ الثانيةُ فهي صرفُ المشترين عن المشاركة في أيِّ صورةِ احتجاجٍ جمعيّ. يقول ماوريزيو لازاراتو في كتابِه "صناعة الرجل المَدين" إن تلك الاستدانةَ تُساهِمُ في صناعةِ التفرّدِ وتفكيكِ صُورِ العملِ الجماعي بشَغْلِها كلَّ فردٍ بالسعيِ لتدبيرِ المواردِ للوفاءِ بالتزاماتِه، مثلَ شراءِ وحدةٍ سكنيةٍ مستقبلية. لا يُقلِّلُ من أهميةِ هذه السوق وكونِها صمامَ أمانٍ ضدّ الثورة قِلّةُ عددِ المشتركين فيها، فهذه القِلّةُ على كلِّ حالٍ شريكٌ ضروريٌ في الحكمِ ورِضاهم بتقويضِ الديمقراطية وارتباطُ مستقبلِهم بالنظام عضوياً ضروريٌ لتجاوزِ أيِّ تململٍ من تردّي الأوضاعِ الاقتصادية.
لا يعني طولُ أمدِ المستقبلِ استقرارَه بالضرورةِ، لكنه يشيرُ لخَطَأِ افتراضِ أن التاريخَ يعيدُ نفسَه وأن أزمةَ الديونِ الحاليّةِ ستؤدّي بالضرورة كسابقتِها لاتساعِ الديمقراطيةِ أو زيادةِ النفوذ الأجنبي أو تقويضِ سلطةِ الحكام. بل كلُّ هذا ونقيضُه محتمَلٌ، فعلاقاتُ الائتمان وعلى رأسِها الديونُ تُرتِّبُ المستقبَلَ ببَيعِه وتوزيعِه وبناءِ التحالفاتِ حولَه. أما نجاحُ هذا الترتيبِ أو فشلُه فليس حتمياً، بل يتوقّفُ على قُدرةِ التحالفاتِ على الصمودِ، وهي قُدرةٌ يصعُبُ أن تقومَ على قوّةِ العَصا وحدَها. فالمستبعَدُ كُلِّيَةً من المستقبَلِ يَفقِدُ بالضرورةِ صِلَتَه بالحياةِ الجَمعيةِ والجماعةِ السياسيةِ ويصيرُ وجودُه خطراً على ذلك المستقبَل.