استمع لهذه القصة
هكذا عاش أحمد واقعَه اليوميّ قبل أن يقرّر الهجرة. يضيف: "في حيّ هلال، الهجرة ماهيش رفاهية، بالعكس هي حاجة ضرورية باش نهربوا من الفقر اللي نعيشوا فيه". واقِعُ أحمد ليس حالةً فردية، بل هو حالُ آلاف الشباب القاطنين في الأحياء الشعبية في تونس العاصمة؛ إذ يوصَمون بالنزوع للعنف، ويُسامُون "الحُقْرَةَ" وهي كلمةٌ تونسيّة انتشرت في العقود الثلاثة الماضية وتعني الاحتقار، وتَختصر مفاهيمَ عدّةً كالإقصاء والنبذ والتهميش والعزل الاجتماعي، وكلُّ ذلك مقرونٌ بالفقر وبؤس الحال.
أبناء الأحياء الشعبية مِن أمثالِ أحمد كان لهُم أثرٌ كبير في إسقاط نظام زين العابدين بن علي سنة 2011 في ثورة الياسمين التي أضرمها محمد البوعزيزي، احتجاجاً على احتقار الشرطة الدائم له. أبناء هذه الأحياء أسهموا في إيصال حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي للحكم في السنة نفسها، وهم أيضاً مَن عَوّل عليهم رئيسُ تونس قيس سعيد للوصول إلى السلطة في 2019. ومع ذلك تعاني تلك الأحياءُ من التهميش والعزلة، ويدفع شبابُها ضريبةَ الانتماء إليها.
تدفع الحُقْرَةُ الشبابَ إلى الهجرة، لذا فقد باتت جزءاً من القاموس السياسي والاجتماعي وحاضرةً في الاحتجاجات. والحُقرة ليست مصطلحاً حديثاً خلقته الأحداثُ السياسية والاجتماعية في العقود الفارطة، بل هي امتدادٌ لإقصاءٍ قديم واحتقارٍ لسكّان البوادي والأرياف والمدن البعيدة عن العاصمة؛ إذ سُمّي هؤلاء "قَعَارْ" أي منحطّين و"هُوكِشْ" أي غير المتحضرين و"اجْبورَة" أي حمقى، وقد أدّت مركزيةُ السلطة في تونس منذ القرن السادس عشر لخلقِ معجمٍ كامل من الألفاظ الدونية والتحقيرية حَرمت أبناءَ المناطق والأحياء الشعبية من تقلُّد أيّ منصبٍ سياسي.
غدت هذه الكلماتُ الاحتقارية المتوارَثة أشبهَ بفكر دولة. لكنّ مَن يشملهم وصفُ "الحقرة" في الأحياء الشعبية تبنّوا هويةً جديدة وعبّروا عنها بعد تأثرهم بالحركات الثقافية التي أنتجها المهمَّشون في المجتمعات الغربية. وكانت موسيقى الراب مِن صُور ذلك التعبير. فقد نشر فريد إكْسْترانِخيرو سنة 2005 أغنية "اعْبَاد في التِّرْكِينَة" (مجتمع في زنزانة) أحدثت نقلةً في تاريخ الراب التونسي. فريد، ابنُ الجبل الأحمر، وهو من أكبر الأحياء الشعبية في تونس، تحدّثَ في أغنيته عن الحقرة وقمع الشرطة والظلم الذي يُسامُه أبناءُ الأحياء الشعبية.
تنطلق الأغنية بحوارٍ مسجَّل بين فريد وأحد جيرانه، عندما يقترح عليه الذهاب في جولةٍ خارج الحيّ "برّا خويا نِعْملو دورة" فيرفض فريدٌ دعوتَه للحملات الأمنية التي تقوم بها الشرطة على أبناء الأحياء الشعبية قائلاً: "لا لا خويا، هاو الواحد امْبَنِّك قُدَّام الدَّار، الوحش ولا الأذى ... هاو الزّْنوس (في إشارة إلى الشرطة) يلمّوا فيها على بعضها، هاك تْشوف".
أشعلت الأغنيةُ ثورةً، وباتت نشيداً لأبناء الأحياء الشعبية يواجِهون به قمعَ الشرطة. وحضنت تلك الأحياءُ فنَّ الراب وأنتجت قاموساً خاصاً بها، قوامُه: "نحن" أبناء الأحياء الشعبية و"هُم" سكان المناطق الراقية. ولّدَ هذا الفصلُ نوعاً من الصراع الخفيّ، إذ يرى أهلُ الأحياء الراقية أبناءَ الأحياء الشعبية مجرمين ومتربّصين ربّما، بينما يراهم أبناءُ الأحياء الشعبية أصحابَ امتيازات وأنّ ثراءَ عائلاتهم كان نتيجةً لجهد أبنائها وعَرقهم.
اكتشفتُ في خضمّ بحثي في موضوع الأحياء الشعبية أنّ تلك الأحياء لم تلْقَ حظّاً من الدراسة والتغطيات الصحفية، مع حضورها في جلّ التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدَتها البلادُ في تاريخها المعاصر. ومع الجهل بتاريخ نشوء الأحياء الشعبية في تونس، لكنها قد تكون امتداداً للأرباض (أحياء سكنية تقع قرب أسوار المدينة) مثل ربض باب الجزيرة وباب سُوِيقَة، وهي أحياءٌ كان يسكنها الآفَاقِِيّونَ – من الآفاق وهي تسمية تطلق على القادمين من أقصى البلاد سابقاً في تونس – والنازحون من الأرياف والجهات الداخلية والمهمَّشون من القاع الاجتماعي. وكان التقسيمُ العمرانيّ في مدينة تونس في عهد البايات على ثلاثة مستويات. الأوّل مركز المدينة، يسكنه شيوخ الدين وأبناء العائلات العريقة وكبار قادة الجيش والأثرياء. والثاني الأرباض، تحوي الفقراء والمهمشين وصغار الكسبة. والثالث حارات اليهود، وتقع خارج سور المدينة.
تأسست الأرباض زمنَ الدولة الفاطمية في تونس في القرن العاشر الميلادي، بعد تأسُّس حيّ الْملاسين وحي الحَفْصيَّة اللذَين كان يقطنهما اليهود الممنوعون من السكن في المدينة. لاحقاً في عهد الحاكم الزّيري المعز بن باديس بداية القرن الحادي عشر، شهدت الدولة احتجاجاتٍ قادَها الشيعةُ الذين لم يرضوا عن بقاء المذهب المالكي مذهبَ الناس في تونس، فشنّ مِحْرِز بن خلف المعروف بسيدي محرز – وهو يعدّ من الأولياء الصالحين اليوم – بإيعاز من والدة الحاكم الزيري حملةً قتل فيها كثيرا من الشيعة ونفى من بقي منهم للسكن في الحفصية نكايةً بهم واستفادةً من تجارة اليهود الذين أسكنَهم في الأرباض نفسها.
وفي منتصف القرن الحادي عشر زحفَ بنو هلال مِن شِبه الجزيرة العربية إلى البلاد التونسية، مما دفعَ أهالي الدواخل التونسيّة في الجنوب والجنوب الغربي إلى النزوح نحو مدن الساحل الشمالي ولا سيّما تونس. ارتفعت الكثافة السكانية حينَها وأصبحت تلك المدن عاجزةً عن استيعاب النازحين كلِّهم إليها، فأخذ هؤلاء في بناء مساكن تحت أسوار المدينة. وهكذا تشكلت أرباضٌ ذاتُ كثافةٍ سكانيةٍ تعاني الفقرَ والتهميشَ على تُخوم المدن والمراكز في الساحل والعاصمة. تطوّرت القصّةُ عبر تاريخ تونس المعاصر إلى أن باتت تلك الأرباضُ بعد مرور عدّة قرونٍ أحياءً شعبية.
بمرور الوقت، ازداد عدد الساكنين في العشوائيات وتفشّى الفقر والأوبئة مثل حمّى التيفوئيد والطاعون الأكبر والكوليرا، فأدّى كلُّ ذلك إلى تهجير سكّان الأحياء القصديرية وهدم العشوائيات التي عاشوا فيها حتّى سنة 1929 ليجد سكّانُ العشوائيات في الأحياء الشعبية خياراً مناسباً للسكن. باتت تلك الأحياءُ المتشكّلة حَذْوَ قلبِ العاصمة تَستقطب عشراتِ المهمَّشين وصغار الحرفيين، وصارت وجهةَ باقي النازحين، خاصّةً مع وجود روابط عائليةٍ قويّة بمن نزحوا في السابق.
مع دخول الاستعمار وتغيُّر العلاقات الاقتصادية تحوّلَت الأحياءُ الفقيرة التي تُؤوي صغارَ الكسبة إلى ما يُعرَف اليومَ بالأحياء الشعبية. وتغيّرت العلاقةُ بين العامل وصاحب العمل، فتحوّلت المخامسية – أي العمل مقابل الحصول على خُمس الإنتاج الزراعي – إلى أجرٍ يوميّ يحصل عليه العاملُ لقاءَ عمله في مصنع. وبهذا خَلَقَ المستعمِرُ طبقةَ عمّالِ مَصانع كتلك التي أنتجتها الثورة الصناعية في بلاده. فشهدت تونس من عام 1881 صناعاتٍ تحويليةً وتشييداتٍ احتاجت إلى الكثير من العمّال.
أسهمت الضربات التي تلقّتها القبائل والأرياف في نموّ أحياء العمّال تلك؛ إذ قرّرت سلطاتُ الاستعمار تحويل مدنٍ مثل مدينتَيْ مِدْنين وتَطاوِين في الجنوب التونسي إلى مناطقَ عسكرية، ما أَجبَر القبائلَ البدوية على الهجرة إلى العاصمة ووجدوا في حيّ هلال والملاسين وسيدي حسين موطئ قدم. في البداية، كانت موجةُ النزوح إلى تلك الأحياء محدودةً، لكنها تكثفت تدريجياً حتى ثلاثينيات القرن الماضي حين أضحى حيُّ هلال أكبرَ الأحياء الشعبية في تونس.
بدأت قصّةُ الحيّ مع بداية العقد الثاني من القرن الماضي. حينها كان مجرّدَ قطعة أرضٍ واسعة تملكها امرأةٌ تنحدر من إحدى العائلات العريقة من جهة الساحل. ولِجهلها بالمنطقة وَكّلَت رجلاً ليتصرّف فيها ويبيعَها، كان ذلك الرجلُ يلقّب باسم "قِرِّيش" وهو أحد صعاليك تونس العاصمة حينَها. بسط قِرِّيش سطوتَه على الحيّ كلّه وباع قطعاً من الأراضي للوافدين الجدد حتى تمددّ الحيُّ وتوسّع بلا تسميةٍ واضحة. بعضهم أَطلق عليه اسمَ حيّ قِرِّيش. في الرابع عشر من يوليو سنة 1954، تطوّع المجاهد صالح هلال الفِرْشيشي، الذي كان ينتمي إلى الحزب الحر الدستوري – المُسْهِم لاحقاً في نَيل الاستقلال – لقتال الاستعمار الفرنسي في مدينة بِنْزَرت أقصى شمال تونس، ولقي حتفَه إثر اشتباكات مع جيش الاستعمار الفرنسي. أطلقت الدولة التونسية بعد الاستقلال اسمَه على الحيّ الذي كان يقطن فيه، اعترافاً بتضحيته. وعُرِف الحيُّ سنواتٍ بحيّ الشهيد صالح هلال. واختُصِر اسمُ الحيّ بعد سنواتٍ فأصبح حيّ هلال.
يشير المؤرخ التونسي الهادي التيمومي في كتابه "التاريخ الاجتماعي لتونس" إلى أن سكان الجبل الأحمر، على سبيل المثال، تضاعف عددُهم في أشهرٍ معدودة من ستة آلاف عام 1946 إلى اثني عشر ألفاً عام 1947. فقد ورد في تقريرٍ رسميٍّ أصدرَته سلطاتُ الاستعمار الفرنسي بتاريخ السابع عشر من يناير 1948 أنه كان يُبْنى أكثرُ من مئتي "قُرْبي" كلَّ أسبوعٍ بهذا الحيّ القصديري. وقُرْبي كلمةٌ ذاتُ أصلٍ فرنسي، وتعني أكواخاً طينية يغطّيها سقفٌ من القصدير.
يفسر التيموميُ هذا الارتفاعَ في موضعٍ آخَر من مؤلَّفه بأن النازحين يميلون إلى السكن حيث يسكن أهل مناطقهم الذين نزحوا قبلهم؛ إذ تعيش عائلاتُ المنطقة الريفية أو البدوية الواحدةُ في مكانٍ واحد داخلَ الحيّ فينقلون معهم عاداتِهم وقِيَمَهم وأحقادَهم وأنماطَ معيشتهم. هكذا اضطلع هذا النزوحُ الريفيّ بدَوْرٍ كبير في عدم تجانس هؤلاء الوافدين الهامشيين سواءً في الملامح الاجتماعية أو الملامح الثقافية والقِيَمية. فقد تمسّك كثيرٌ من أولئك الوافدين بعاداتهم وتقاليدهم وإرثهم الثقافي، ما يفسِّر وجودَ تشكيلاتٍ قَبَليةٍ وجِهَوية في الأحياء الشعبية. فمثلاً يقطن أبناءُ قبيلة الفْراشيش، المنحدرة من الوسط الغربي التونسي، في حيّ النور بمحافظة بن عروس جنوب تونس العاصمة، بينما تعيش قبائلُ المثاليث وأولاد عيّار المنحدرين من الشمال الغربي لتونس في حيّ هلال.
علي المولهي، البالغُ ثمانيةً وسبعين عاماً، من سكّان الحيّ الذين عاصَروا كلَّ التغيّراتِ التي طرأت فيه، يَستحضر تلك التغيّراتِ قائلاً: "وقت تُولِدِتْ، لْقِيت الحيّ موجود، الحقّ ما كانش هَكّا فوضى ومليان عْباد، ولكن زادَة الماضي ما كانش مِزْيان، المرافق اللي تشوف فيها كيف الضوء والمياه والصرف الصحي خلطت لحي هلال في الثمانينيات، وهذي فترة متأخرة جداً وقت تقارنها ببقية أحياء وحْوَم العاصمة".
بعد استقلال تونس سنة 1956 تزايدت كثافةُ النزوح إلى حيّ هلال، لا سيّما في السبعينيات، لانهيار تجربةِ التعاضد التي هندسَتها السياسةُ الاشتراكية المتبنّاة في تونس بدايةَ الستينيات. ارتفعت كثافةُ السكان بعد ذلك لافتقار الأرياف وتمركز الخدمات والصناعات وفرص الشغل في العاصمة والمناطق الساحلية على حساب المناطق الداخلية. أدّى ذلك إلى ظهور ما سيُعرَف بسكن "الوكالات" وهي فنادقُ رخيصةٌ مخصّصة للنوم فقط. يرى الباحثُ فرج سطمبالي في ورقته البحثية المُعَنْوَنة "إعادة تأسيس الحياة الحضرية والاجتماعية في المغرب العربي" أنّ نهجَ دولة الاستقلال الناشئة في تعاملها مع :"السكن الشعبي" كان وفق سياسة التطهير التي قامت على عمليات إجلاء سكّانه وإعادتهم إلى أريافهم التي جاؤوا منها، وذلك من منطلَق إبراز "قوة الدولة" للحفاظ على الوجه الحديث للمدينة. لكن سرعان ما استبانت حدود تلك السياسة؛ إذ عَرفت فترةُ السبعينيات، على عكس المتوقع، انفجاراً ونموّاً خارجاً عن السيطرة للسكن الشعبي على أطراف المدن الكبرى.
وفي لقاءٍ أجريتُه مع فؤاد الغربالي، الباحث في علم الاجتماع بجامعة قفصة، قال لي بأن بقاء الجزء الأكبر من مجتمعات الأحياء الشعبية على هامش "المجتمع الحضري" في عالَمَي العمل والاستهلاك مَرَدُّه إلى رغبة تلك المجتمعات في الحفاظِ على مجالها الاجتماعي الخاصّ في أحيائهم التي غالباً ما بُنِيَت بعيداً عن الرقابة الرسمية للدولة أو بتواطؤٍ منها. وتُعَدّ تلك الأحياءُ متمرِّدةً على معايير التخطيط العمراني، فتُسمّيها الدولةُ "أحياء السكن الفوضوي"، وتسمّيها وسائلُ الإعلام التونسية "أحياء السكن السرّي". وفي الحالتَين فإن تلك الأحياءَ مرتعُ "اللاشكليّ" وكلِّ ما هو غيرُ مهيكَلٍ أو رسميٍ في نظر السلطة.
كرّس الفقرُ والتكدّسُ السكاني والتهميشُ التاريخيّ صورةَ حيّ هلال في المخيال الجمعي بؤرةً للجريمة والإدمان والسرقة والنشل والمنحرفين والعاطلين عن العمل، وهو ما تمخضّ عن مفهوم "الحُقرة". يقول أحمد، القاطنُ سابقاً في حيّ هلال، إنه عاش ثلاثَ تجارِبَ مختلفة في أثناء مكوثه في الحيّ. فقد كان صاحبَ سوابقَ عدليةٍ تتعلق بالنشل والسرقة والاعتداء على مُلك الآخرين قبل الثورة. وفي بداية 2011، ومع موجة الصحوة الإسلامية التي عاشها شبابُ الأحياء الشعبية، انضمّ أحمد إلى جماعة أنصار الشريعة، المصنَّفة لاحقاً إرهابيةً. وفي النهاية، اختار "درب الحَرْقَة" أو الهجرة غير النظامية ليصل إلى الضفة الشمالية من المتوسط نحو فرنسا. لا يجد أحمد غرابةً في كل هذه التجارب إذ يقول: " وقت نقول لي أنا من حي هلال نتقابل بالحقرة والخوف، هاكّا علاش ما لقيتش خدمة، كنت مخيّر بين البطالة ولا السرقة، مانيش قاعد نبرر الحاجات لي عملتها ولكن هذا هوّا الواقع. مْبَعِد وقت جات الثورة وانتشرت السلفية، فكرت اني نتوب، خاصة انه لقيت ناس تتقبلني وتستوعبني وحْكات معايا، هاكا علاش انخرطت مع جماعة أنصار الشريعة، ولكن الحكاية ما دامتش برشا حتى تجاوزوني وخرّجوني من غادي. بقيت من غير أي مستقبل مدّة طويلة حتى قررت نُحْرُق [أي أهاجر]كيف باقي اندادي".
تَكشفُ هذه المساراتُ الثلاثُ المختلفة والمتشابكة فيما بينها محدوديةَ الخيارات في الأحياء الشعبية، وتوضح أن ترف الاختيار ليس متاحاً دائماً كما تزعم النخبُ المثقفة أن سكان هذه الأحياء يعانون نتيجة خياراتهم السيئة.
يكفي إلقاءُ نظرةٍ على الحيّ لمعرفة المآسي التي يعانيها؛ المنازل المتلاصقة والبناء العشوائي وغياب الطرقات المعبّدة. حيٌّ يغيب عن الصورة الرسمية لتونس العاصمة التي تتداولها المؤسسات والهيئات الرسمية. مع أن المسافة بينه وبين القَصْبَة، مقر رئاسة الحكومة، لا يتجاوز خمسمئة متر، ومع ذلك سقطَ من حسابات واهتمامات الحكومة، على حدّ تعبير سكان الحيّ.
يخلق نمطُ العيش في الأحياء الشعبية في العاصمة سلوكياتٍ ثقافيةً وهويّةً مغايرةً للسائد. يتعزّز هذا مع الحقد المتولِّد من قمع الأجهزة الأمنية لشباب الأحياء تلك؛ إذ تستهدفهم في الأماكن العامة عند وجودهم في مركز المدينة دون غيرهم للتثبّت من هويتهم بسبب أسلوب ملابسهم أو تسريحة شَعرهم المتأثّرة بنمط عيش المراهقين الجزائريين والتونسيين المولودين في فرنسا. ويمتد هذا الاستهداف إلى مدرجات ملاعب كرة القدم أو يأتي على هيئة مداهماتٍ روتينيةٍ على الأحياء الشعبية.
تيتو شابٌّ في بداية الثلاثينيات من حيّ هلال يعرّف عن نفسه بهذه الكنية التي يناديه بها أهلُ الحي. يقول إنه لا يعدّ نفسَه تونسياً. يوضح ذلك بسرد تفصيلٍ صغير من حياته اليومية، إذ تنقطع المياه الصالحة للشرب في حي هلال أحياناً مدّةَ ثلاثة أيامٍ بلا اهتمامٍ أو توضيحٍ على حدّ تعبيره. ولا ينسى تيتو ذِكرَ مفارَقة نشر الشركة التونسية لتوزيع المياه بياناً قبل يومٍ أو يومين تُعْلِمُ فيه سكّانَ الأحياء الراقية بأنها قد تقطع المياهَ لمدة نصف ساعةٍ وتتوجّه لهم بالاعتذار. يضيف تيتو قائلاً: "وقت نُهْبُط لوسط البلاد، الشرطة تجيني أنا وحدي من دون باقي الناس. وفي كل مرّة بعد ما يطلب بطاقة التعريف ويلقى فيها العنوان حي هلال يسألني: من حي هلال، شْقاعِد تعمل هوني؟ في أي مكان نمشيله، سواء قهاوي، البحر، الأماكن السياحية ولا حتى البلدية ما نلقى كان الحقرة".
يكفي مراجعةُ تصريحات النخب السياسية في وسائل الإعلام أو في برامجها الانتخابية حتى تتضح وجهةُ نظرِها عن أبناء الأحياء الشعبية، إذ تَعدُّهم الأحزابُ السياسية والسلطةُ والنُخَبُ المثقفة طبقةً سميكةً متجانسةً واحدة. فتَراهم الأحزابُ خزّاناً انتخابياً أو مفجّراً للحركات الاحتجاجية، ولا يمثّلون في نظر السلطة سوى مصدرَ إزعاجٍ أمني. وتَراهم النُخَبُ المثقّفة التقليدية باستعلاءٍ وسطحيةٍ أنهم عاطلون عن العمل هدفُهم الهجرةُ إلى أوروبا. تمثّل هذه الآراءُ قصوراً في الفهم ورغبةً سريعة في الوصم.
خلافاً لذلك، لا يُعَدّ أبناءُ الأحياء الشعبية طبقةً متجانسة، بل هم تركيبةٌ مختلطة تضمّ المجموعاتِ المحرومةَ من محدودي الدخل والمُعَطَّلين عن العمل والنساءِ العاملات في أنشطةٍ اقتصادية بأُجورٍ ضعيفة وصغارِ الحِرفيين. يعبّر عن ذلك الباحثُ والكاتب التونسي ماهر حنين في كتابه "مجتمع المقاومة" بأن الأحياء الشعبية شكّلت في تونس فضاءً سكنياً ورمزياً صار الانتسابُ إليه والعيشُ فيه مصدرَ انتماءٍ وتماهٍ مع هويةٍ جماعية، وتنتج منه أحاسيسُ مركَّبة كالتعلّق بالحيّ والانتماء إلى سكّانه حاضنةً جماعيةً متضامنةً تستبطن شعورَ الوصم السلبي الذي يسلَّط عليها من الخارج لتعكسه في وجه مستهدِفيها. وهو ما تشير إليه الأستاذةُ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس تراكي زناد في ورقةٍ بحثية، أن الفضاءات الحضرية الهامشية هي مجال حياةٍ اجتماعية إبداعية، ولا يستقيم النظرُ إليها مجالاتٍ للخضوع فقط، بل يمكن فهمُها أيضاً مجالاً لتعبيراتٍ احتجاجية عدّةٍ تنمُّ عن مخزونٍ رمزيّ وإبداعيّ لا يمكن التغاضي عنه.
لا ينتهي التضامن عند حدود الحيّ، بل يتعدى ذلك ليصل إلى مواضعَ أُخرى. في أوروبا يتضامن أبناءُ الحيّ نفسِه مع المهاجرين الجُدد ويوفِّرون لهم مَسْكَناً وعملاً. وفي السجن الذي يخضع لتنظيمٍ اجتماعيّ كامل تفطّنت إدارة السجون وكانت واعيةً لأهمّية المسألة، وباتت عنابرُ السجن تقسَّم لا حسب خطورة الجرائم وزمن العقوبة، بل على ضوء الانتماء للأحياء والمناطق السكنية.
تَفرض الأحياءُ الشعبية إعادةَ التفكير في المسألة العمرانية في تونس بعيداً عن النهج الأمني؛ إذ من النادر أن يُهتَمّ بهذه الأحياء إلا بصورةِ مهاجَمةِ سكّانِها عند كلّ كارثةٍ طبيعية مثل الفيضانات وانهيار الأبنية، وذلك بتحميلهم نتائجَ البناء العشوائي. يبدو هذا واضحاً في تصريحات وزير التجهيز والتهيئة الترابية السيّد محمد صالح العرفاوي سنة 2018، إذ هاجَم الأحياءَ الشعبية وعدّها نسيجاً للبناء العشوائي. ولكنه أَغفل بناءَ رجال الأعمال والأثرياء في تونس منازلهَم ومجمّعاتِهم السكنيةَ على أراضٍ تاريخيّة وأثريّة يُمنَعُ البناءُ عليها بموجب اتفاقياتٍ بين الدولة التونسية ومنظمة "اليونسكو"، لتكشف هذه الظواهرُ عن مزاج الدولة وطريقة تفكيرها، فهي تُجرِّم البناءَ العشوائيّ في الأحياء الشعبية وتغضّ النظر عنه في غيرها.
خلافاً للدستور التونسي الصادر سنة 2014، الذي تضمّن اثني عشر فصلاً عن مسألة "السُلَط المحلّية" ويكرّس لمكافحة المركزية والتهميش سواءً في الأحياء الشعبية أو المدن الداخلية، فإن الدستور الحاليّ الذي أقرّه الرئيس قيس سعيد سنة 2022 لم يتضمّن غيرَ فصلٍ واحدٍ عن الجماعات المحلّية والجهوية، ما يعكس درجةَ اهتمامِ الدولة المتدنّي بالأحياء الشعبية وتعميقَ تهميشها.
لم تتغيّر الحياةُ الآن في حيّ هلال كثيراً. توسّع الحيُّ جغرافياً ورحلَت الأجيالُ التي واكبت الحيّ ورافقَته منذ البداية لصالح مجموعاتٍ أُخرى. بارَحَ بعضُهم منازلهَم وانتقلوا إلى أحياء قد تكون الحياةُ فيها أقلَّ وطأةً وقسوة. وبقي الحيُّ على حاله؛ يجذب ويستقطب المهمَّشين والمحرومين. كل شيءٍ تغيّر، ولكنّ البؤس هو الثابت الوحيد الذي لم يتغير. خلافاً للأعوام السابقة التي كانت تونس تعيشُ فيها شتاءً ساخناً يغلي بالتحركات الاجتماعية والمسيرات والاحتجاجات في الأحياء الشعبية، تبدو هذه السنةُ مِثلَ سابِقتها؛ باهتةً وتخلو من أيّ فوضى أو تحرُّكٍ يُكدِّر مزاجَ الدولة، إذ اختار السوادُ الأعظمُ من أبناء الأحياء الشعبية الهجرةَ غير النظامية بدلَ البقاء هناك أو البقاء هادئِين في الهامش. لكن هل يستمرّ هذا الهدوءُ طويلاً؟