كيف غيّر العقدان الماضيان موقف الأمريكيين من القضية الفلسطينية؟

في العقدين الأخيرين، تشكّلت في الجامعات الأمريكية حركةٌ واسعةٌ لدعم فلسطين، اتخذت صورتَها الحاليّة مع صعود ترامب للحكم سنة 2017

Share
كيف غيّر العقدان الماضيان موقف الأمريكيين من القضية الفلسطينية؟
اعتصام طلبة جامعة كولومبيا أمام مبنى المكتبة في أبريل الماضي لمطالبة إدارة الجامعة بسحب استثماراتها من إسرائيل. اعتصام استمرَّ أكثرَ من خمسين يوماً، وانتهى بتدخل شرطة نيويورك للقبض على الطلبة الذين فصلت الإدارة بعضهم من الجامعة. تصوير أندرو ليشتنشتاين/ كوربيس عبر صور غيتي

اجتمع مجلس طلبة كلية كولومبيا، إحدى كليات جامعة كولومبيا بولاية نيويورك الأمريكية، مساء الثاني من أبريل سنة 2017 لمناقشة ترتيبات الانتخابات الطلابية التي كانت ستعقد بعد بأيام. ازدحم المبنى، على غير العادة، بعشرات الطلبة، ورجال الأمن، والصحفيين. كان سببُ التوتر طلباً لتحالف منظماتٍ طلابيةٍ داعمةٍ لحقوق الفلسطينيين، مشفوعاً بتوقيع نحو ألف منتسبٍ للجامعة، نصفهم تقريباً من طلبة الكلية نفسها، باستفتاء الطلبة خلال الاقتراع على موقفهم من إرسال خطابٍ لإدارة الجامعة يطالبها بسحب استثماراتها من الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

استمرَّ الاجتماعُ أربعَ ساعاتٍ في أجواء مشحونةٍ، ناقش فيها المجلسُ وممثّلو المنظمات الطلابية ذات الصلة، سواءً المؤيِّدة للطلب أو المعارِضة له، صيغةَ السؤال المقترَح وأحقّيةَ الائتلاف الطلابيّ في عرضه للاستفتاء وأثره في الحياة الطلابية. وفي الحادية عشر مساءً أَغلق المجلسُ بابَ النقاش وعرض الطلبَ على التصويت في اقتراعٍ سرّيٍ، فوافق خمسة أعضاءٍ على الطلب، وعارضَه ثمانيةٌ وعشرون. احتفل معارضو المقترح من داعمي إسرائيل خارج المبنى بهذا النصر، وخرج مقدمو الطلب من المبنى وهُم بين البكاء والغضب. بعد يومين، نشرَ المؤيّدون بياناً  تعهَّدوا فيه باستمرار السعي إلى أن يُجبِروا إدارةَ الجامعة على وقف دعمها الاحتلالَ، وتعهَّدوا بالعودة في العام المقبل لعرض طلبهم مرّةً أُخرى، مؤكّدين أن رياح التغيير قد هبّت بالفعل، ولن يستطيع أحدٌ إيقافها.

كانت رياح التغيير عاتية. رفض المجلس طلب التحالف مرّةً أخرى في العام التالي، لكن هذه المرّة بموافقة سبعة عشر عضواً بالمجلس ومعارضة عشرين. وعندما ناقش المجلسُ الطلبَ مرَّةً ثالثةً في نوفمبر سنة 2019، صوّت خمسةٌ وعشرون لصالحه مقابل اثني عشر ضدّه. تأخَّر طرحُ المقترح للاستفتاء بسبب جائحة كورونا، وحين طُرح في سبتمبر 2020، شارك في الاستفتاء 39.3 بالمئة ممّن لهم حق التصويت، ووافق 61.04 بالمئة منهم عليه. وبالتوازي استفتى التحالفُ طالباتِ بارنارد، كلية البنات بالجامعة، على سؤالٍ مماثلٍ في أبريل سنة 2018. شارك في الاستفتاء 1153 طالبة، أي نحو 50 بالمئة ممّن لهنَّ الحقّ في التصويت وهو رقمٌ عالٍ تجاوز أعلى نسبةَ مشاركةٍ مسجلةٍ وهي 30 بالمئة. وافقت 64.3 بالمئة منهن على المقترح. وبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في أكتوبر 2023، عرض التحالف على طلبة كلية كولومبيا ثلاثة أسئلة في استفتاءٍ جديدٍ شارك فيه 40.26 بالمئة ممّن لهم حقّ التصويت، وافق 76.55 بالمئة منهم على اقتراحٍ بسحب استثمارات الجامعة من إسرائيل، ووافق 68.36 بالمئة على اقتراح إلغاء مركز الجامعة في تل أبيب، ووافق 65.62 بالمئة على اقتراح إلغاء الدرجة المشتركة التي تمنحها الجامعة مع جامعة تل أبيب.

طلاب جامعة كولومبيا في الذكرى السنوية الأولى لـ 7 أكتوبر. تصوير: أليكس كينت، صور غيتي

لم تقتصر رياح التغيير على جامعة كولومبيا، بل عمَّت الجامعاتِ الأمريكيةَ التي نمت فيها قُبيل السابع من أكتوبر حركاتُ دعم حقوق الفلسطينيين نموّاً لا مثيل له، لا سيما في أوساط الشباب وطلبة الجامعات. تجلَّى هذا النموّ في الزيادة المطّردة لعدد الاقتراحات والقرارات بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها في الجامعات المختلفة بالعقد المنصرم. وبعد السابع من أكتوبر، انفجرت حركةُ احتجاجٍ واسعةٌ، في الشوارع والجامعات، تندّد بالعدوان الإسرائيلي وتطالِب الإدارةَ الأمريكيةَ وإداراتِ الجامعات بوقف الدعم لإسرائيل. اعتصم الطلبةُ في ساحاتِ أكثرَ من عشرين جامعة ومبانيها لمطالبة إداراتها بوقف دعمها الاحتلالَ وباتخاذ مواقفَ أكثر صرامةً لوقف العدوان. رياح التغيير، التي أثمرت هذه الحركة، هبَّت على الجامعات مع صعود دونالد ترامب إلى الحكم في يناير 2017 وبلغت ذروتَها مع اندلاع الحرب على غزة، لكنّ أصول هذا التغيير تعود إلى العقد السابق الذي شهد تضافرَ عوامل عدّةٍ أدّت إلى تغييرٍ ملحوظٍ في الموقف من فلسطين. 


تكشف استطلاعات الرأي المختلفة منذ مطلع الألفية عن زيادةٍ ملحوظةٍ في تعاطف الأمريكيين مع النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال. وصلَ التعاطفُ أدنى مستوياته بدايةَ الألفية، بالتزامن مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنةَ 2001، التي نفَّذها تنظيم القاعدة وراح ضحيّتها نحو ثلاثة آلاف أمريكيّ. وكما في استطلاعات رأيٍ متعاقبةٍ نظَّمها معهد غالوب منذ ذلك الحين، انخفض التعاطف مع الفلسطينيين في السنة التالية للهجوم إلى 16 بالمئة من الأمريكيين. ثمّ ارتفع بنسبةٍ طفيفةٍ مع أفول نجم "الحرب على الإرهاب" في السنوات التالية ليتجاوز حاجزَ الخُمسِ أوّلَ مرّةٍ سنةَ 2007. ظلّ التعاطف في السنوات التالية متأرجحاً بين 11 و 21 بالمئة، ثمَّ بدأَ في الصعود التدريجي حتى وصلَ وقتَ تنصيب ترامب رئيساً في يناير2017 إلى 22 بالمئة، وظلّ في ارتفاعٍ بعدها حتى وصلَ في يناير سنةَ 2020 إلى 28 بالمئة، ثم في يناير سنة 2023 إلى ثلث الأمريكيين. 

لا تعكس هذه الزيادة في التعاطف مع فلسطين تناقصاً في تعاطف الأمريكيين مع إسرائيل. كان نحو 44 بالمئة من الأمريكيين قد عبّرَوا عن ميلهم إلى الإسرائيليين سنة 2001، وارتفعت النسبة إلى 63 بالمئة سنة 2013، و59 بالمئة سنة 2019، كما ورد في استطلاعات غالوب نفسها. ومع الانخفاض النسبي للتأييد في السنوات التالية، فإنه لم يقلّ في أدنى مستوياته عن 47 بالمئة. أي أنَّ زيادة التعاطف مع الفلسطينيين توازت مع زيادةٍ في التعاطف مع الإسرائيليين، وهو ما خلص إليه استطلاعٌ أجراه مركز بيو للأبحاث في مايو 2022، إذ قال في تقريره تعليقاً على نتائجه إنَّ "الرأي العامّ الأمريكي أصبح أكثر تعاطفاً مع الطرفين [الفلسطيني والإسرائيلي]." 

يعني هذا أنَّ السبب في زيادة نسبة التعاطف مع فلسطين ليس تحوّلاً في مواقف المتعاطفين مع اسرائيل، بل دخول جمهورٍ جديدٍ لم يكن من قبلُ منشغلاً بالمسألة الفلسطينية.  لم يكن 38 بالمئة من الأمريكيين مهتمّين بالقضية سنة 2001 أو لم يكن لهم فيها رأيٌ كما في استطلاع غالوب. انخفضت هذه النسبة إلى 24 بالمئة سنةَ 2007، وبعد بعض التذبذب، انخفضت إلى 19 سنة 2017، وهي النسبة ذاتها التي كشف عنها استطلاع سنة 2023. الأمر الذي يعني أنَّ نسبة الأمريكيين المهتمين بالقضية الفلسطينية في ارتفاعٍ، وأنَّ النسبة الأكبر من حديثي الاهتمام بالقضية أَمْيَلُ إلى الفلسطينيين منهم إلى الإسرائيليين. 

ثمّة خصائص لهؤلاء الأنصار الجدد لفلسطين في أمريكا. أوّلها ميلهم للحزب الديمقراطي أكثر من الجمهوري. لم يكن الانتماء الحزبيّ عنصراً مؤثّراً في التعاطف مع فلسطين سنةَ 2001، إذ كان التعاطف موزّعاً بالتساوي بين الحزبين الرئيسين، فكان نحو 16 بالمئة من الديمقراطيين و14 بالمئة من الجمهوريين متعاطفين مع فلسطين. ولكن أعضاء الحزب الجمهوري كانوا أكثر اهتماماً بالقضية، إذ كان ثلاثة أرباعهم مهتمين بها، مقابل ثلثي الديمقراطيين. ثمّ ظلَّت نسبة التعاطف في الحزب الجمهوري تدور في الفلك نفسه في السنوات التالية، بينما ارتفعت في الحزب الديمقراطي بالتزامن مع تضاؤل نسبة غير المهتمين، حتى وصلت نسبة المتعاطفين إلى الربع سنة 2015، ثم تصاعدت باطِّرادٍ من سنة 2017 حتى بلغت 49 بالمئة مطلعَ سنة 2023، متجاوزةً، أوّلَ مرّةٍ، نسبَ تأييد إسرائيل، التي انخفضت تدريجياً بينَ أعضاءِ الحزب في المدّة ذاتها حتى وصلت إلى 38 بالمئة سنةَ 2023. 

أما ثاني الخصائص فهي أنَّ أنصار فلسطين الجدد هم من صغار السنّ. ففي حين يتعاطف مع إسرائيل 64 بالمئة ممّن تزيد أعمارهم على خمس وستين سنة و57 بالمئة ممّن هم بين الخامسة والثلاثين والرابعة والخمسين، فإن نسبة من يتعاطف معها ممّن هم دون الخامسة والثلاثين لا تتجاوز 40 بالمئة. ويتعاطف مع فلسطين ضمن هذه الفئة العمرية الأخيرة 37 بالمئة، كما يشير استطلاع  الرأي الذي أجراه معهد غالوب في مارس 2022. استمرَّت هذه التوجّهات بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، إذ أن ما يزيد عن 60 بالمئة من المستطلعين من الفئات العمرية المختلفة في استطلاع أجراه مركز بيو في نوفمبر وديسمبر 2023 قد حَمّلوا حركةَ حماس مسؤوليةَ اندلاع العنف، إلّا من هم دون الخامسة والثلاثين لم يحمِّلها منهم المسؤوليةَ إلا نحو 46 المئة. وكشف استطلاعٌ آخَرُ أجراه المركز في فبراير 2024 أن ثلث الأمريكيين ممّن هم دون الثلاثين يدعمون الفلسطينيين، بينما دعم 14 بالمئة منهم الإسرائيليين. وفي المقابل، يدعم 47 بالمئة ممن هم فوق الستين الإسرائيليين، بينما يقتصر دعم الفلسطينيين على 9 بالمئة من هذه الفئة العمرية.

تساعد هذه الأرقامُ على فهم موجة الاحتجاج الكبيرة التي تشهدها الجامعات الأمريكية منذ الحرب. إذ يقف وراءها طلبةٌ في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من عُمرهم، أقربُ في توجّهاتهم السياسية إلى الحزب الديمقراطي من الجمهوري، أو ربما يقفون على يسار الحزب الديمقراطي، وقد أَخَذَت حركتُهم في النموّ باطِّرادٍ منذ سنة 2017 تقريباً. يشير اجتماع هذه العوامل إلى أنَّ الوعيَ السياسيّ لهؤلاء الطلبة تَشكّل في سنوات حكم ترامب جزءاً من الحركات الاجتماعية والمدنية المناهِضة لحُكمه. فمن أين جاءت حركة دعم فلسطين؟ ولماذا نَمَت في حكم ترامب؟


التباين في الموقف من فلسطين بين طلبة الجامعات والأجيال الأكبر هو فرعٌ من تباين موقفهما من العرب والمسلمين عموماً. فطيلةَ عقودٍ قدّم الخطابُ الإعلاميّ والأكاديميّ المهيمِن صورةً نمطيةً عن العرب والمسلمين، ومنهم الفلسطينيون، رصدها الكاتب الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد، أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة كولومبيا، في كتابه "الاستشراق". خلص سعيد في كتابه – الذي فتح الباب أمام نشأة فروعٍ جديدةٍ من العلوم الاجتماعية – إلى أنَّ "صناعة الاستشراق" تُصوِّر العربيَّ والمسلمَ آخَرَ مناقضاً للغرب، عدوانيّاً عنيفاً، غيرَ عقلانيٍّ، شهوانياً متخلّفاً. هذه الصورة التي روّجت لها إمبراطورياتُ القرن التاسع عشر لتبرير مشروعاتها التوسعية ترسّخَت أكثر في الولايات المتحدة في التسعينيات، حين ازداد التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة العربية ببناء القواعد العسكرية والمشاركة في حرب الخليج ورعاية "عملية السلام". قدَّمَت الصورةُ النمطيةُ تفسيراً سهلاً وواضحاً للعمليات التي نفَّذها تنظيمُ القاعدة وغيرُه ضدَّ المؤسَّسات والأفراد والمصالح الأمريكية في اليمن وكينيا وتنزانيا والسعودية وباكستان، إذ جعلَتها نتيجةً لخللٍ متأصِّلٍ عندَ "الشرقيين"، فلم يعد ثمّة حاجةٌ للبحث في أسباب العنف التاريخية والاجتماعية.

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر نقطة فاصلة. إذ وقعت الهجمات على خلفية تلك الصورة المنمّطة عن العرب والمسلمين من جهةٍ، فلم يكن ثمّة حاجةٌ إلى البحث في أسبابها، بل أكّدت عنفهم والقطيعة الحضارية بينهم وبين "الحضارة الغربية" على النحو الذي أشار إليه صمويل هنتنغتون سنة 1994 في كتابه "صراع الحضارات". ومن جهةٍ أُخرى، فإن حجمَ الهجوم وتبعاتِه مَنَعَ معاصرِيه من تجاوزِه. وقد أشار استطلاعٌ أجراه مركز بيو في ديسمبر 2016، أي بعد خمس عشرة سنةً من الهجوم إلى أنه الحدث التاريخي الأهمّ عند 76 بالمئة من الأمريكيين، متجاوزاً بذلك كلَّ الأحداث الكبرى التي سبقته وتلته. وبعد عشرين سنةً من الهجوم، كشفَ استطلاعٌ آخر للمركز أنَّ 93 بالمئة من الأمريكيين فوق سنّ الثلاثين، أي ممَّن كانوا واعين وقت الهجمات، لا يزالون يذكرون هذا اليوم بتفاصيله. 

الغالبيةُ العظمى من هؤلاء الذين تشكّل وعيُهم قبل الهجمات يَرَون العربَ والمسلمين أعداء. ولَم تقتصر العداوة على عرب الشرق الأوسط ومسلمِيه الذين خرج منهم منفّذو الهجمات، بل شملت الأمريكيين منهم، الذين رآهم هؤلاء "طابوراً خامساً" ينبغي الحذر والتوجّس منهم ومراقبتهم. تشاركت أجهزة الدولة والأغلبية البيضاء في هذا العداء. أمّا أجهزة الدولة فأصدرت التشريعاتِ التي تمكّن من انتهاك الحقوق المدنية وفرض الرقابة، وكان على رأسها "باتريوت آكت"، أي القانون الوطني لمكافحة الإرهاب، الذي صدّق عليه الرئيسُ جورج بوش في أكتوبر 2001، فراقبت الشرطةُ المساجدَ وتجمّعاتِ المسلمين بصورٍ شتّى. 

وبين عامَي 2003 و2006، أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي 192,499  "خطاب أمن قومي" للمراقبة وجمع معلوماتٍ عن أشخاصٍ مشتبَهٍ بتورّطهم في جرائم إرهابية، غالبيتهم العظمى من الشرق الأوسط. وأما العداء من المجتمع فتجلّى في الزيادة الكبيرة في جرائم الكراهية ضدّ المسلمين. لم يتجاوز عدد البلاغات عن هذه الجرائم في أيٍّ من السنوات السابقة على 2001 خمسين بلاغاً، حسب إحصائيات مكتب التحقيقات الفيدراليّ. ارتفع العدد في تلك السنة إلى قرابة الخمسمئة بلاغٍ، وظلَّ خمسَ سنواتٍ بعدها يدور في فلك المئة وخمسين بلاغاً سنوياً، قبلَ أن ينخفض في السنوات التالية قليلاً ليبقى في حدود المئة بلاغٍ سنوياً.

لم يشهد جيلُ طلبة الجامعات الحاليّ هذه اللحظة، بل وُلد في ظرفٍ مغايرٍ نسبياً، بدأ تشكّله عقبَ الحرب على العراق سنةَ 2003. كانت لحظة الغضب والانتقام الأولى قد مرّت، وتعاضدت بعدها أسبابٌ عدّةٌ على تغيّر الظرف. منها انكشاف الجرائم التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية ضد المسلمين والعرب، مثل تعذيبِ المعتقَلين والتمثيل بهم في سجن أبو غريب بالعراق، الذي انكشف أوَّلَ مرَّةٍ في أبريل 2004، وتواتُرِ الأخبارِ عن التعذيب والانتهاكات في سجن غوانتانامو. ومنها الأزمة الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة نهايةَ عصر جورج بوش، وجُعلت الحرب سببها. ومنها انتخاب باراك أوباما أوّلَ رئيسٍ أسود للولايات المتحدة، وسعيه المبكر إلى إدارة علاقةٍ أقلّ عدوانيةً مع المسلمين والعرب في أمريكا والشرق الأوسط  بإصداره قراراً تنفيذياً بإغلاقِ معتقل غوانتانامو، وإعلان رغبته بالانسحاب العسكري من العراق، وتعيينه "مبعوثاً خاصّاً" لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، وخطابه الشهير في جامعة القاهرة. 

مع انتهاء العقد الأوّل من الألفية، ومع بداية تشكّل وعي جيل طلبة الجامعات الحالي، ظهرت صورةٌ جديدةٌ للعرب والمسلمين تزاحم تلك الموروثةَ من الخطاب الاستشراقي، لا سيما في الدوائر والمدن الأكثر ليبرالية. أما في الشرق الأوسط، فالثورات العربية التي انطلقت من تونس في ديسمبر 2010 جعلت صورةَ الجماهير المطالِبة بالحقوق المدنية والسياسية في مواجهة الاستبداد هي البديل لصورة أسامة بن لادن، قائد تنظيم القاعدة، التي ما لبثَت أن اختفَت من المشهد بعد أن أعلنَت القوات الأمريكية مقتلَ بن لادن في مايو 2011. واستقرَّت صورة "الشباب العربي" الذي يخوض معركةً يمكن فهمُها تاريخياً واجتماعياً، مقابل العنف المنسوب لطبيعة الشرقيّ الذي مثّله بن لادن، قبلَ أن تتراجع مع هزائم الثورات العربية المتلاحقة.

وبالتوازي مع ذلك، أَسْهَمَ تراجعُ "الخطر الخارجي" في تحوّل الموقف السائد إزاء المسلمين والعرب في أمريكا من النظر إليهم بوصفهم عدوّاً داخلياً ومصدراً للخطر ينبغي محاصرتُه إلى النظر إليهم أقليّةً ينبغي الدفاع عن حقوقها. ومع القوانين والسياسات التي مكّنت إدارةَ بوش من انتهاك الحقوق المدنية، والتي عانى منها العرب والمسلمون الأمريكيون أكثر من غيرهم، صنعت بعضُ سياسات الإدارة منهم أقلّيةً مضطهَدة. سنةَ 2002 شرّعت الإدارةُ مطلبَ "التسجيل الخاص" الذي يُلزِم الذكورَ جميعهم من الدول العربية وذات الأغلبية المسلمة التوجّهَ إلى هيئاتٍ حكوميةٍ للتسجيل وأخذ بصمات الأصابع. ألغت إدارة أوباما هذا الإجراء في مايو 2011.

كان هذا الظرف الذي تَشكّل فيه وعي هؤلاء الطلبة. في الدوائر الأكثر ليبرالية، والأكثر حرصاً على دعم الحقوق المدنية والسياسية للأقليات، لم يعد استثناء العرب والمسلمين من هذه الحقوق مقبولاً. أما المسلمون والعرب الذين وُلدوا في هذا الظرف فقد وَجدوا الملاذَ والأمان في هذا التضامن. وتغلّبوا على الشعور بالعزلة والتوجس بالانخراط في العمل السياسي بمستوياته المختلفة، كما أشار تقريرٌ نَشَرَته ليز مينيو في هارفارد غازيت بمناسبة مرور عشرين سنةً على هجمات سبتمبر. وضعت هذه التحوّلات الكثير من أبناء العرب والمسلمين في قلب الحركة الليبرالية المطالِبة بالحقوق المدنية والسياسية للجميع. 

على أن هذا التحول لم يشمل الفئات الاجتماعية المختلفة. إذ قوبلَت هذه الزيادة في التعاطف مع العرب والمسلمين في الدوائر الليبرالية بمزيدٍ من العداء في الدوائر المحافِظة، التي أصرّت على رؤيتهم عدوّاً يسعى إلى اختراق المجتمع الأمريكي. ضخّمت هذه الدوائر من "الخطر الإسلامي" بوسائل شتّى في الفترة من 2009 إلى 2014. ناقشت نصفُ الولايات مشروعاتِ قوانين بحظر القضاة من اللجوء إلى الشريعة. ومرّرت القوانينَ سبعُ ولاياتٍ، هي أريزونا وكانساس ولويزيانا وساوث داكوتا وتينيسي ونورث كارولاينا وألاباما. ومرّرت ولاياتٌ أُخرى صوراً أقلَّ حدَّة منها. وروّجت الأوساط المحافظة أن أوباما مسلمٌ، حتى كشف استطلاعٌ أجراه معهدُ بيو في 2010 أن ثلث الجمهوريين المحافظين مقتنعون بذلك. وخلص تقرير المعهد إلى ارتباط هذه القناعة بنقد أوباما، أي أن هؤلاء كانوا يزعمون أنّه مسلمٌ للتشكيك في أمريكيّته. ازدادت حدّة العداء للمسلمين والتوجّس في هذه الدوائر في السنوات التالية بالتزامن مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والتفجيرات التي تبنّاها في باريس وبروكسل عامَي 2015 و2016 على التوالي. 

أسهَمَ هذا العداء للمسلمين في وصول ترامب إلى الحكم سنة 2017. وأظهرت المراحل الأولى للحملة الانتخابية عداءً كبيراً للمسلمين في صفوف الحزب الجمهوري، فكشف استطلاعُ رأيٍ أجرته هفنغتون بوست في مارس 2015 عن تأييد ثلاثةِ أرباع الجمهوريين تمكينَ قوَّات الأمن من مراقبة الأحياء التي يقطنها مسلمون لمنع التطرف. وأشار استطلاعٌ أَجرَته قناة سي بي أس في ديسمبر من العام نفسه إلى تأييدِ أكثر من نصف الجمهوريين فرضَ حظرٍ على دخول القادمين من عددٍ من البلدان العربية وذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة. بنى ترامب حملتَه على هذا التوجّه، فتعهَّدَ بفرض الحظر، متعاملاً مع اللاجئين القادمين من سوريا على أنهم أعضاءٌ محتمَلون في تنظيم الدولة الإسلامية، ووَصَفَهم بحصان طروادة، وتعهَّد كذلك بفحص المساجد ومراقبتها، ووَصَفَها بمراكز الكراهية، وبإعادة "التسجيل الخاص" للمسلمين الذي ألغاه أوباما. وعبَّرَ عن تأييده استخدامَ التعذيب لانتزاع الاعترافات من "الإرهابيين". وأشار مراراً إلى وجودِ "مشكلة" مع المسلمين الذين وَصَفَهم بالمرضى. أسهم هذا الخطابُ في زيادة جرائمِ الكراهية ضدَّ المسلمين، على نحوٍ عزَّز عند خصوم ترامب أنّهم أقلّيةٌ مضطهَدة. 

ومع وصول ترامب إلى الحكم، ترسَّخ أنَّ العرب والمسلمين أقليَّةٌ تستحقّ التضامن. فبَعد أسبوعٍ واحدٍ من دخوله البيتَ الأبيض، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً بمنعِ مواطنِي سبعِ دولٍ ذات أغلبيةٍ مسلمةٍ من دخول الولايات المتحدة. وشملت قائمةُ تعييناته للبيت الأبيض أشخاصاً عُرفوا بعداوتهم للمسلمين، منهم ستيف بانون، ومايكل فلين، وسيباسيان جوركا. وبعد ستّة أشهرٍ من تنصيبه، عبَّر ثلثا مسلمي الولايات المتحدة عن شعورهم بالقلق، ونصف مسلميها عن شعورٍ بالخوف من حكم ترامب، في استطلاعٍ أجراه مركز بيو. وكشف الاستطلاعُ اعتقادَ ثلاثة أرباع المسلمين أنَّ ترامب يعاديهم، ولم يعتقد سوى 13 بالمئة منهم أنَّ الحزب الديمقراطي يعاديهم، ممَّا فتح باب التعاون بين المسلمين والحزب. 


تَشكّل التحالف، الذي تقدّم بطلبٍ إلى مجلس طلبة كلية كولومبيا لسحب استثمارات الجامعة من الشركات الداعمة للاحتلال، من منظَّمتين طلابيَّتين لهما فروعٌ في جلّ الجامعات الأمريكية. أمّا الأُولى فمنظمة "طلبة من أجل العدالة في فلسطين،" والتي تأسّسَت في جامعة كاليفورنيا بيركلي سنة 1993، ولها الآن، كما ورد في موقعها الإلكتروني، أكثرُ من ثلاثمئةٍ وخمسين فرعاً في الجامعات في أمريكا الشمالية. أما المنظمة الثانية فهي "أصوات يهودية من أجل السلام،" وهي منظمة أسّسَها اليهود اليساريون المعادون للصهيونية في الجامعة نفسها سنة 1996، وانطلقت منها إلى الفضاء العامّ الأمريكي متجاوزةً حدود الجامعات. ومع هاتين المنظمتين اللتين ينصبّ عملهما على القضية الفلسطينية، يضمّ التحالف سبعاً وثمانين منظمةً طلابيةً أخرى بالجامعة، ليست فلسطين محور انشغالها، مثل اتحاد الطلبة الأفارقة، واتحاد نسويات جنوب آسيا، ومجلس السكان الأصليين لأمريكا، وطلبة من أجل تِبِت حُرّ، وغيرهم. وإذا كان اتساع التحالف على هذا النحو، وخططه في دعم القضية الفلسطينية، أسهما في تضخيم تأثيره حتى صارت القضية الفلسطينية مركزيةً في الجامعات، فإنهما وُجِدا بمسارٍ من العمل استغرق ثلاثة عقودٍ تقريباً، مرَّت فيها الحركةُ بمحطَّاتٍ من الصعود والهبوط. 

سَعَت منظمة "طلبة من أجل العدالة في فلسطين" منذ تأسيسها إلى بناء تحالفٍ واسعٍ يضع فلسطين في قلب الحركة الطلابية. في نوفمبر 2023، نشر حاتم بازيان، المحاضرُ بجامعة كاليفورنيا بيركلي وأحدُ مؤسّسِي المنظمة، مقالاً على موقع "مِيديَم" حكى فيه تاريخَ تأسيس المنظمة. كان العمل الطلابي الداعم لفلسطين وقتَ التأسيس يتَّسمُ بالحزبية ويعكس في الجامعات اختلافاتِ الفصائل السياسية على الأرض بعدَ الانتفاضةِ الأولى وبعد مسار التفاوض. فسعى مؤسّسو الحركة من الطلبة الفلسطينيين إلى تجاوز هذا الطابع الحزبي وتغيير الطابع المحلّي للقضية ببناء تحالفاتٍ مع منظماتٍ طلابيةٍ تناضل ضدّ صورٍ أُخرى من الظلم. تأثَّر المؤسِّسون في ذلك بالحملة ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. كان الحرم الجامعي وقتئذٍ مفعماً بنشاط المنظمات التي نشطت ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ونشاط حركة التضامن مع أمريكا الوسطى أو غيرها من حركات الاحتجاج، فانخرط فيها المؤسِّسون ساعِين إلى بناء تحالفاتٍ واسعةً ضدَّ التدخلات الإمبريالية الأمريكية في سائر أقطار العالم، ووجدوا أنفسهم يواجهون الصهاينة المتحالفين مع الطرف الآخَر في كل هذه الصراعات. 

وعلى النجاحات التي حقّقتها المنظمة بدايةَ نشاطها في وضع فلسطين على خريطة السياسة الطلابية، تكشف رواية بازيان عن وجهين للقصور فيها. أوّلُهما ضعف تأثير المنظمة على القطاعات غير المسيَّسة من الطلبة. ولعلّ هذا يفسّر بعضَ المشار إليه سلفاً من وجود نسبةٍ كبيرةٍ من الأمريكيين غير المهتمّين بالقضية. أما ثانيهما فغياب المطلب الواضح المحدّد الذي يمكن بناء تحالفٍ عليه. إذ كانت أنشطة المنظمة عن التوعية بالقضية والاستجابة للتطورات الميدانية والسياسية بعقد الندوات وتنظيم المظاهرات. وبسبب ذلك، كانت الحركة في صعودٍ وهبوطٍ، متأثّرةً بتطوّرات الأحداث على الأرض. 

الدعواتُ إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها قدّمَت الحلَّ لأزمة غياب المطلب الواضح. بدأ الترتيب لحملةٍ دوليةٍ لمقاطعة إسرائيل في منتدى المنظمات غير الحكومية الذي نُظِّم على هامش المؤتمر العالمي لمكافحةِ العنصرية المنعقد في ديربان جنوبَ إفريقيا سنةَ 2001، بيدَ أنَّ هجماتِ الحادي عشر من سبتمبر، التي وقعت بعد ثلاثة أيامٍ من انتهاء المؤتمر، خلقت مناخاً سياسياً يصعب معه نجاح هذه الحملة، فظلَّتْ تتقدَّمُ ببطءٍ وبصورةٍ غير مؤسَّسيةٍ سنوات. في التاسع من يوليو سنة 2005، وبالتزامن مع الذكرى الأولى للقرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية باعتبار الجدار الذي بَنَته إسرائيل في الضفة الغربية غيرَ قانونيٍّ، أطلق ممثّلو المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ دعوةً ممهورةً بتوقيع 171 مؤسسة مجتمعٍ مدنيٍّ فلسطينيةٍ لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها، حتى تكفّ عن تمييزها ضدّ فلسطينيِّي الداخل، وتنهي احتلالَ الأراضي الفلسطينية، وتسمحَ للّاجئين بالعودة. 

لم تكن أساليب الاحتجاج المتمثلة بدعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات غريبة على الجامعات الأمريكية. إذ يعود تاريخها إلى منتصف الستينيات، حين بدأ الطلبة في تنظيم حملاتٍ تطالِب جامعاتِهم بسحب استثماراتها من الشركات الداعمة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. في سنة 1985، كانت كولومبيا أوَّلَ جامعةٍ أمريكيةٍ تستجيبُ لتلكَ الدعوات. وفي ثلاث سنواتٍ، تبعتها مئةٌ وخمسٌ وخمسون جامعة  أخرى. خفتت دعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات قليلاً عقدين تقريباً، أسَّسَت فيهما بعضُ الجامعات لجاناً استشاريةً من طلبة الجامعة وخريجيها وأساتذتها للنظر في أخلاقية استثماراتها، وتقديم المقترحات بسحب الاستثمارات المنافية لقِيَمها. 

بداية سنة 2005، ومع إطلاق المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ دعوتَه لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، انطلقت حملاتٌ طلابيَّةٌ في الجامعات الأمريكية لمطالَبةِ الإدارات بسحب الاستثمارات من أنشطةٍ يَرَونها مخالفةً لقِيَم الجامعة. في كولومبيا، التي تُقدَّر استثماراتها بنحو 14.8 مليار دولارٍ، وَضَعَتها سنة 2021 في المركز الثاني عشر بين الجامعات الأمريكية، نجح الطلبة سنة 2006 في إقناع الجامعة بسحب استثماراتها من 18 شركةً تعمل في السودان وتستفيد من الحرب في دارفور. وبعد عامين سحبت الجامعة استثماراتها من شركات صناعة التبغ، ثم رضخت سنة 2015 لضغط الطلبة لسحب الاستثمارات من شركات السجون الخاصة، وفي 2017 صوّت الطلبةُ لسحب الاستثمارات من شركات الفحم. شهدت الجامعاتُ الأُخرى طلباتٍ مماثلةً لسحبِ الاستثمارات من المجالات المضرَّةِ بالبيئة وشركات صناعة السلاح وغيرها.

سرعان ما التقط الطلبةُ الداعمون لفلسطين خيطَ مطالباتِ المقاطعة وسحب الاستثمارات وصارت مطلبَهم الرئيس. في سنة 2006 ، وبعد عامٍ واحدٍ من إطلاق المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ دعوتَه، قدَّمَ الطلبةُ في أربع جامعاتٍ مقترحاتٍ بسحب الاستثمارات من إسرائيل، مُرِّر منها مقترحان. على أنَّ المناخ المعادي للعرب والمسلمين أبطأُ من وتيرة هذه المطالبات، لَم يقدَّم في الأعوام الخمسة اللاحقة إلا خمسةُ مقترحاتٍ، مُرِّر منها اثنان آخَران. 

تَغيَّر الوضعُ مع اندلاع الثورات العربية. في الأشهر اللاحقة، ظهرت حركاتٌ احتجاجيةٌ عدّةٌ في المدن الأمريكية متأثّرةً بهذه الاحتجاجات، كانت أهمّها حركة "احتلوا وولستريت" المطالبةُ بالعدالة الاقتصادية، والتي انطلقت في مدينة نيويورك مطلعَ سنة 2011، وبلغت ذروتَها خريفَ السنة نفسها. أسهمت الحركةُ في وضع فلسطين في قلب الحياة السياسية بطرقٍ عدّة. أوّلها أنها بتأثّرها بالثورات العربية أسهمت في تشكيل موقفٍ أكثر إيجابيةً تجاه الفلسطينيين، على نحوٍ ساعدَ في تجاوز الموقف الدفاعيّ الذي فَرَضَه مناخُ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر على الناشطين العرب. وثانيها أنها، بمشاركة حركات دعم فلسطين فيها، لفتت الانتباه إلى أهمّية القضية، وإلى الارتباط بين البنيةِ الاقتصادية للنظام الأمريكي التي تُضِرُّ بالعدل الاقتصادي في الولايات المتحدة، وسياساتِه الخارجية التي تدعم المشروعَ الاستعماريّ الصهيونيّ. 

في أكتوبر 2011، نشر موقعُ حركة مقاطعة إسرائيل مقالاً بعنوان "احتلوا وولستريت، لا فلسطين" أكَّد وقوفَ الحركة مع المتظاهرين في نيويورك وأثينا ومدريد وروما وغيرها من المدن "من أجل عالمٍ جديدٍ قائمٍ على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاقتصادية". أمَّا ثالث هذه الطرق فإسهام الحركة في استعادةِ الناشطين المبادرةَ بعيداً عن البنية السياسية التقليدية للولايات المتحدة، وفي استقطاب جمهورٍ جديدٍ صار يؤمن بقدرته على التغيير من غير أن تبتلعَه هذه البنية.

انعكست هذه التغييراتُ على حركة دعم فلسطين في الجامعات. في السنة الدراسية 2012-2013، تقدّمت عشرُ منظماتٍ طلابيةٍ في الجامعات المختلفة باقتراحاتٍ للاستفتاء على سحب جامعاتهم استثماراتِها من إسرائيل، وُوفِقَ على أربعةٍ منها. زاد العددُ في العام التالي إلى تسعة عشر مقترحاً، وُوفِقَ على سبعةٍ منها. ثم ارتفعَ العددُ مرَّةً أُخرى في العام التالي إلى سبعةٍ وعشرين مقترحاً، وُوفِقَ على سبعةٍ منها. ولم يكن الرفض في أكثر هذه الحالات ديمقراطياً، بل جاء في صورة تصويت مجالس الطلبة ضدَّ الاستفتاء، أو إعلان إدارات الجامعات رفضَها الالتزامَ بنتائجه. 


لا يقلُّ دور "أصوات يهودية من أجل السلام"، الشريك الثاني في التحالف، أهمّيةً عن "طلبة من أجل العدالة في فلسطين". بل يكشف صعودُها عن مسارٍ آخَر لتحوّل فلسطين إلى قضيةٍ مركزيةٍ في الحياة الطلابية. تأسَّسَت المنظمةُ سنة 1996 على يدِ ثلاث طالباتٍ يهودياتٍ معادياتٍ للصهيونية، هُنَّ جوليا كابلان، وجولي إيني، ورايتشل أيسنير. كان الدافعُ لتأسيسِ المنظَّمة، بحسب موقعها الإلكترونيّ، السعيَ إلى تحقيق "العدالة والمساواة والكرامة لكلّ الناس"، وبناءَ حركاتٍ يهوديةٍ تقوم على هذا السعي، وتفتح المجالَ للتعافي من آثار الصهيونية التي تمحو التواريخَ والثقافاتِ واللغاتِ المتنوعة لليهود عن العالم لصالح مشروعها الاستعماري.

تجمع لعدد من اليهود المؤيدين لفلسطين بعد الغارات الجوية الإسرائيلية القاتلة على مستشفى شهداء الأقصى، نيويورك 15 أكتوبر 2024. تصوير: سيلكوك أكار، الأناضول عبر صور غيتي

في الأشهرِ الأخيرة، ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، نظَّمت "أصوات يهودية من أجل السلام" فعالياتٍ كثيرةً في شوارع نيويورك وعلى أعتاب مؤسسات صنع القرار في واشنطن، كلّها بشعار "ليس بِاسمِنا". طالبَت المظاهراتُ والوقفاتُ، التي اعتُقِل فيها العشرات من أعضاء المنظمة، بوقفِ العدوان، وتحدّت العلاقةَ التي يقوم عليها الخطابُ الصهيونيّ بين الهوية اليهودية ودعم إسرائيل. 

ليست "أصوات يهودية من أجل السلام" المنظمةَ اليهوديةَ الوحيدةَ المعاديةَ لإسرائيل، وإن كانت تصف نفسَها على موقعها الرسميّ بأنَّها الأكبر. تعود أصولُ بعض المنظمات اليهودية المعادية للصهيونية، لا سيّما ذات الطابع الدينيّ منها، إلى ما قبل النكبة وتأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، مثل حركة "ملاخم" التي تأسست في عشرينيات القرن الماضي، وحركة "نيتوري كارتا" التي تأسست سنة 1938، والمجلس الأمريكي لليهودية المؤسَّس سنة 1942. كانت الصهيونية حينئذٍ خيارَ الأقلّية من اليهود. ثم أدَّت السياسات الصهيونية، عقب الحرب العالمية الثانية، إلى تهميش هذه التيارات المعادية لها، على نحوٍ سمح بتصوّر أنّ الصهيونية واليهودية وجهان لعملةٍ واحدة. استمرّت الهيمنة الصهيونية طيلة نصف قرنٍ أو يزيد، قبل أن تتأسس في النصف الثاني من العقد الأول من الألفية الجديدة مؤسساتٌ يهوديةٌ معاديةٌ لها، أعضاؤها ليسوا بالضرورة من اليهود المتديّنين كما كان الحال سابقاً. ومنها "أصوات يهودية مستقلة" التي تأسست سنة 2007، و"الشبكة اليهودية الدولية المعادية للصهيونية" التي تأسست سنة 2008، ومنظمة "إن لم يكن الآن" التي تأسست إبان العدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2014.

تجتمع هذه المؤسسات في تركيزها على الحقوق المدنية والسياسية للجميع ورفضها كلَّ صور التمييز. في سنة 2013، نشرت الفيلسوفة النسوية اليهودية الأمريكية جوديث بتلر، أستاذة الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا بيركلي، كتاب "افتراق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية" ذهبت فيه إلى أنَّ الجامع بين الهويات اليهودية المتشكّلة في السياقات التاريخية المختلفة هو تناقضها مع المشروع الصهيونيّ. وسبب ذلك أنَّ اليهود كانوا دوماً أقلّيةً في مجتمعاتهم، وهو الموقع الذي حثّهم ليكونوا في طليعة المدافعين عن الحقوق المدنية والسياسية للأقلّيات؛ الأمرُ الذي قَلَبَه المشروعُ الصهيونيّ رأساً على عقب. هذا النزوع إلى الدفاع عن حقوق الأقلّيات، والذي تعدّه بتلر مكوِّناً رئيساً للثقافة اليهودية على مدار التاريخ، دفع هذا السببُ  فئةً من اليهود الأمريكيين، بوصفهم صِنوَ أقرانهم المسلمين والعرب أقلّياتٍ في المجتمع الأمريكيّ يعانون فيه بعضَ صور التمييز، إلى مفارقة الصهيونية، والانخراط في المؤسسات المنشغلة بترسيخ الحقوق المدنية والسياسية. 

لم يكن اليهودُ وحدَهم في هذا النزوع. ففي العقد الثاني من القرن الحالي، وفي عهد الرئيس أوباما عندما كان سؤالُ الأقلّيات الهويّاتية مركزيّاً، ظهرت منظّماتٌ وحركاتٌ عدّةٌ تسعى إلى تأكيدِ الحقوقِ المدنية والسياسية للأقلّيات والفئات المهمَّشة. هذه المنظّمات المختلفة، التي ظهرت كلُّ واحدةٍ منها عقبَ حدثٍ معيّنٍ، وجدَت الملاذَ عند بعضها. فتشكَّلت قربَ انتهاء الولاية الثانية لأوباما حركةٌ واسعةٌ، ضمّت الأقلّياتِ والفئاتِ الاجتماعيةَ المهمَّشةَ، والراغبين في تحدّي النمط السائد في إدارة المجتمع، وعُرِفت بحركة "ووك"، أو الصحوة. 

استُعمِلَ مصطلح الصحوة في هذا السياق أوَّلَ مرَّةٍ سنة 2014. فقد أسّسَت ثلاثُ ناشطاتٍ سوداواتٍ، هنّ أليسيا جارزا وباتريس كولورز وأوبال توميتي، حركةَ "حياة السود مهمّة"، في العام الذي قبله، اعتراضاً على الانحيازات القضائية والقانونية التي تُسهِّل إفلاتَ مرتكبِي الجرائم ضدَّ السود من العقاب. وعقب ضلوع ضابط شرطةٍ أبيض بقتلِ الشابِّ الأسود مايكل براون في فيرجيسون بأغسطس 2014، انفجرت موجةٌ من المظاهرات والاحتجاجات، شهدت حضوراً ملفتاً من المنشغلين بالقضية الفلسطينية، الذين كانوا في أوج نشاطهم بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة صيفَ العامِ ذاته. اكتشف المتظاهرون خبرتَهم المشتركةَ في مواجهة البطش الشرطيّ والنظام العنصريّ، فتوطّدت العلاقات بينهم على نحوٍ عبّر عنه عددٌ كبيرٌ من الناشطين الذين شاركوا في المظاهرات. تجدَّدت المظاهراتُ مرَّاتٍ عدّةً معَ تكرارِ حوادث العنف الشرطيّ ضدَّ السود، وفي كلِّ مرّةٍ كان التحالف يزداد متانةً بانضمام أطرافٍ جديدةٍ إليه. 

وفي سنةَ 2011، كشف استطلاعٌ أجراه مركز بيو عن موافقة 46 بالمئة من الأمريكيين على حقِّ المثليّين في الزواج، وهي نسبةٌ تجاوزت الرافضين الذين بلغت نسبتُهم في الاستطلاع نفسِه 44 بالمئة، بعد أن كان المعارِضون 55 بالمئة والموافِقون 35 بالمئة سنة 2006. وفي يونيو 2015، قضت المحكمةُ الدستوريةُ العليا، بأغلبيةِ خمسةِ قضاةٍ مقابل أربعةٍ، بوجوب اعتراف الولايات بالزواج المثليّ، وفي الوقت نفسه عدّت رفضَه صورةً من صور التمييز غير الدستورية. 

وقبل مُضيِّ عامٍ على حكم ترامب، انفجرت حركةٌ احتجاجيةٌ أُخرى شكَّلت جُزءاً من التحالف. في أكتوبر 2017، نشرت نيويورك تايمز ومجلة نيويوركر تقاريرَ عن تحرّش المنتج السينمائي المشهور هارفي واينستين بعددٍ كبيرٍ من النساء. عقبَ نشر التقرير تقدّم المزيد من العاملات في مجال السينما بادّعاءاتٍ مماثلة. وفي الأيام والأسابيع التالية، انكشف عددٌ ضخمٌ من جرائم التحرّش التي تورَّط فيها أصحابُ النفوذ في المجالات المختلفة، ونشرت الممثّلة الأمريكية إليسيا ميلانو تغريدةً على موقع تويتر حينئذٍ، تدعو فيها النساء اللاتي تعرَّضن للتحرّش أن يكتبن عمَّا جرى لهنّ، مع إضافة وسم "أنا أيضاً". في أسابيع تحوَّلت "أنا أيضاً" لحركةٍ واسعةٍ تدافع عن النساء ضدَّ ما يتعرَّضن له، خصوصاً من الرجال ذوي النفوذ، من تحرّشٍ، واستخدام وسائلَ شتَّى لإسكاتهنَّ وتكذيب رواياتهنّ.

وهكذا اكتملت بنهاية السنة الأُولى من حكم ترامب حركةٌ واسعةٌ تقوم على حماية المستضعَفين والمهمَّشين. كانت إحدى السمات المميّزة لهذه الحركة تداخل مكوّناتها، واشتراك روافدها المختلفة في الرغبة في تفكيك المنظومة السياسية والاقتصادية المهيمنة. 


كان مؤشِّر حركات الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية للأقليات والفئات المهمّشة مع انتهاء ولاية أوباما الثانية في صعود. كان جيل العرب والمسلمين الذي وُلِدَ بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ورأى الخلاصَ في التكاتف مع غيره للدّفاع عن الحقوق المدنية للجميع، قد دخل المرحلةَ الجامعيةَ، ليلتقي بجيلِ اليهود الذي رأى تناقضاتِ المشروع الصهيونيّ فكَفَرَ به في صمتٍ قبل أن يجد ملاذَه عند المنظّمات الحاضنة لليهود غير الصهاينة، والسود الساعين إلى النجاة من مسدَّسات الشرطة والبِيض، والمثليّين الفارّين من اضطهاد ذويهم وأقرانهم، والنسويّات الساعيات إلى إنهاء الانتهاك الممنهَج لأجساد النساء والتمييز ضدّهن في الحياة العامّة.  

كان ترامب العدوَّ الذي أدّى صعودُه إلى مزيدٍ من تكاتفٍ بين هذه الفئات وغيرها. فهو رجلٌ أبيض ثريٌّ يتمتّع بكلّ أسباب النفوذ في المجتمع الأمريكي، يروّج لخطابٍ مسيحيٍّ محافظٍ، وله تاريخٌ طويلٌ في معاداة السود بالتمييز ضدّهم مذ كان مطوِّراً عقارياً، وفي تحقير النساء والتحرّش بهنّ. وفي أثناء حملته الانتخابية الأولى، أظهر ترامب عداءً للعرب والمسلمين وغيرهم من الأقلّيات وتحديداً المهاجرين ذوي الأصول اللاتينية. وبعد فوزه بالانتخابات بمدّةٍ قصيرةٍ، عيّن أشخاصاً معروفين بكرههم للمسلمين ومعاداتهم للسامية، ولم يُخفِ تعاطفَه مع الجماعات العنصرية البيضاء التي قادت تظاهرةً حاشدةً في مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا هتفوا فيها بأنَّ "اليهود لن يستبدلونا". 

سياساتُ ترامب وخطابه بعد وصولِه الحكمَ وضعَت فلسطينَ في مركز الحركة المعارِضة له. فمن جهةٍ شَبّه ترامب قراراته الجدليةَ بقرارات الحكومة الإسرائيلية، كما فعل في تشبيهه الجدارَ العازلَ الذي حاول بناءَه على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك بالجدار العازل الذي بَنَتْه إسرائيل، وهو ما ساعد في لفت انتباه خصومه للمشتركات الكثيرة بين مشروعه والصهيونية. ومن جهةٍ أُخرى، تزامن عداؤه الداخليّ للمهمَّشين مع سياساتٍ خارجيةٍ عكست عداءً للعرب والمسلمين، لا سيّما بشأن القضية الفلسطينية. لَم يسلك ترامب المسارَ الذي سلكه سابقوه من جمهوريين وديمقراطيين خطابياً ورمزياً بتأكيد دعمهم لحلِّ الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والاعتراف – وإن صورياً – بحقِّ الشَّعب الفلسطيني في تقرير مصيره. بل بنى تحالفَه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقرَّرَ الترويجَ لـ"صفقة القرن" التي لم يكن للفلسطينيين فيها نصيبٌ، وسَكَتَ عن الجرائم التي ارتكبَها مستوطِنون إسرائيليون في الضفّة، وقطع المعونات عن مؤسسات رعاية اللاجئين الفلسطينيين، وقرَّرَ قبلَ انتهاء السنة الأولى من حكمه نقلَ السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، ثم قرَّر في مارس 2019 الاعترافَ بسيادةِ إسرائيل على الجولان. وهكذا بدت عداوته لمسلمِي وعربِ الداخل – أي الأقلية المستحقّة التضامنَ في مواجهة الاضطهاد – متداخلةً مع عداوتِه الفلسطينيين والعربَ وتجاهلِه حقوقَهم.

وفي الشهور اللاحقة، ارتفعت وتيرة التضامن مع الطلبة المسلمين ومع فلسطين في الجامعات. حاول الحزبُ الديمقراطيّ مدَّ الجسورِ إلى تلك الحركة يستقوي بها في معركته مع ترامب وأنصاره، على نحوٍ ظهر في الانتخابات التشريعية سنة 2019، التي شهدت تقديمَ الحزب مرشحِين جُدداً في انتخابات الكونغرس، كان من بينهم إلهان عمر، اللاجئة الصومالية التي فازت بمقعدٍ في مجلس النوّاب عن ولاية مينيسوتا، ورشيدة طليب من ولاية ميتشغان، التي كانت أوّلَ فلسطينيةٍ أمريكيةٍ تفوز بمقعدٍ في مجلس النوّاب. 

أكسبت هذه التطوّرات القضية الفلسطينية شرعيةً لا مثيل لها في المجال السياسي الأمريكي. إذ صارت إحدى القضايا التي يتباين فيها موقفُ أنصار الحزب الديمقراطي عن الجمهوري، وأصبحت قضيةً أساسيةً لأحد التيارات المهمّة ذات الشرعية في الحزب الديمقراطي. لكن جلّ الناشطين والمنظمات الداعمة للفلسطينيين ظلّت خارج الحزب، تعمل على المستويات المختلفة لتغيير الموقف الشعبيّ، ولدفع الحزب ومؤسسات الدولة لاتخاذ مواقف أقلَّ انحيازاً لإسرائيل. وتشير احتجاجات العام الماضي إلى أن الجامعات ظلَّت من أهمّ ساحات هذا السعي. 


لا يَحسُن تهويلُ النجاحات التي حقَّقها مناصرو فلسطين في الولايات المتحدة والتقدم الذي أحرزوه في العقدين الماضيين. فالتقدم – كما سبق – لم يكن بتحوّل موقف مؤيّدي إسرائيل وإنما كان بزيادة نسبة الاهتمام بالقضية. ثم إنهم لم يكونوا وحدهم من أحرز التقدم، بل جاء تقدّمهم ردَّ فعلٍ على نجاح التحالف المناقض لهم في الوصول إلى البيت الأبيض، وأمامه الآن فرصةٌ للوصول إليه مرّةً أُخرى. والهيمنة الصهيونية ما تزال باديةً في حرصِ مرشّحَي الرئاسة من الحزبين، ومعهما مرشَّحو الكونغرس في أغلب الدوائر والولايات، على تأكيد ولائهم ودعمهم لإسرائيل. والاحتجاجات الجامعية، على أهمّيتها وفاعليّتها ونجاحها في تمرير قراراتٍ طلابيةٍ عدّةٍ بسحب الاستثمارات من الشركات الداعمة للاحتلال، لم تفلح في إجبار الإدارات على التزام هذه القرارات إلّا في حالاتٍ نادرة.

داعمين لفلسطين يتظاهرون في شوارع نيويورك أمام جامعة كولومبيا، 7 أكتوبر 2024 في مدينة نيويورك، نيويورك. لإحياء الذكرى السنوية الأولى لـ 7 أكتوبر تصوير: أندرو ليشتنشتاين، كوربيس عبر صور غيتي

لا تؤشِّر هذه الانتصاراتُ التي تحقّقت في الماضي القريب على نجاحٍ مستقبليٍّ حتميّ. فالنظر في هذا الماضي القريب يكشف عن ارتباط صعود التضامن مع فلسطين وهبوطه بعوامل كثيرةٍ ليست كلّها في سيطرة الحركة. ومناصرو فلسطين ليسوا وحدهم على الساحة. وإذا كان خصومهم تلقّوا ضرباتٍ متتاليةً في السنوات الماضية، فإنَّهم لم يتأخَّروا في الردّ. جاء هذا الردّ تارةً في صورة تشريعاتٍ تقيّد الدعوات لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، وتحجب التمويل الحكومي عن المؤسّسات المشاركة في الحملة، وهي التشريعات التي توجد بصيغٍ متباينةٍ في أكثر من ثلاثين ولاية. تارةً في صورة إعلان مواقف ضدّ الحركة، مثل تبنّي مجلس الشيوخ في يوليو 2019 قراراً بإدانة الدعوة لمقاطعة إسرائيل. وعَدَّ مايك بومبيو، وزير خارجية ترامب في نوفمبر 2020، الدعوةَ إلى سحب الاستثمارات من إسرائيل معاداةً للسامية. وبعد العدوان الإسرائيلي الأخير، كان الردُّ على تصاعد التعاطف مع فلسطين في الجامعات فصلَ الطلبةِ المشاركين في الاحتجاجات، كما حدث في جامعات كولومبيا ويِيل وفاندربلت وغيرها، وحلَّ بعضِ المنظمات الطلابية الداعمة لفلسطين مثل "طلبة من أجل فلسطين" و"أصوات يهودية من أجل السلام" في بعض الجامعات، وتغييرَ القواعد الناظمة للتظاهر والاحتجاج في الجامعات لتقييد الحركة، وفصلَ بعضِ الأساتذة الذين عبّروا في وسائل التواصل الاجتماعي عن معاداتهم للصهيونية. 

لَم تمرّ هذه الإجراءات من غير مقاومةٍ، وأكثرُها مرشَّحٌ للسقوط، بَيْد أنها فتحت ساحاتٍ جديدةً لصراعٍ ما تزال الاحتمالات جميعها فيه مفتوحةً على مصراعيها.

اشترك في نشرتنا البريدية