لم تكن هذه القصة حادثة فريدة، بل كانت حلقة ضمن سلسلة من الأحداث الدموية التي أنهت االفاطمي في بلاد المغرب بعد قرابة مئة سنة من حكمهم. ومع طول هذا الوجود الفاطمي إلا أنك بالكاد تجد له أثراً في هذه البلاد. مع أن الفاطميين كانوا يتفننون في ترك الآثار وراءهم، وأنهم حكموا مصر انطلاقاً من بلاد المغرب، إلا أن آثار وجودهم في مصر غزيرة. فهي تبدأ من بنائهم مدينة القاهرة ولا تنتهي عند جامع الأزهر وأضرحة الحسين والسيدة زينب. لكن عندما درسنا في المناهج الدراسية في تونس عن تلك الفترة، لم يكن هناك إلا بضع صور لأطلال قصر المهدية وجامعها الفاطمي الكبير. وعندما زرت متحف باردو الوطني لم أجد من آثار تلك الحقبة سوى قطع فخارية قليلة، وأقمشة فاطمية استوردها الأديب والمؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب من القاهرة، ونقيشة حجرية تصور "مشهد أمير فاطمي في مجلس لهو" بيده قدح الخمر وعلى يمينه عازف ناي. وكذلك عندما زرت متاحف مدينتي القيروان والمهدية، لم أجد إلا بضع قطع أخرى متناثرة هنا وهناك.
وفي التنقيب عن سبب زوال التراث الفاطمي في تونس تواجهنا قصة تصفية وإزالة أحدثها فقهاء المالكية لكلّ ما يمت للوجود الفاطمي بصلة، انتقاماً من الاضطهاد الذي عاشه هؤلاء الفقهاء تحت حكم الفاطميين. لم يكتف فقهاء مثل محرز بن خلف، الذي سمّيت عليه زاوية سيدي محرز الشهيرة في مدينة تونس والمشهور بالكرامات والورع، بالمجازر التي عقدوها للفاطميين في تونس والقيروان والمهدية وغيرها من البلدان. صمم هؤلاء الفقهاء رواية تاريخية واحدة استمرت مهيمنة لفترة طويلة وثبتوها بتعظيم أبطالهم وشهدائهم وشيوخهم. إلا أن شظايا من الوجود الفاطمي في لباس التوانسة الشعبي ومناسباتهم السنوية ظلّت شاهدة على ضرورة تجاوز هذه الرواية علمياً ومنهجياً.
بدت القيروان مختلفة للداعية الصنعاني عن أغلب مدن المنطقة الأخرى ذات المكونات الأمازيغية أو الرومانية حديثة العهد بالإسلام أو اللغة العربية والتي سبق له أن اقتحمها. فقد كانت آنذاك مدينة ضخمة ذات مكوّن عربي غالب ومرجلاً لصراعٍ ديني لا يخمد بين المعتزلة وأهل السنة وبين الحنفية والمالكية. عندما دخل الصنعاني القيروان في هذه الأجواء، لم يرد الصدام المباشر بل اختار إشاعة الغموض حول دعوته. كتب المؤرخ ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" عن هذه اللحظة بعد قرون: "ولمّا حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقيروان ورقّادة، فخطبوا ولم يذكروا أحداً، وأمر بضرب السكّة، وألا ينقش عليها اسم، وجعل مكان الاسم من وجه: بلغت حجّة الله، ومن الوجه الآخر: تفرق أعداء الله، ونقش على السلاح: عدة في سبيل الله".
إلا أن هذا الغموض لم يستمر طويلاً، فسرعان ما بدأ الصنعاني يعمل على تنصيب مولاه إمام الإسماعيلية عبيد الله المهدي خليفةً للدولة الناشئة. فبعدما وصلته الأنباء عن نجاح داعيته الصنعاني في المغرب، خرج عبيد الله المهدي من الشام متجهاً إلى المغرب التي وصلها متخفياً في هوية تاجر. ومن مكان إقامته في سجلماسة، جنوب الجزائر، بدأ يتواصل المهدي سراً مع أبي عبد الله الصنعاني. ولما كشف أمره وسجنه أمير سجلماسة وسجن ابنه معه، سار الصنعاني بقوة عسكرية إلى سجلماسة فحاصرها حتى سقطت في يده. وبعد أن دخلها، أخرج المهدي وابنه من السجن.
وأوّل ما رجع الصنعاني بالمهدي إلى القيروان، نصبه خليفةً على الدولة الناشئة سنة 910. بدأ المهدي حكمه بفرض التشيع على الناس. وينقل ابن الأثير أن دعاة الفاطميين "أحضروا الناس بالعنف والشدة، ودعوهم إلى مذهبهم [. . .] فلم يدخل في مذهبهم إلا بعض من الناس، وقتل كثير ممّن لم يوافقهم". وهي سياسة لم تدم، إذ لم يلبث أن قتل الخليفة المهدي كبار دعاته بمن فيهم مؤسس دولته الفعلي الصنعاني. وما لبث أهل القيروان أن خاضوا ثورة محلية كانت الأولى ضد سياسة التشييع الإجباري قتل فيها الكثير، واضطرت المهدي "لكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة". ليضطر بذلك إعادة توجيه جهود دعاته نحو محرك المعارضة، فقهاء المالكية.
أدرك المهدي ما لخصومه فقهاء المالكية من تأثير سياسي بالغ على فئات واسعة من سكان الحواضر والقرى الإفريقية، مردّه ثبات المالكية وانتصارهم في أكثر من محنة على امتداد القرن السابق. سواء كان ذلك الموقف من أزمة خلق القرآن زمن الخليفة العباسي المأمون الذي سعى ولاته الأغالبة إلى فرضه على مالكيّة القيروان لأنه سياسة عقائدية عامة. أو من محاولة فرض المذهب الحنفي العراقي على المجتمع المحلي. حولت هذه الانتصارات المالكية إلى ما يشبه المعبرين عن روح المجتمع المحلي في مقابل السلطة، مشكّلين رأس مال سياسي جاهز للتحدي الفاطمي الجديد.
كانت خطوات الفاطميين الأولى في فرض التشيع على الناس غير موفقة، لاسيما أمام التصلب المحلي. لم يختاروا حليفاً لهم سوى فئة مكروهة أصلاً من بقايا فقهاء العراقيين في المدينة من الذين سبق وأن خدموا الدولة الأغلبية. كان خيار الفقهاء العراقيين التحالف مع الدولة الناشئة خياراً منفعياً مردّه وجود عدة نقاط اشتراك بينهما. شملت هذه النقاط عداء المكونات المحليّة ورؤيتهما المختلفة للقرآن وموافقتهم المهدي، كما حكى المؤرخ القيرواني ابن ناجي التنوخي في مسألة تفضيل الأئمة ورخصة مذهبهم، التي تسمح لهم بالانتقال من مذهب لآخر. من هؤلاء القاضي محمد بن عبدون العراقي، المسؤول السابق عن امتحان رؤوس المالكية في محنة خلق القرآن، إذ "ضربهم بالسياط وقطع بهم سماط القيروان" كما روى ابن ناجي. ومثّل الالتجاء لابن عبدون مظهراً من مظاهر انتقال الأجهزة القمعية من سلطة سابقة إلى أخرى ناشئة. ذلك أنه ومن معه حصّلوا خبرة طويلة في تتبع الخصوم المذهبيين وامتحانهم ومراقبتهم، استثمرها آخر سنة في حياته لأنه أول قاضي علوي على القيروان. وهو ما لم تغفره له الرواية المالكية طوال قرون لاحقة، إذ كثيراً ما نعتوه "رجل السوء". وحتى عندما حاول المؤرخ الحسين الأجدابي، أحد أبرز رسّامي هذه الرواية، ذكر قصة عن فضل ابن عبدون في ترميم بعض أبواب جامع القيروان الكبير من ماله، عقّب عليه ابن ناجي بعد إيراده القصة: "فالأولى ترك التعريف به، وإن كان في هذه القضية فعل خيراً. وإنما ذكرت تعريف من ذكر لئلا يعتقد أنه رجل صالح في كل أموره".
لم يكن هذا التحالف كافياً لفرض المذهب الشيعي، فراحت الدولة الناشئة تفتش عن بدائل. ومع أنه كان ممكناً جلب أبناء قبيلة كتامة الأمازيغية الذين قامت على رماحهم الدولة، إلا أن عائق اللغة ورفض عرب القيروان أن يتولى أمرهم أمازيغ حال دون ذلك. وهنا لم يبق للخليفة المهدي سوى البحث عن موالين عرب من أوساط أحفاد الفاتحين القدامى. وهو ما وجده في شخص يدعى الحسن بن أحمد بن أبي خنزير، من عرب مدينة ميلة الواقعة شرق الجزائر، والذي يعرف في المصادر باسم "ابن خنزير" ليكون بذلك أول والٍ فاطمي للقيروان.
دشّن ابن خنزير عهده سنة 911 بقتل شخصين حفظت الذاكرة المالكية اسميهما شهداء، وهما ابن البرذون ورفيقه ابن هذيل. يشير عبدالله المالكي، مؤلف "رياض النفوس"، لقصة امتحانهما لقبول نبوة عبيد الله المهدي بسعي من بعض فقهاء الأحناف السابقين. ولما رفضا أمر المهدي بذبحهما وربطهما بأذناب البغال. تبدو هذه الرواية على قدر من المبالغة، خاصة وأن المؤرخ ابن ناجي يورد سبباً آخر للقتل. فهو يرى أن الفقيهين كانا من أول الذين أذاعوا الدعاية المضادة بين الطلبة وعامة أهل القيروان، وتحديداً في مسألة المفاضلة بين الصحابة. إذ نسب لابن البرذون مقولة مفادها أن عليّاً كان كاتباً لدى عمر، وبالتالي فأفضلية الأخير متقدمة. وهي الحجة التي كررها ابن هذيل وكانت سبب قتل الوالي لهما، بعدما قيل إنه تشدد في جلدهما.
وبعد أن صُلب الفقيهان على أحد أبواب القيروان، دارت رحى التصفيات واستمرت حملة ابن خنزير القاسية ضد مالكية القيروان. وبذلك تواتر لفظ الشهيد في كتب التراجم المالكية. ومن أشهرهم كان أيضاً عروس المؤذن، الذي رفض ترديد عبارة "حي على خير العمل" في الآذان، "فقطع لسانه وعمل بين عينيه، وطيف به القيروان، ثم قتل بالمرضاخ [وهي أداة لتهشيم العظام]". وتواصلت عمليات الإعدام حتى قيل إن ابن خنزير نفسه ملّ من كثرة من يتتبعهم القاضي محمد المروذي، أحد قلائل المتبنين للمذهب الشيعي في القيروان قبل قدوم الفاطميين، ليدبر له ابن خنزير مكيدة عند الخليفة المهدي، فرُمي تحت دواب الاسطبل تمشي عليه. وبمقتله احتفت مصادر المالكية.
أما الهرب فيبدو أنه لم يكن خياراً عملياً أو محبباً خاصة أمام تمدد دولة الفاطميين. نقل الدباغ أن أبا إسحاق السبائي، من أعيان مالكية القيروان، كتب لشيخه أبي الفضل الغدامسي المقيم بمدينة المنستير، يستشيره في سكنى أي من المدينتين بسبب تضييقات الشيعية المتصاعدة. أجابه الغدامسي "يقول لك رسول اللّه [. . .] في رؤيا رآها: ترحل من بلدة معصومة إلى غيرها؟". وبهذه الطريقة أحاط القيروانيون مدينتهم بهالةٍ مقدّسة تفرض عليهم الثبات من أجل صونها. حتى نُسب للسبائي نفسه فيما بعد قصة منام أراه فيه النبي محمد سوراً حديدياً يحيط بالمدينة وعليه رجال مثقلون بالسيوف، وقال عنه: "أنا سألت اللّه عزّ وجلّ أن يجعله عليها، ولا يرفع عنها إلى يوم القيامة". كذّب فقهاء المالكية المتأخرون من أصحاب التراجم بعد قرون هذه الرؤيا لما تحمله من طابع مبالغ فيه، لم يكن لينشأ ويروج إلا في جو عاطفي مشحون.
الخيار الثاني كان المداراة ومحاولة الوصول لتسوية مع السلطة القائمة، أو على الأقل تجنب الصدام المباشر معها في ظل التفاوت البالغ في موازين القوى. واللافت هنا أن مصادر المالكية المتأخرة تباينت في موقفها ممن اختار هذا السبيل. ففي بعض الأحيان عدّ ذلك من قبيل المداهنة في الدين، وفي أحيان أخرى صُوّر الأمر على أنه كرامة ربّانية. ففي حالة الفقيه أبي الحسن الدبّاغ، الذي رفض في البداية إضافة عبارة "حي على خير العمل" في آذانه، ثم أوحى له خاطره مرةً أن يقولها، فما أن فرغ من الآذان إلا واكتشف عبداً أسودَ يقف وراءه حاملاً حربة مسددة نحوه استعداداً لطعنه لو لم يقلها. وعلى إثر تلك الحادثة ومقتل عروس المؤذن أشار الدبّاغ على مؤذني المدينة: "تمالوا على الآذان على سنّة في أنفسكم. فإذا فرغتم فقولوا حيّ على خير العمل فإنما أراد بنو عبيد خلاء المساجد لفعلكم هذا، وأنتم معذورون، خير من خلاء المساجد".
لم يعمل كثير من فقهاء المدينة بهذه النصيحة، بل اختاروا الصدام تحت شعار "الشهادة". ولعل اللافت من بين كمّ قصص البطولة الكثيرة قصة الفقيه ابن الحدّاد. كان ابن الحدّاد شافعي المذهب، وهو أمر نادر في القيروان وقتها. وقبل قدوم الفاطميين، كان ابن الحدّاد منبوذاً من الأغلبية المالكية خاصة وأنه طالما سخر من أهم كتب القيروانيين الفقهية "مدونة سحنون" ناعتاً إياها بالمدوّدة نسبة للدود. ومع إطلالة الأعلام البيضاء للفاطميين، ترك عداواته القديمة ونسيها خصومه ليصبح رأسهم جميعاً في المناظرة ومقاومة الدعاة. ومع إعدامات الفقهاء "ارتاع أهل البلد ولجأوا إلى أبي سعيد (ابن الحداد) وسألوه التّقيّة فأبى. وقال: قد أربيت على التّسعين وما لي في العيش من حاجة، وقتيل الخوارج خير قتيل، ولا بد لي من المناظرة والمناضلة". وهكذا فعل حتى مثّله الناس بأحمد بن حنبل القيروان. ومن المفارقات أنه وعلى كثرة مناظراته، كان من القلائل الذين نجوا من القتل ومات موتاً طبيعياً.
بعد عشر سنوات من المحاولات وتوالي المحن، نبذ المهدي القيروانَ وقرر تأسيس مدينته الخاصة التي سماها "المهدية" سنة 920. ومع ذلك لم تتوقف سياسة فرض التشيع التي تواصلت إلى عهد حفيده المنصور الذي شنّ المالكية في عهده ثورةً دموية تجاوزت حدود القيروان.
اختارت المدينة الطريق الأخير على وعورته. كانت نقاط الاختلاف مع أبي مخلد جوهرية، فهو يعتنق المذهب الإباضي الخارجي ويبشر به، وهو المرفوض بين المالكية. وأما خلفيته العرقية وخلفية أغلب أنصاره فأمازيغية متباينة مع جلّ مكونات المجتمع القيرواني العربية.
فَرضَ هذا الخيار على القيروانيين تقديم مبررات حفظت لنا مدونات المالكية بعض أصدائها. فتجد أبو بكر المالكي كما ورد في كتاب الصباغ مثلاً يعقد مقارنة بين الخوارج ويعدّهم أهل قِبلة لا يزول عنهم الإسلام، يرثون ويورثون. في حين أن بني عبيد، ويقصد السلالة الفاطمية، مجوس زال عنهم اسم الإسلام. وعليه فإنّ "الخروج مع أبي يزيد [مخلد بن كيداد] الخارجي وقطع دولة بني عبيد فَرض".
يُرجح أن هذا التبرير صيغ فيما بعد في أجواءٍ هادئة عكس واقع القيروان الذي كان مشحوناً عاطفياً مع أنباء تقدم الثورة وسحقها كلَّ معاقل الفاطميين في الغرب والجنوب. وما يؤكد هذا الترجيح هو جنازة أبي بكر اللبّاد أحد فقهاء المالكية المغضوب عليهم من السلطة الفاطمية، الذي مات قبل دخول صاحب الحمار القيروانَ بأيام قليلة. تحوّلت جنازة الفقيه المحبوب لمظاهرة ضخمة في تحدٍّ صريح للسلطة الهشة في المدينة. وهذا كله بسبب توقع وصول أبي يزيد إلى القيروان، وضعف حال بني عبيد. ومع وصوله بلغ هذا الاندفاع أقصاه درجة توجه المالكية وأنصارهم مع الثائر نحو المهدية، عاصمة الفاطميين وآخر معاقلهم، آملين في حسم صراع طال أمده.
وعلى أعتاب المدينة المحصّنة وقعت معركة واد المالح التي انتهت بهزيمة الثوار، وقُتل من وجهاء المالكية نحو خمسة وثمانين. وأرجعت مصادر متأخرة الهزيمة لخديعة من أبي يزيد نفسه، إذ أمر أصحابه من الخوارج بالتأخر حتى يفني المالكية والشيعة بعضهم البعض. وهي رواية لا نعلم مدى دقتها، إذ لم يحفظ لنا التاريخ رواية صاحب الحمار أو أصحابه. بل إن المؤرخين اللاحقين من الطائفة الإباضية نفسها لم يكونوا راضين عن انشقاقه عن الفرقة الوهبية، وهذا حسب صالح باجية في كتابه "الإباضية بالجريد" المنشور سنة 1976. وأياً يكن الأمر، فإن الثورة انتهت واستعادت السلطة الفاطمية قوتها.
تحوّل وفاء بلوغين إلى صراعٍ مبطن من أجل الاستقلال بعد تولّي ابنه المنصور الزيري سنة 984 الإمارة. وكان من بين العناصر الفاطمية التي أراد المنصور التخلص منها ابن القديم، والي مدينة القيروان الذي عُيّن مباشرة من القاهرة رغماً عن الزيريين. ويبدو أن القيروانيين ساندوا الأمير المنصور في عزله. ولذلك أعربت السلطة الزيرية لأول مرة على امتنانها للمالكيين. فمع زيارة الأمير مدينةَ القيروان، أقام محاكمة غلَب عليها الطابع الاستعراضي. إذ أمر بقتل أحد عبيده وصلبه بتهمة قذف الصحابة، وهو ما كان أمراً محتفىً به في العهد القديم. وإثر هذا الحادث غابت مظاهر الاستفزاز العلنية لمشاعر المالكية واستقرت الأوضاع للأمير الذي حافظ في الآن نفسه على توازنات وثيقة مع أسياده الفاطميين إلى تاريخ وفاته سنة 995.
بعد وفاة المنصور انقسمت الإمارة بين ابنه باديس وأخيه حمّاد، وانشق هذا الأخير في شرق الجزائر معلناً مرحلة جديدة في الصراع المالكي الفاطمي. خلع الأمير حمّاد بيعة الفاطميين. ولأول مرة منذ سقوط الدولة الأغلبية، خُطب للعباسيين في إفريقيا. وزحف الأمير نحو مدن غرب تونس الموالية لابن أخيه. ومع كل مدينة كان يرفع بدعوة الرضا عن الشيخين أبي بكر وعمر ومناهضة المذهب الإسماعيلي داعياً جماهير تلك المدن للاستجابة له والانخراط معه.
لم تأت الإستجابة لدعوة الأمير حمّاد للانتفاضة على النفوذ الفاطمي من القيروان كما توقع، بل من مدينة تونس. قاد هذه الإنتفاضة رجل منحدر من أصول قرشية وتحديداً من سلالة الخليفة أبي بكر، واسمه محرز بن خلف. كل المعلومات التي لدينا عن الرجل وانتفاضته مصدرها مخطوط "مناقب محرز بن خلف" لصاحبه أبي الطاهر الفارسي. ارتبط محرز في قرابة مباشرة مع أبي زيد القيرواني وأبي إسحاق الجبنياني، وهما من أهم أعلام المالكية في القيروان في الفترة الفاطمية والزيرية. وبفضل هذه القرابة والاشتغال بالتعلم والتعليم الديني تبوأ محرز مكانة اجتماعية رفيعة في مدينته تونس، والتي يبدو أن دورها الثانوي جعلها في مأمن من الضغط الفاطمي العنيف.
التقط محرز أخبارَ ما يحدث في غرب البلاد وضعف السلطة المركزية، لينتفض كما كان يتمنى أخوالُه في القيروان. وما يؤكد سابقية تخطيطه لما سيقدم عليه قصة غامضة أوردتها المناقب لرجل فقير طلب منه الإعانة على الزواج فأشار عليه بأن يعد مكيال حبوب ليكتال به من مخازن ابن العظيم، أحد أثرياء المدينة الشيعة. تحققت النبوءة في مدة قصيرة، واقتحم الفقير ومن معه مخازن ابن العظيم مع انتفاضة كان الشيخ محرز محركاً لها. ويبدو أن ما سوّقت له المناقب على أنه نبوءة كان في حقيقة الأمر حركة منظمة بقيادة الشيخ ولهدف واحد: تطهير المدينة من الوجود الفاطمي. ومن الإشارات القليلة في كتاب المناقب، يبدو أن التطهير أنجز على مرحلتين. مرحلة جماعية اقتحمت فيها القصور وأماكن تجمع الشيعة، ومرحلة هدأت فيها الجماهير وأشرف عليها محرز الذي نصب محكمة مطلقة ترأسها وحده للتعامل مع بقايا الشيعة. يقول الطاهر الفارسي صاحب المناقب: "فكان يؤتى بالرجل منهم إلى حضرته فيشهد عليه فيقتل بشهادة الشيخ [محرز] خاصة لا يحضرها غيره من العدول"، أو يترك بناءً على رأيه أيضاً.
سميت هذه الحادثة "تقتيل المشارقة"، وتمددت حكاياتها من تونس إلى ما حولها، مكتسبة هالة كبيرة. حتى إن أحد أصدقاء محرز من مالكية مدينة باجة غرب تونس تمنى على الشيخ تكرار الإبادة في مسقط رأسه. فدعا له الشيخ "غسل الله عنكم العار وألحقكم بالناس". وما أن وصل مدينته باجة يوم الخميس، إلا وقتل فيها الشيعة يوم الاثنين. ويبدو أن الأمير باديس، منافس الأمير حمّاد، حاول ضبط الأوضاع حتى لا ينفرط عقد سلطته ولكن في الحدود الدنيا التي لا تثير غضب الجماهير المالكية ضده. ومع أنه استرضى محرز وأسرته ومنحه المزايا لاحتواء حركته، إلا أن الرؤية الأسطورية التي حاولت الرواية المالكية إضفاءها على محرز كان لها رأي آخر. إذ يتحدث الفارسي في مخطوطه عن مناقب محرز عن زحف الأمير باديس على مدينة تونس واختياره في ضواحيها سيفاً قال عنه: "غداً أضرب به حتى ينكسر". وهو ما بلغ محرز بن خلف، فصعد على أحد أبواب المدينة ودعا: "تكون تونس ولا يكون باديس". وليلتها أخذ الأمير ذلك السيف ووضعه في حجره أثناء السمر حتى غلبه النعاس فوقع على سيفه ونحر به نفسه. وعن ذلك كتب صاحب المناقب "نعوذ بالله من الخسران، ذلك أن الأستاذ سيدي محرز كان يتصرف في الفريقين: الإنس والجان".
راقب فقهاء القيروان المكلومون ما وقع في مدينة تونس منتظرين ما قد تسفر عنه الحركة من نتائج. وما إن بلغهم أن الانتفاضة انتصرت، حتى بدأوا التحرك. وجاءت إشارة التحرك من طرف غير متوقع، هو ولي عهد الأمير باديس الشاب واسمه المعز. إذ يروى أنه سأل عند أحد أبواب القيروان على الملأ عن الفرق بين "الرافضة" وأهل السنة، ليجيبه من حوله بأن "الرافضة" يسبّون الشيخين في حين يترضى عنهم أهل السنة. عندها عقّب الأمير الشاب بقوله "رضي الله عن أبي بكر وعمر"، وبقوله ذلك انطلقت المذابح. بعد قرون، أكد المؤرخ الهادي روجي إدريس، في كتابه المعرب سنة 1992 "الدولة الصنهاجية"، فرضية وقوع هذه القصة، حتى لو اختلفت الملابسات. فالأمير الشاب، والذي يبدو أن فقهاء المالكية نجحوا في الوصول إليه في سن مبكرة، استمالوه ناحيتهم ومنذ ذلك التاريخ أصبح النصير الرسمي لهم ولمذهب أهل السنة. وما تلك القصة إلا عنوان رمزي لعهد جديد قوامه الانتقام.
بعدها توسع القتل في الشيعة في كل مكان. وحسب كتاب "نزهة الأنظار" المنشور سنة 1988 لمحمود بن سعيد مقديش، هوجمت مناطق الشيعة في القيروان و"قُتلوا أقبح قتل، وحرقوهم، وانتهبوا أموالهم، وهدّموا ديارهم وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجرحوهم بالأرجل [. . .] وخرج الأمر من القيروان إلى المهدية وسائر بلادهم". وتواصلت التصفية في الأرياف والقرى ولوحق الشيعة إلى مدينة المهدية الملكية، فاعتصموا بمسجدها ليقتلوا عن آخرهم هم وأطفالهم. وهو ما فسره بعض المؤرخين بكونه "صيحة من الله سلّطها عليهم" كما كتب ابن ناجي، أو "صائح الموت صاح بهم" حسب ابن عذاري المراكشي، صاحب "البيان المغرّب في أخبار الأندلس والمغرب" المكتوب في القرن الثالث عشر. وبذلك أمست مذبحة القيروان مثالاً للسياسة الناجحة في إبادة الشيعة يحتفى به ويهدد. ومنه قول الشاعر القاسم بن مروان الوراق القرطبي: "وسوف يقتّلون في كل أرض [. . .] كما قتلوا بأرض القيروان".
حقق المالكية انتصارهم الأخير في سنة 1052 حين أُنزلت الأعلام البيضاء من القيروان، ولُبس فيها السواد العباسيّ من جديد. وبذلك أعلن الأمير المعز بن باديس قطع العلاقة مع الفاطميين، والبيعة للدولة العباسية. وأمسى مذهب مالك بن أنس المذهب الرسمي لأول مرة. ومع أن مشروع المعزّ السياسي انتكس، إلا أن مشروع فقهاء المالكية تحقق في النهاية.
أراد المالكية من هذه الرواية قطع كل جسور الاتصال مع الفاطميين، وأولها اسم الفاطميين الذي لم يكن يرد على ألسنتهم. وعلى النقيض من ذلك اختاروا عبارة "العبيديين" أو "بني عبيد" ازدراءً بعبيد الله المهدي وطعناً في انتسابه لفاطمة الزهراء بنت الرسول. ووصفوا أنصارهم بالمجوس والقرامطة والرافضة. ولو أن النعت الأكثر لفتاً للانتباه كان "المشارقة"، والتي كانت دارجة على نقيض عبارة الشيعة. ومن ذلك أن المالكي كتب واصفاً أحد مجالس الدعوة الشيعية فقال "أتى رجل مشرقيّ من أهل الشّرق ومن أعظم المشارقة، فقام إليه رجل مشرقيّ". وأما الدعوة للتشيع، فكانت توصف بالتشريق أيضاً. ولعل التأكيد على هذه العبارة يظهر النفور التلقائي الذي أبداه المالكيون للفاطميين ودعاتهم القادمين من بيئات ثقافية ومجتمعية غريبة عنهم ومكروهة أصلاً من أيام محن العباسيين الدينية. كذلك كانت الحالة النفسية الجمعية مسكونة برهبة الفتن وربطها الوثيق بالشرق والعراق تحديداً. وهو ما كان مبثوثاً صراحة في أكثر كتبهم رواجاً، "موطأ" الإمام مالك بن أنس، الذي روي فيه الحديث الشهير: "رأيت رسول الله يشير إلى المشرق ويقول: 'ها إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان'".
لم يكن المشارقة في نظر المالكية أصحاب مذهب مختلف فقط، بل كانوا كفاراً. فهم يريدون هجران المساجد، ومجوس زال عنهم اسم المسلمين فلا يتوارثون معهم ولا ينتسبون إليهم، ومدّعون الألوهية حيناً والنبوة حيناً آخر. وقد وصل هذا الخطاب العدائي أوجه مع خطيب القيروان أبو الوليد في خطبته التحريضية للثورة القيروانية الأولى الفاشلة مع الخوارج، إذ قال: "إن هذا القرمطيّ الكافر الصّنعاني المعروف بابن عبيد اللّه المدعي الربوبية من دون اللّه جاحداً لنعمتك كافراً بربوبيتك طاعناً على أنبيائك ورسلك، مكذباً لمحمد نبيك [. . .] سافكاً لدماء أمّته، منتهكاً لمحارم أهل ملّته".
جوبهت محاولات بعض أعلام المالكية القليلة للتخفيف من حدة هذا الخطاب بالقمع بقسوة. فقد أُجبر أبو سعيد البراذعي على مغادرة القيروان نحو صقلية بعد أن أفتى علماء القيروان برفض تداول كتبه وقراءتها بسبب رفضه الدعايةَ العباسية وتأليفه رسالة لم تصلنا في تصحيح نسب الفاطميين. أما أبو إسحاق التونسي والذي يحبه المالكية ويجلونه، فقد امتُحِن بسبب فتوى جواز الزواج من امرأة مشرقية. إذ أفتى أن المشارقة نوعان، صنف مجوس وصنف آخر ينتمون لأمة الإسلام يجوز الزواج منهم. وهو ما يمثل شقاً في الرواية المالكية الصلبة التي كانت تعامل أنصار الفاطميين كتلةً واحدة نافرة عن المجتمع المحلي.
وبسبب تلك الفتوى أُجبر أبو إسحاق على الحضور في حضرة الأمير المعز الشاب في قصره. ومع تمسكه اللاحق بقوله هاجمه أبناء مذهبه، وقيلت عدة قصائدَ في تبديع مقالته وهجائه. ودعي لتقديم اعتذار من فوق منبر الجامع الأعظم وهو ما استنكفه واضطر تبعاً له للهجرة نحو مدينة المنستير. وبعد هدوء الصراع بقرون، برر ابن ناجي موقف غالبية أبناء مذهبه في القصتين بعبارات متشابهة وبلا تحرج، فعدّه "سدّاً لهذا الباب أمام العامة". وما يؤكد أن هذين الموقفين المتشددين ضد الإسماعيلية مدفوع بالظروف السياسية لتلك الفترة هو تغيرهما بعد مرور فترة من الزمان وزوال التهديد الفاطمي.
أما نسب السلالة الفاطمية فقد تغيّر الموقف منه مع ابن خلدون المؤرخ والفقيه المالكي، الذي ذكر أن ما راج في الفترة العباسية لم يكن سوى دعاية سياسية و"تزلفاً للمستضعفين من بني العباس". وهو ما تبناه في القرن التاسع عشر المؤرخ الوزير أحمد بن أبي الضياف، إذ عدّ استمرار دولة الفاطميين قرنين ونيف لا يمكن "أن يقع لدعيّ في النسب". وكذلك الأمر في مسألة تكفير المشارقة، أي الشيعة الفاطميين. فابن ناجي أشار لفتوى الشيخ التونسي التي ترفض تكفيرَ كل الشيعة، ثم كتب: "الأقرب أنهم ليسوا بكفّار، وإنما صرّح بما ذكر مبالغة لتنفير العامة، لأن المطلوب سدّ هذا الباب". بلغ هذا الموقف منتهاه مع ابن أبي الضياف حين كتب: "ولا يظن في القوم أنهم من الغلاة المدحوض غلوّهم عند أيمة الشيعة [. . .] وقصارى أمرهم تفضيل علي على الشيخين [. . .] وإنكار العلماء عليهم من حيث البدعة".
ومحصّلة ما سبق، أنه كلما ابتعد حدث الصراع المالكي الفاطمي أكثر في الذاكرة، صار التعاطي معه أهدأ وأقل حدة.
وصلت المبالغات أوجها مع محرز بن خلف الذي يُعدّ مثالاً فريداً لما قد يطرأ على الرواية من تطور وتغير، فقد تحوّل من مؤدب صبيان إلى الشيخ الصالح كبير القدر. وركّزت كتابات الفقهاء المالكية في القرنين المواليين لعصره على دوره في التنشئة الدينية ودوره السياسي في القضاء على الوجود الشيعي. غير أن خفوت أصداء الصراع وتواريه مع القرون ترك المجال أمام رواية أخرى متصاعدة، طغى عليها البعد الصوفي تبعاً للأجواء الروحانية الجديدة التي طغت على تونس منذ القرن الثالث عشر إلى الفترة الراهنة. فلم يعد الفقهاء الألمعيون نجوم المرحلة، بل الأولياء الصالحون. ومع ذلك لم تنس ذاكرة المدينة فضل الرجل ولكنها أعادت تكليله بهالة صوفية حافظ بها على مكانته العليا واحداً من أكبر رموز المرحلة. فمع ظهور مصطلح "ديوان الصالحين" الذي يشير إلى مجمع الأولياء والصالحين والمتصوفة الذين مروا بمجال محدد، حظي محرز بن خلف ضمن هذه المجموعة بلقبٍ لم يمنح لغيره وهو "السلطان". ليكون بذلك سلطاناً على المدينة وسلطاناً على أوليائها في الوقت نفسه، وهو لقب لم يمنح لغيره من أقطاب مدينة تونس على شهرتهم كأبي سعيد الباجي، وكأنه رجع صدىً من زمن سحيق حاز فيه الرجل سلطة حقيقية على مصير المدينة وحياة ساكنيها.
واستمر ذكر محرز وتذكره حتى العصر الحديث. ففي سنتي 1991 و1994، أنتج المخرج المسرحي التونسي فاضل الجزيري عرضين موسيقيين ضخمين: "النوبة" وخصصه للموسيقى الشعبية التونسية و"الحضرة" للسماع الصوفي. حضر محرز بن خلف في كلا العملين. ففي الأغنية الافتتاحية للنوبة "نمدح الأقطاب"، تغنى لطفي بوشناق "بمحرز سلطان". أما في الحضرة فحظي محرز بمدحة "ماك السلطان" الخالصة لذكره وحده، والتي اختارها الشيخ عبد الرحمن بن محمود، أحد كبار منشدي فرقة "سلامية بن محمود"، من التراث الشفوي لمريدي زاوية محرز بن خلف. وعلى خلاف غيرها من مدائح الأولياء، ركزت القصيدة على إبراز محرز "مولى المدينة" حاكماً عادلاً ومطلق السلطة:
يا نجل خلف مولى المدينة قدرك مشرف سلطان تحكم
حكمك منصف والحكم جاري على الإنسان والجان
وبالعودة قليلاً للوراء نجد أن هاجس حفظ الدور التاريخي لمحرز بن خلف، حتى لا يضيع وسط الخرافات الشعبية المنسوجة حوله، ظلّ شغلاً شاغلاً للنخب التونسية. ولا أدلّ على ذلك من كتاب "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" الذي كتبه المؤرخ الوزير أحمد بن أبي الضياف سنة 1872. في القسم الأول من كتابه الذي خصصه لسرد تاريخ البلاد التونسية العام، أفرغ المؤلف صفحات للولي بين الأمراء والولاة مبرراً ذلك بأن "بعض عامتنا يعتقدون أنه معلم أطفال فقط" بلا أن يدركوا دوره في "قتل الروافض القتلة المعروفة". وبذلك واصل المالكية، وابن أبي الضياف أحد قلائل فقهاء المالكية المنخرطين في أجهزة الدولة في القرن التاسع عشر، التذكير بأعلامهم.
أما في بلاد الجريد، منطقة الواحات الغنية الواقعة جنوب غرب تونس، فقد صنعت الجماهير والفقهاء رمزَها الخاص وهو الولي أبو علي الحسيني. درس الحسيني الفقه في مدينة تونس في القرن الثاني عشر بعد أن صارت المركز المعرفي المالكي الرئيس إثر تخريب قبائل الهلاليين مدينةَ القيروان، والهلاليون قبائل انتقلت من الجزيرة العربية للشام ثم مصر وباقي شمال إفريقيا. وفي أوج الصراع السياسي بين أمراء دولة الموحدين، وهي دولة إسلامية أسسها الموحدون من سلالة الأمازيغ من 1121 إلى 1269، وخصومهم في شمال إفريقيا، غادر الفقيه الحسيني تونس نحو موطنه الأصلي "نفطة" في بلاد الجريد. وهناك قضى في آخر حياته سنة 1213 على المذهب الإباضي السائد في المنطقة وحوّلها إلى المذهب المالكي وعرّبها لغوياً كذلك.
وهناك إشارات قليلة، وإن بخجل، إلى أن بلاد الجريد لم تكن فضاءً للصراع المالكي الخارجي فقط، بل إن المنطقة حافظت على بقايا حضور الوجود الشيعي الذي نجا من حملات التطهير في الشمال. ويبدو أن كثرة التنوع الديني في المنطقة، سنة وخوارج ويهود ومسيحيين، وكذا التعدد اللغوي، أمازيغية وعربية وبقايا لاتينية، وفر فرصة للاختباء لعدد من الشيعة. خاصة وأن نفطة كانت قديماً معقلاً من معاقل تسرب الدعاية الشيعية الفاطمية. إن استمرار المذهب الخارجي في المنطقة، حسب ما يشير إلى ذلك صالح باجية في كتابه "الإباضية بالجريد" المنشور سنة 1976، كان يمثل حساباً معلقاً منذ خيانة الإباضيين للمالكية في ثورة مخلّد في القرن العاشر، كان لابدّ لهم من تصفيته.
ولما انطلقت حركة الفقيه أبي علي الحسيني المنتسب لآل البيت، جرفت فيما جرفت من مظاهر التعددية السابقة الوجود الشيعي للأبد. ولعل هذا ما جعله يحوز في النهاية لقب "السني" الذي مازال ملازماً لاسمه بين الخاصة والعامة لنجاحه في ترسيخ المذهب، بعد قرنين ممّا وقع في الشمال. وعلى غرار محرز ابن خلف، اختار الجريديون تتويج الحسيني على رأس كل الأولياء والصالحين في المنطقة وعدوه "سلطان الجريد"، الذي يتغنى بذكره المدّاحون حتى اليوم، لأنه "سلطانٌ حربته مسمومة" تجاه كل الخصوم على السواء وأباً روحياً أسهمت حركته في ضم منطقة ظلّت عصية قروناً على الأرض الإفريقية الموحدة مذهبياً.
يبدو أن المالكية القدماء، ومع غياب عادة تشييد المقامات والأضرحة الضخمة في أيامهم، سعوا لتثبيت ذاكرتهم على الأرض بحفظ قبور شهداء الصراع. فتجول ابن ناجي مثلاً مع شيخه البرزلي بين أطلال مقابر القيروان لم يكن فقط من أجل الترحم والتبرك بالراحلين، وإنما كان غرضه الأساسي توثيق قبور المشايخ من أمثال قبر سليمان القاضي الذي افتخر الشيخ باكتشافه و"إشهار معرفة قبره شهرة تامة".
ولم يقتصر الأمر على الشيوخ، إذ نقل ابن ناجي أن عامة سكان المدينة كانوا إلى حدود عصره يشيرون إلى حوطة صغرى ويقولون عنها "هذه قبور الشهداء"، أي قبرا أول فقيهين قتلهم الفاطميون وهما ابن البرذون وابن هذيل. أما من درس قبره وضاع فقد حظي بمزار رمزي، مثل بطل المحنة ابن التبان. فقد جرت عادة ابن ناجي كلما دخل مقابر المدينة أن يصيح بصوت عال: "رحمك الله يا أبا محمد". واللافت اليوم أن أحد أشهر قبور مقبرة الجناح الأخضر والمسمى "قريش التاريخية" في مدينة القيروان والذي مازال محفوظاً ومعلوماً لليوم هو القبر المعروف "بقبر حفيدة الفاروق" والمنسوب لزينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، والتي ولدت وماتت صغيرة في ذلك الموضع قبل التأسيس الفعلي لمدينة القيروان. ولعل نجاح أهل المدينة في حفظ هذا القبر مع كل مظاهر العداء، أو على الأقل منع الاحتفاء بشخصية الخليفة الثاني طوال الفترة الفاطمية والزيرية، كان محاولة من أهل المدينة ربطَ أنفسهم بأثر مادي مع رموز المذهب السني.
ومع ما بقي من قبور جبّانات القيروان التاريخية، حفظت مساجد المدينة وخلواتها إلى اليوم ذكريات أشد ارتباطاً بما وقع داخلها. خاصة في منطقة "المر الفوقاني" داخل المدينة العتيقة، حيث يقع مسجد أزرق صغير لا يتجاوز حجمه غرفة مصلى. ومع صغر حجمه، فقد حظي أكثر من غيره بأسماء عدة مثل "محراب الدم" و"مسجد الذبيح" و"مسجد الشهيد"، وخاصة "مسجد خلوة بن خلدون". وهي جميعاً أسماء تشير لما وقع داخله إثر أحد صلوات العصر، حين اقتحمه عدد من بقايا الشيعة واغتالوا علي بن خلدون الفقيه الذي قاد الثورة الكبرى ضد الشيعة سنة 1016.
أما الفقيه ابن خيرون، فقد كرّمه القيروانيون إذ نسبوا إليه تأسيس مسجدين داخل المدينة العتيقة. أحدهما يحمل واجهة بالخط الكوفي هي من الأقدم في شمال إفريقيا، والثاني فقد نقش على واجهته نقش حديث، يرجّح أنه أُضيف في العقود الأخيرة: "هذا مسجد الفقيه ابن خيرون [. . .] الذي نافح عن أهل إفريقية". وحافظ أهل المدينة على مسجد أسسه الفقيه أبو بكر الخولاني، أحد المساهمين في الضغط على المعز بن باديس من أجل قطع العلاقة مع الفاطميين، إذ تحدث ابن ناجي أن مسجده "مسجد كبير قرب سور البلد بحارة الغرانطة، إذا دخلته ترى فيه أنوارا وهيبة تعرف أنّه مسجده".
أما خارج القيروان، فإن مشاهد الصراع ومعالمه الماثلة اليوم تتشتت عبر المجال وتتجسد في الأضرحة ومقامات المشاركين في الأحداث. فعلى سبيل المثال، تحولت قبور كل من سيدي محرز أو سيدي بوعلي السني إلى مزارات ثم إلى زوايا صوفية مشتملة على عدة مرافق. وحتى المشاركين في الأحداث من بعد مثل أبي إسحاق الجبنياني، الذي اختار الاستقرار في مدينته جبنيانة في منطقة صفاقس، ونشر الدعاية المناهضة للشيعة، تحول قبره لمزار ثم لزاوية ضخمة مازالت محفوظة.
وبالعودة لزاوية سيدي محرز في مدينة تونس والتي كانت في الأصل منزله وكتّابه ومقر محكمته التي عقدها لتتبع الشيعة، ساعدت الأحداث في إعادة الهالة التقديسية عنه وعن سيرته. فأثناء سقوط المدينة بأيدي الإسبان سنة 1573 وتخريبها فيما عُرف بوقعة الجمعة، نقل أبو عبدالله القيرواني بكتابه "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس" المكتوب في القرن السابع عشر: "أن مقام ابن خلف كان هدفاً أساسياً للمهاجمين الذين نبشوا الضريح ولم يجدوا فيه غير الرمل". فُسِّر ذلك فيما بعد بركةً وصوناً ربّانياً لرمز المدينة. الرمز الذي سعت السلطات الحاكمة على التوالي، من الحفصيين الأمازيغ إلى المراديين ثم الحسينين الأتراك في العصر الحديث، إلى إبداء احترامه وإجلاله بإعادة بناء زاويته وتجديدها دورياً.
ولكن المثير أكثر هو استمرار حضور ما قام به ابن خلف في الأذهان، وانعكاسه على تسميات مدينة تونس الحديثة وتطورها. احتفى مثلاً أحد قيادات حركة النهضة الإسلامية بعد ثورة 2011 إذاعياً بشخصية ابن خلف، ثم انتشرت على موقع فيسبوك تدوينة تربط بين تسمية أحد الأسواق العتيقة وهو سوق البِركة وبين إبادة الشيعة. زُعم أن السوق تحول لبركة من دماء قتلى الشيعة ومنها اتخذ تسميته. إلا أن هذه القصة ليست صحيحة، فالسوق لم يبن أصلاً إلا مع القرن السابع عشر. أما تسميته فترجع لارتباطه بتجارة الرقيق في تلك الفترة، كما أشار إلى ذلك جان لوران في كتابه "أسواق مدينة تونس" المنشور سنة 1938.
وقد تسربت هذه القصة المختلقة للأبحاث العلمية وتحديداً مع دراسة صلاح الدين العامري عن "الوجود الشيعي في تونس" المنشورة سنة 2024. وربما أحد أسباب ذلك يعود للخلط بين بركة دم أخرى، مرتبطة بالقيروان، ومجزرة أخرى قتل فيها المعز بن باديس ما يناهز الثلاثة آلاف شيعي إثر محاولة اغتياله في موضع عرف بعد ببركة الدم.
ومع غياب هاجس "التهديد" الشيعي المعاصر، خفت الإجلال المالكي القديم لمعالم محنة أهل المذهب ثم انتصاراتهم التذكارية. وتحول عند عامة الناس إلى احتفاء مباشر بسيط وسطحي، مثل قراءة الفاتحة على قبور أبطالهم من باب احترام الموتى لا غير، وزيارة زوايا المشهورين منهم طلباً للبركة واستجابة الدعاء. وأما مساجدهم، معاقل الثورة المقاومة القديمة، فقد صار يصلى فيها كغيرها من المساجد.
أحد هذه الشظايا موجود في قائمة الأعياد التونسية الدينية والثقافية، والتي يبدو أنها استقرت في مجملها منذ العصر الوسيط. فقد تحدث الباحث الفرنسي روبار برنشفيك في كتابه "تاريخ إفريقية في العهد الحفصي" المنشورة ترجمته سنة 1988 عن كون المذهب السني السائد قد أقر الاحتفال بعاشوراء عيداً ذا طابع ديني ثالث، إضافة إلى عيدي الفطر والأضحى. ويبدو أن هذا اليوم المرتبط لدى الشيعة بذكرى مقتل الحسين قد كرس قبل المولد النبوي بكثير. ومع ذلك فإن هذا العيد ظل غير محدد المعالم وغامضاً في المجال الإفريقي ممّا ساهم في تسرب عدد من الطقوس الشعبية الريفية أو الحضرية يعزوها المؤلف صراحة إلى "التأثيرات الشيعية التي فعلت مفعولها" في هذا السياق وتواصلت حتى اليوم. ومن مظاهرها مثلاً ذبح الدجاج، والذي يبدو أنه لم يعد ذا خصوصية هذه الأيام، وإيقاد النيران الضخمة والاحتفاء بها في مدينة قابس، ووضع كحل مخصوص وطبخ البيض في مدينة قفصة.
هي عادات يبدو أن الرحالة السنّة القادمين من مناطق أخرى مثل ابن الحاج المغربي ظلوا عاجزين عن تحليلها في سياق سني عادي، ودون ردّها للسياقات الشيعية الإفريقية أو المصرية الأولى. وذلك على عكس المؤرخين المحليين الذين لم يتوانوا عن الربط وعقد المقارنات بين عادات التونسيين في تبجيل آل البيت والتصورات الشيعية. ولم يكتفوا بتقديمها على أنها متأثرة بالتصورات الفاطمية، ولكن أحياناً يرونها تحدياً لها. فأهل تونس محبون لآل البيت ولا حاجة لهم لتبني مقولات شيعية مغالية. وعن ذلك كتب المؤرخ ابن أبي الضياف، صاحب كتاب "الاتحاف"، في معرض حديثه عن نشوء الدولة الفاطمية. إذ قال "وأهل إفريقية يدينون بحب علي وآله، يستوي في ذلك عالمهم وجاهلهم، حتى أن نسوانهم عند طلق الولادة ينادون: يا محمد! يا علي!".
ومن الشظايا الأخرى اللباس النسائي في تونس. ففي مناسبات عدّة، رُكن لهذا الصراع البعيد من أجل تحليل اختلاف هذا اللباس وتنوعه. اعتادت مثلاً نسوة كل قبيلة أو مجموعة من القبائل القريبة من بعضها على ارتداء "ملية" أو "حِرام"، وهي قطعة قماش ضخمة تلفها المرأة على كامل جسدها وتشدها في وسطها عبر حزام صوفي وقطعتي حلي في الصدر، تختلف زخرفته حسب القبيلة. وعليه تكفي مشاهدة الملية الموشّاة بالورود حتى يدرك المرء أن صاحبتها تنتمي لقبائل ماجر أو الفراشيش.
ولكن التساؤل حام حول اللون الأسود الذي اختارته بعض قبائل الوسط التونسي، وتحديداً الهمامة وبدرجة أقل المثاليث، لوناً لملية نسوتها. ولتفسير هذا الغموض اقترح الباحث سعيد الهبائلي في كتاب من جزئين عنوانه "كشكول الجريد" المنشور سنة 2008، نظرية مفادها أن جذوره تعود للقرن الحادي عشر الميلادي، وتحديداً للقبائل السليمية والهلالية قرمطية المذهب التي أرسلها الخليفة الفاطمي المستنصر عقاباً للمعز بن باديس على تركه المذهب الشيعي وإعلان استقلاله عن الدولة الفاطمية سنة 1047. ومع انتصارها، انتشرت هذه القبائل في إفريقيا ولكنها لم تحافظ على مذهبها القديم وتحولت للمالكية، ولم يبق لها من رواسب تلك المرحلة سوى لبس السواد. مثل نظرائهم في واحات الجريد الشيعية القديمة، نفطة وتوزر، حيث تمثل الملحفة السوداء قطعة أساسية ترتديها النساء مع اختلافات بسيطة في الطريقة.
في مناظرة بثها برنامج "للتاريخ" على قناة التاسعة التونسية في مساء 21 ديسمبر 2021 بين السني المالكي بدري المداني والشيعي أحمد سلمان، بدأت الحلقة بحديثٍ ودّي عن المواطنة وحرية الضمير والتقريب بين المذاهب والأديان. ومع هدوء النقاش، كان يمكن ملاحظة وجود نقطة يصل عندها المتحاورون الثلاثة بلا أن يخوضوا فيها وهي تاريخية الوجود الشيعي في تونس.
وعندما اشتد النقاش، طرح أحمد سلمان المسألة وكأنها ورقة مخفية لوقت الحاجة. انطلق يسرد الأمثلة والقصص عن تنكيل المالكيين والسلطة الزيرية بالشيعة مستشهداً بكتب السنة المحليين أو الناقلين عنهم. بعد سرد أمثلته، بدا أن سلمان بات المهيمن على المناظرة وأن خصمه صار في موضع الدفاع. استشهد سلمان بنصوصٍ أصحابها مبجلون سنياً مثل القاضي عياض، وبالتالي فإن الطعن فيها طعنٌ في تلاميذهم، وخصوصاً محرز بن خلف. كرر سلمان على خصمه سؤاله: "هل تدين من قتل هؤلاء؟"، ثم "هل تدين محرز بن خلف؟". لم يكن أمام السني إلا اللجوء إلى التبرير واختلاق الأعذار خاصة مع غياب الإلمام الواضح بتلك الحقبة وما كتب عنها. وعندما حاول المذيع بسيّس الإشارة إلى التنكيل الفاطمي بفقهاء المالكية المذكورة في كتب التاريخ المحلي، رفضها سلمان لأنها صادرة عن مؤرخين غير موضوعيين.
يطرح هذا المثال طريقتين موجهتين لإعادة قراءة هذا التاريخ ومراجعة هذه الرواية المالكية عن ما جرى. الأولى طريقة سلمان الذي وظف النبرة الاحتفائية المالكية المبثوثة في كتب التاريخ المحلية بالمجازر إلى أدلة اتهام. والثانية فهي طريقة المداني الذي حاول التهوين منها والتغافل عنها. فحسب توصيفه تحوّل محرز بن خلف من قائد للثورة المالكية على الفاطميين، ومن سلطان المدينة ورجل الصلاح الأسطوري ذو الكرامات التي لا تنتهي، إلى مجرد مصلح اجتماعي لم يشرف على مجازر ولم يقد ثورة، بل اقتصر دوره على توعية الناس بمخاطر المذهب الشيعي. ولئن كان هذان الموقفان محملين بالأدلجة، إلا أنهما يفتحان باب إعادة قراءة هذا التاريخ ومراجعة تلك الرواية بما يتجاوز الإدانة والدفاع إلى التعلّم من دروس الماضي وفتح أبواب المستقبل. طريقة يكون فيها محرز بن خلف مجرد إنسان له ما له وعليه ما عليه، صادفت الظروف أن يساهم في تاريخ تونس.
