"الخاين يلبس طربوش": فلسطين في حكايات ساعي بريد قبل النكبة

خَبِرَ عبد السلام الطويل، وهو ساعي البريد الذي تنقل بين مدن وبلدات فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، أحداثاً وعايش شخصيات جسدت وعكست واقع وتاريخ فلسطين الاجتماعي في تلك الفترة

Share
"الخاين يلبس طربوش": فلسطين في حكايات ساعي بريد قبل النكبة
الضفة الغربية، رام الله 1934. خدمة غيتي للصور

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

تمتّع عبد السلام إبراهيم سليمان الطويل بذاكرة قوية رغم تجاوزه التسعين عاماً. فالرجل المكنّى "أبو صيام" الذي التقيته أثناء عملي بتوثيق التاريخ الشفوي، حدثني بتفصيل عن طفولته في مدينة البيرة حيث ولد في الضفة الغربية سنة 1929 ثم كلمني عن ذكرياته أثناء عمله ساعياً للبريد في فلسطين في فترة النكبة وعن سفره بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

شكّلت بدايات الثورة العربية ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية عام 1936 ملامح طفولة عبد السلام الذي كان يمر في طريقه إلى المدرسة وهو طالب في الصف الأول أمام أحد مقارّ الجيش البريطاني. كانت ثكناتُ البريطانيين موزعةً في البيرة ورام الله قُبيل إنشاء مقرات مركزية للجيش. ساهم المهندس وضابط الشرطة تشارلز تيجارت ببناء المقرات المركزية في المدن الفلسطينية على طريقة القلاع التي استخدمها البريطانيون لمكافحة الانتفاضات وحركات التمرد في الهند.

كان على عبد السلام أن يمر أيضاً في طريقه إلى المدرسة من أمام مبنى حكومي يحرسه كثير من الجنود، وكان من بينهم جندي اسمه إد الغضبان يخافه الأطفال ويسمونه عيد. كان عيد قصيراً ذو شارب طويل وكانت هوايته شتم طلاب المدارس إذ كان يستقبلهم بشتم العرب ولعنهم. لم يقل عبد السلام شيئاً عن إغضاب الأطفال عيداً ولكنهم كانوا يخططون على الدوام لتجاوزه بسلام، فكانوا يتجمعون ليصبحوا خمسة أو ستة قبل أن يمروا بمعية أحد الرجال الذين بقي عبدالسلام يذكر أسماءهم منقذين للأطفال ومنهم رفعت الشهابي وجميل ورفعت عبد الهادي.

يتذكر عبد السلام أيضاً اشتباكاً بين الثوار وقوات الجيش البريطاني عرف باسم معركة البيرة، إذ قاد الثوارَ حينها أحدُ أهم قادة الثورة في منطقة رام الله وهو محمد عمر النوباني المعروف بأبي شوكت وفصيله من مجاهدي البيرة والمناطق المحيطة. طوقتْ قواتُ الجيشِ الثوارَ بمنطقة الولي الصالح وضربتهم بست طائرات حربية، وكانت الأوضاعُ مشحونةً حينها بسبب العمليات العسكرية الكثيرة التي نفذها الثوار ضد الجيش البريطاني في رام الله والبيرة ومحيطهما بين عامي 1938 و 1939.


بقيتْ شعاراتُ الثوارِ وحكاياتُهم محفورةً في ذاكرة عبد السلام، منها شعار "الخاين يلبس طربوش والحطّة بخمس قروش" وهو شعارٌ شعبي ردده ثوار الريف في فلسطين محاولةً لفرض لباس الحطّة أو الكوفية على رجال المجتمع جميعاً لإزالة أي فوارق في الملبس تتيح للبريطانيين التمييز بين الثائر وغيره، إضافةً إلى ضرب الطربوش باعتباره غطاء رأس طبقي يُقرب لابسه من السلطات ويبعده عن الثوار وملابسهم. 

يتذكر عبد السلام كيف رسم هذا الشعار صورةَ علاقةِ النخبِ في فلسطين بالاستعمار البريطاني أثناء طفولته مستحضراً قصة رجال من رام الله نقدهم الناس لارتدائهم الطربوش في فترة الثورة. يقول عبد السلام إنّ لبس الطربوش أوحى بوضع اقتصادي واجتماعي عَكَسَ قرباً من السلطة. ويواصل عبد السلام قائلا إن الطربوش كان غطاءَ رأس الرجال "الكُبار" أو "اللي شايفين حالهم"، وكانوا بحسب رأيه "كأنهم جزء من المعارضة"، أي أنهم من أعضاء حلف راغب بيك النشاشيبي المعارض للحاج أمين الحسيني.

استحضرتْ قصةُ الطربوش قصصَ التجاذبات السياسية التي كانت ممزوجة بنفحات من صراع القيسية واليمانية القبلي العابر للطوائف والشرائح الاجتماعية والمناطق، والذي انقسم الناس حوله في البيرة كما في أقطار سوريا الكبرى التي تشمل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا.

كانت حدّة هذه الانقسام تتلاشى في فلسطين ولكنها كانت أكثر تلاشياً في لبنان وسوريا حسب ما يقوله المؤرخ سليم تماري في أطروحته للدكتوراه عن الاقتصاد الاجتماعي لفلسطين. ومردّ ذلك عوامل مرتبطة بتغيُّراتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية ساهمت بضرب الأهمية الاجتماعية لهذا الفرز مثل نفوذ الاستعمار. يرى تماري أنّ الانقسام الأكبر الذي مهّد للنكبة والتهجير كان انقسام الحسيني والنشاشيبي أو ما يعرف بالصراع ما بين المجلسيين والمعارضة والذي كان فرزاً على أساس تحالفات سياسية هلامية. 

يستحضر عبد السلام إشكالاً عائلياً في البيرة دليلاً على هلامية ذلك الفرز حين توجَّهَ وفد من إحدى العائلات لطلب إشراك المفتي أمين الحسيني بجهود الوساطة ولكنه رفض، فتوجهت العائلة إلى مُنَافسه راغب بيك النشاشيبي الذي قبل بعقد المصالحة فقام وجيه العائلة بارتداء الطربوش ولاءً للنشاشيبية.


لم تكن البيرة ورام الله بمكانة يافا أو القدس ثقافياً، ولكنهما احتضنتا مجموعة فضاءات ثقافية ذات طابع محلي وعالمي. تخطر على بال عبد السلام قصة تأسيسه مع صديقين مجموعة صلاح الدين لكنه لا يتحدث كثيراً عن هذا المشروع الذي لم يستمر طويلاً. أسهب عبد السلام في المقابل الحديثَ عن جمعية الثقافة التي شارك مجموعة من شباب البيرة بتأسيسها، ويذكر منهم علي منصور كراكرة خريج مدرسة "الفرندز" التابعة لطائفة "الكويكرز" المسيحية والتي ساهمت ثقافياً وتربوياً في رام الله والبيرة والقدس. شارك نقولا جاسر الرفيدي، وهو من سلالة عائلة الرفيدي البيراوية المعروفة، وأشقاء عبد السلام بأعمال الجمعية.

كانت زيارة عبد السلام للمكتبة مرتبطة بساعات عمله ساعيَ بريد، ولكنّ شغفه بالقراءة دفعه لإنهاء ورديته في الساعة الثالثة والانتظار للرابعة حتى تفتح الجمعية أبوابها. احتوى مقر الجمعية على مكتبة وراديو، وهو وسيلة الترفيه والاتصال التي لم تكن متاحةً لغالبية الفلسطينيين آنذاك، وكان عبد السلام يسترق النظر إلى مقتنيات المكتبة ويشغّل الراديو من طاقة في الشباك.

يقارن عبد السلام جمعية الثقافة بجماعة الإخوان المسلمين التي كانت ناشطة في يافا حينها. ركزّت جمعية الثقافة على أنشطة كشفية تطوعية وعلى إقامة حفلات ومنتديات في البيرة وغيرها. يتذكر عبد السلام زيارته مع فريق الجمعية قرية دير دبوان شرق رام الله ومدينة يافا. قامت الجمعية أيضاً بتشجير بعض المساحات في مدينة البيرة بمحيط موقع بلدية البيرة الحالي.

كان لا بُدّ للبعد الثقافي للجمعية أن يأخذ مساراً سياسياً مثل أي نشاط ثقافي تحت الانتداب، لكن عبد السلام أكّد أن نشاط الجمعية كان ثقافياً بحتاً. يبدو بحسب سرد عبد السلام أنّ الجمعية كانت ناشطة في أواخر الثلاثينيات، وهي الفترة التي ارتبطت بإجهاض بريطانيا للثورة العربية ودخولها الحربَ العالمية الثانية، وهي مرحلة تاريخية عاش فيها المجتمع الفلسطيني كفافاً اقتصادياً. لكن المجهود الحربي البريطاني خلق فرص عمل جديدة للفلسطينيين وخاصة ما كان يعرف باسم "الكامبات" أي معسكرات الجيش، إذ كانت الحالة السياسية لكثير من الناس مائعة، فيقول عبد السلام "لم ندخل بالسياسة، لأنه بطيِّروك إذا بتدخل بالسياسة". 

زار كشافة الجمعية يافا عدة مرات والتقوا مع الكشافة هناك. يتذكر عبد السلام تدريب حمل الكشافةِ العصيَ الخشبية محاكاة لحمل البنادق أو البواريد كما يسميها الفلسطينيون. شارك عبد السلام بزيارة كشفية لمنطقة نهر جريشة، وهي قرية فلسطينية صغيرة هُجِّر أهلها عام 1948، كانت مشهورة بزراعة القمح والحبوب وجرشها، أي طحنها ومنه اكتسبت اسمها. كانت القرية مكان تنزه لليافاويين وزوار المنطقة كعبد السلام فكانت متاحة للجميع وفقاً للمؤرخ مصطفى الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين".

لم تكن مدن فلسطين وبلداتها منغلقة على ذاتها. يستذكر عبد السلام زيارة الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري للبيرة ورام الله، حين قدّم عرضاً شعرياً في عمارة حديثة الإنشاء مقابل مدرسة الفرندز. لم يفوّت عبد السلام المولع بالشعر هذه الفرصة ولكن أستاذ مدرسة الفرندز اللبناني علام منعه من الدخول لأنه لم يرتدِ الحطة والعقال، لكن عبد السلام تمكن لاحقاً من حضور إحدى جلسات الجواهري في القدس بجمعية الشبان المسيحية. 


لم يخلُ حديثي مع عبد السلام من دردشات ثقافية أخرى فسألته عن السحر الشعبي ومجتمعات الغجر في فلسطين فحدثني عن اقتناء والده لكتاب اسمه حياة الحيوان الكبرى للكاتب كمال الدين الدميري، وهو كتاب يفسر معاني وقوع الحيوانات في المنامات. أعار عبد السلام الكتاب لصديق، ولكن صديقه فقد الكتاب، فاقترح أن يذهب مع عبد السلام إلى شيخ في القدس موجود حول باب الخليل اسمه محمود الفلكي ليساعدهم في استعادة الكتاب. كان الشيخ معروفاً بمواهبه الخارقة وخاصة قدرته على كشف مكان الأشياء الضائعة. سَرَدَ عبد السلام القصة للشيخ فدل الفلكيُّ عبدَ السلام على خيّاط في البيرة كان استعار الكتاب، و قال الفلكي أنه "سَحَرَ للخيّاط" كي يرجع الكتاب.

أخبرني عبد السلام أيضاً عن زيارات الغجر المستمرة والمتكررة للبيرة، وأنّ إحدى العائلات اتخذت البيرة مستقراً دائماً. كان الغجر يخيمون في منطقة النوادر في البيرة وكانوا يقومون بإصلاح المعادن والحديد. كانت مجموعات أخرى منهم تقيم طقوس رقص احتفالية، وهو أمرٌ جديدٌ في البيرة حينها.

بدأ عبد السلام بالعمل بعدما ترك المدرسة، وكان من بين الأماكن التي عمل بها معمل النسيج في البيرة الذي شغّل أكثر من أربعين عاملاً. كان عبد السلام يقبض أربعة أو خمسة قروش يومياً أجراً على عمله، وهو مبلغ قريب من الحد الأدنى للأجور وقتها.

كان للمعمل موقع مركزي مقابل ملعب مدرسة الفرندز وكان مملوكاً لرجل اسمه محمود سلطان وهو رجل يهودي مجريّ أعلن للناس إسلامه.

أثار عملُ إحدى زميلات عبد السلام حفيظتَه وبعض زملائه لأنها كانت منقبة. كان محمود سلطان يقول إنها حَضَريّة ومن طبائع الحضريات وضع غطاء وجه بخلاف بنات الريف. يعتقد عبد السلام أن محمود سلطان لم يرغب بتعليم العمال كل تفاصيل الحرفة؛ فكان يسمح لتلك المرأة الحضرية بالعمل في غرفة خاصة بها. شك عبد السلام بهوية صاحب المعمل الدينية وكان يعتقد أنه لا زال يهودياً. محمود سلطان كان يأخذ كل الأعمال الجاهزة ويبيعها في أسواق تل أبيب في كل يوم سبت.

كلمني عبد السلام عن الجو الفني السائد في تلك الفترة، فقصر الحمراء المتربع على شارع الإرسال كان يعتبر أحد الفضاءات الفنية البارزة في البيرة إذ أحيا فيه مطربون حفلات في هذا المبنى المغطى بالحجر الأحمر الجميل. يستذكر عبد السلام قصة المطرب الفلسطيني عامر خداج الذي عمل في فلسطين والمهجر وتحديداً بمدينة ديترويت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث التقاه عبد السلام. كان هذا الفنان يطرب الناس على أثير الإذاعة الفلسطينية بالقدس ووصفته مجلة القافلة بعددها الحادي والعشرين الصادر يوم الجمعة 22 أغسطس 1947 أنّه "علم من أعلام الغناء الشعبي في دار الإذاعة الفلسطينية بالقدس"، ووصفه عبد السلام أيضا بأنه "غريد الشعب".

تعرّف هذا الفنان الفلسطيني على فنانة لبنانية هي الشابة سناء التي بدأت مشوارها بالغناء عبر أثير الإذاعة اللبنانية وتعاقدت في العام 1942 مع القسم العربي بدار الإذاعة اللبنانية و"شَنَّفَت آذان المستمعين ليس بالغناء الشعبي فقط بل بالغناء الحديث أيضاً"، على حدّ وصف مجلّة القافلة في أغسطس 1947. 

تزوَّجَ عامرُ المُسْلمُ سناءَ المسيحيةَ، ولكنَّ عائلة عامر لم تبارك الزواج بسبب اختلاف الديانة. عبّر عامر لعبد السلام عن مدى أساه وحزنه و خاصَّةً عند منعه من حضور جنازة والده. اشتهر عامر وسناء في المهجر وكان لهما حضور فني بارز في الولايات المتحدة.

بعد الانتقال من معمل نسيج محمود سلطان عمل عبد السلام في معمل نسيج في المنطقة الواقعة على الطريق بين البيرة والقدس والتي تحتضن الآن مخيم اللاجئين المسمى الأمعري نسبةً إلى معمل نسيج كان يحمل نفس الاسم. جاور عبد السلام في تلك الفترة عُمّال نسيج من لبنان وسوريا يعتقد أنّهم جُلِبُوا لمهاراتهم. "الشوام" كما يسميهم عبد السلام نسبةً إلى دمشق كانوا يرتادون دكاناً صغيراً لشخص كان يقال له أبو وديع محيسن، والد رئيس بلدية البيرة لاحقاً، فكان يبيعهم الكنافة وبعض الحلويات وصار معروفاً بينهم.

زار مدير بريد رام الله الدكان يوماً ما وأخبر صاحبه أنه يبحث عن شاب مناسب ليعمل ساعي بريد فأوصى أبو وديع بعبد السلام بعد أن أصبح صديقاً له بسبب تردده على دكانه.كان لا بد أن يظهر عبد السلام بأجمل حُلّة في يوم مقابلة العمل فتوجه مع أبي وديع إلى حارة اليهود في القدس واشترى سترة رسمية لم يسبق له ارتداء مثلها من قبل.

نَجَحَ عبد السلام بالمقابلة وحصل على الوظيفة واعتقد في البداية أنّ الوظيفة جيدة فقد كان يتقاضى راتباً جيداً، ولكنه تيقن أن القادم أسوأ مع تعرفه على رئيسه في العمل مدير بريد رام الله. كان هذا المديرُ المتطلبُ سليطُ اللسانِ من أبناء قرية سمخ بطبريا وكان متزوجاً من سيدة من الناصرة ابنة قسيس وكانت "لطيفة وابنة حلال" على حسب قوله.

لكن والدة مدير البريد لم تكن بلطف زوجته، فكانت تبعث عبدَ السلام لشراء الخضروات واللحم وكانت تكدر حياته بالطلبات بالإضافة إلى تدخلها في عمل البريد. هذا البريد كما يصف عبد السلام كان بريداً لفلسطين ولأم المدير، أي أن البريد كان مساحة رسمية وعائلية بنفس الوقت، تشارك بإدارته العائلة جميعها بل حتى القرية بحيث أبرق المدير لشابٍ كان يعمل معه في سمخ وحضر وعمل في رام الله.  

يكتب القادةُ العظام يومياتِهم لكن العمال والعاملات والفلاحين والفلاحات نادراً ما يكتبون يومياتهم. إن الحديث مع عبد السلام يساعد على رسم صورة لمرحلة مهمة من تاريخنا الاجتماعي ويجب ألا نستهين بأهمية قصة ساعي البريد الذي كان يتنقل بحرية بين مناطق فلسطين دون عبور الحواجز و الجدران و نقاط التفتيش كما هو حال أبناء فلسطين اليوم.

وصل عبد السلام رام الله والبيرة بالولايات المتحدة والبرازيل وساهم في وصل العائلات ولم شملها. يصف عبدُ السلام يومَه العادي حيث يذهب إلى القدس ليستلم البريد من موقف الحافلات هناك فيختمه بختم التاريخ الذي وصل فيه وينقل كيس البريد إلى رام الله ثم يبدأ التوزيع فيودع الرسائل في صناديق البريد ويعطي البريد الخاص بقضاء رام الله لشخصين هما ناصر عطية وسليم وهدان من البيرة فيقومان بالانتظار في دوار المنارة لتسليم البريد لأهل تلك القرى لتوزيعه هناك وكانوا يضطرون أحياناً لزيارة تلك القرى.

أسعد بريدٌ مبشرٌ بعودة مغترب عبدَالسلام؛ فالكثير من العائلات كانت تعطيه هدية نقدية تعرف باسم "الحلوان" قيمته بين عشرة قروش ونصف ليرة، أما مدير مدرسة الفرندز السيد جونز فكان يكافئه بخمسة دولارات عند وصول رسالة عيد الميلاد، وهو مبلغٌ كبيرٌ حينها.

من الرسائل المهمة التي سلمها عبد السلام رسالةُ ترقية المؤرخ الكبير عارف العارف من بيك إلى باشا نهاية عام 1948 تقريباً.

لم يقتصر عمل عبد السلام على التوصيل، فكان يقرأ الرسائل للعائلات التي لا تستطيع القراءة. يشير عبد السلام إلى كثرة البريد الواصل إلى رام الله بسبب اغتراب عدد كبير من أبنائها في الولايات المتحدة، ويعتقد أنّ رام الله في ذلك الوقت قد تكون مسقط رأس أكبر الجاليات الفلسطينية في الولايات المتحدة نظرا لكثرة البريد الواصل من أبنائها هناك. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن لتكتمل الصورة نحن بحاجة لمعلومات عن البريد الواصل من الخارج وخاصة من مغتربي مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، فجالية كبيرة في أمريكا الشمالية والجنوبية كانت من هذه البلدات. وصل أبناء فلسطين تشيلي والبرازيل وأرسلوا الرسائل لأهاليهم في الوطن، ونفى عبد السلام وصول رسائل لأشخاص يهود أو رسائل باللغة العبرية أثناء عمله في تلك الفترة.

كان الراتب الشهري الجيد من الأمور التي كانت تصبّر عبد السلام على مشاق العمل في البريد وتقلبات مزاج المدير وعائلته، ولكن النكبة وخضوع الضفة الغربية لحكم الأردن العسكري أنقص معاشَ عبد السلام إلى ثلث ما كان يتقاضاه من قبل، فصار راتبه اثني عشر جنيهاً بدل ثمانية عشر جنيهاً ثم نقص إلى ثماني جنيهات مع حلول عام 1950، وحتى الثمانية جنيهات لم تسلم من قضم بعضٍ منها "بدل طوابع". وصل الحال بعبد السلام إلى أن يضطر لإيصال عجينة والدة المدير إلى الفرن، ناهيك عن إرساله مراتٍ عدة لإحضار طلبيات وطلبيات بديلة بحال لم تعجبها الطلبية. كل ذلك كان محتملاً، ولكن اكتشاف عبد السلام بأنّ مديره كان يخفي عنه موعد عقد امتحان الترقية لعمال البريد، بغية نيل الترقية، أدَّى إلى وصول العلاقة بينهما إلى الخصومة.

كانت حكومة الانتداب ترسل موظفي تفتيش للرقابة على العمل والتدقيق على المبيعات والطوابع وكان موظفو البريد من العرب واليهود "يقفون على رجلٍ واحدة" كما يقال عند قدوم المفتشين. ويتذكر عبد السلام من هؤلاء المفتشين اسم إسطفان إسطفان.

تغيّر عمل عبدالسلام كثيراً أثناء عامي النكبة وحصل على تصريح عسكري بمرافقة أي مركبة عسكرية متجهة إلى عمّان للحصول على البريد الوارد من هناك، فكان ينطلق إلى عمان من مدرسة البيرة للذكور والتي سميت بالمدرسة الهاشمية، وتحولت إلى مقر لقوات الجيش الأردني. كان العملُ في هذه الظروف مشحوناً. يذكر عبد السلام قصة تعالي أحد الأطباء المعروفين عليه عند طلبه ركوب إحدى المركبات فاستنكر ذلك الطبيب على عبد السلام عدم طرحه التحية وتحدَّث معه بفظاظة، ويتذكر قصة دهس إحدى المركبات زميلَه عزيز حرب. في هذه الفترة الانتقالية، أصبح عبد السلام ساعي بريد حربي أيضاً وكان عليه إرسال بريد يومي لقائد الفرقة الأولى للجيش العربي الذي تمركزت إحدى قواته في رام الله وكان يرسل البريد العسكري إلى مقر الإذاعة في شارع الإرسال.

كان طريق البيرة القدس من الطرق الخطرة، وكان الوضع مأساوياً كما يصفه، خاصة مع اشتداد المعارك حول القدس، وكان الخطر ملازماً للطرق القريبة من مستعمرة النبي يعقوب ومنطقة الشيخ جراح وشعفاط وهداسا. يقول عبد السلام: "كانوا يضربوا علينا وكنا نتجنَّب هذه المحاور ونروح للقدس مخاطرة في الليل ونطفي ضو السيارة واحنا ماشيين".

لم يمنع ذلك عبد السلام من مراقبة المعارك المحتدمة عن بعد بواسطة منظار من منطقة مزروعة بأشجار الزيتون في شعفاط، ويبدو أنّه لم يكن الوحيد الذي يقوم بذلك فكان يرافقه مراسلون حربيون من أمثال راجي صهيون الذي كان إعلامياً فلسطينياً بارزاً من حيفا وعضواً سابقاً للجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية.

شاهد عبد السلام قصف المدفعية العراقية من على قمّة قرية النبي صموئيل لطريق باب الواد على خط لفتا المهجرة، ويصف دقة القصف بأنها "كانت تصيب القوافل الصهيونية". يبدو أنّ عبد السلام كان يشير إلى فوج اليرموك الثالث بقيادة الرائد عبد الحميد الراوي الذي دخل فلسطين في نيسان عام 1948 وخاض معركتي باب الواد والقدس ومعارك أخرى في شمال فلسطين. 

كانت الأوضاع الاقتصادية في وقتها متردية، ولكن السفر إلى عمان سمح لعبد السلام بإحضار بعض المحروقات بسعر مخفض من هناك وبيعها في منطقته بسعر أعلى. كان هو وآخرون يجلبون المواد التموينية أيضاً من عمان والزرقاء. زار عبد السلام فندق الملوكي خلال إحدى زياراته إلى عمان وتبين له أنّ ثلاثة متطوعين أجانب ممن يتبعون لفرقة الجهاد المقدس عالقون في عمان ولم يكن لديهم النقود الكافية للمغادرة فأقاموا بالفندق على حساب صاحبه.


بعد نكبة 1948 تعرضت مدن فلسطين الكبرى كاللد والرملة إلى تهجير قسري غيّر عملَ عبد السلام، فمع قدوم آلاف المهجرين إلى البيرة ورام الله والتحافهم سماء الصيف اللهاب، نام الكثير منهم في العراء تحت ظل الأشجار. لم يتوقف عمل عبد السلام حينها ولكنه تغير مع تحول عنوان السكن للمُهجَّرين قصراً إلى "شجرة التين الفلانية أو شجرة التوت العلانية" حسب قوله. استطاع عبد السلام تحديد مكان سكن العائلات النازحة تبعاً للشجرة التي استظلت بها. 

سبق العيشُ في العراء إنشاءَ مخيمات اللاجئين المعروفة اليوم وكانت المكاتيب تصل عبر الصليب الأحمر من العائلات الفلسطينية التي استطاعت البقاء في الأرض المحتلة عام 1948 أو في مناطق المهجر خارج فلسطين أو داخل قطاع غزة.

كان عبد السلام يسأل بعض معارفه في حالة وصول رسالة لعنوان غير معروف، وكان يقيد الرسالة باسم مجهول إذا عجز عن إيصالها لصاحبها. حاول الكثير من المهجَّرين عام 1948 العودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها قسراً، وإن استحالت العودة للمنزل، فكانت بعض العائلات تعود إلى بيوتها وممتلكاتها خلسةً لتجلب معها بعض المقتنيات وخاصة المخبأة منها، كما كان يفعل بعض عمال السيد خلوصي الخيري، وهو من أعيان الرملة ممن هجروا إلى البيرة.

كانت عائلة الخيري من العائلات الميسورة الحال في مدينة الرملة وكان لديهم الكثير من العمال. أرسلت العائلة بعض العمال إلى الأرض المحتلة لجلب مقتنياتها العينية والنقدية أثناء الحرب وكان منهم من ينجح بالعودة بالأموال والمقتنيات ومنهم من كان يغادر بالأموال إلى مصر أو لبنان. وصف الإسرائيليون هذه الظاهرة بالتسلل وهؤلاء بالمتسللين وسُنت قوانين في "كنيست" الدولة العبرية الناشئة لمكافحة هذا التسلل وقمع أناس كانوا يحاولون العودة لديارهم واسترجاع أموالهم ومقتنياتهم. 

زادت المسؤوليات الملقاة على عاتق عبد السلام بعد تخفيض راتبه وسفر إخوته خارج فلسطين فاضطر هو أيضاً للسفر إلى الولايات المتحدة كي يعيل والدته وأخته. 

يبدو أن تسهيل سفر الفلسطينيين إلى الخارج كان شائعا حينها، فعبد السلام يتذكر موظفاً كان يعمل في القنصلية الأميركية في القدس كان يسهّل إصدار تأشيرة السفر للفلسطينيين وخاصة للطلاب. كفل عبدَ السلام أحدُهم وسافر على تأشيرة سياحة مدتها ستة أشهر إلى الولايات المتحدة. 

سافر عبد السلام أولاً إلى بيروت براً والتقى مع عرب من جنسياتٍ مختلفة فأبحروا معاً إلى الإسكندرية ثم وصلوا أثينا ومنها إلى نابولي ومن بعدها مارسيليا. من مارسيليا سافروا على متن باخرةٍ كبيرة عابرين مضيق جبل طارق ثمَّ توقفوا بمحاذاة جزر الأزور البرتغالية ليومين وأبحروا بعدها نحو نيويورك.

عمل عبد السلام بمصنع حديد في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني ثم طُرد في العام 1957 بسبب صدور حكم ضده بمغادرة الولايات المتحدة لخرقه شروط الإقامة. عاد على إثرها إلى فلسطين ومكث هنالك ما يقارب العام ونصف سافرت زوجته بعدها إلى الولايات المتحدة وجهزت أوراق الإقامة فانتقل للعيش هناك بشكل قانوني.

عاش عبد السلام معظم حياته في الولايات المتحدة إلا أنه كحال كثير من أبناء جيله من فلسطيني المهجر آثر العودة لمسقط رأسه بعد بلوغه سن التقاعد. أمضى عبد السلام آخر سنوات حياته في البيرة حتى وفاته عام 2023 عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاماً.

اشترك في نشرتنا البريدية