أشعلت هذه الحادثة الشِّقَاقَ والكراهية في صدور كثيرٍ من الليبيين. فهيّجت حادثةُ عقر جمل الحبّوني المشاعرَ المكبوتةَ أشهراً بين أهالي صاحب الجمل المعقور في الشرق الليبي، وبين الليبيين في الغرب ممن يحملون غِلّاً على ما فعلته قوّات خليفة حفتر بالعاصمة طرابلس من تدميرٍ وتشريدٍ وقتل. لم يقصد عبد العالي الحبّوني أن يكون لجَمله هذه التداعيات وهو الذي حملَ راية السلام قاصداً لمّ الشمل بين أبناءِ الوطن. ذهبت أحاديثُ الليبيين لتشبيه هذا النّحر الغادر بما حدث لناقة النبي صالح وناقة البسوس والخرافة الشعبية "نويقة النبّي"، التي تجتمعُ فيها سبعُ حيواناتٍ على قتلِ حشرة السرعوف أو "نويقة النبي" في المخيال الشعبي الليبي، كما يذكر الكاتب الليبي حسام الثنّي في مقالته "جمل الحبّوني وقتّالة نويقة النبي السبعة" المنشورة في موقع رصيف 22.
خَرَج عبد العالي الحبّوني في وسائل إعلاميةٍ ليبيةٍ يوضّح ملابسات القضية. وقال في برنامج "الدنيا حكاية" على قناة سلام إنّه يسامح القتَلة، فمع أنّ الجمَل كان "رفيق السلام" وما بينهما ليس بينه وبينَ أي إنسان، فإنّ الأمر يهون من أجلِ لمِّ شملِ الليبيين وسلام ليبيا. وشاءت الصدفُ أن تكونَ مدينة الزاوية التي نُحِرَ فيها رفيق عبد العالي واحدة من أكثرِ المدن الليبية توتراً، فلا تمرّ أشهرٌ قليلة إلا وتشتعلُ الاشتباكات داخل المدينة بين المجموعات المسلّحة. ومنذ موتِ الجملِ، صارَ الليبيون في مواقع التواصل الاجتماعي كلّما اشتعلت اشتباكات مسلّحة في المدينة يستعيدون سيرةَ جمل الحبّوني ويسمّون ما يحدثُ في الزاوية بأنّه "لعنةَ جمل الحبّوني". فارتبطَ مصيرُ مدينة الزاوية بمصيرِ البعير.
ارتبطَ تاريخ الليبيين الحديث بالإبِل ارتباطاً وثيقاً وامتزجت قصصها بقصصهم. فهي إحدى علامات التطهير العرقي التي لحقت بأبناء القبائل أثناء الاستعمارِ الإيطالي، فقد نفقت آلاف الإبل والأغنامِ داخل معسكرات الاعتقال الفاشيِ. وهي رفيقة من حاول النجاة منهم، من جحيم هذه الإبادة، عبر الصحراء هجرةً إلى تونس. وسجّلت لنا الذاكرة الشفهيّة الليبية شهاداتٍ للمجاهدين الليبيين الذين قاتلوا الإيطاليين وحين عبروا الصحراء بعوائلهم عطشوا في الطريق فلم يجدوا إلا نوقهم التي عقروها ليشربوا من دمها وماءِ كروشِها. وظلت رمزية الإبل في عهد القذافي بين مواليه ومعارضيه، فأصبحت هديةً دبلوماسيةً ورمزاً للتخلّف والفساد، وموضوعاً للفخر والحرية المطلقة.
واجهت إيطاليا مشكلاتٍ عدّة في فرضِ سلطتها على الأرض الليبية. فلم تقدر منذ نزول قوّاتها على شواطئ طرابلس وبنغازي سنةَ 1911 على تخطّي حدود بعضِ المدن في الشريط الساحلي بين طرابلس والخُمس في الغرب والسيطرة على بنغازي ودرنة في الشرق. ولم ترغب الدولةُ الاستعماريةُ التضحيةَ بالإيطاليين في طموحها هذا، ولهذا دفعَت بالمجنّدين الإريتريين والإثيوبيين الذين كانت تأتي بهم من مستعمراتها الإفريقية. وحاولت أيضاً استقطابَ زعماءَ عربٍ والتحالف معهم باللعب على ورقةِ الخلافات القبلية والتاريخية بين بعض القبائل في غرب البلاد. ومع أنّ إيطاليا لم تعترف بهؤلاء جزءاً من الجيش الملكي إلا أنّها استخدمتهم منذ سنوات احتلالها الأولى. يذكر ديكاسا آبيبي، الأستاذ المساعد في جامعة آديس أبابا، في ورقته "العساكر الإريتريين والإثيوبيين في ليبيا" كيف استخدمت السلطات الاستعمارية أبناء البلدين في احتلالها ليبيا منذ 1911، وهو أمرٌ فعلته إيطاليا لاحقاً حين استخدمت الليبيين أنفسهم في إعادة احتلال إثيوبيا. وينقل ديكاسا عن مصدرٍ ليبيٍ مشاركة كتيبة من سلاح الهجّانة أو المهاريستا الإريتري في معركة "بير التركي" بالقرب من طرابلس في مارس 1913. وتكرر استخدام الإبل في المعارك ضدّ المجاهدين الليبيين شرقاً وغرباً وجنوباً في سنوات المقاومة التالية حتى سنة 1932 عند توقف المقاومة الليبية بعد إعدام عمر المختار.
ومع الوقت أصبح سلاحُ الهجّانة سلاحاً رئيسياً في الحكومة الاستعمارية. ليسَ في المعارك التي تتطلبُ مطاردة فلول المجاهدين الهاربة إلى الصحراء وحسب، بل أيضاً في الدوريات الأمنية على الحدود والمناطق الصحراوية، وفي استقبالِ الوفود والتشريفات ومن ذلكَ استقبال زعيم الأمة الإيطالية بينيتو موسوليني. ولم يعد سلاح الهجانة مكوّناً من الإريتريين فقط، بل انضمّ إليه العَرب والطوارق الليبيين، وصارت له ملابسُ خاصة للعساكر والضبّاط والإبل نفسها. وكان لجنود الهجّانة في برقة لباسٌ مختلفٌ عن أولئك في طرابلس، فمثلاً كان البرقاويون يرتدون البدلة العسكرية ويلفّون على الخصر قطعةً من القماش تشبه رقعة الشطرنج باللونيْن الأخضر والأسود، أما في طرابلس فقد كانت قطعة القماش بنفسجيةَ اللون. وهذا ما تظهره لوحاتٌ لفنانين إيطاليين مهتمين بالتاريخ العسكري مثل قابريلي زورزِتّو وتجوسِبّي رافا. وطبعتْ الحكومةُ الفاشيةُ نفسُها صوراً دعائيةً لكتائب الهجّانة وهم يركبون إبلهم عليها جملة "حارسٌ في الليل والنهار"، فقد كانوا يسهرون حقاً لينامَ الضابط الإيطالي بأمان.
لم يكن استخدام الإبل متوقفاً على امتطاءِ الجنودِ لها، فقد استغلّت إيطاليا المطايا لنقل الأسلحة والمؤن. ومن قبيل ذلك أن الفيلق الإيطالي في معركة تاقرفت قربَ مدينة سرت فبراير سنة 1928 كان يضمّ ثلاثة آلافٍ من الإبل محمّلة بالذخائر والمؤن. لم تكن الخيل شائعةً كالإبل. يذكر نيكولاي بروشين في كتابه "تاريخ ليبيا من نهاية القرن التاسع عشر إلى 1969" أنّ ثروة الإبل في ولاية طرابلس وحدها وصلت سنة 1902 إلى ثلاثمئة ألف رأس إبل مقابل خمسةِ ألافِ رأسٍ من الخيل.
وقبل الإيطاليين، كان المجاهدون الليبيون أنفسهم يحاربون على ظهور العيس ويستخدمونها أيضاً في تهريب الأسلحة والمؤن، وأثّر نقصها في بعضِ الأحيانِ في مجريات الأحداث السياسية المهمّة. يذكر بروشين في الكتاب نفسه أنّ الزعيم الليبي سليمان الباروني اعتصم بيفرن في جبل نفوسة جنوب طرابلس بعد خلافه مع زعماء قبائل الغرب في اجتماعٍ بمنطقةِ العزيزية سنة 1912. ثم خاطب الباروني إيطاليا يعرضُ عليها الاعتراف به رئيساً لدولةٍ إسلامية عاصمتها يفرن، وشكّل جيشاً من المشاة والخيّالة والهجّانة، ولكن "الأموال نضبت من يدي سليمان الباروني بعد خمسة شهور . . . فلم يتبقَ لديه ما يدفع به كراء الجمال التي كانت تقوم بنقل الجرحى أو مرتبات الموظفين والجيش". ولنقصِ عتادِه، قضى جيش الاحتلال الإيطالي على جيشِ سليمان الباروني الذي كان قوامه أربعة آلافِ رجلٍ في 23 مارس 1913.
واستمرّ هذا الحضور الطاغي للإبل في الحملة الاستعمارية الإيطالية حتى مع ازدياد إنتاج السيارات والعربات والاعتماد عليها. وبعيداً عن الجانب العسكري، قريباً من الطموحات الاستعماريّة، استخدمت إيطاليا الإبلَ في رحلات استكشاف الأرض الليبية والبحث عن المعادن والموارد داخل الصحراء. وقد كتبَ عالم الأرض الإيطالي أرديتو ديزيو تفاصيل رحلته العلمية بداية الثلاثينيات في كتابه "دروب العطش" المليء بحضور الجِمال والقوافل وصورِ الإبل. ويذكر أرديتو أنّه فوجئ أوّل مرة من "اختيار الجمال وسيلة لتنفيذ مهمّة مثل بعثتي، ولم يكن الاختيار اختياري مع أنني كنت الطرف الرئيس في هذه المهمة. لقد تقرر اختيار هذه الوسيلة من قِبل أحد القواد الاستعماريين في برقة". ويظلّ ديزيو طيلة الكتاب يتبرّم من القادة الاستعماريين الذين يفضّلون مدّه بالجِمال على السيّارات. ولكنه يحكي بأنّه استمتع قليلاً بركوب الجمل، وكان له واحدٌ اسمه البكّوش، والبكّوش في اللهجة الليبية هو الأبكم. ويذكرُ ديزيو أنّ أوّل رحلة استكشاف داخل الصحراء في يوليو 1931 استلزمت تحركَ القافلةِ بثمانين جملاً لتحميل المؤن والأدوات والآلات العلمية وصناديق التخزين والماء. ولم تكن رحلات ديزيو علمية بحتة، فقد جاءَ إلى ليبيا بطلبٍ من الحكومة الاستعمارية للبحث عن الفوسفات والنفط والمعادن، وهذا أمر يذكره في صفحاتِ كتابه. وبذا يكون للجِمَالِ وقوافلها التي استخدمها ديزيو فضلٌ في اكتشافِ الثروة النفطية التي استُبدلت بها بعد عقديْن.
اضطّرت هذه الحملة بعض القبائل لهجرة البلد في قوافل عبر الصحراء إلى الجزائر وتونس وتشاد على الأقدام والجِمال. أصدرَ الأستاذ محمد سعيد القشّاط كتاباً عن تلك القوافل سمّاه "مراحيل العطش"، والمراحيل جمع مرحول، أي الرحيل الجماعي. يتناول الكتابُ قصص ليبيّين عاشوا تلك الرحلات، أي شهاداتِ أناسٍ عاشوا العطَشَ والفاقةَ والخوف في الصحراء الليبية بينما تطاردهم قوات الاحتلال الإيطالي. كانت بعضُ تلك القصص فظيعةً وموحشةً وبعضها فيه شيءٌ من طرافةٍ. منها قصة حاجٍ ليبي يُدعى محمد الأمين ضاعَ في الصحراءِ صحبة رفيقٍ له يُدعى بشير وجمليْن لهما يبحثانِ عن الماءِ لأفرادِ القبيلة الثمانين بعد موتِ بعضهم من العطش. اشتدَ بالرجليْن العطش ولم يجدا أماكن آبار الماءِ أو الواحات، وعندما أعيتهما الرحلة اقترح رفيقه اقتراحاً، يقول الحاج محمد: " قال لي [بشير]: خطر عليّ فكر. قلتُ له: ما هو الفكر؟. قال لي: هيّا نذبحوا أحد الجملين ونشربوا فرثه، والآخر نركب عليه نحن الإثنين"، ومن ثمّ وفي طرافةٍ ليبيةٍ عجيبةٍ يتجادلُ الرفيقان أي الجملين يذبحان، فالحاج محمد يريد ذبح جمل بشير، وبشير يريد ذبح جمل صاحبه حتى يصلا إلى اتفاقٍ ببيعٍ الجمل الناجي وتقسيمِ ثمنه بينهما إذا ما نجحا. ثم يسردُ الحاج ذبحهما للجمل وجمعهما دمه وفرثه وتصفية الماءَ وشربه. تتكرر هذه القصص طيلة الكتاب، بين ذبح النوق لشرب المياه أو لدفعِ الجوع، أو ذبحها لاتقاء بردِ ليل الصحراء وشمسها الحارقة بالاختباءِ في بطونِها. وتظهرُ هذه الكائنات أحياناً منقذةً للمهاجرين داخل غياهب الصحراء الكُبرى. وكأنّ الناجين منهم يدينون بنجاتهم للإبل.
في أغسطس 2008 اعتذر رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني للشعبِ الليبي عن الحقبة الاستعمارية، لكن الاعتذار جاءَ فضفاضاً، إذ قال برلسكوني أمام ابن بطل المقاومة الليبية الحاج محمد عمر المختار، إنّ إيطاليا "تعتذر عن الجروحِ العميقةِ" التي سببتها طموحاتِ إيطاليا الاستعمارية للشعبِ الليبي. لم تعتذر الدولةُ الإيطاليةُ حتى اليوم عن جرائم الفاشية بالتفصيل، بل سعى من تبقى من الفاشيين في تدمير الوثائق التاريخية التي تُدينهم بارتكابِ مجازرَ جماعيةٍ في ليبيا، ومنعتْ السلطاتُ الإيطاليةُ الباحثين الليبيين الوصول إلى تلك الوثائق. وقد تحدّث علي عبداللطيف حميدة في كتابِه "الإبادة الجماعية في ليبيا" عن الصعوبات التي واجهها في مساءلة وثائق الدولة الإيطالية. وأذكرُ أنني سألتُ صديقةً لها معارف في الأرشيف الإيطالي إن أمكنني الوصول إلى وثائق الحقبة الاستعمارية فأجابتني بأنّ "الأمر صعب للغاية". مع ذلك، وثقّ مؤرخون إيطاليون وليبيون وآخرون الإبادةَ الجماعية التي لحقت بأهالي الشرق الليبي، وتُقدّر أعداد من مات من الليبيين بين سنتي 1929 و1934 في برقة بين ثمانين ألفاً ومئة ألف إنسان من بين سكان ليبيا الذين لم يصل عددهم المليون حينها. ومراسلات الجنرال باودليو، الحاكم العام لليبيا في ذلك الزمن، أوضح دليل على وقوع جريمةِ الإبادة الجماعية. أرسل باودليو إلى الجنرال غراتسياني، قائد المنطقة العسكرية في برقة، في يونيو 1930 برقية يقول فيها: "وجبَ علينا، فوق كل اعتبار، أن نخلق فراغاً جغرافياً واسعاً بين المتمردين [يقصد عزل عمر المختار وجماعته] وأهالي [برقة]، أنا مدرك تماماً عواقب وأثر هذا الفعل الذي قد يؤدّي إلى إلحاق الضرر بالأهالي . . . ولكن الآن وقد حُدِّدَ المسار، يجب أن ننفذه حتى النهاية، حتى وإن كان لا بدّ من هلاك سكّان برقة بالكامل".
كانت الإبل صورةً من الإبادة الجماعية في كل البلاد ولاسيما في الشرق الليبي. فعندما أنهتْ الحكومةُ الفاشية حركةَ المقاومةِ في الغرب أرادت الانتقال إلى شرق البلاد لإنهاءِ الحركة التي يقودها السنوسيون، نسبةً إلى مؤسس الطريقة السنوسية محمد علي السنوسي، وقائدها العسكري عمر المختار. لم يستطع الفاشيون اللعب على ورقة الخلافات بين الزعامات، فقد كان جُلّ من في برقة يدين بالولاء إلى الطريقة السنوسيّة. وكان عمر المختار معتصماً بالجبل الأخضر، أهمّ منطقة أرادت إيطاليا استعمارها لوفرة المراعي والمزارع. اعتمَد عمر المختار وجماعته من المجاهدين على ولاءِ القبائل الليبية في برقة التي كانت تمدّهم بالعتاد والرجال والمؤن. وفهم الحاكمُ العام لطرابلس وبرقة الجنرال بيترو بادوليو أنّه، لينهي عمر المختار، عليه أن يَحُول بينه وبين القبائل البدوية الداعمة له. وهكذا دبّر لاعتقال جُلِّ القبائل الليبية وعزلها في معسكراتِ اعتقالٍ موزّعة في برقة كُلِّها، كان أهمّها وأبشعها معسكر العقيلة في حوضِ سرت وسطَ ليبيا. كانت القبائل الليبية في الشرق تعتمدُ في معيشتها على زراعة القمح والشعير الموسمية ورعي الأغنام والإبل والأبقار. ولذا لم تكن علاقتها بمواشيها علاقة المربّي بأنعامٍ ينتجُ منها قوتَ يومه، بل هي حاضرة في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي آدابهم وفنّهم وشعرهم، حتى لا يمكن للمرء أن يفرّق بين البدوي وجمله، فكما يقول عبد العالي الحبّوني هما "رفاقة". فاضطرت الحكومة الاستعمارية أن تزجّ بالمواشي صحبة القبائل في معسكرات الاعتقال، وتمنعهم عنها وعن الغذاء منها.
لم تلقَ هذه الإبادةُ الاهتمامَ الدولي الذي لقيته إبادة اليهود على يدِ النازيين. هذا ما يؤكده علي عبد اللطيف حميدة في كتابه "الإبادة الجماعية في ليبيا" في ثنايا سرده تفاصيلَ معسكرات الاعتقال التي قتلتْ ما يزيد على مئة ألفِ إنسان في سنواتٍ قليلةٍ مع أنّ النازيين تتلمذوا على يدِ الفاشيين الإيطاليين وزاروا معسكرات الإبادة الليبية سنة 1931 قبل "الهولوكوست". تردُ كلمة "جمل" أو ما يرادفها في كتاب الإبادة الجماعية أكثرَ من خمسين مرة، وفي كل مرّة تلتصقُ الكلمة بمفردة الإبادة أو فعلٍ يوضّحها. يقول الأستاذ أن 80 بالمئة تقريباً من البقرِ والإبل ماتت من الجوعِ أو بالقتلِ عمداً بالرصاص أو الحرق من سنة 1931 إلى 1934. ويورد عبد اللطيف إحصائيات توضّح الدمار الذي حصلَ لقطعان الماشية بين سنتي 1910 و1933، فيذكرُ أنّ عدد الإبل كان قريباً من ثلاثة وثمانين ألفاً سنة 1910 في برقة، لم يبقَ منها إلا ألفان وستمئة رأسٍ من الإبل سنة 1933.
هذا الإحصاء يختلفُ قليلاً مع إحصاء بروشين الذي يذكر أن عدد الإبل سنة 1933 وصل إلى ثمانية آلاف وستمئة رأسٍ. يذكرُ بروشين أيضاً أنّ طرابلس مثلها مثل برقة واجهت الإبادة الجماعية للمواشي، فيقول إنّ عدد الإبل في طرابلس وصلَ سنة 1920 إلى ثمانيةٍ وأربعين ألف رأس، بعد أن كان يصل ثلاثمئة ألف. وذلك بسبب السياسات الاستعمارية التي قطعت طريقَ القوافل أولاً، وبسبب المجاعة والقتل العمد والتهجير وظروف الحرب. ولكن عبد اللطيف حميدة وبروشين يتفقان أنّ مردَّ هذا الانخفاض كونُه جزءاً من تحطيم مقاومة الشعب الليبي وضرب المجاهدين حيثُ يؤلمهم، وحتى تتمكن الدولة الاستعمارية من استبدال السكّان بسهولة. وهذا فعلاً ما حصلَ بعد توقفِ حركة المقاومة سنة 1932 بعد شنقِ عمر المختار في معسكرِ سلوق الفاشي في سبتمبر 1931. فقد بدأت بعد أشهر معدودة حركةُ هجرة الإيطاليين المستعمرين في تزايد في الثلاثينيات، وكانت المزارع والمراعي المفرّغة من أهلها تنتظرهم ليحرثوها ويزرعوها ويرعوا فيها أنعامهم.
حفظتْ لنا الذاكرةُ الشعبية الليبية تلك الأحداث وساعدت الباحثين والكتّاب في إعادة كتابة التاريخ الليبي. ومما حفظته قصيدةُ للشاعر الليبي خالد بورميلة الفاخري، وقد كان خالدٌ أحدَ المعتقلين في سجنِ العقيلة وشهدَ بنفسه إبادة قومه. وكتبَ قصيدةً يرثي فيها إبله بعد أن شاهدَ حالها من الجوع والعطش والمعاملة السيئة التي تتلقاها من جنود الاستعمار، فيشرحُ طيلة الأبيات كيفَ كانت إبله في رغدِ العيشِ قبل الاعتقال، حتى يصلِ إلى آخر بيتيْن يقول فيهما متحسراً:
واليوم عند برَّاكة الطَّير جفا يا عراض الجنايب
أنتِ فيه ما تنظري خير واحْنا نزمطوا في هزايب
وبرّاكة الطير، هو مهبطُ الطائرات القريب من حبسِ العقيلة حيثُ سُجِنت فيه الإبل وفُصِلت عن أصحابها. فيكثّفُ الشاعرُ مشاعر الحسرة على إبله قائلاً إنّها سُجِنتَ في مهبط الطائرات بعيدةً عنه، ولا تنتظرُ خيراً، بينما هو وقومه يتلقون "الهزايب" أي التوبيخ والإذلال. وذلك "بعد مَرَاضْها في عَفَا دَيْر"، أي بعد أن كانت ترتع في أفضلِ الرياض، و"بَدري شْمُوسْ والعام خايبْ" أي الماءُ يسقطُ حتى يشبع الأرض نباتاً لمرعى إبله والشمس والمطرُ يتبادلان دون توقف طيلة العام من كثرة الخير. ولم يتوقف هذا الموقف من الإبل عند الشاعر خالد بورميلة فقط، بل حتى الشاعر رجب بوحويش في قصيدته "ما بي مرض غير دار العقيلة" يرثي الأطفال الذين ماتوا في حبس العقيلة بقوله "مابي مرض غير فقد الصغار . . . أسياد العشار . . . اللي لقطوا كيف تمر النهار"، والعشَار هي أحد أسماء الإبل، فيربط الشاعر فقدَ الأطفال بفقدِ من سيسود على الإبل. وهكذا ترتبطُ الإبلُ في قصائد الناجين من تلك الإبادة وحكاياتهم ارتباطاً وثيقاً بما حدثَ لهم وأهاليهم، وترتبط أيضاً بحلقة مسكوتٍ عنها في التاريخ الليبي، عندما قررت السلطات الاستعمارية القضَاءَ على شعبٍ وطريقة حياته وثقافته دفعةً واحدة.
الناقة مشت لحقت زعيم الأمة . . . هي مثيله واخدة ع القمّة
خدت حوارها . . . عدّت وهي ناوية مشوارها
والدار فيها أتراك ما هي دارها . . . بعد سيدها عاشت كدر وغمّة
واتريد تحكيله جميع أخبارها . . . واتقوله شتات الوطن من بيضمّه
والبلاد من بعدك كثير دمارها . . . واللي يجي فيها ايفرّغ سمّه
إتعاني وهي زايدات إمرارها . . . فيها عمايل حُرُفُ ما تسّمّى
تظهرُ الأبيات، وهي لشاعرٍ مجهول، مدى قوّة الإبل ورمزيّتها السياسيّة، فيربطُ الشاعرُ رحيلها من ورقة الخمسة دنانير برحيل هيبة الدولة. فبرجُ الساعةِ معلمٌ تركيٌ بناهُ والي طرابلس العثماني علي رضا باشا الجزائرلي نهايات القرن التاسع عشر. وأبناءُ القبائل الليبية جنوب غرب العاصمة وجنوب شرقها يرثون عداوةً تاريخيةً لأجدادهم مع الدولة العثمانية، وهي عداوةٌ جاءت لمحاولة فرض العثمانيين السيطرة على مناطق نفوذ القبائل البدوية وفرض الضرائب عليهم وعلى ما يملكونه من ماشيةٍ وحبوب. وكانت إبلُ القبائلِ أكثرَ تلك الماشية التي تنالها الضرائب، فكان أصحابُ الماشية يدفعون خمسين قرشاً على الجمل وعشرين قرشاً على البقرة.
لم يعرف صاحب الأبيات التي يظهر أنّها نُشِرت سنة 2015 بأنّ تركيا سيكون لها وجودٌ فعليٌ في الحربِ التي تلاها نحر جملِ الحبّوني. ما يثير الاهتمام أيضاً في الأبيات هو استخدام الناقة ووليدها للشكوى من الأوضاع السياسية الجديدة في البلد بعد أن صار "الوطن مشتتاً" لا يجدُ من يلمّ شتاته، وعمّ الدمار البلاد بعد القذافي.
وكما ارتبطت الإبل بسيرة العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، ارتبطت أيضاً بنظرةِ معارضيه لما اتخذه العقيد من نمطٍ للحكم في ليبيا. ودائماً ما يجمع المنتقدون بين "تخلّف" العقيد وحكمه وبين سيرة حياته البدوية المتمثلة في الإبل والخيمة والصحراء. وهذا للمفارقة منبع فخرِ كثيرٍ ممن يوالون القذافي، وهم يرددون أغنية الفنان الليبي الراحل محمد حسن "مجرودة الفاتح"، والمجرودة فن شعبيٌ ليبيٌ. فيقول محمد حسن في مطلع الأغنية: "بدّيت وبادي بالبادي، نبدا باسم الله الهادي. باسم الشعب وباسم ابلادي، باسم أجدادي وباسم أولادي"، والبدء باسم الله من لوازم الفن الشعبي الليبي. وبعد أن يبدأ محمد حسن يقول: "حطّامين [الليبيين] أحلام العادي، ركّابين علم ونعل . . . ركّابين على الحمّاقة، شرّابين حليب الناقة". فقدّم الرجل شربَ حليب الناقة على ركوب الخيل في المقطع الذي يليه، وقدّمه على وصف جهاد الليبيين وعلى "فجر الفاتح" من سبتمبر 1969. أعجبتْ جملة "شرّابين حليب الناقة" كل من سمع الأغنية فغلبت على الاسم الشعبي للأغنية، وصارت الجملة لازمة لكل من يتفاخر بالقذّافي وبأمجاده. والجملة نفسها مشبّعَة بالرموز والتمثّلات، فالفخرُ بشربِ حليبِ الناقة هو فخر بالبداوةِ التي لم تخنع للاستعمار الإيطالي، وهذا ما يوضّحه الكلام التالي في الأغنية "فزّاعة للوطن الغالي . . . غالي طالب دم غوالي . . . بعد التركي جاه إيطالي". فابن المدينةِ نادراً ما يشربُ حليبَ الناقة، وهذه المقارنة بين شرب حليب الناقة وشرب العصير موجودة حتى اليوم في التفاخر بين أبناء البادية الأشداء وأبناء المدينة الذين ينزعون إلى الدّعة والراحة. والجملة أصلاً جاءت من نداءٍ ثوريٍ كانت تنادي به اللجان الثورية "يا شراب حليب الناقة [يقصدون القذافي] خليت العالم يزاقى". أي جعل العالم يرتجف رعباً.
ساهمت الإبل سياسياً في فترة الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على ليبيا تسعينيات القرن الماضي بعد حادثة لوكيربي سنة 1988. فبعد الحصار الجوي على ليبيا، واجه الحجّاج الليبيون عراقيلَ في أداء مناسك الحج، وفي سنة 1995 ركب 387 حاجاً ليبياً ظهور الإبل وسافروا إلى البقاع المقدّسة. رأت الدولة الليبية في هذا تحدياً للحصار الدولي وكرّمت السلطاتُ الليبيةُ أولئك الحجّاج الذين سمّتهم حجّاج الإبل سنة 2006، العام نفسه الذي تصالحت فيه ليبيا مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كان معمر القذافي يتفاخرُ بالإبل ويحبّها ويمجّدها وكان عارفاً بها وبأنواعها. كان يرسلها هدايا إلى الدول التي عدّها صديقة، ويستقبلها هدايا، وربما كانت أعزّ هديةٍ له. فعند زيارته إلى تشيكوسلوفاكيا الشيوعية سنة 1982، قبل تفككها، اصطحبَ معه جملاً ووضِعَ الجمل للعرضِ في حديقة بمدينة بيلسن في بوهيميا الغربية في التشيك، وحدثَ الأمر نفسه في رحلات القذافي إلى أوروبا الشرقية وإفريقيا وحتى أوروبا الغربية بعد الصلحِ مع الغرب في بداية الألفية الثالثة. وأهدى إبلاً لرئيس وزراء جمهورية ليسوتو في جنوب قارة إفريقيا سنة 2008، واصطحبَ معه جمَلَه وخيمته أثناء زيارته باريسَ سنة 2007. توضح هذه الحوادث وغيرها أنّ الإبل كانت وسيلةً من وسائل معمر القذافي الدبلوماسيّة، فلا أعزّ على العربي البدوي من أن يهدي غيرَه جمَلَه. لم يرَ القذافي، على عكس ما يعتقد معارضوه والساخرون منه، في الأمرِ غرابةً ونوعاً من السخرية أو الجنون. بل كانَ يرى في الأمرِ طبيعياً وهو ابن البادية الليبية. نظرَ للأمر كمن يهدي غيره أعزّ ما تملك بلاده. وقصة الحاج محمد الأمين ورفيقه وسطَ الصحراء الليبية، وخلافهما حول جمل من يستحق الذبح، أوضحُ مثالٍ على مدى ارتباط أهل البادية بإبلهم.
أدّت إبلُ معمر القذافي التي أهداها الدولَ الصديقة، على ما يراه الكثيرون فيها من غرابة، وظيفتَها الدبلوماسيّة بالتعبير عن مشاعر الصداقة والتقدير. وأدت إبلٌ أخرى وظيفةً معاكسة في نفوس ليبيين كثر. من ذلك إشاعةٌ صارت لازمة لنقدِ نظامِ القذافي أنّ السّاعدي ابن معمر القذافي اشترى حصةً في نادي يوفنتوس الإيطالي، فانتقد الناس هذا التبذير في الأموال وتساءلوا عن مصدر أموال السّاعدي، وتقول إشاعةٌ إنّ الكلام وصلَ معمر القذافي فقال: "باع نياق جدّه"، بمعنى أنّ السّاعدي باع إبلاً ورثها عن جدّه. وصارت الجملة بعد ذلك معرضَ سخرية الليبيين حتى يومنا هذا عندما يأتي الكلام على فساد عائلة القذافي.
ومن أشدّ ما أخذه معارضو معمر القذافي عليه أنّه حوّل مشروع الدولة المدنية في ليبيا إلى مشروع دولةٍ بدوية، وكرروا متلازمة الناقة والخيمة والصحراء. ومن ذلك ما صرّح به محمود شمّام، مسؤول الإعلام في المجلس الانتقالي للثورة الليبية سنة 2011، في حسابه على فيسبوك قائلاً: "حملنا ادريس السنوسي لطرف دولة المدينة وأعادنا القائد [يقصد القذافي] إلى الناقة والصحراء". وكأنّ النوقَ لم تكن تتجوّل في وسطِ مدينة طرابلس في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ولم يكن شمّام وحيداً في موقفه من القذافي ونوقه، فقد رسمَ فنّان الكاريكاتير الإنجليزي بيتر بروكس صوراً تحقيرية للقذافي سنة 2011 أثناءَ الحرب الأهلية الليبية الأولى. وكان جُلّ تلك الصور تربط بين القذافي والجمل، فمرّة يصوّر بروكس القذافي على هيئة جملٍ قاعد على السياسي البريطاني وليام هيغ يكاد يخنقه، بينما يقول له هيغ: "نهايتك قريبة يا قذافي". ومرّة يصوّره فوقَ جمله وهو يلجُ سمّ الخياط بينما يقول الجمل: "أسهل للجمل أن يلج سمّ الخياط من أن يعرف كاميرون لماذا هو ذاهبٌ [يعني التدخل العسكري] إلى ليبيا". ويصوّره مرةً ثالثةً صحبة جمال يشربون من بركةِ دمٍ واحدةٍ.
وقد يرى معارضو القذافي في ليبيا صوَر بروكس على أنّها تعبيرٌ حقيقيٌ وساخرٌ لما يمثّله معمر القذافي مما يرونَه تخلّف البداوة، دون أن يدركوا أنّهم يتماهون مع الصورة العنصرية نفسها للإنسانِ الغربي على الإنسانِ العربي. فمن أشهرِ المسبّاتِ العنصرية الغربية عن العَرب هي مسبّة "كامِل دونق شوفلرز" أي "ماسحو روث الإبل". وكثيراً ما يُعرض الجمل والعربي معاً في السينما الأمريكية بصورةٍ تحقيرية، ومن ذلك فلم "ذا ديكتاتور" أي الطاغية الذي كان بطله الممثل ساشا كوهين المشهور بدور "بورات". فرمزية شخصية القذافي حاضرة بقوة في فلم الدكتاتور، وقد اختار كوهين دعايةً للفلم الركوب فوقَ الجملِ في شوارع نيويورك. وهو المشهد نفسه الذي ظهر في بداية الفيلم عندما يصل "علاء الدين"، البطل الذي يرمز إلى معمر القذافي، أمريكا. وأعاد كوهين الأمر نفسه في مهرجان كان للأفلام سنة 2012.
يتكررُ ارتباط الإبلِ في روايات الكوني بمصير أمة الطوارق، فأحياناً هي رسلٌ من القدرِ لتعلّمهم "الناموس" أي حكم الأوائل. وأحياناً هي من أمةِ الجن المعادية. وقد تقلب الموازين في روايات الكوني بسهولة. وهذا أمرٌ ليسَ بغريبٍ عمّن يعرفُ سيرة الكاتب، إذ يذكر في سيرته الروائية "عدوس السُرى" كيف ضاعَ وهو فتىً في الصحراء ولم يهتدِ إلى طريقِ العودة دون تتبع آثارِ ناقةٍ في الصحراء. يدينُ إبراهيم الكوني للناقة لا بحياته فقط، بل بما وصلَ إليه، وهو دينٌ لا ينكره أبداً ويفتخرُ به. وهو الذي ربطَ سيرة البدو الليبيين بإبلهم واعتبرَ هذه الكائنات أقدسَ كائنات البدو، فعندما تموتُ ناقة أحدهم يبكي عليها كأنّه يفارقُ صديقاً. وهذا ما توضّحه حادثة جمل الحبّوني وما فعلته من بعث عداوات الليبيين فيما بينهم، فهل ينظرون إلى الإبلِ كيف صارتَ جزءاً من سيرتهم الوطنية وشاركتهم تاريخهم السياسي حتى يومنا هذا.