البحث عن منزل عائلتي في فلسطين قبل النكبة

باحثة سورية فلسطينية تحكي قصة زيارتها للمكان الذي عاش فيه أهلها لأجيال متعاقبة قبل أن يهجّروا منه إبّان النكبة

Share
البحث عن منزل عائلتي في فلسطين قبل النكبة
صورة قديمة لمدينة طبريا بفلسطين تعود لعام 1910 (من أرشيف يونيفرسال هيستوري / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

لم تستطع أمي أن ترجع إلى فلسطين بعد أن هَجّرت مليشيا الهاجاناه الصهيونية، التي كوَّنت نواة الجيش الإسرائيلي، عائلتَها من منزلهم في طبريا في أبريل سنة 1948. جاء المسلحون أولاً إلى والد جدي، أحد أكبر وجهاء طبريا، وأخذوه بالقوة إلى حدود سوريا ليبلّغ من تبقى من الفلسطينيين نبأ الترحيل. وكان في من دقّوا بابه بزيّهم العسكري شابةٌ نجت من الهولوكوست ولجأتْ عنده مطلع الأربعينيات – طفلةً يهودية يتيمة قادمة من بولندا. في لحظة عتاب "شكسبيرية" سألها جدي: "حتّى أنتِ؟" لتجيبه: "معذرةً يا حج خليل. جاءتني الأوامر من الهاجاناه". رأى جدي الشابة التي آواها ورحّب بها في بيته تشارك بتهجير عائلته. 

توفّي والد جدي في المنفى بعد أن فقد أرضه ومنزله، تاركاً بين ممتلكاته الشخصية مفتاح منزل العائلة المسروق في طبريا. ابنه (جدّي) بقي ليقدم الرعاية الطبية أثناء حرب سنة 1948، إلى أن أُجبر هو كذلك على مغادرة بلاده. حين توفيت أمي في بيروت سنة 2007، تبيّن لنا أن أجدادي توارثوا المفتاح جيلاً عن جيل. 


في سنة 2010، بينما كنت أتنقل بين وظيفتين جامعيتين، قضيتُ بضعة أشهر في الأراضي الفلسطينية المحتلة مستشارةً في برنامج "نقل المعرفة عن طريق الرعايا المغتربين" التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في فلسطين (توكتن). كنتُ أقدّم المشورة للفلسطينيين في المفاوضات مع إسرائيل. وفي خضم قصف إسرائيل غزةَ الآن، تجددَت ذكريات رحلةٍ شخصية للغاية في ماضي عائلتي وأرضهم التي خسروها منذ زمن بعيد.

كنتُ أذهب إلى العمل كل يوم من القدس الشرقية إلى رام الله، بسيارة اشتريتُها من وكالة فلسطينية، تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية صفراء، وهو اللون المناسب للتنقل السهل نسبياً عبر الحواجز. أخذَتني رحلتي الشخصية في ماضي عائلتي إلى الجولان السوري المحتل وإلى طبريا، مسقط رأس والدتي. أردتُ البحث عن ماضيها، لكن كل آثار التراث الفلسطيني أُزيلت من المدينة منذ أن هُجّرت والدتي سنة 1948. قضيتُ أيام رحلتي الأخيرة في غزة الجميلة، الصاخبة بالحياة رغم الحصار الإسرائيلي الطويل.

بفضل جواز سفري الأجنبي، تمكنتُ من التحرك بين الضفة الغربية وغزة وإسرائيل، فالتقيتُ في حيفا بفلسطينيين يحملون الهوية الإسرائيلية. كانوا يجتمعون سنوياً عن طريق المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل (عدالة). شجب هؤلاء الفلسطينيون التمييزَ الذي يتعرضون له يومياً، وتصنيفَهم مواطنين من الدرجة الثانية في دولة يُفترض أنها ديمقراطية، ودعموا أبناء جلدتهم الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال.

ذهبتُ من حيفا إلى الجولان السوري، الذي هُجّر معظم سكانه إلى داخل سوريا سنة 1967 حين احتلته إسرائيل، قبل أن تضمه إليها سنة 1981، في تصرّف باطل كما ينصّ القانون الدولي. أصبح سكان الجولان الذين بقوا منذ سنة 1967 اليوم مجتمعاً فاعلاً يُقدّر بخمسمئة ألف سوري. في قلب بلدة مجدل شمس، يقف نصب سلطان الأطرش التذكاري، القائد الدرزي الوطني السوري الذي قاد الثورة السورية الكبرى سنة 1925 ضد الانتداب الفرنسي. 

تفاجأ كثيرون في المحلات التي زرتُها، وأظهروا سرورهم بلقاء ابنة بلدهم من دمشق. ساعدني بعض معارفي في القدس الشرقية على التواصل مع منظماتٍ وشباب داعمين للمقاومة السلمية ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومن أنشطتهم العمل على تعطيل جهود حكومة إسرائيل بفرض العبرية لغةً رئيسية في المدارس، فهم يسعون للحفاظ على هويتهم وتقاليدهم السورية. يرفض الدروز السوريون الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بينما تنخرط الغالبية من دروز إسرائيل في الخدمة. شهدتُ نزاعاً بين أفراد عائلتين، تَتهم إحداهما الأخرى بقطع الأشجار في بساتينها. أوضح لي كبير إحدى هاتين العائلتين، بعينين دامعتين، أنه يعتقد أن الإسرائيليين هم الذين خرّبوا البساتين لزرع بذور الشقاق بين العائلات.

كما رأيتُ أناساً يخبرون أقاربهم على الجانب الآخر من السياج بآخر التطورات، مستخدمين مكبّرات الصوت، مثلما كنتُ قد شاهدت في الأفلام الإسرائيلية. منذ اندلاع الثورة السورية سنة 2011 وما تلاها من حرب استمرت عقداً كاملاً، وُضع جدار حديدي يمنع الناس من زيارة سوريا للقاء عائلتهم وتبادل الأخبار شخصياً. انقسم الناس هناك إلى قسمين، فالجولانيون الأكبر سناً والمشتاقون لبلادهم، اصطفوا مع بشار الأسد، بينما أيّد الشبابُ الانتفاضةَ الشعبية ضد نظامه.

أصبحتْ مرتفعات الجولان وجهةً للسياحة الخضراء وتسلق الجبال وركوب الخيل. ويسوّق كثيرون داخل إسرائيل وخارجها لهذه النشاطات بلا إشارة إلى أن الجولان أرضٌ محتلة. مياه الجولان وخضرتها ثرية وجذابة، خصوصاً مع تمكن إسرائيل بعد النكسة من منع سوريا من الوصول إلى بحيرة طبريا ونهر الأردن. اليوم، إسرائيل رائدة في الطاقة المتجددة بسبب المئات من حقول الطاقة الهوائية على أرض الجولان المحتلة منذ 56 عاماً. 

من الجولان قدتُ سيارتي إلى طبريا بحثاً عن تاريخ عائلتي. كل ما تذكره أمي، التي كانت طفلة أثناء نكبة 1948، أن ممتلكات العائلة موجودة قرب البريد القديم. بالطبع لم يكن هناك أي دلائل يمكن تعقّبها. أُعيد بناء المنطقة واستوطنها الإسرائيليون بكثافة. سمعتًُ من أقاربي، خارج البلاد، أن البلدية استولت على منزل العائلة بعد التهجير.

أصبحتْ طبريا اليوم وجهةً سياحية مهمَلة، بينما كانت الذاكرة الفلسطينية التقليدية تصوِّرُها بلدةً جميلة على ضفاف البحيرة. هذه التحولات صارت واقعاً في عدد من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، التي إما غُيّرت هويتها لتتسق مع المشروع الصهيوني، وإما اختفت كلّياً. أُخرجَت القِلة الباقية من الفلسطينيين إلى تخوم المدينة ليعيشوا في أحياء فقيرة يقطنها العمال. تمكنتُ أخيراً من إيجاد موقع البريد القديم، فغَرستُ يدي في الأرض وأخذتُ حفنة من التراب إلى أمي أمل لتنثر شيئاً منه على قبور والديها في بيروت. كانت تريد أن تمنحهم، ولو بعد وفاتهم، بعضاً من ذكرياتهم وماضيهم المفقود.

كان والد جدّي داعماً نشيطاً للمنظمات الفلسطينية التي تعارض تأسيس الحركة الصهيونية وطناً يهودياً في فلسطين على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين. كان يؤمن أيضاً بالتعايش المشترك التاريخي بين المسلمين والمسيحيين واليهود الفلسطينيين. وكان والد جدّي يتقن اللغة العبرية ويساعد اللاجئين اليهود الهاربين من أوروبا إلى فلسطين أثناء حدوث الهولوكوست في الأربعينيات. تمتد جذور عائلته في طبريا إلى قرون. وحين تأسست إسرائيل سنة 1948، فقدوا كلّ شيء: منزلهم وكلّ ممتلكاتهم ومساحات شاسعة من الأرض. كان جدّي يرفض بإصرار أن يبيع أرضه للصندوق القومي اليهودي، الذي كان يشتري الأراضي لصالح المستوطنات اليهودية. كانت طبريا مدينة مختلطة، عاش فيها العرب واليهود الفلسطينيون معاً، ثم صارت مدينة يهودية خالصة في أيامٍ قليلة. 

أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، عمدت مليشيات الهاجاناه والإرجون، الجناحان المسلحان للحركة الصهيونية، إلى إرهاب الفلسطينيين، متسببةً بتهجير سبعمئة ألف فلسطيني أثناء نكبة 1948. قبل الحرب، أرسل والدُ جدّي ابنَه ليدرس الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، إحدى وجهات طلاب الدراسات العليا الفلسطينيين في ذلك الوقت. قرّر جدّي، الذي كان طبيباً، البقاء في مدينة طولكرم في الضفة الغربية بحلول سنة 1948، حيث عاش مع جدتي وأبنائهم ليرعى الجرحى أثناء الحرب وبعدها. ثم أرسل عائلته إلى بيروت، مسقط رأس جدتي اللبنانية. سمعتُ قصصاً منها أن الدكتور أديب (جدّي) رفض تقاضي أجرة من عائلات الفلاحين الفقراء، فجلبوا لمنزله، امتناناً، دجاجاً وحيوانات أخرى، مثيرين استياء جدّتي. عندما طرقتُ الأبواب في طولكرم بحثاً عن شيء من طفولة أمي، صادفتُ سيدة كبيرة، فتذكّرتْ الدكتورَ الذي كان يعطيها الحقَن وهي طفلة، ودلّتني على منزله. لقد بات اليومَ بناءً مهجوراً، و سيُهدم قريباً ليُبنى مكانه مركز تجاري للتسوق.

أُجبرَ جدي سنة 1950 على مغادرة فلسطين والالتحاق بعائلته في بيروت، إلى أن توفّي سنة 1963. كانت جدتي، وديعة قدورة خرطبيل، إحدى قيادات النشاط النسائي الفلسطيني، فقد أسسَت الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني في بيروت سنة 1952، وهو أولُ اتحادٍ عام للمرأة الفلسطينية في الشتات. كما كانت عضوة في المؤتمر الفلسطيني الأول الذي عُقد في القدس نهاية مايو سنة 1964، والذي أصبح لاحقاً المجلس الوطني الفلسطيني ومنه تأسست منظمة التحرير الفلسطينية. كتبَت جدتي وديعة مذكراتها، المنشورة سنة 1995، واصفةً المقاومة الفلسطينية وتاريخ النسوية في نصف قرن ومتحدّثةً عن عمْرٍ قضتْه في نصرة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة.


كانت زيارتي للقدس صادمة. فقد تَعارض جمالُها المادي المبهج وإرثها التاريخي العريق مع ملامح الهيمنة والانتهاكات الجلية والمستوطنات اليهودية في الجانب الشرقي من المدينة. علمتُ في القدس الشرقية أن صلاح الدين الأيوبي مَنح الوصاية على مقام النبي داود، الواقع في جبل صهيون بالقدس، لأسلافي من جهة والدي، الذين رحلوا من القدس إلى دمشق قبل خمسمئة عام تقريباً، إكراماً لهم لشجاعتهم في قتال الصليبيين. واعتزازاً بهذا الشرف، تغيّر اسم العائلة من بيت الدجاني إلى بيت الداودي. كانت فكرة تشريف المسلمين بحماية رفات نبي يبجّله المسلمون والمسيحيون واليهود متلائمة للغاية مع هذا المكان المقدس. لكن التوترات كانت في كل زاوية وكل يوم. لم أصدّق متى أغادر المدينة بما تحمله من الحضور العسكري الخانق فضلاً عن المستوطنين.

كان لقائي بخليل التفكجي، مدير قسم الخرائط (دائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية)، لقاءً لا يُنسى. يعمل خليل في جمعية الدراسات العربية، وهي منظمة فلسطينية غير حكومية تقع في القدس الشرقية وتستهدفها السلطات الإسرائيلية بالإغلاق بين الفينة والأخرى. يحتفظ التفكجي بسجلات وخرائط فائقة الدقة للوجود الفلسطيني في القدس وسجلات عن نمو المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. طلب مني خليل أن أجمع ما أجد من "أوراق طابو"، أي وثائق سجلات الأراضي من الحقبة العثمانية، وأرسلها له. هذه الوثائق لدى عائلتي ولدى العديد من اللاجئين الفلسطينيين توثّق حقوق ملكية الأراضي للفلسطينيين قبل سنة 1948. للأسف، أَغلقت القوات الإسرائيلية قسم الخرائط سنة 2017 واقتحمت منزل التفكجي واعتقلته وصادرت الخرائط والمجموعات الأخرى. ثم اتهموه رسمياً بخرق السيادة لجمعِه معلومات في القدس لصالح السلطة الفلسطينية. أُطلق سراحه، لكنه اعتُقل مجدداً سنة 2020.

قابلتُ في القدس ناشطين وصحفيين إسرائيليين منحوني أملاً بإمكانية التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مثلما تمهد المعارضةُ النشطة ضد الحرب الحالية في غزة، من جماعات يهودية وإسرائيلية، الطريقَ للسلام والمساواة. أبرز نماذج هذه المعارضة للحرب "الصوت اليهودي للسلام" و"إن لم يكن الآن"، والتي تحمل شعار "ليس باسمنا (تُرتكب الجرائم)".

أخبرني ميشال فارشفسكي، القيادي السابق للمنظمة الماركسية المعادية للصهيونية "ماتزبين" (البوصلة باللغة العبرية)، أنه يأخذ الزوار القادمين من خارج البلاد إلى مستوطنات الضفة الغربية ليروا واقع الاحتلال. ميشال هو مؤسس مركز المعلومات البديلة، وهي منظمة فلسطينية إسرائيلية مشتركة غير حكومية. كما أخبرتني أميرة هاس، وهي من أبناء الناجين من الهولوكوست وتعمل صحفية بجريدة هآرتس، أن بعض بني جلدتها الإسرائيليين يَنبذونها بسبب نقلها أخبار الدمار الناجم عن الاحتلال.

مدينة رام الله تشبه عمّان. تمتلئ طُرقها بالمقاهي الحديثة، وتجسّدُ المدينةُ هيمنةَ ما بعد أوسلو، هذه الهيمنة التي تُصوَّر زيفاً على أنها سلام. في محادثتي مع بعض المفاوضين عن المياه، أدركتُ هيمنة المشرِّع والمؤسس في ما يسمى عملية السلام. فقد أَلزمَت اتفاقيةُ أوسلو الثانية، الموقّعة سنة 1995، الفلسطينيين بتقديم مخططات مشاريع المياه المقترحة للسلطات الإسرائيلية، مشترطةً ربط المستوطنات غير القانونية بالبنية التحتية الفلسطينية حتى يوافق عليها. كما طُلبَت قائمة بأسماء المفاوضين الفلسطينيين، بينما ترفض السلطات الإسرائيلية كشف أسماء مفاوضيها، ولذا لم يكن الفلسطينيون يعرفون مَن الجالس معهم في الغرفة.

كانت نتيجة "أموال السلام" القادمة من الاتحاد الأوروبي وغيره من الداعمين أن قلة مختارة من الفلسطينيين عاشت في منازل باذخة وقادت سيارات فارهة، بينما كان الواقع مختلفاً جداً على بعد أميال فقط من رام الله، عاصمة السلطة الفلسطينية. في قرية بلعين، يتظاهر الصغير والكبير، والمواطن والمقيم، والمدني والريفي ضد الاحتلال الإسرائيلي، مواجهين الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح. وقد شهدتُ إحدى المظاهرات، وعشتُ ألم استنشاق الغاز المسيل للدموع، وخوف مواجهة الجنود القادمين لفض المظاهرات السلمية. من مسافة بعيدة، أطلق الجيش الإسرائيلي "الذي لا يُقهر" الغازَ المسيل للدموع والرصاص المطاطي على المتظاهرين العزّل، وأصابوا شاباً في جبهته إصابةً خطرة، لا أعلم إن كان بقي على قيد الحياة. رأيتُ أمامي فلّاحة كبيرة، بثوبها الفلسطيني التقليدي، تواصل التقدم ببسالةٍ نحو الجنود، متلثمةً بمنديل الرأس. 

على بعد شارع من رام الله، المحسّنة طبقياً، تتابعُ المستوطنات الإسرائيلية النمو سريعاً، ويقتحم المستوطنون الإسرائيليون المدنَ والبلداتِ الفلسطينية متفاخرين بالأسلحة النارية على أكتافهم. "نحن هنا لأجل هذا" ذلك ما أخبرني به مرةً أحدُ الجنود الإسرائيليين الذين يحرسون المستوطنات اليهودية، بعد أن ضللتُ طريقي أثناء عودتي للقدس الشرقية. كان يعتقدُ أن امرأةً تقود سيارةً وحدَها عند الغسق لا بدّ وأنها مستوطِنةٌ يهودية تحتاج الحماية، خصوصاً أن لوحة تسجيل السيارة صفراء.

خلال جولاتي اليومية في المساحات الطبيعية بين القدس الشرقية ورام الله كنت أَمُرّ بحواجز الشخصيات المهمة، حيث يعبرُ موظفو المنظمات الدولية، ومسؤولو السلطة الفلسطينية، بسلاسة. في المقابل، يحتشد العمال والزوار الفلسطينيون على الحواجز الأخرى، منتظرين ساعات طويلة تحت الشمس الحارقة ليُسمح لهم بالعبور. ميزة حواجز الشخصيات المهمة المشبوهة أضْفَت على السلطة الفلسطينية أهمّية شكلية، بلا فاعلية حقيقية، بل عدّها الكثيرون خيانة. 

زرتُ قرية بتير الفلسطينية الجميلة، بمعالمها ذات التاريخ البيزنطي والعثماني وخصوصاً مصاطبها المصنّفة من اليونسكو تراثاً عالمياً. للقرية أنظمة ريّ رائعة، وباحات قديمة، لكنني رأيتُ كيف يتخلص المستوطنون الساكنون في التلال من مياه الصرف الصحي ملوِّثين مصدر المياه الرئيسي للقرية. في الخليل اشتكى السكان أيضاً من تكرار إلقاء المستوطنين اليهود القمامةَ على أهل البلد في إمعان على طردهم من المدينة.


أخيراً، ذهبتُ إلى غزة. كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته "صمت من أجل غزة":
لأن الزمن في غزة شيء آخر،
لأن الزمن في غزة ليس عنصراً محايداً.
إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.
الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة،
ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو.

كان الوقت مختلفاً حقاً في غزة. شعرتُ وأنا أمشي وحيدةً في الممر الطويل الفارغ أنني أسير ببطء على وقْع المقطوعة الصوتية العظيمة في فيلم "يد إلهية" للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، الذي يصوّر الاحتلال الإسرائيلي بطريقة هزلية ساخرة. حاوَل أسطول السلام التركي كسْر حصار غزة بجلب الطعام والموارد عبر البحر. في ذلك اليوم، قَتلت إسرائيلُ تسعةَ ناشطين عزّل ممّن شاركوا في أسطول السلام. تجوّلتُ مع بعض الأصدقاء والزملاء من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في غزة، ورأيتُ بنْيتها التحتية وأشجارها المزدهرة الجميلة وشوارعها الممتدة، كما شاهدتُ الحطام الشاهد على الغارات الإسرائيلية أعوام 2006 ثم 2008 و2009.

غزة مدينة جليلة، ورثت تاريخها الطويل من الثقافات والإمبراطوريات منذ المصريين القدماء، مروراً بالآشوريين والفلستيين والرومان، إلى البيزنطيين والعرب. كان الفلسطينيون الغزيّون من ألطف الأشخاص وأحنّهم ممّن قابلتُ في رحلتي. إنهم متعلقون تعلقاً عجيباً بقطعة الأرض الصغيرة التي تُركَت لهم. قُبيل الغروب، رأيتُ الأطفال يلعبون في البحر بسعادة؛ إنه المكان الوحيد المتاح ليلعبوا فيه. بينما كانوا يَسبحون، شاهدتُ مياه الصرف تفيض مباشرة نحو البحر على بعد أمتار عنهم. لقد أدى الحصار الإسرائيلي، براً وبحراً وجواً، على غزة منذ يونيو 2007 لاستحالة تحسين البنْية التحتية للمياه والصرف.

اليوم، تكاد غزة تختفي، وقد كانت تفيض بالجمال والسرور والحياة رغم البؤس المحيط بها. أتساءل عن مصير مخيم اللاجئين الذي يقع على تخوم المدينة! لا أتذكر اسمه وأنا أكتب هذه الكلمات، لكنه مكان مكتظ رغم كونه مهجوراً. هل كان هو مخيم جباليا الذي دمرته إسرائيل مؤخراً وقتلت فيه مئات المدنيين؟ لقد تطلّب الأمر أربع سنوات في سوريا للوصول لقدر الدمار نفسه. حتى كتابة هذه السطور، قُتل عشرات الآلاف بالقصف الإسرائيلي المموّل من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين (بمن فيهم أنا). معظم القتلى هُم من النساء والأطفال، ومئات الألاف نزحوا إلى جنوب القطاع ولا يجدون مياهاً نظيفة ولا مساكن ولا خدمات صحية. إضافة إلى منع الماء والغذاء، تستعمل إسرائيل الفسفور الأبيض – الذي يجرّمه القانون الدولي – مما يترك آثاراً سامة لأجيال قادمة. بعض أصدقائي، ممن استطاع الهرب إلى الجنوب والبقاء أحياء، مهدَّدون بانتشار الأوبئة، كما يعانون السغب والظمأ. تصلني صورٌ لمحاولاتهم خَبز رغيف صغير على الفحم، لعائلة من ستة عشر شخصاً.

كان المثقف الفلسطيني الفذّ إدوارد سعيد قد أعلن للعالم أجمع أن من حقّ الساكن الأصلي صاحب الأرض الردّ. واليوم، يتّحد السكان كلهم رافعين أصواتهم في وجه الحصانة، ومطالبين بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، وبإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإيقاف قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره. تؤكد الكاتبة الفلسطينية يارا الغضبان وجود "إبادة جماعية بطيئة" تحدث منذ سنوات. لقد ارتكبت إسرائيل تصرفات استعمارية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة تشبه تصرفات الدول الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر.

لقد انتُزعت إنسانية الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. يقتلُ المحتلُ الإسرائيليُ الأطفالَ الفلسطينيين ويجوّعهم ويشوّههم كيفما شاء، ويطردهم متى شاء، ويُسكت صوت فلسطينيي الشتات مراراً وتكراراً. نشأتُ على سماع عبارة "لمّا نرجع لفلسطين"، ثم رأيتُ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري عياناً. لذلك، فالكارثة الحالية تمثّلُ لي ولآخرين داخل فلسطين وخارجها مرحلةً جديدة في تاريخ النكبة الطويل، وتُمثّل بلا شكٍّ أحدَ أكثر فصولها مأساوية.

اشترك في نشرتنا البريدية