أطلقت هذا الشعار مجموعة نقشبندية كردية موالية لحزب العدالة والتنمية مذكّرةً بالتحالف الكردي التركي التاريخي. ويبدو أن الشعار صيغ بعناية تطلبت سبر قرون من العلاقات الكردية التركية؛ فقد كان الشيخ إدريس البدليسي مهندس التحالف التاريخي بين الكرد والترك عام 1514 ومستشار السلطان العثماني سليم الأول، المعروف بـ"ياووز" (أي القاطع أو البتار)، بحروبه لضمّ البلاد العربية من مرج دابق في حلب عام 1516 إلى الريدانية في مصر عام 1517. ومع شح التفاصيل الدقيقة عن حجم مشاركة الكرد في حروب السلطان العربية، إلا أن اتفاق التحالف الكردي العثماني نصّ على إمدادِ الكردِ السلطنةَ بالمقاتلين وقت الحاجة.
ذكر أوجلان هذا الهتاف في عدد من لقاءاته مع محاميه وعرّج عليه في كتابه "الدفاع عن شعب" الذي ألفه في السجن بسياق الدهشة، ليس من المقولة ذاتها إنما من عدم نضوجها وسط الظروف السائدة؛ إذ لم تكن مسألة الحل السياسي مطروحة في برنامج الحكومة التركية آنذاك. فالمجموعة النقشبندية الكردية تبحث عن قائد تركي كالسلطان سليم في إعادة بناء التحالف الكردي التركي، ومن المنتظر أن يكون هذا القائد هو رئيس الوزراء وقتئذٍ والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الذي أعلن حينها عن سياسته الشهيرة "الانفتاح الكردي".
والشعار نفسه نُسب إلى إدريس البدليسي الذي قاله سنة 1515، أي بعد عام من الانتصار العثماني في معركة جالديران التي أوقفت موجة التشيع الاثني عشري في أعالي دجلة والفرات قبل خمسة قرون. أعقب تلك المعركة تركيزُ الدعاة الشيعة على مصب نهري دجلة والفرات، مما يفسر الكثافة الشيعية في العراق كلما اتجهنا من بغداد جنوباً.
هاجمت قوات الشاه إسماعيل الصفوي مدينة آمد (ديار بكر) وحاصرتها وكادت تحتلها في هجوم رداً على جالديران. ولو قدّر لهذا الهجوم النجاحُ لفتح الباب أمام تشييع كردستان والأناضول، وهو ما خلص إليه أيضاً المؤرخ يلماز أوزتونا بقوله: "كان من الممكن أن يسفر انهزام الجيش العثماني عن فرض الصفويين التشيعَ على الأناضول الوسطى وإلحاقِها بإيران". وأكثر الشعوب التركية من تبريز إلى قونيا، حتى ذلك الحين، كانت على مذاهب متنوعة ضمن الفضاء المذهبي الشيعي، وكان هذا الأمر يقلق الحكم العثماني الذي بدأ يأخذ طابعاً سنياً في توجهه السياسي حين قرر التوسع باتجاه البلاد الإسلامية شرقاً حيث الدولة الصفوية الشيعية، وجنوباً حيث المماليك السنة. أصبح الكرد جزءاً من التصور السني للسلطان مع التوسع جنوباً نحو البلاد العربية.
في الحقبة العثمانية اكتسب الكرد مزايا في المدن العربية لأنهم حلفاء السلطنة، وأدّوا أدواراً إدارية وأمنية مهمة، أبرزها تولي مسؤولية قافلة الحج الشامي. ويرد اسم الكرد في روايات بمنطقة نجد والجزيرة العربية أثناء الدولة السعودية الأولى. ففي المرجعين الرئيسَين "عنوان المجد في تاريخ نجد" لعبدالله بن بشر و"تاريخ نجد" لحسين بن غنّام عن تاريخ الوهابية في القرن التاسع عشر، ورد ذكر الكرد في روايات تحكي أن والي بغداد العثماني يجهز جيشاً من الكرد لمحاربة الدعوة الوهابية في الدرعية، بيد أن الوقائع أفادت بأن قائد الحملة كان زعيم تحالف قبائل المنتفق العربية ثويني السعدون. ومع ذلك فإن القرن الأخير من عمر السلطنة شهد استغلال الطريقة النقشبندية في كردستان حصناً للدفاع عن هوية الدولة العثمانية الصوفية ضد دعوات التوحيد الوهابية.
فشل الهجوم التركماني الصفوي المضاد عام 1515؛ فقد وصلت النجدة الكردية بأربعين ألف محارب بقيادة إدريس البدليسي، وكسر الحصار الصفوي على ديار بكر وحاكمها العثماني الجديد بيقلي محمد باشا. فقال البدليسي حين وصل مشارف أبواب السور التاريخي للمدينة: "إدريس البدليسي هنا، فأين ياووز سليم؟".
يمتد التاريخ المشترك بين الشعبين الكردي والتركي قروناً، لكنه مغيب في ظل الظروف السياسية وانهيار العلاقات في السنوات المئة الأخيرة، أي منذ تأسيس الدولة القومية في تركيا. أدى هذا الانهيار إلى إعادة كتابة التاريخ بأيدي نخب الشعوب الساعية إلى التحرر. مع ذلك يُذكر التاريخ المشترك بكل مناسبة فيها تقارب كردي تركي، بل هو شرط على الطرفين لأي تسوية مستقبلية تتكفل بتصحيح الانهيار. فبعد مرور سنوات قليلة على نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) غَيّرت منطقةُ الشرق الأوسط بشعوبها ودولها الجديدة المستحدثة ذاكرتَها التاريخية. انتهت الدولة العثمانية، وبات على جميع الناجين تحديد صلتهم بالكيان الإمبراطوري المنهار وتعريف الحقبة السابقة الطويلة وتفسيرها للأجيال القادمة ضمن الكيانات الصغيرة الجديدة أو ما أطلق عليها "الدولة الوطنية". منذ ذلك الحين ظهر في الأدبيات العربية مطلع القرن العشرين توصيفات نحو "الاحتلال" أو "الاستعمار العثماني".
لم يُستثن الكرد من عملية خلق ذاكرة جديدة لشعوب المنطقة فقد أعادوا في السياق نفسه تعريف ماضيهم مع الدولة العثمانية رداً على إنكار الجمهوريةِ التركية هويتَهم. وفعل التركُ أنفسُهم الأمرَ ذاتَه بتطرّفٍ أكثر من بقية الأقوام والشعوب العثمانية السابقة. فرافقَ العهدَ الجديدَ ذاكرةٌ جديدة صُنعت على عجل لكنها تطلبت خلق أعداء جدد لما بعد العهد العثماني، فكانت النتيجةُ خريطةً من العداوات والحروب الأهلية.
في السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية التركية تبنّى الكرد الروايات العربية الجديدة عن "الاستعمار العثماني"، وهي روايات مهّدت لانفصال العرب عن الحكم العثماني وتأسيس حكم عربي، وأصبحت لاحقاً جزءاً من البرنامج التعليمي في الدول العربية المستقلة. ولعل انتشار الدعاية المعادية للعثمانيين بتلك السهولة يعود لعوامل عدّة، منها إرث العقدين الأخيرين من عمر الدولة العثمانية اللذين غلبت عليهما الصدامات الدموية والتحزب في ظل سيطرة جمعية الاتحاد والترقي. فقد تأسست هذه الجمعية عام 1889 باسم "الاتحاد العثماني" لكنها غيّرت وجهتها وهويتها بعد استيلائها على السلطة سنة 1908 بتبنّيها القومية التركية التي تسببت في انفجار الإمبراطورية من الداخل. والإرث العدائي الذي تراكم في ظل نشاط هذه الجمعية وحكمها ما زال الرافد الأهم في صناعة الذاكرة القومية الجديدة للكيانات المنفصلة عن الدولة العثمانية، بما في ذلك الذاكرة القومية الكردية.
ثمة تفرّد في العلاقات الكردية التركية إذ بنيت على تحالف مكتوب لا على هزيمة كما حدث في الولايات العربية التي ضمّتها السلطنة العثمانية من المماليك، فالعلاقة بين العثمانيين والكرد كانت انضماماً سلمياً ذا منفعة متبادلة أقرب إلى صفقة مربحة للطرفين. ومن اللافت أن السرديات الكردية حتى حقبة تولي رفيق درب مصطفى كمال أتاتورك، عصمت إينونو، الرئاسة التركية عام 1938 كانت ذات طابع عتابي على "الغدر" و"الخيانة" لتاريخ الكفاح المشترك. وكان التنكر التركي الرسمي لهذا المشترك التاريخي صادماً للكرد. وقد كانت تلك حلقة ضمن سلسلة تحويل ما تبقى من تركيا بعد الحرب العالمية الأولى إلى دولة قومية أحادية الشعب واللغة والتاريخ. وعُدّ الكردُ أتراكاً فقدوا لغتهم، وحُط من شأنهم في الجرائد والمجلات، فلم يبق للكرد من داعٍ أن يستذكروا ماضياً ملحمياً مشتركاً لا سيما أن الصدام والكراهية قد تصدرت يوميات السياسة.
إن المدى الزمني للعلاقات الكردية التركية يمتد قرابة ألف عام، منذ عام 1042 تاريخ أول لقاء بين الكرد والترك إلى اليوم، وقد غلب على تسعة قرون منها ( 1042-1923) التعايشُ الاضطراري في العهدين السلجوقي والأيوبي، ولم يخلُ من صدامات قصيرة الأمد. واتسمت هذه الفترة بالتحالف مطلع العهد العثماني الإمبراطوري مع تزعزع تدريجي في استقلالية الإمارات الكردية لصالح الحكم العثماني المركزي، وأخيراً حقبة الحرب وإلغاء الآخر مع إعلان الجمهورية التركية عام 1923.
حدث أول اتصال اجتماعي عسكري بين الكرد والترك قبل ما يقرب من ألف سنة. فقد اصطف بضعة آلاف من الجنود الترك أمام بوابة عاصمة الإمارة المروانية الكردية ميافارقين قرب ديار بكر، مطالبين بطاعة حكامها السلطانَ الجديد طغرل بك السلجوقي الذي منحه الخليفة العباسي القائم بأمر الله لقب "أمير المشرق والمغرب". أسس المروانيون إمارتهم عام 983 واستمرت حتى 1096، وكانت أول سلالة كردية إسلامية تأمنُها الدولة العباسية ووكلاؤها، فقد كانت السلالات الكردية السابقة من بابك الخرمي إلى جعفر الداسني وغيرهما موضع شك، بل شنّ عليها فقهاء الخلافة ومؤرخوها حرباً شعواء ونعتوها بأسوأ الصفات، من الزندقة إلى الكفر.
حاصرَ اثنان من كبار قادة طغرل بك الحاكمَ الكردي الأمير نصر الدولة بن مروان وطمعا في الاستيلاء على عاصمة بلاد الكرد ميافارقين ولم يقتنعا بالأموال مقابل أن يعودا أدراجهما. ثم قُتل القائدان بشجار داخلي كما روى مؤرخ الدولة المروانية ابن الأزرق في كتابه "تاريخ الفارقي"، واستغل نصرُ الدولة ذلك ليُنزل بالترك هزيمة نكراء. وكان هذا أول ظهور للترك في بلاد الكرد عام 1042. ثم غابوا عن بلاد الكرد طيلة حياة الأمير نصر الدولة وحتى وفاته عام 1061. وفي هذه الأعوام العشرين، كان السلاجقة قد أحكموا مواقعهم تدريجياً في العراق وباتوا جيشَ الخليفة العباسي، القائم بأمر الله، مع أن معقل حكمهم الأساسي كان بلاد فارس. وأثّرت عدة عوامل في تريث السلاجقة عقوداً حتى سيطروا على بلاد الكرد تدريجياً بلا معركة فاصلة، فقد كانت السلطة المروانية تستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة بين الكرد المسلمين والشعوب المسيحية التي تحت حكمهم، وتتمتع بحصون عسكرية قوية، فضلاً عن أن إمارة المروانيين الكرد لم تكن مجاورة مركز الخلافة وليست طريقاً رئيساً في التجارة الدولية.
حدث الاتصال الثاني بين الجانبين على هامش التلاقي الثلاثي النادر في التاريخ بين الكرد والعرب والترك في موقف موحد ضد عدو تركيّ مشترك عام 1058. فلم يكن السلاجقة أول الترك الذين وفدوا إلى المنطقة، إذ بدأ استقدام الترك قبل نحو 150 عاماً مرتزقةً للخلفاء العباسيين لأداء مهام محددة في بغداد.
بقيت في الشرق قوتان ثابتتان وقوة ثالثة متحركة عبّاسية الهوى. أما الأولى فهي الإمارة العقيلية العربية في الموصل وغرب العراق وحلب، وحكمتها سلالة عربية عسكرية شيعية الهوى، حملت لقب "ملك العرب"، واستمر حكمها من 990 إلى 1096، وتأرجحت في ولائها بين الفاطميين والعباسيين، لكن حكامها التزموا الدعاء للخليفة العباسي أغلب مدة حكمهم.
وأما القوة الثانية فهي الإمارة المروانية الكردية في بلاد الكرد وأرمينيا، واستمرت تقريباً مدة حكم العقيليين. وتصادمت القوتان في سبيل السيطرة على مناطق حدودية بينهما، لكنهما ركنا إلى السلم مع ظهور السلاجقة، وخوفهما من نهاية كليهما.
أما القوة الثالثة فهي السلجوقية، وهي قوة متحركة بلا وطن على أنها مستوطِنة عسكرياً في الري وأصفهان وبغداد وأصبحت سيف خلفاء بني العباس. وهي إمارة ملتبسة في هويتها، فهي تركية العرق وفارسية الثقافة واللغة، وحمل العديد من سلاطينها أسماء ملوك فارس القدامى.
حمت هذه القوى الثلاث إرث العباسيين حين كان على وشك الانهيار، كلٌّ بأسلوبه. فقد حمى العقيليون الخليفة العباسي المطرود القائم بأمر الله، بعد أن أطاح به البساسيري، ونقلوه إلى عانة غرب العراق. مع أن العقيليين أظهروا ميلهم للمذهب الشيعي فكانوا أقرب للفاطميين مذهبياً. والتجأت زوجة الخليفة وابنه إلى المروانيين الكرد في ميافارقين. والتزمت كلتا الإمارتين بالولاء للخليفة رغم هزيمته، فكان استثماراً محفوفاً بالمخاطر للعرب والكرد معاً، لذلك لم يتحركا عسكرياً لإعادة الخليفة إلى عرشه بطرد ممثل الفاطميين من بغداد. لم تكن هناك من قوة تقف في وجه السلاجقة لتوسيع وجودهم في "الفراغ العربي" وما يمكن تسميته "الانعزال الكردي" باكتفائهم بما بين أيديهم في مناطقهم. ونجح طغرل بك في قتل البساسيري بعد معارك خاضها في العراق، بقوته المتحركة المتعطشة للتوسع، وهو ما استنكف عنه العرب والكرد الذين اكتفوا بحماية عائلة الخليفة العباسي، فجاء طغرل وأعاد الخليفة العباسي متوّجاً بكامل أبّهته إلى بغداد، وأرسل في طلب عائلة الخليفة من ميافارقين. وبذلك انتهى جميل العرب والكرد على آل العباس، وبدأ عصر سيادة السلاجقة على بلاد العباسيين. وحتى ذلك الحين، كانت بلاد الكرد في مأمن من السلاجقة.
سقطت كلٌّ من إمارتي بني عقيل في الموصل والأنبار، وبني مروان في ميافارقين وديار بكر عام 1096 على أيدي السلاجقة بلا معركة فاصلة، إنما بالقضم التدريجي. ولم يفلح تحالف هذين الكيانين العربي والكردي في إيقاف زحف عاصفة الترك الاجتماعية والعسكرية، فسقطتا أمام ضربات هذه القوة المتحركة المسلحة بشرعية الخلافة، وتراث الدهاء السياسي الفارسي ومكائده. وانتهى من يومها عصر السيادة العربية على أي بقعة من بقاع الدولة العباسية فعلياً؛ إذ مثّلت الإمارة العقيلية آخر حضور سيادي مستقل للعرب. ومن اللافت أنه حتى عام 1100 تقريباً كانت الدولة الفاطمية الشيعية في مصر والحجاز والمغرب تمثّل آخر حضور سياسي عربي في كل أصقاع العالم الإسلامي بعد سقوط العقيليين، أي أنه خارج قصر الخليفة العباسي.
كان من تبقى من أقوياء العرب أقربَ إلى المذهب الشيعي، ومعظم القادة الترك الذين سبقوا السلاجقة في العراق والشام قد أعلنوا الولاء للخليفة الفاطمي. وعليه كانت الإمارة المروانية الكردية قوة سنية نادرة ذلك الوقت، مع أنها لم تُظهر أي تحرك لها بناء على الولاء المذهبي. لذا لم يؤثر هذا العامل في التقريب بين القوتين السنيتين المروانيين والسلاجقة وسط بحر من الدول والإمارات ذات الهوى الشيعي وأخطرها إمارة الإسماعيليين الذين عرفوا باسم "الحشاشين"، فاغتالوا السلطان السلجوقي ألب أرسلان ثم وزيره الفارسي نظام الملك. وهذا الفرز المذهبي معقول للحكام والسلالات، لكن لا يمكن استخلاص فكرة واضحة في كتب التاريخ عن اتجاهات السكان المذهبية والروحية ذلك الوقت حيث لم تكن ثقافات عوام الناس تثير اهتمام المؤرخين إلا ما ندر. والمعروف أن سلاطين السلاجقة كانوا متعصبين للمذهب الحنفي، أما وزيرهم نظام الملك فكان من دعاة المذهب الشافعي، ونجح في تحول حركة التعليم المذهبي لصالح المذهبين الحنفي والشافعي بتأسيس مدارس لهذا الغرض وأهمها المدرسة النظامية الشافعية. وجدير بالذكر أن الحكام الكرد أيضاً كانوا على المذهب الشافعي.
لكن ثمة غموض تاريخي لم يُكشف عنه في التدوينات التاريخية، حيث إن المواجهة الكبيرة في منازكرت (وتعرف عربياً بمعركة ملاذكرد) لم تحظ بالاهتمام في كتب المؤرخين، وبالتالي لا توجد تفاصيل مدونة كافية أحاطت بهذه المعركة، وهو ما يترك فراغاً لا يمكن ملؤه دون التقصي والتحليل التاريخي. فقد انتقل السلاجقة ونقلوا قوتهم تدريجياً من إيران باتجاه الغرب إلى شمال بلاد الرافدين والشام واستوطنوا في مناطق عدة لكنهم لم يستوطنوا بلاد الكرد.
جاء الإسناد من الكرد لهؤلاء الأربعة آلاف جندي تركي. وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخ سبط ابن الجوزي (1186-1256) أول من أثبت مشاركة الكرد في هذه المعركة بعشرة آلاف فارس وذلك في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان". مع سكوت معظم المؤرخين عن هذه المشاركة إلا أنهم لم يكذبوا خبر ابن الجوزي. وهذا يعني أن عدد الكرد من فرسان الدولة المروانية في ساحة المعركة كان عشرة آلاف وعدد فرسان السلاجقة الترك أربعة آلاف. ويؤيد هذا التقسيم في المشاركة شهادة المؤرخ ميخائيل بسيلوس البيزنطي الوحيد الذي كان يرافق إمبراطور بيزنطة في ساحة المعركة، فقد تحدث بإعجاب عن جيش السلطان، ولم يذكر ألب أرسلان بالاسم بل وصفه بـ"سلطان الكرد والفرس".
لم يتطرق ابن الأزرق مؤرخ الدولة المروانية إلى عدد المقاتلين، فقد دوّن كتابه بعد سقوط المروانيين وتسلم وكلاء السلاجقة الحكم في بلاد الكرد، لكنه أشار في أكثر من موضع إلى توزيع غنائم الحرب على سكان المقاطعات المروانية المحاذية لأرض المعركة. وزار وزير السلاجقة الشهير نظام الملك الطوسي قصرَ الأمير الكردي نظام الدين نصر بن أحمد، ومنحه لقب "سلطان الأمراء"، أي في المرتبة الثانية بعد ألب أرسلان على مستوى المقاطعات الموالية للخلافة العباسية، وذلك مكافأة له على دوره في نجاة الدولة السلجوقية من بيزنطة في معركة ملاذكرد التي كانت معركة مشتركة خاضها الكرد والترك معاً في سبيل النجاة من بعضهما بعضاً ومن عدوهما الأخطر بيزنطة. وعلى أهمية معركة ملاذكرد لم تحظ سوى باهتمام قليل في صفحات المؤرخين، بل إن شجارات أسواق بغداد بين العوام والعصابات أواخر الحكم البويهي الشيعي في ظل الخليفة العباسي، نالت صفحات أوسع بكثير في المدونات التاريخية الإسلامية.
مع ذلك لم يترجم التحالف ضد البيزنطيين والتضحيات المشتركة إلى صداقة سياسية؛ إذ لم يدشن السلاجقة سياسة كسب الأصدقاء إلا فترات قصيرة حتى مع الخليفة العباسي الذي قرر السلطان ملكشاه، الذي خلف والده ألب أرسلان في الحكم، أن يطرده من بغداد لولا أن أدركه الموت عام 1092. إذن كان هذا اللقاء المرواني السلجوقي في معركة ملاذكرد اضطرارياً للطرفين لا سيما الكرد. وقد حسمت طبيعة الشريحتين الحاكمتين الكردية والتركية المسار اللاحق في العلاقات. فالكيان الكردي ثابت يستند إلى قاعدة سكانية مستقرة والسلجوقي متحرك، لذا لم تحاول الشريحة الكردية الحاكمة التوسع خارج النطاق الجغرافي الكردي. وهذه من المفارقات التي لم يعالجها معظم المؤرخين المشتغلين على هذه الحقبة أو تغافلوا عنها عمداً لأسباب تتعلق بالتوجه القومي لأجهزة الدول الحديثة في تركيا وإيران والعراق وسوريا التي روت التاريخ بإلغاء الكرد منه، والتقليل من شأن المروانيين والكرد، وإخفاء أي سلالات كردية حتى لو كانت متمردة. وعكس إمارات الثغور الإسلامية، لم تكن الدولة المروانية كياناً جهادياً بل كرّست دورها الوظيفي حاجزاً مهدئاً للصراع بين الإسلام والمسيحية ببناء علاقات إيجابية مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية لصالح الخليفة العباسي في بغداد. لذلك كانت طبيعة الكيانين الكردي والتركي المتناقضة تؤسس لنقطة افتراق. فالكرد في القرن الحادي عشر ما زالوا في محاولة لحكم منطقة نفوذهم الاجتماعية والحفاظ عليها بتفاهمات إقليمية مع بيزنطة وبغداد، بينما كان الترك السلاجقة في رحلة بحثٍ عن أرض جديدة للسكن والحكم؛ فالكيان السلجوقي ذو طبيعة توسعية تناسبها غزوات الكيانات المسيحية والإسلامية. وتعين على أمراء السلاجقة المضي وحدهم لفتح أراضٍ جديدة.
بعد اشتراكهم في تغليب كفّة السلاجقة على بيزنطة فقد الكرد أهم وظائف استمرار ملكهم، وهو توليهم مسؤولية حماية إحدى مناطق التماس الأكثر خطورة بين المسلمين وبيزنطة، فاستأنف الوافدون الجدد، أي الترك، حروبَ الجهاد التوسعية التي توقفت منذ فترة طويلة.
تقارب العرب والكرد فترة السلاجقة في مثلث جغرافي رأسه في ميافارقين وآمد وضلعاه في حلب والموصل. ثلاثة كيانات مختلطة عرقياً تحت حكم سلالات عربية متعاقبة في الموصل (العقيليين) وحلب (المرداسيين)، وسلالة كردية في آمد. لكن مراكز القوى الثلاثة كانت أضعف من القوة التركية الفتية المتحركة. لم يكن السلاجقة قد استوطنوا أرضاً، فمثّلوا خصائص قوة بدوية عسكرية، أسقطت بقايا القوى العربية الحاكمة التي ستختفي سريعاً من مشهد توازن القوى قروناً لاحقة في بلاد الشام والعراق، وانهارت السلالة الكردية الشرعية الأولى في الإسلام وهي الدولة المروانية. وكان من الممكن أن يقع اختيار الترك المنتصرين على منطقة كردستان للاستيطان، وهنا يأتي دور معركة ملاذكرد وهي أول تسوية كردية تركية في التاريخ، رغم أنها لم تحظ باهتمام من كتبوا أو عاصروا الحدث، إذ كانت تظهر معركةً ضمن سلسلة الحروب السائدة ولم ير المؤرخون فيها شيئاً استثنائياً.
إن ربط المشاركة الكردية في المعركة بفتح ممر للسلاجقة للتوجه غرباً له ما يعززه في ثنايا مؤلفات تركية على نحو غير مباشر. فمثلاً كتب يلماز أوزتونا في "موسوعة الدولة العثمانية" أنه بعد المعركة أخذ السلطان ملكشاه أنطاكيا من البيزنطيين سنة 1084 ثم "جاء مئات الآلاف من الأتراك من الشرق واستوطنوا الأناضول، مبتدئين بالمدن أولاً".
ومن أبرز الأدلة على تسوية اجتماعية سياسية مبكرة بين الجانبين اختيار السلاجقة بعد الانتصار العبور بأراضي كردستان إلى الأناضول مع أنه كان بإمكانهم الاستيطان في بلاد الكرد بلا تحديات. فقد شارك الكرد بعدد أكبر من الفرسان في المعركة، وقسمت غنائم الانتصار بين الجميع وفق شهادة مؤرخ الدولة المروانية ابن الأزرق. وخلف السرديات التاريخية للوقائع كانت المشاركة الكردية مبادرة وحيدة لفتح الطريق أمام السلاجقة للانتقال إلى الأناضول، فضلاً عن تهرب الحكام الكرد من تحويل بلادهم إلى ثغر جهادي ضد المسيحيين، فلم تشهد فترة حكم المروانيين أي معركة كبيرة مع البيزنطيين، سوى مناوشات حدودية، عكس الكيانات الإسلامية المجاورة على الثغور، مثل الحمدانيين (الشيعة). وجمع الباحث الأرمني أرشاك بولاديان شهادات لمؤرخين أرمن ومؤرخين مسلمين كابن الأثير؛ ليدعم استنتاجه في كتابه "الأكراد في حقبة الخلافة العباسية" بأن الإمارة المروانية الكردية كانت على صلة وطيدة مع الإمبراطورية البيزنطية، خصوصاً في عهد الأمير نصر الدولة بن مروان الذي حكم خمسين عاماً. وقبل ذلك كان الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني قد عقد اتفاقية مع الحاكم الكردي ممهد الدولة المرواني ومنحه عام 1000 لقباً فريداً لم يسبق أن ناله حاكم مسلم من إمبراطور مسيحي ألا وهو لقب "ماكسيتروس" و"دوق الشرق".
فكان الحل أمام ضغوط السلاجقة إما أن يخسر المروانيون حكمهم لصالح السلاجقة المتحمسين للفتوحات والاستيطان، وإما أن يفتحوا الطريق لهم للعبور إلى "منطقة الجهاد" على تخوم بيزنطة. وهذه القراءة يبني عليها مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني فرضيته في التوافق الكردي التركي تاريخياً، وأن انتصاراتهم الكبرى مشتركة منذ ألف عام حتى تأسيس الجمهورية عام 1923. لكن في الجانب الآخر، مع أن تركيا تحتفل رسمياً بذكرى معركة ملاذكرد سنوياً لم ينوّه الرئيس رجب طيب أردوغان أي مرة إلى فضل الكرد أو يذكر مشاركتهم في تحقيق هذا الانتصار حتى الآن. والجدير بالذكر أن البرنامج السياسي التنموي "تركيا 2071" الذي أعلنه أردوغان ينطلق مباشرة من إحصاء ألف عام لتاريخ الانتصار في ملاذكرد. إلا أن تغيير هذا النهج حتمي إذا تحقق التقارب نحو توافق سياسي كردي تركي داخل تركيا وجوارها.
ينقل ابن الأزرق في تاريخ ميافارقين تعليقات ذات مغزى لم تذكرها مصادر أخرى. فقد خاطب الوزيرُ الفارسي الشهير، نظامُ الملك، السلطانَ السلجوقي ملكشاه قائلاً وهو يشير إلى بلاد بني مروان: "تلك البلاد أضحت خاوية، وبها من الأموال ما لا يُعَدّ ولا يُحصى". وسرعان ما استولى ملكشاه على ممالك الكرد قاطبة لكنه لم يعزل حكامهم. وأرسل إلى أمير الكرد يسأله عما يطلبه عوضاً عن فقدانه السيادة على بلاده، فأجابه بجملته الشهيرة معبراً عن ندمه عما آل إليه الوضع: "حربة تقع في صدري فتخرج من ظهري".
مع مرور قرن على وفود السلاجقة إلى البلاد العباسية تفككت دولتهم ودبّت صراعات مريرة بين قادتهم. فاعتلى الحكم قادة أتراك خدموا السلاجقة، مثل الأرتقيين في بلاد الكرد، والزنكيين في الموصل وحلب، وهي سلالة ربّت أبناء سلاطين السلاجقة وحمل أفرادها لقب "أتابك" أي معلّم الأمير. في هذه المرحلة رضي الكرد بدور "الرجل الثاني" في بلادهم بعد القادة الترك الذين كانوا أكثر جرأة في المغامرات العسكرية، عكس الكرد والعرب لأن الأخيرين أبناء مجتمعات ومدن، بينما لم تكن قد تأسست حتى ذلك الحين أي مدينة تركية فضلاً عن أن يصبحوا أغلبية فيها. مع ذلك أصبحت بلاد الشام والعراق والأناضول وبلاد الكرد تحت سيطرة الأمراء الترك. ووسط الصراعات التركية الداخلية في المنطقة استعان الزنكيون بطبقة عسكرية كردية أشهرها العائلة الأيوبية؛ إذ كانت الموصل على تماس مباشر مع محيط سكاني كردي كبير، فكانت الحاجة إلى ممثلين من الكرد ضرورية لتخفيف الصدامات لا سيما أن الزنكيين بدؤوا عهدهم بتدمير أكبر وأشهر قلعة كردية وهي "آشب" في هكاري شمال الموصل مما يعزز احتمالية اشتعال حرب فجأة. إذن لم يؤسس الترك علاقات إيجابية تذكر مع المجتمعات المحلية في عموم المنطقة، بما في ذلك الكرد. إلا أن النزعة الطائفية في المنطقة نمت مع صعود الدولة الفاطمية في مصر، فعمل الفقهاء السنّة ومؤرخو السلاطين على ترميم صورة الاجتياح السلجوقي الزنكي المنطقةَ في إطار المعركة ضد "الجماعات الباطنية" العربية.
انحسرت "القوة المتحركة" للترك وانحصرت في مناطق الاستيطان التركي الحديث داخل الأناضول. أما خارجها فكانوا أمراء بسلطات هشة وبلا عمق اجتماعي في أي مدينة من مدن الشام والعراق وكردستان وأرمينيا. ووسط هذه الهشاشة ظهرت السلالة الزنكية التركية الحاكمة في الموصل وكردستان وحلب. وظهرت قيادة عسكرية كردية من سلالة جديدة في المشرق، ألا وهي الأيوبية. وتصادمت السلالتان سريعاً في الجيل الثاني، حين ظهر صلاح الدين الأيوبي وبدأ مشروعه الكبير في تنظيم حملات مضادة على الحروب الصليبية، ونجح في إيقاف انتصاراتها الساحقة على الساحلين الشامي والمصري بعد نجاحه في تصفية إرث الفاطميين.
لكن الفترة الأيوبية لم تكن فترة وفاق كردي تركي. وحاول الأيوبيون تصحيح الخلل الكامن في تسوية المروانيين والسلاجقة. وتزخر كتب التاريخ المعاصرة لهذه المرحلة بوقائع مواجهات دموية بين الأيوبيين والسلالات التركية الحاكمة. ومن أبرز تلك المصادر "الكامل في التاريخ" لابن الأثير الجزري، و"الأعلاق الخطيرة" لابن شداد. وقد دُوّنت هذه المصادر على طريقة الحوليات السنوية، لذلك فالحوادث المدوّنة متفرقة وغير متتابعة وقد لا تلفت النظر. وتغاضى المؤرخون أنفسهم عنها ولم يسهبوا فيها، على ما فيها من إشارات إلى أن العلاقات الكردية التركية في العهد الأيوبي كانت ترقى إلى حروب أهلية متقطعة، إلى أن حسم الأيوبيون الأمر واستعانوا بعدها في الحكم والإدارة بالقادة الترك الخاضعين لهم، فأصبح الترك "الرجل الثاني" في السيادة ثمانين عاماً من الحكم الأيوبي. وفي عهد صلاح الدين الأيوبي دارت أكثر الحملات شدة وعنفاً في المعاقل الكردية الخلفية في شهرزور والموصل وهكاري وأطراف حلب. ومن المستبعد أن يكون صلاح الدين قد أقدم على ذلك بدوافع قبلية أو قومية، فقد كانت التوازنات الدولية تجبره على حشد عدد كبير من المقاتلين الثقات، لذلك كان عليه تأمين الاستقرار في بلاد الكرد مناطق خزّانه العسكري، فأنهى الهيمنة التركية على بعض المناطق الاستراتيجية ذات الثقل السكاني الكردي، مثل شهرزور ودياربكر وهكاري.
وساهم ضعف التسييس التركي للفتوحات والتوسع في التوتر الكردي التركي حتى عام 1200. فمثلا كان سلاجقة الروم في الأناضول يشنون الحملة تلو الأخرى ضد بيزنطة بينما كان صلاح الدين يبني تحالفاً مع بيزنطة الأرثوذكسية ضد الصليبيين الكاثوليك. فقد تحركت بيزنطة ضد الهيمنة التجارية للمسيحية الغربية ابتداء من عام 1182 في ما عرف بمذبحة اللاتين، حين هاجم السكان بدعم من السلطات المستوطنات التجارية الإيطالية وقتلوا آلاف الكاثوليك. وردّاً على ذلك هاجم اللاتين مدينة سالونيك البيزنطية واحتلوها.
استثمر صلاح الدين الأيوبي التوتر الأرثوذكسي الكاثوليكي، وأقام صلات مع إمبراطور بيزنطة إسحاق الثاني واستقدم صفوة مقاتلي القبائل الكردية من جبال كردستان إلى سهول مصر وبلاد الشام. فانتقلت بذلك نخبة القوة القتالية الكردية كاملة إلى خارج كردستان أوّلَ مرة في التاريخ.
كانت بيزنطة فترة الانفتاح على صلاح الدين تحت خطر خسارة موانئها التجارية وعلى أبواب حصارٍ أوروبيٍّ قاسٍ وعرضة لهجمات السلاجقة. وفي أولى رسائل الإمبراطور البيزنطي إلى صلاح الدين خاطبه بودّ كبير: "إلى أخي سلطان مصر، صلاح الدين".
تحولت الأناضول في مراحل قصيرة شابتها القسوة إلى "جيوش بلا مجتمعات". وألقت تلك الفترة بظلالها على زعزعة الاستقرار السكاني. ولازمت صفة الترحال أو النأي عن الإقامة في المدن القبائل التركية حتى وقت متأخر من زمن دولة "الآق قوينلو" أي (الخروف الأبيض) التركمانية في ديار بكر. فقد حكمت هذه القبيلة التركمانية كردستان والعراق بضعة عقود دون أن تشكل مدناً لرعاياها التركمان الذين غادروها بعد هزيمة الآق قوينلو أمام العثمانيين. وتعد مرحلة الآق قوينلو في كردستان والعراق الأكثر غموضاً في تاريخ العلاقات الكردية التركية؛ ذلك أن التدوينات التاريخية شحيحة. ولم تولِ هذه الدولة العشائرية العناية اللازمة بالمؤرخين، مثل شقيقتها دولة "قره قوينلو" أي (الخروف الأسود) وهي قبيلة تركمانية علوية حكمت إيران وكردستان، وتعد النواة العسكرية التي تأسست عليها الدولة الصفوية. لقد خدم الشيخ الكردي إدريس البدليسي في بلاط أوزون حسن زعيم "الخروف الأبيض" وأشهر حكامها، وازدهرت تحت السيطرة الاسمية لهذه السلالة التركمانية إمارات كردية قوية في بدليس وهكاري وبهدينان والجزيرة.
لم تشهد المدن الكردية استيطاناً اجتماعياً للعنصر التركي؛ بسبب إصرار الأيوبي على إخماد التوترات واختلال التوازنات في الساحات الداخلية لحشد القوات صوب الساحل ضد الصليبيين. ومع حلول عهد المماليك (1250 – 1517) تلاشت قوة "سلاجقة الروم" في الأناضول وانقسمت إلى إمارات تركية متجاورة ومتصارعة، من بينها إمارة بني عثمان. وتحولت المنطقة الكردية إلى إمارات متجاورة صغيرة، أشهرها وأقواها إمارة بدليس، لكن الصراعات الأهلية فيما بينها كانت أقل حدة. وكان نهر الفرات الحد الفاصل بين الترك والكرد، فكان غرب النهر للترك وشرقه للكرد، مع كثافة كردية في بعض المناطق الواقعة غربي النهر مثل أديامان وعينتاب ومرعش. ولا تروي الذاكرة الشعبية للطرفين أية معارك أو حروب كبيرة بين الجانبين في كردستان والأناضول. وقد مهّد هذا الهدوء لمرحلة تاريخية غير مسبوقة في العلاقات المشتركة، ألا وهي التحالف الكردي التركي.
كان تلاشي قوة المغول في شرق المتوسط مقدمة لخريطة توازن جديدة في المنطقة بين ثلاث قوى رئيسة؛ العثمانية والصفوية والمماليك، كلّ منها مدعومة بقوى محلية شديدة التأثير. رسم هؤلاء اللاعبون الوجه الأخير لخريطة المنطقة من الناحية السياسية. فقد هيمن الصفويون على الهضبة الإيرانية وأذربيجان وكسبوا دعم القوة التركمانية المتحركة (القزلباش العلويين)، ثم هيمنوا على الفرس بالقهر والعنف وحولوا الهضبة الإيرانية إلى المذهب الشيعي الاثني عشري. وسيطر العثمانيون على الأناضول وشمالي بلاد الشام وكردستان بدعم حاسم من الكرد القوة المحلية الثابتة. وحظي المماليك بالجائزة الكبرى من حلب إلى القاهرة والحجاز وحمل سلاطينها لقب "خادم الحرمين".
واللافت أن منطقة الشرق الأوسط ما زالت إلى اليوم تعكس هذا التوازن الثلاثي القديم إلى حد كبير، متمثلة في إيران وتركيا ومصر.
ضمن هذا التنافس الثلاثي بين القوى الكبرى الثلاث اضطر العثمانيون إلى السعي للتحالف مع الكرد، وباتوا يرون في القبائل التركية خطراً كبيراً بسبب الجاذبية الصفوية للتركمان روحياً وعسكرياً. ومع أن التركيبة المذهبية والدينية للكرد كانت غامضة، فإن الثابت هو وجود طبقة واسعة من العلماء الكرد السنّة قدمت خدمات للسلطة العثمانية. فمثلاً لم يتردد شيخ الإسلام أبو السعود وهو كردي من العمادية (في كردستان العراق حالياً) في إصدار "فتاوى دموية" ضد أعداء السلطنة، منها فتوى بقتل الزعيم التركماني للطريقة الصوفية الملامية، حمزة بالي وتلاميذه، وفتاوى تبيح قتل السلاطين لأبنائهم وأشقائهم. وهذا الإسناد الفقهي الكردي للعثمانيين لا يمكن التقليل من شأنه في ظل استنكاف الفقهاء السنّة العرب عن الاعتراف بسلطة العثمانيين مقابل تسلح الدولة الصفوية في الوقت عينه بفقهاء شيعة من جبل عامل والبحرين، واستناد مماليك مصر والشام إلى شرعية "الخليفة العباسي" المشكوك في أمره والمفروض عليه الإقامة الجبرية في القلعة.
وقرّب بين العثمانيين والكرد سياق تاريخي متراكم. فمنذ إعادة العثمانيين بناء دولتهم بعد نكبة 1402 على يد تيمورلنك، فقدوا الثقة بالقوى التركية؛ إذ شكّل الترك غالبية جيش تيمور الذي كان من الشعوب التركية. وقبل تحول دولتهم إلى إمبراطورية لم يجد العثمانيون سنداً تركياً. إضافة إلى ذلك، كان تجاهل كسب الكرد مكلفاً للعثمانيين. فقد بني تحالف تجاري بين إمارة الآق قوينلو التركمانية في ديار بكر، معقل الكرد، ودوقية البندقية الإيطالية. واستهدف التحالف توجيه ضربة كبرى للعثمانيين بعد سيطرتهم على القسطنطينية عام 1453. وسرعان ما أجهز العثمانيون على هذه الإمارة التركمانية، ومهّدوا لاستعادة الكرد السيادة على مناطقهم. أما التركمان العلويون في الدولة الصفوية ببلاد فارس فكانوا تهديداً وجودياً للعثمانيين.
تحتّم على العثمانيين عقد تحالف عاجل مع أبرز قوة غير تركية في المنطقة وهي الكرد. كانت القوة الكردية متوزعة على عدد من الأمراء الأقوياء تقودهم شخصية فريدة في التاريخ الكردي وهو "مولانا إدريس البدليسي". كان البدليسي مهندس التحالف مع الصفويين، ثم مهندس الانقلاب عليهم. فقد طرأ تحول سياسي في الشرق أقلق العثمانيين مع ظهور السلالة الصفوية وهي سلالة شديدة التعقيد: كردية الرأس، تركمانية الجيش، شيعية المذهب، فارسية الثقافة. والأصل الكردي للعائلة الصفوية – وهو مثبت نسباً إلى الأمير فيروز شاه زرين من سنجار– والهيمنة التركمانية على الجيش لم يعكسا أي تأثير للكرد والتركمان. فحصيلة الدولة كانت تصب في إعادة إحياء الفارسية بمضمون شيعي، بينما لم يكن للكرد والتركمان نصيب يذكر.
توسّعت الصفوية غرباً حتى نهر الفرات، وباتت كردستان بأكملها تحت الحكم الصفوي قبل الحرب الكبرى مع العثمانيين. وتخلل ذلك تحالف فريد من نوعه، فقد ضمن إدريس البدليسي الزعيم الكردي الأبرز في تحالفه مع السلالة الصفوية إضعاف قبيلة الآق قوينلو المسيطرة على كردستان. وفي الوقت نفسه تفادى الشاه إسماعيل الصفوي فرض المذهب الشيعي على الكرد السنّة، وكانوا الاستثناء الوحيد مقارنة بالعنف والقهر الذي مارسه الشاه والدعاة العرب الوافدون من جبل عامل والإحساء لفرض التشيع على بلاد فارس وأذربيجان. في إيران وأذربيجان كان فرض التشيع بالقوة، أما في العراق فكان نشر التشيع بالدعوة.
بهذا التحالف بين الإمارات الكردية والإمارة الصفوية تخلّص الكرد من منح عائدات الضرائب والرسوم إلى سلالة الآق قوينلو التركمانية التي كانت تحكم دياربكر، فكان الاستقلال الاقتصادي أبرز ثمار هذا التحالف العابر للمذهبية بين الصفويين والإمارات الكردية. بيد أن هذا التفاهم لم يدم طويلاً؛ فقد أنهى الزعيم الكردي إدريس البدليسي خدمته في البلاط الصفوي، وتخلى في العلن عن التصوف الشيعي على الطريقة النوربخشية واختار جانب السلطان سليم الأول سياسياً والمذهب الشافعي دينياً.
كانت حرب جالديران بين العثمانيين والصفويين سنة 1514 فرصة لتأسيس علاقة تركية كردية جديدة تتجاوز التوترات السابقة التي دبّت منذ عهد السلاجقة ومن تبعهم. منح هذا التحول فرصة لبني عثمان ليتخلصوا مما سببته لهم قبائل التركمان البدوية الرافضة مبدأ الدولة الإمبراطورية. أي استقوى سليم الأول بالكرد على الصفويين، وقوّاهم على التركمان الذين طالما كانوا من الرعايا غير المرغوب فيهم عثمانياً حتى تأسيس الجمهورية التركية وذلك لعصيانهم على التحول إلى رعايا بالمفهوم الإمبراطوري.
قبل معركة جالديران التي حطمت تطلعات الصفويين في جعل نهر الفرات الحد الغربي مع الإمارة العثمانية، نال الشيخ إدريس البدليسي تفويض السلطان سليم لترتيب الأوضاع في كردستان، فجمع كلمة الإمارات الكردية وأقنع رؤوسها بنظام إداري خاص يكون الحكم فيه بالوراثة. ونظم العلاقة بين الإمارات الكردية والسلطنة العثمانية بوصفه مندوباً للسلطان بعهد مكتوب للحكم الذاتي شمل أكثر من ستة وأربعين أميراً كردياً، منهم اثنا عشر بلقب الخان. وتقديراً للموقف الكردي أرسل السلطان سليم للأمراء الكرد خمسة عشر علماً وخمسمئة خلعة من الخلع السلطانية الفاخرة. وهذه تفاصيل دوّنها المؤرخ الكردي الأمير شرفخان بدليسي مطلع القرن السابع عشر في كتابه "شرفنامة".
وعن هذا كتب الرحالة العثماني أوليا جلبي منتصف القرن السابع عشر: "إن هذه الحكومات الاثنتا عشرة منذ قانون السلطان سليم يحكمها أمراء بالوراثة، ويصادق الوزراء وبأمر السلطان على انتقال الحكم ضمن سلالة الأمراء، وأهل هذه الولايات يسمون الحاكم منهم الخان. ولولا وجود كردستان سدّاً بين آل عثمان والفرس لما تحقق الاستقرار لآل عثمان".
تعرض الكرد لعقوبات عثمانية جزئية طالت بعض الأمراء من 1514 إلى نهاية عهد سليمان القانوني سنة 1566. فقد كان للاتفاق الكردي التركي الشامل في جالديران صدى في سنوات حكم سليمان القانوني مع خرقه للاتفاق حين عزل أميراً كردياً وعيّن محلّه واحداً من غير ورثته في بدليس. لكن ما إن تسلم السلطان مراد الثالث الحكم سنة 1574 حتى كان عهد السلام الهش قد تهاوى بشدّة. فقد تحولت الديار الكردية إلى هدف مستمر للغارات الصفوية بسبب وقوع كردستان في ساحة أي حرب بين الدولتين. وهذا ما حال دون العمران والازدهار بسبب الحملات العسكرية المتتالية ومقتل عدد كبير من الكرد في كل حملة، فقد تنصلت الدولة من مسؤولياتها في الدفاع عن كردستان في وجه الصفويين بحجة أن مسؤولية الدفاع ذاتية – إلا في حالات تراها السلطنة ضرورة - ليدفع الأمراء الكرد ثمن الاستقلالية الممنوحة لهم ويُتركوا وحدهم في وجه جيش يفوقهم في الموارد. واستمر هذا الحال حتى الحرب العالمية الأولى حين فقد الكرد ما يقرب من ثلث الكثافة السكانية في الحروب الطاحنة ضد الغزو الروسي.
فضلاً عن ذلك فإن اتفاق السلام الكردي العثماني آنف الذكر قد قيّد بإحكام نمو أي إمارة كردية مركزية تتولى قيادة مسائل الدفاع والإدارة. وبقيت حدود إمارات الحكم الذاتي الكردية ثابتة لا تتوسع ولا تتوحد تحت راية غير راية بني عثمان. فقد رفض قادة الكرد خلال عقد التحالف انتخاب زعيم بلقب "أمير أمراء كردستان" بل طلبوا من السلطان سليم أن يعين عليهم أميراً من قبله.
وفي قراءة الاتفاق – أو الشراكة – بين الدولة العثمانية والكرد بدءاً من العام 1514 وقع المحللون في فخ الفرضية الدينية؛ لذلك لم يحظ هذا الحدث الحاسم في التاريخ العثماني بتحليل يرقى إلى حجم التغير الذي طرأ. فقد كان الرافعة الاستراتيجية الأولى التي رسمت الطابع الإمبراطوري للدولة العثمانية بعد أن كانت دولة نصف بلقانية ونصف أناضولية. وبعد هذه الشراكة التي منحت للأمراء الكرد حق حكم إماراتهم وتوريثها والحق في إقامة حكومات ذاتية ضمن كردستان، انكسرت الدولة الصفوية في المعركة العسكرية "جالديران"؛ ثم سرعان ما استعاد الصفويون عاصمتهم تبريز ومعظم أراضي كردستان، وفي التحالف مع الإمارات الكردية من أورميه إلى آمد مما أجبر الدولة الصفوية على إعادة صياغة كلية لاستراتيجيتها. وأصبح الطموح الإمبراطوري للشاه إسماعيل الصفوي منصبّاً على أن يكون نهر آراس في أرمينيا حدّاً بينه وبين العثمانيين بدلاً من نهر الفرات.
استثمرت الدولة الصفوية الأخطاء العثمانية في كردستان فكسبت ولاء إمارات عدة كردية بشكل منفصل دون تحوّل في مجرى الصراع على الهضاب الثلاثة المتسلسلة (الفارسية والأرمنية والأناضولية).
تشبه معركة جالديران 1514 معركة ملاذكرد 1071 في القوى المشاركة. ووفقاً لوجهة النظر الكردية السائدة اليوم في أدبيات حزب العمال الكردستاني تقرأ المعادلة عشية معركة جالديران على النحو التالي:
"الطرف الذي سيتحالف مع الكرد (في جالديران) كان سيغدو القوة السائدة في منطقة الشرق الأوسط. وموقف السلطان العثماني سليم بعقده التحالف الاستراتيجي بين القوتين اللتين تكادان تعتبران متكافئتين (الكرد والترك) لم يتأخر جني ثماره. وهو ليس تحالفاً فقط بل كان يشق طريقه نحو إمبراطورية تركية كردية، على غرار الإمبراطورية النمساوية المجرية".
شيئاً فشيئاً لم يبق من العهد الاستراتيجي بين سليم الأول والأمراء الكرد سوى الذكرى. وبدأت الإمارات الكردية تسقط بالتتالي. ووجهت لها ضربات قاضية منذ تدشين الإصلاحات في الدولة العثمانية بدءاً من سنة 1839. فبينما كانت تتقلص حدود الإمبراطورية العثمانية في البلقان كانت تزداد عنفاً في الداخل.
تطلبت الرؤية الجديدة إلغاء إمارات الحكم الذاتي في الدولة ومنها ولايات كردستان. وانعكاساً لذلك تصاعد التوتر الديني بين المكونات والطوائف لا سيما بين الكرد والأرمن. وبعد الإصلاحات (خط كلخانة 1839 – خط همايون 1856) باتت الدولة متحيزة – في نظر الأمراء والشيوخ الكرد – لصالح المسيحيين.
هناك الكثير من الإشكالات التاريخية في تشريح هذه المرحلة إلا أن نتائجها ظاهرة للعيان. ففي سنة 1834 أنهت الدولة العثمانية إمارة صوران الواقعة اليوم في إقليم كردستان العراق. ثم أزالت إمارة بوطان سنة 1847، وانهارت إمارة بابان في السليمانية بقرار عثماني أيضاً مع منتصف القرن التاسع عشر. وحين تسلم السلطان عبد الحميد الثاني الحكم سنة 1876 كانت الإمارات الكردية التاريخية الممتدة منذ بواكير التحول إلى الإسلام قد اختفت تماماً وخلفت وراءها فوضى ومجازر وحملات تهجير.
دشنت مرحلة عبدالحميد الثاني (1876 – 1909) واقعاً جديداً للكرد. فمع تسلمه السلطة في فترة حرجة حاول الانقلاب على الإصلاحات الدستورية وأوقف العمل بالدستور الذي أقره بنفسه عام 1876، وحاول سحب المزايا الممنوحة للأرمن في الإصلاحات السابقة.
كانت تلك إشارة التقطها الكرد وهم يرون كيف حوّل إرث "الإصلاحات العثمانية" بلادهم إلى خراب يرتع فيه القتلة وقطاع الطرق. وقد بات لديهم مجدداً حليف هو السلطان نفسه، وهذا ما لم يحدث سوى مرة واحدة في السابق، أي مع السلطان سليم الأول. وقد ابتكر السلطان عبد الحميد منهجاً جديداً سمح فيه للكرد بـ"مناهضة الدولة" و"موالاة السلطان"، وهي معادلة فريدة من نوعها لم تتجسد سوى في كردستان.
بهذا المعنى كان معظم قادة الكرد مناهضين للدولة الإدارية (موظفين، جيش، ولاة.. إلخ) وموالين للدولة السلطانية، أي لشخص السلطان عبد الحميد. ويمكن استقصاء هذا الأثر في الاتصالات المباشرة للسلطان عبد الحميد الثاني مع بعض الشيوخ الكرد دون مرور المراسلات بالأجهزة الرسمية.
كان لكلا الطرفين حساباتهما، وكان السلطان والكرد يلتقيان في مناهضة القوميات والطوائف الموالية لروسيا داخل الدولة. ونتيجة الاستثمار المتبادل وتعدد مراكز النفوذ في إسطنبول حمل الشيخ عبيد الله النهري أبرز شخصية كردية في تلك الحقبة لواءَ تمرد عام شمل أراضي كردستان في الدولتين الإيرانية والعثمانية معاً سنة 1880. وبعد الهجوم الواسع على الحاميات الإيرانية (القاجارية) في الأراضي الكردية داخل إيران، تمكن أتباع القائد الكردي من تحرير معظم المناطق الكردية في حوض بحيرة أورميه، لكنه تعرض للهزيمة لاحقاً بعد تدخل الباب العالي لإيقاف اندفاع الكرد ضد إيران.
شهدت العلاقات بين الكرد والسلطة هدنة غير معلنة خلال الأعوام التالية، بسبب ضعف القوى الاجتماعية الكردية المستقلة وصعود تنظيم الألوية الحميدية، وهي قوة شبه عسكرية شكّلها الكرد بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني. إلا أن هذه الهدنة لم تشمل بأي حال من الأحوال الكرد الإيزيديين والعلويين الذين بقوا هدفاً مستمراً للسلطات العثمانية منذ أول تفاهم كردي تركي.
لم يمت التحالف التاريخي الكردي التركي رغم التوترات الحرجة في القرن التاسع عشر بين الكرد والدولة العثمانية، لكنه تعرض لترنح وانتكاسات شديدة في مراحل عدة، لا سيما منتصف القرن التاسع عشر. لقد شاخ التحالف وطال عمره أكثر من أربعمئة عام منذ جالديران ونحو تسعمئة عام منذ ملاذكرد، لكنه بين فترة وأخرى يجد ما يعيده إلى الحياة، وآخرها فترة السلطان عبد الحميد الثاني. وكما يشرح حميد بوز أرسلان في كتابه "تاريخ تركيا المعاصر"، فإن الفترة الطويلة لحكم السلطان عبدالحميد الثاني تميزت بانعدام أي حروب كبيرة بين 1877 و1909، مما أتاح للسلطان أن يعيد التفكير بالإمبراطورية في إطار هويّاتيٍّ جديد. وبدا عبد الحميد الثاني مدركاً أن الإمبراطورية ستنكمش في النهاية داخل الأناضول. كانت عقيدته تهدف إلى خلق تجانس في هذه "النواة الصلبة" وحمايتها بدائرةٍ تضم الجماعات المسلمة غير التركية مثل الكرد. وبالفعل حين أعلن مصطفى كمال نهاية حرب الاستقلال عام 1922، كانت الخريطة المتبقية التي تشكلت منها الجمهورية نسخة عن خريطة تحالف جالديران عام 1514، في عودة مذهلة إلى نقطة البداية الإمبراطورية التي أطلقها تحالف ياووز سليم مع إدريس البدليسي.
شكلت مذابح 1894 - 1896 التي أوقعت على الأقلّ مئة ألف ضحية من الأرمن، عملياً، الخطوة الملموسة الأولى نحو إعادة بناء الأناضول وكردستان كياناً مسلمٍاً يضم شعبين أساسيين، الترك والكرد. وعززت الهزيمة العثمانية في البلقان عام 1912 فكرة أن الكيان العثماني في طريقه للتقزم حتماً، وربما يختفي من الوجود نهائياً. بين هذين الاحتمالين، أي تقلص المساحة ونهاية الوجود، خاض الجانبان الكردي والتركي حرباً وجودية مشتركة، حرب موت أو حياة، ضد الاحتلال الروسي في أرمنستان وكردستان، وضد الاحتلال اليوناني والروم الأرثوذكس في الأناضول الغربي. امتدت هذه الحروب من عام 1914 حتى 1922 وقُتل فيها مئات الآلاف غالبيتهم من الأرمن والكرد خصوصاً على الجبهة الشرقية العثمانية للحرب العالمية الأولى. كذلك فقدت الأناضول الروم عنصرها التاريخي البيزنطي، وهُجّرت جماعيّاً إلى اليونان ضمن صفقة التبادل على هامش معاهدة لوزان 1923.
في النهاية، كانت خريطة تركيا الحالية تموج بجريمة كاملة تشارك فيها كل الأطراف، وتدفع ثمنها كافة الشعوب القاطنة ضمن هذه المساحة. وكان الناجيان الوحيدان ــ لكن المنهكان والجريحان في الوقت ذاته ــ هما الكرد والترك.
باتت الدولة العثمانية تحت خطر الزوال في الحرب العالمية الأولى، وقد زالت فعلياً حين بقي الخليفة السلطان تحت رحمة دول الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا...) التي احتلت اسطنبول ومنطقة إيجة وكيليكيا. لم يبق خارج سيطرة الاحتلال الأوروبي عام 1919 سوى مناطق وسط الأناضول وكردستان والبحر الأسود. ومن هذا الجزء انطلقت المقاومة الوطنية في حرب الاستقلال حتى عام 1922. وكان التحالف الكردي التركي فعالاً في هذه السنوات إلى أن توّج حرب الاستقلال بالانتصار، مع أن الكرد انقسموا بين خوض الكفاح المشترك مع الحركة الوطنية التركية، وبين السعي لدولة قومية مستقلة. وتكشف مداولات الزعماء الكرد في ذلك الوقت عن حيرة سياسية، لكن في النهاية اختارت الغالبية "الوطن المشترك" الكردي التركي، وتُرجم ذلك عملياً عام 1920 في تسوية صاغها مصطفى كمال بالتشاور مع الزعماء الكرد والترك بعنوان "الميثاق الملي"، وهي انطلاقة جديدة للتحالف الكردي التركي المفترض نحو بناء دولة مشتركة تنقذ الجانبين، الكردي والتركي، من خطر وجودي تحت وطأة القضيتين الأرمنية والهيلينية (اليونانية).
و"لولا الدعم الكردي فإن الحركة القومية التركية ما كانت لتحقق النجاح الذي حققته" كما استنتج الباحث روبرت أولسون الذي درس وقائع هذه السنوات بدقة. بُني مضمون الميثاق الملي على التاريخ المشترك والبقاء في وطن مشترك. ولم يحمل حين إقراره عام 1920 أيَّ مضمون قومي تركي. وقد تعهد الجانبان أن تتمسك الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة باستعادة المناطق التي دخلت في عهدة الانتدابين البريطاني والفرنسي في سوريا والعراق، واستعادة مدينتي حلب والموصل. ويعني ذلك عملياً توحيد كردستان وتركيا في وطن واحد، وهو طرح استعاده الزعيم الكردي الراحل جلال الطالباني في تسعينيات القرن الماضي حين اقترح تسوية تاريخية مع تركيا ببناء وطن مشترك وضم الأراضي الكردية العراقية إلى هذا الوطن. ولاحقاً بنى حزب العمال الكردستاني عبر زعيمه عبدالله أوجلان، أطروحة السلام بناء على العهد المشترك في الميثاق الملي، وبناءً عليه أُطلقت عملية السلام بين عامي 2013 و2015. ومن المفترض أن تكون انطلاقة تركيا في توسيع خريطة نفوذها بالبلاد العربية "سوريا والعراق" خلال الربيع العربي قائماً على السلام الكردي التركي، في نسخة معاصرة من نموذج: "إدريس البدليسي – ياووز سليم"، قبل أن تؤدي الحسابات الانتخابية في صيف 2015، والانتصار الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي، إلى كبح هذه الاستراتيجية من جانب أنقرة.
إن مسار التسوية والسلام هو الذي يحدد "رواية التاريخ". ففي العام 2019 حين كان بن علي يلدريم يخوض حملة انتخابية شرسة للفوز ببلدية إسطنبول أمام مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو تجوّل في ديار بكر وخاربيت (ألازيغ)، فاضطر إلى العودة لمرحلة ما قبل "تصفير التاريخ المشترك" لمخاطبة الجمهور الكردي، وفتح صفحة من الصفحات التي أغلقتها الجمهورية قبل مئة عام، وتجرأ على القول إن مصطفى كمال أتاتورك كان يستخدم اسم "كردستان" قبل تأسيس الجمهورية التركية، للإشارة إلى الممثلين القادمين لدعم حرب التحرير من مناطق "كردستان تركيا". هذا يعني أن الحاجة السياسية للتسوية ستفتح باب السلام مستقبلاً لأن الحرب ليست دائماً في خدمة النجاح السياسي للأحزاب الحاكمة.
هناك قراءتان اليوم للتاريخ المشترك. الأولى قراءة السلطة في تركيا حول "تصفير التاريخ المشترك" حين قررت الطبقة الحاكمة الجديدة (مصطفى كمال ورفاقه) إعادة كتابة تسعة قرون من العلاقات المشتركة الكردية التركية، وحُذف اسم "الكرد" من كل صفحات التاريخ الرسمي والأكاديمي. هذه القراءة تواجه اليوم أصواتاً تركية تجلت في لجنة الحكماء التي شاركت في الترويج للسلام بين عامي 2013 و2015. أما القراءة الكردية التي تؤيدها شريحة غير قليلة من النخب التركية فتطالب بالعودة إلى الاعتراف بالمساهمة المشتركة في إنقاذ بقايا الدولة العثمانية "الأناضول وكردستان" بعد الحرب العالمية الأولى والانطلاق من ميثاق جديد لبناء الوطن المشترك، وليس دولة كردستان المستقلة، بتتويج ألف عام من العلاقات الكردية التركية التي بدأت بسوء فهم عام 1042، وأثمرت عن اتفاق تاريخي في 1514، واختتمت بعهد مشترك عام 1920، بما يؤدي في النهاية إلى تصحيح القرن الأخير حيث ما زالت مئة عام من الحروب ترسم الحياة اليومية للشعبين داخل تركيا وخارجها.