بين النسوية وحركات حقوق الرجال.. أيهما يخدم العزّاب الذكور؟ 

انتشرت في العالم العربي تفاعلات مع موجةِ ما يُعرف بالحبة الحمراء في العالم والتي تسعى لتحصيل حقوق الرجال في عالم يُحابي النساء، كما يدّعي مؤيدو هذه الموجة. تحاول الحركة النسوية اليوم الحوار مع هذه الفكرة وتفكيكها بدلاً من رفضها فقط.

Share
بين النسوية وحركات حقوق الرجال.. أيهما يخدم العزّاب الذكور؟ 
تحاول الحركة النسوية اليوم الحوار مع موجة الحبة الحمراء وتفكيكها بدلاً من رفضها فقط / خدمة غيتي للصور

صديقتي واحدةٌ من أنجح النساء العمانيات اللاتي أعرفهن مهنياً، وقد قررت مع شريكها أن الوقت قد حان للزواج بعد أن بلغت درجةَ استقرارٍ تُرضيها. تَقدّم الشاب لخطبتها ثم جاء إلى بيت أهلها لتقديم المهر، مع تفصيلٍ صغير: أنها من أرسلت له مبلغ المهر المتفق عليه في صباح اليوم الذي تنتظره فيه عائلتها. لعلَّ دافعها مُكوَّن من شِقّين، الأول عملي فهي تقول: "يتوفر لدي المال، وإذا ما أردنا الزواج الآن فلا حلّ لدينا إلا أن أكون المُساهمة الأساسية". فشريكها أنشأ شركته الصغيرة للتو، وهما يعرفان أن الشركة تحتاج إلى سنواتٍ لتُدِر المال. أما الشق الثاني فينطلق من إيمانها بأن عادة دفع المهر من حيث المبدأ لا مُبرَّر لها لدى النساء اللاتي يزيد دخلهن على دخل شركائهن. 

يتفق فعلها هذا مع مبادئها النسوية التي يعكسها ما كتبته الروائية والكاتبة النيجرية شيماماندا نغوزي أديشي في كتابها "علينا جميعاً أن نصبح نسويين" الصادر سنة 2018. تقول أديشي: "ما الذي سيحصل لو نشأ الصبيان والفتيات بحيث لا يتم ربط الرجولة بالمال؟ ما الذي سيحصل لو كان السلوك السّائد هو العكس من حالة الصبي يجب أن يدفع؟، فالصحيح هو: من يمتلك المال الأكثر يجب عليه الدفع".

مسؤولية الإعالة والنفقة واحدة من القضايا التي تُعالجها حركات حقوق الرجال من بين قضايا أخرى مثل: التحيز في حق الحضانة وتحيز المؤسسات ضد الذكور وحتى الحق في التعاطف، الذي يجدون أنه حكر على النساء والأطفال دون الرجال. يعتقد البعض أنّ هذه القضايا تخصّ العالم الغربي أكثر مما تخص العالم العربي، فعندما يَرِد الحديث عن الإعالة في السياق الإسلامي، يُنظر إليها على أنها تأتي مُقابل القوامة. لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فالأفكار التي تنتشر في الغرب تحت مسمَّى "الحبة الحمراء"، اللاتي تعادي النسوية والنسويات، تجد لها صدىً كبيراً في العالم العربي، خصوصاً مع سرعة انتشار الأفكار عبر الخوارزميات في عصرنا الرقمي. تؤثر هذه الأفكار على الأنسلز (العازبين غير الطوعيين) من الرجال الذين يصبّون غضبهم على النساء والنسويات باعتبارهنّ سبباً لعزوبيتهم القهريّة. لكن إذا أمعنَّا النظر فسندرك أنّ النسويّة ليست مشكلة العازبين غير الطوعيين، بل أنها قد تكون الحلّ. ليس لمشكلات التمييز ضدّ النساء فقط، بل لمشكلات التمييز ضدّ بعض الذكور الذين يُنظر إليهم باعتبارهم غير مرغوبين.


انطلقت حركة حقوق الرجال في السبعينيات على أيدي رجالٍ من متوسطي الدخل من البيض والمغايرين جنسياً (من ينجذبون للنساء)، وهي تسعى لتفكيك النسوية بينما تستعير منها لغة المساواة والعدالة الاجتماعية للمطالبة بتغييراتٍ قانونيةٍ وسياسية. يركّز المنتمون لتلك الحركة على ما يرونه تهديداً للقيمة الاعتبارية للرجال، ويتحسَّرون على تغيُّر أدوار الرجال والنساء التقليدية التي يُجادلون أنها فطرية. المؤيدون العرب لهذه الحركة يعترضون على ما يعدونه تحيزاً للنساء، ويرون في الأفكار الداعمة لهن أفكاراً دخيلة، متناسين أن حركة حقوق الرجال هي الأخرى نشأت في الغرب.

تُعَدُّ حركات حقوق الرجال البذرة الأولى التي أثمرت عنها مجتمعات "المانوسفير". و"سفير" لاحقة تُضاف لنهايات المصطلحات لتعني النطاق أو الحيز، وبالتالي يُمكن تعريب "المانوسفير" إلى فضاء الرجال. وتُشير الكلمة لمجتمعات الإنترنت التي ينشط فيها الرجال المنشغلون بمناقشة ما يرونه استحقاقاً أنثوياً، وطبيعة النساء وطرق التعامل معهن. هذه الفضاءات التي بدأت مساحاتٍ لمناقشة حقوق الرجال، أو تبادل الخبرات والنصائح حول العلاقة مع الجنس الآخر، أصبحت سريعاً أكثر ذكورية وكراهية للنساء ومعاداة للنسوية، وربما أكثر تطرفاً وعنفاً. 


نفترض غالباً أنّ كلَّ شخصٍ سيجد شريكاً عاطفياً يُناسبه في النهاية. ونجد في هذه الفكرة راحةً خاصة لأنها تُريحنا وتُطمئننا أنّ العالمَ عادلٌ ومنصفٌ، وتُطمئن العزاب منا أنّ انتظارهم سيُكافَأ في النهاية. لكن الواقع يقول إن الأمور على خلاف ذلك. بمعنى أنه ثمة ثلة لها حظ عالٍ من رغبة أفراد الجنس الآخر بهم، بينما يبقى آخرون بدون شركاء. تحرير الرغبة الذي جاءت به نسويات الموجة الثانية عنى تخليص الجنس من الذنب والعار. لكن التفضيلات الجنسية ليست حرة وهي متأثرة بشكلٍ معقّد بأنماط عدم المساواة القائمة في المجتمع. يمكن كشف هذا التعقيد إذا أعملنا الأدوات النسوية، التي تشخص التهميش وتكشف وتحلل أوجه عدم المساواة. فلنفكر بالمعايير الممكنة لاختيار الشريك مثل الجاذبية والوضع المالي والوظيفة والتعليم، ويُمكن أن نُضيف إليها النَسب في المجتمعات العربية. من هذه المعايير ما هو محكوم بالطبقة والعرق، ما يعني أن الرغبة نفسها ليست حرة. يُمكن دعم هذه الخلاصة عبر دراسات بياناتِ المواعدة على الإنترنت في المجتمع الأمريكي، لكونها متاحة لنا، لكنها توافق حدسنا عموماً عن دور الحالة الاجتماعية الاقتصادية المرتبطة بالعِرق.  

في كتابه "داتاكليزم: من نحن عندما نظن أن لا أحد ينظر إلينا؟" الصادر سنة 2014، يُحلل كريستيان رودر، وهو أحد مؤسسي تطبيق المواعدة أوكي-كيوبد، بيانات مستخدمي تطبيقه لتفسير الظواهر العامة. يوضح لنا مثلاً ارتباط التفضيلات الجنسية بالعِرق. فيستنتج أن النساء وفيات لأعراقهن بالدرجة الأولى، ثم يُفضّلن الرجال البيض بالدرجة الثانية مقارنةً بباقي الرجال الذين لا يشتركون معهن في العِرق، فيما يحتل الآسيويون والسود قاع التفضيلات. أما الرجال فيُفضلون النساء من أعراقهم ولكن بدرجةٍ أقلّ مما تفعل النساء، ويظهرون عدم تفضيل للنساء السود.

العقلية الليبرالية الجديدة، وهي نظام اقتصادي واجتماعي يعلي من الفردية وانسحاب الدولة من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص وهي التي تحكم الاقتصاد العالمي، تتسلل إلى حياتنا الاجتماعية لتُصبح قيم السوق الحرّ مسيطرةً على الكيفية التي ننظر بها إلى العلاقات. ثمة تعبيرات تُستخدم اليوم في الحديث عن العلاقات العاطفية تُعبّر عن ذلك، من قبيل "سوق المواعدة" أو "الطلب كبير عليه أو عليها" أو "أن اللاتينيين هم الموضة الآن". وزيادة الطلب على شخصٍ ما، بمعنى أن يكون له معجبون وتَصِله طلبات ورسائل واعترافات حب، وتكون له قاعدة جماهير عريضة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتلقى هدايا وباقات ورد في الواقع، كل هذا يُعَدُّ قيمةً ورأسَ مالٍ عاطفي يستحق المباهاة. فإثباتُ أن الفردَ مرغوبٌ هو المهر الذي يُقدَّم للطرف الآخر، والدليل الموضوعي الذي تشهد عليه الأرقام. في عالمٍ كهذا، تحتكم فيه حتى العلاقات العاطفية للعرض والطلب، ثمة من ينفعهم النظام سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً، وآخرون يضرّهم النظام دون أن يجدوا وسيلةً ليكون لهم نصيب من الحب والجنس، هؤلاء هم من اصطلح على تسميتهم العزابَ غير الطوعيين ويُشار إليهم بالإنجليزية باسم "الإنسلز".

تثير ظاهرة "الإنسلز" سلسلةً من ردود الفعل لدى من يتعرضون للفكرة بمجرد أن يتكشف لهم أنهم ليسوا وحيدين في معاناتهم، أو عندما يختارون بلع "الحبة الحمراء" كما جاء في مطوّلة الفِراتس المنشورة في 18 يونيو 2024. ابتلاع "الحبة الحمراء" يعني عملياً الوصول إلى مجتمعات "الإنسلز" على الإنترنت، والتسليم بعقيدتهم. تشمل العزوبية غير الطوعية الذكور والإناث، لكنها بالمعنى الذي تُستخدم فيه اليوم، تعني نوعاً محدداً من العازبين الذكور، وبهذا فقضايا العنوسة لا تنتمي لهذا الفضاء مع أن نوع العزوبية في الحالتين قسري. تُشير العنوسة إلى النساء اللاتي تخطت أعمارهن الحدّ الأمثل للزواج، ومن المرجح أنهن لن يتزوجن أبداً رغم رغبتهن في ذلك. لكن العنوسة في السياق العربي والإسلامي تُناقش بإسهاب، وتُعَدُّ ظاهرةً واسعةَ الانتشار وتحظى باهتمامٍ خاص في ظلّ ترغيب الإسلام وتشجيعه على الزواج. ومع ذلك فلا تملك المجتمعات العربية لها حلولاً ناجعة، كما لا تملك المجتمعات العربية والغربية حلاً لمشكلات الذكور والعزوبية غير الطوعية، ما يدع مجالاً لحركات "الإنسلز" والبحث عن الحلول الفردية التي قد تنطوي على معاداة المجتمع أو بعض فئاته، كما في معاداة "الإنسلز" النساءَ. 


الشعبية التي تحظى بها كتب المساعدة الذاتية والتنمية البشرية في شتى مواضيع الحياة من العمل إلى العلاقات الاجتماعية دليلٌ على التشديد على مسؤولية الفرد لتغيير حياته وحلّ مشاكله، مقابل إهمال المسؤولية الجمعية تقريباً. تُشير المسؤولية الجمعية إلى دور الدولة والمجتمع في التعاطي مع الظواهر والمشاكل. وبهذا فإن مواد التنمية البشرية لا تكلّ ولا تملّ من التشديد أن العائق بين الفرد والثراء والحب والمكانة والشهرة والنجاح، هو مدى طموحه واجتهاده، وأن الواحد منا بإمكانه تحقيق كلّ أحلامه باتباعِ عادات الناجحين أو اتباع نصائحهم.

يكون الردّ الأولي للمُستبعد من سوق المواعدة العملَ لأن يُصبح منافساً أقوى إزاء الذين يحصلون على أجمل الفتيات، والذين لديهم فيض من العلاقات. عالمُ اليوم الذي يُعلي قيم الفردانية يسمح للفرد بالسعي وراء خياراته وأهدافه ورغباته، لكنه في الوقت نفسه يضع عليه وحده مسؤولية حلّ مشاكله. فيذهب الفرد في مسعاه نحو تطوير نسخةٍ أفضل من نفسه، مؤمناً أنه إذا بذل الجهد الكافي ليكون مرغوباً، فإنه سيُكافأ بشريكٍ عاطفي يحقق معه رغبته بالارتباط. فيُدير المرء حياته العاطفية بالمنطق ذاته الذي يُدير به حياته المهنية. فها هو يذهب إلى النادي الرياضي كل يوم ويأكل غذاءً صحياً ويتعلّم لغات جديدة، ومثلما يضيف إلى سيرته الذاتية أنشطته وهواياته يهمّ بدخول الدورات لتعلّم الرقص والعزف وركوب الخيل.

من هنا يلوح خطرٌ آخر لحالة "المانوسفير" على الرجال أنفسهم، فهي لا تعيد تدوير كراهية النساء فحسب (والتي تُعرف بالميسوجينية في الأدبيات النسوية)، بل أنها تبني على الاستغلال العاطفي والاقتصادي للرجال اليافعين. يُمكن لكراهية النساء أن تتجلى في صورٍ كثيرة مثل احتقار النساء والتمييز ضدهن وتعنيفهن والتسامح مع تعنيفهن والنظر إليهن أدواتٍ جنسية. بنى عالمُ النفس الكندي المشهور جوردن بيترسون ثروةً عبر محاضراته ولقاءاته وكتبه التي تتبنى الأفكارَ الرائجة في "المانوسفير" ووعوده بتغيير حياة قرائه ومتابعيه عبر تنويرهم بمحاضرات عن حقيقة الرجال والنساء والسلطة. تقول سارة قدورة، ناشطة نسوية فلسطينية ومهتمة بقضايا "الجندر" والحقوق الجنسية والإنجابية عن هذا الاستغلال لليافعين: "يعتمد المانوسفير على الاستغلال الاقتصاديّ والعاطفيّ. فيستغلُ من يُسمّون ‘قادة الفكر‘ في هذه المساحات، مثل أندرو تيت، مخاوفَ الرجال الحقيقيّة بشأن عدم الاستقرار الاقتصاديّ، واسترضاء رغبتهم في الحصول على حلولٍ يسهل الوصول إليها. في وقتٍ تتصاعد فيه الحكومات والفصائل اليمينيّة - وفي ظلّ تبنّي سياسات تقشّفٍ نيوليبرالية قاسيةٍ في جميع أنحاء العالم - يجد الشباب أنفسهم غير قادرين على الوفاء بأدوارهم ‘الذكوريّة‘ المحّددة اجتماعيّاً، والتي تتطلب منهم الحصول على وظيفةٍ ناجحةٍ والاعتماد على النفس والقدرة على إعالة الأسرة. وبدلاً من توجيه هذا الإحباط والغضب نحو الأسباب الجذريّة السياسية للظلم الاقتصادي - مثل السياسات الاستغلالية - يجعل مؤثّرو المانوسفير النسويةَ كبشَ فداء ‘فشلهم‘، ويروّجون للأفكار الفردية عن النجاح بين ‘آخذي الحبّة الحمراء‘."

ثمة إيمان بأن أسبابَ تأخرِ سنّ الزواج اقتصاديةٌ في المقام الأول. الشبان الذين يصبّون غضبهم على النسويات، يتجاهلون كما يحثهم قادة "المانوسفير"، الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها شبان اليوم في كلّ مكان، والناتجة عن الهوة التي تكبر بين الفقراء والأغنياء. في عُمان مثلاً، مع أن الحدّ الأدنى للأجور أربعمئة وخمسون ريالاً عُمانياً شهرياً (أي حوالي 1170 دولاراً)، يُفضِّل بعض الشبان والشابات العمل بأجرٍ أدنى من هذا الحدّ على البقاء دون عمل. والخلاصة أن البطالة والدخل المتدني هما المشكلة الأهم في قضية الارتباط، وليس طبيعة النساء الماكرة والانتهازية.

يشعر الرجال تحت هذا الضغط بالسخط، وخصوصاً اليافعين منهم، لأنهم لم يعثروا على شريكٍ مُرضي أو أيّ شريكٍ على الإطلاق، وعندما يتبيّن لهم أن الأمر غير عادلٍ وغير مجدٍ يلجأ بعضهم لردود فعلٍ شرسة وعدوانية تجاه الجنس الآخر. أحد ردود الفعل قد تصل إلى التسليم بأفكار متطرفة نابعة من الشعور باستحقاق الحب والجنس، وحسد موجَّه لمن يمتلكونه، خصوصاً أولئك الذين يبدو أن الجميع راغب بهم بما في ذلك الذكور منهم. هنا تبدو حركات مثل حركة الحبة الحمراء جذابة للفتيان والرجال. حركة الحبة الحمراء هي إحدى الحركات الفرعية في مساحات "المانوسفير"، والتي تجتذب "الإنسلز"، ويأتي اسمها من اختيار الحبة الحمراء على الزرقاء، والتي تكفل تحرر الفرد من الوهم ومواجهة الحقيقة، كما حدث لنيو في فيلم "ذا ماتريكس". 

تجتذب مجتمعات "الحبة الحمراء" الفتيان المُستميتين لإجادة اللعبة العاطفية، واليائسين تقريباً من القدرة على أن يكونوا مرغوبين، في عمليةٍ تشبه في جوهرها التجربة النفسية لتجنيد المتعصبين. في بحثهما "صناعة التشدّد: تحولات الفهم الحديث لأصول الإرهاب وسيكولوجيته ودوافعه"، يقول أندرو سيلكي وكاثرين براون: "لقد اجتذبت مسألة الاستعداد النفسي للتطرف اهتماماً متزايداً، على الرغم من وجود تباين في كيفية تفسير ذلك وتقييمه. وحُدِّدت مجموعة من العوامل النفسية باعتبارها أساسية للتشدّد ومنها العرضة للتميز والظلم المتصور والهوية والغضب والانتقام والسعي للمكانة. يعتقد معظم المتطرفين لحظة ارتكابهم للجريمة أنّ أفعالهم مبرّرة أخلاقياً، ويبدو أن العمليات النفسية المختلفة مثل الإمعية أي اتباع الغير وسهولة التأثر بهم، وضعف تكوين رأي شخصي عندما يكون المرء ضمن مجموعة، وتَرَاءِ الفناء أي الوعي بحتمية الموت، وفكّ الارتباط الأخلاقي، والتحوّل الخطر تلعب دوراً مهماً في تسهيل تورطهم".

يكون "الإنسلز" في حالةٍ نفسيةٍ هشة شبيهة عند تعرّضهم لأفكار "الحبة الحمراء". وشعورهم بالاستبعاد من مجال المواعدة يجعلهم جمهوراً مستهدفاً لقادة "المانوسفير"، بتقديمهم بديلاً يُمكنهم التماهي معه والانتماء له. فيبرز قادته أنبياءَ مُبشرين بكشف السرّ الذي سينجي هؤلاء الشباب من مأزقهم. والحقيقة أن حركاتٍ كهذه تُعيد تدوير منطق النظام الظالم الذي وضع هؤلاء الشبان والرجال في أدنى سلم الشباب والرجال المرغوب بهم، وتُديم بقاء الشباب والرجال الأكثر ثراءً ووصولاً في قمة قائمة المرغوب بهم. 


في الثالث والعشرين من مايو 2014 وقبل أن يُنهي حياته بطلقة في الرأس، قتل إليوت رودجر رفيقَي سكنه وصديقهم طعناً بالسكين، ثم قاد سيارته إلى مسكنٍ طلابي وأطلق مسدسه نحو ثلاث نساء قاتلاً اثنتين منهما ثم ركب سيارته وأطلق النار على رجل آخر فقتله. أسفر الحادث عن قتل ما مجموعه ستة أشخاص، وإصابة أربعة عشر، ومن بين القتلى الستة امرأتان فقط. غضب "الإنسلز" وإن كان موجهاً للنساء في الأساس، لكنه لا يقتصر عليهن. شرح رودجر في الفيديو الذي خلّفه أن هذا العمل الانتقامي يأتي لمعاقبة النساء، والرجال النشطين جنسياً. في بعض مجتمعات "الإنسلز" يُشار إلى رودجر بالقديس إليوت، كنايةً عن الإكبار والاعتزاز بأفعاله. 

حفّزت الحادثة الفيلسوفة والكاتبة المولودة في البحرين لأبوين هنديين آميا سرينيفاسان لكتابة مقالٍ مطوَّل، ثم كتابٍ تسأل فيه: هل الجنس حق للجميع؟ سرينيفاسان ذهبت أبعد من ردود فعل النسويات الأولية على الحادثة، اللائي رأين أن إليوت هو تمثيلٌ أقصى للاستحقاق الذكوري، الذي يرى المرأةَ سلعةً، ويجعل الجنس واجباً عليها وحقاً مستحقاً للرجال. ومع أن هذا جانبٌ وجيهٌ للقضية، إلا أن سرينيفاسان رأت أن الحادثة يُمكن قراءتها ضمن السياق الطبقي والعنصري.

كما مرّ سابقاً، فإحصائيات تطبيقات المواعدة في الولايات المتحدة تُشير إلى أن الرجال البيض في قمة سلم المواعدة، والرجال الآسيويين في قاعها. وإليوت رودجر ينحدر من أصول آسيوية من جهة أمّه الماليزية الصينية. في مذكراته كان العِرق هاجسه، ولطالما عززت مراقبة الشقر والشقراوات وهم يستمتعون بمزاياهم في نفسه شعوراً بالدونية، واضعاً نفسه في قاع هرم العلاقات الاجتماعية.

أفكار "الحبة الحمراء" خطيرة كما هي، فما بالك إذا لاقت صدىً في البيئات التي تتعرض فيها النساء للتمييز أو التي تُصرّ على وضع المرأة في درجةٍ أدنى، والتي تُساهم فيها ثقافة الصمت والإنكار على استبقاء معاناة النساء. على سبيل المثال انضمت سلطنة عُمان إلى اتفاقية "سيداو" سنة 2006 مع تحفظها على عددٍ من المواد ومنها المادة 9 (2) عن المساواة المتعلقة بالجنسية. فوفقاً للقانون العماني، يحق للعماني المتزوج من أجنبية توريث أولاده الجنسية، بينما لا يحق للعمانية ذلك. تحفظت عُمان أيضاً على المادة 15 (4) عن حركة الأشخاص وحرية اختيار السكن والإقامة. رفعت السلطنة تحفظها على هذه المادة في 2019، رغم أن أنظمة السكن الجامعية القائمة تُمثل خرقاً لهذه المادة، إذ تُفرَض قيودٌ على حركة الفتيات وحرّيتهن في اختيار ظروف الإقامة لا تُفرَض على زملائهن الذكور. وأيضاً تحفظت السلطنة على المادة 16 (أ)، (ج)، (و) عن المساواة في الزواج والعلاقات الأسرية. كما تحفظت عُمان على المادة 29 (1) عن إدارة الاتفاقية والتحكيم في حال نشوب نزاع.

إضافة إلى ذلك، ليس في السلطنة قانونٌ للعنفِ الأسري، والاغتصابُ الزوجي غير ُمجرّم في القانون العماني. وقوانين الأحوال الشخصية، قوانين الأسرة من زواجٍ وطلاق وحضانة، في العالم العربي أبعد ما تكون عن التحيز للإناث رغم إصرار الرجال النشطين في فضاء "المانوسفير" على كونها منحازة ضدّهم. وعندما تُضاف كراهية النساء المستوردة إلى الأعراف الاجتماعية المحلية، تكون تلك وصفة كارثية للظلم والعنف. 


تُشير النسوية في أبسط تعريفاتها إلى الإيمان بالمساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الذكور والإناث. لكنها اليوم تستوعب كل الكيانات المهمشة، فقضايا الهجرة والعنصرية ومجتمع الميم جزء من الحِراك النسوي. لا أقول هذا لإثبات أن الحِراك النسوي مشروعٌ لأنه يُدافع أيضاً عن رجالٍ مهمّشين، وأنه لولا ذلك لما كان مستحقاً للاهتمام، بل لمجرد التأكيد على أن الحساسية التي يمنحها "التدريب" النسوي يُكسب النسويات والنسويين قُدرةً على رصد أنواعٍ جديدة من العنف والتمييز حتى وإن لم يقع عليهم مباشرة.

رفع الظلم وإلغاء التمييز بين الجنسين، وهو عماد الفكر النسوي، يبدأ أولاً من إلغاء الأدوار التقليدية للذكور والإناث، أي كون الرجل هو المعيل والمرأة هي المانحة للرعاية. هذا الإلغاء لا يخدم النساء وحدهن بل الرجال أيضاً. ما علينا إلا التفكير في منجزات روث بادر جينسبورغ أثناء عملها قاضيةً مساعدة في محكمة العدل العليا في الولايات المتحدة. روث (المعروفة آر بي جي) كانت مُدافعةً عن حقوق المرأة والحريات المدنية، لكنّ سعيها لإلغاء التمييز على أساس الجنس، لم يكن حكراً على النساء. مثلّت روث رجلاً يدعى تشارلز موريتز في قضية ضرائب، كان موريتز قد طالب بإعفاءٍ ضريبي على المصروفات التي تكبدها نتيجة عنايته بأمه التي تبلغ من العمر تسعة وثمانين عاماً، وجادل أن من الظلم حرمانه من الإعفاء فقط لأنه رجل غير متزوج، ولو أن امرأة عزباء في مكانه لمُنحت الإعفاء دون جدل. اتفقت معه روث ووجدت أن التمييز بينه وغيره من النساء العزباوات مخالف للدستور، وأنه يُميز ضد الرجال المانحين للرعاية. تأخذنا هذه القضية إلى الخلاصة نفسها وهي أن كثيراً من أشكال التمييز بين الرجال والنساء على أساس الجنس تنشأ من افتراض أدوار خاصة بالذكور وأخرى بالإناث. إذ لا يمكن للمجتمع أن يتخيل أن الرجال يهتمون بأمهاتهم، أو يقومون على رعاية أبنائهم، وهذا ما تريد بعض النسويات نقضه.

تساهم النسوية في قضية "الإنسلز" بالقدرة على التعاطف مع العزّاب والبُتَّل باعتبارهم مهمّشين وضحايا في نظامٍ لم يتخلص بعد من إرثه التراتبي والعنصري. نظامٌ كهذا يجعل صبياً مثل رودجر يشعر أنه ليس أكثر من صبي قصير وضئيل ومتعدد الأعراق وغير كفؤ للمواعدة. فأقرانه من الذكور تنمروا عليه وسخروا من كونه بِكراً، لكنه في كتاباته وجه حقده خاصةً نحو النساء واختار أن يعاقبهن لأنهن، في نظره، حرمنه من الجنس.

تقول آميا سرينيفاسان إنه لأخذ مسألة "الإنسلز" بجدية، "علينا الاعتراف بأن الفكرة القائلة بثبات التفضيلات الجنسية هي فكرة سياسية". تروّج بعض الحركات النسوية لفكرة "إيجابية الجسد" ومفادها أن جميع الهيئات جميلة ومستحقة للحب. الفكرة التي يُمكن أن تُسخَّر لمساعدة الذكور الأقل حظاً، يسخر منها - للمفارقة - رجالٌ مثل جوردن بيترسن. كما تُشير تغريدة له، علّق فيها على عارضةٍ ارتدت ملابس سباحة للأحجام الكبيرة. "آسف. ليست جميلة. ولن يُغيّر التسامح الاستبدادي ذلك، مهما بلغ ضغطه". مثالٌ جيد على ذلك العارضة السعودية شهد سلمان، والتي يُعتبر البهاق سمةً جمالية فيها. طبعاً أنا واعية بأن شهد لديها امتياز الجمال الخارق، حتى البرص في وجهها يأخذ شكلاً متناسقاً. لكن على هذا أن لا يُنسينا أن النقلة من اعتبار شخص أمهق قبيح إلى وضعه على أغلفة المجلات إنجازٌ هائل، ونتيجة سنواتٍ من الجهاد نحو نظرةٍ إيجابية لجميع الأجساد.

عند إدراك تلك العوامل، يتضح أن النسوية ليست المشكلة، بل قد تكون الحلّ. ما لا ينتبه له الشباب والفتية المنتمين لحركاتٍ مثل "الحبة الحمراء"، أن هذه الحركات قائمة على الأُسس عينها التي يقوم عليها النظام الذي ظلمهم. وتضع الحركات عليهم الضغط والمسؤولية نفسها: عليهم أن يتعلموا ويتحسنوا وهم وحدهم المسؤولين عن فشلهم، وعلى عكس ما يظنون، فقد تُمثل النسوية أفضل الحلول لنا جميعاً.

الأفكار التي تروج لها حركات مثل "الحبة الحمراء" لا تؤدي إلا لإساءة فهم الجنس الآخر، ومضاعفة معاناة الرجال والنساء. والأجدر بنا تبني عقلية أكثر تفهماً، نابعة من التسليم بأن الفشل العاطفي لايقتصر على جنسٍ دون آخر، وأن ما يستحق النقد هو نظام العلاقات المعقد اليوم، وأن الحلّ يكمن في التفكير معاً بعطف ولين. بأن تُناقش مواضيع العزوبية ليس باعتبارها نتيجة النسوية، التي تؤكد على حرية النساء والمهمّشين في أداء الأدوار الاجتماعية التي يختارونها، حرية الارتباط والإنجاب والدعوة لتبني منظارٍ جمالي يرى كل الأجساد جميلة. بل على العكس هو المنطق التراتبي والطبقي والعنصري، والتي تتداخل لتستبعد أشخاصاً بعينهم وتجعلهم غير جديرين بالحب والجنس.

والواقع أن أدوات النسوية التقاطعية - أي التي ترى أن التمييز يمكن أن يحدث أيضاً تجاه البعض على أساس الطبقة أو العرق أو اللون أو الدين أو الثقافة ليس فقط النوع الاجتماعي- التي نُعملها عادة عند التعاطي مع قضايا النساء، يُمكن أن تُعمَّم لتشمل فئة الذكور المحرومين من الحب والجنس. أعني النظر إلى القضايا ضمن شبكةٍ من التقاطعات الجندرية والطبقية والعرقية. في المجتمع الأمريكي على سبيل المثال، مع أن المواعدة خاضعة للاختيارات الفردية، يُوضع البشر من خلفيات عرقية ملونة في قاع قائمة المواعدة إذا ما رُتبت القائمة ترتيباً عرقياً، فيما يُوضع الذكر الأبيض في رأسها. علينا أن نُقرّ أن النظام العنصري جزءٌ من مشكلة هؤلاء الشباب.

ثمة أيضاً حالات تلعب فيها الخوارزميات دوراً لتقليل فرص الذين لا يُعدّون جذابين. هناك تطبيق مواعدة اسمه كوفي ميتس بيغل، فكرته الأساسية زيادة الطلب بتقليص العرض. بمعنى أن التطبيق يُعمل خوارزمية لاختيار شخص واحد فقط كل يوم، وعلى المستخدم أن يقبله أو يرفضه. لكن، وبما أن ثمة فائض من بعض الأعراق، كالآسيويين مثلاً، ينعكس هذا بوضوح على الاختيارات التي يُقدمها التطبيق للمستخدمين الذين لا يفضلون عرقاً معيناً. فيستمر في اختيار الآسيويين حصراً إلى أن يُقرروا استبعادهم صراحةً، إذا ما أرادوا أن تكون الاقتراحات أكثر تنوعاً. ما يعني زيادة أعداد الآسيويين ومضاعفة مشكلتهم في إيجاد الشركاء.

تشجيع النسوية على التعاطف يجعلنا نصطف في صف أولئك الذين يشعرون بأنهم وحيدون ومحرومون من الحب، المُستميتون لأن يكونوا مقبولين ومرغوبين. هؤلاء الفتية الذين يرون أنفسهم قبيحين ومقصيّين خارج لعبة المواعدة والحب. ليس للظواهر الاجتماعية، كحوادث القتل الجماعي الموجهة ضدّ النساء، دافعٌ واحدٌ، ولا تأتي ردةَ فعلٍ واضحة الأسباب. إنها مزيجٌ من مجموعةٍ مكوناتٍ نفسية وظروفٍ حياتية وأوضاعٍ عامة. أفكار الحبة الحمراء بالمقابل والتي تُصرّ على أن "الاستقامة واللطف" ليسا الطريقة المثلى للتعامل مع النساء، وأن النسوية تُربك "الأدوار الفطرية للجنسين"، وأن المؤسسات والخطابات الحديثة منحازة للنساء، هي ما يُساهم في استدامة الوضع بل مضاعفة حدته. تدّعي "الحبة الحمراء" اعتمادها على الدراسات العلمية للتأكيد على أن للمرأة طبيعتها، وللرجل كذلك. يُسفر عن هذا الإصرار الأشكال الواسعة من عدم المساواة التي نراها اليوم.

اشترك في نشرتنا البريدية