استمع لهذه القصة
بصرف النظر عن التحيّز الجنسي في الكناية التي استخدَمها ستيفن ديدلس؛ إذ لَم تكُن فتاةٌ بعمر أربعة عشر عاماً لتدركَه صراحةً، أَعظمَتْ تلك المراهِقةُ ستيفن وصفّقتْ له ولمستْ في كلامه عن إيرلندا الكويتَ التي كانت تعيش فيها. قبل ذلك ببضعة أسطرٍ يقول ستيفن: "عندما يُكتب على روح إنسانٍ أن تُولد في هذا البلد، فإنّ شِباكاً تتربّص به وتقيّده وتمنعه من التحليق. حدِّثني ما شئتَ عن الجنسية واللغة والدين، أما أنا فأحاول التحليق متجنّباً هذه الشِباك". لستُ هنا بصدد التأكد من استطاعة ستيفن الهروب من تلك الِشباك، ولكن بعد ثمانية وثلاثين عاماً، ها أنا أُدرّس هذه الروايةَ طلابي في جامعة الكويت، وأشعر بضرورة النظر إلى مكاني اليوم بعيون ستيفن الشاب وهو يستبصر إيرلندا، وعلى المدى الأبعد كيف أنظر أنا للكويت، وإلى أيّ حدٍّ شكّلتْ تجربةُ جيمس جويس الأدبية تجربتي الشخصية.
كانت نسختي من "صورة الفنان في شبابه" لأختي الكبيرة التي كانت حينها طالبةً في جامعة الكويت ولم تعُد بحاجة الرواية فخطفتُها. كنتُ في ذلك العام أَلتهمُ الجزءَ الأول من مذكّرات الكاتبة الأمريكية الفرنسية أناييس نين. وبما أني قد حرصتُ على كتابة يومياتي منذ سن التاسعة، فقد كان لقلم نين صدىً في داخلي. اكتشفَتْ نين أن كتابة اليوميات هي صورةٌ من صور الهوس، وشعرَتْ بأن الكتابة مهنةٌ يمكن احترافها. ثم قرأتُ لها: "للكتّاب حياتان: حياة العيش ثم حياة الكتابة. وفي الثانية ثمّة تذوُّقٌ من جديد؛ ثمّة تفاعلٌ آجِل". كانت هذه الكلمات فتحاً لي، فالأوقاتُ التي قضيتُها وأنا أسترجع الأيام والسنوات في ما أكتبه، وأعيد تشكيل الأحداث والحوارات على الورق كانت دِربةً لِيَدي على الكتابة.
نشأتُ في كويتِ الثمانينيات. في تلك الفترة لم أرَ من الإرهاصات ما يُنبئ بأني سأكون كاتبةً، لا سيما أن لغتِي الأمّ كانت الإنجليزية. وحتى من كتبوا بالعربية لم يروا في الأدب سوى هوايةً جانبيةً بدوامٍ جزئيّ، فجُلّهم كانوا يحترفون الصحافة أو يعملون في وظيفةٍ حكوميةٍ أو في شركةٍ خاصة. ولم يكن هناك برامج تدريبٍ على الكتابة الأدبية. كنتُ أَدرس في مدرسة أمريكية تختلف عن المدارس الحكومية التي تلتحق بها معظم الفتيات الكويتيات، وهو ما خلق شيئاً من الجفاء بيني وبين محيطي الثقافي واللغوي. أردتُ أن أصبح كاتبةً في بلدٍ لا يوفّر بيئةً ملائمةً للكتّاب مما أشعرَني بالاغتراب ثُمّ باليأس، إلّا أن إصرارَ نين وكلامَها عن الكتابة أوقَد همّتي للاستمرار.
وفتحتْ لي كتاباتُ نين باباً آخَر، كالذي انسقتُ فيه وراء جويس، يومَ قالت: "لقد نقضتُ كلّ الأعراف؛ رأيَ العالَم بأسْرِه؛ كلَّ قوانينِه. أنا لستُ ملزَمةً بأن أؤدّي دوراً اجتماعياً". وما كان ستيفن يحتقره من الأصوات الجوفاء المنبعثة من الكنيسة والوطن والعائلة، كانت نين ترفضه بكلماتٍ أُخَر. لَمْ يجد الاثنان غضاضةً في وصف الإدراك الجنسي للمراهق، ضاربَيْن بالأعراف المحافِظةِ عرضَ الحائط. مرّت نين بتجربتها الأولى في سن الثامنة والعشرين بينما خاضها جويس في مراهَقته. ومثلهما أنا، كان هدفي أن أُصبح كاتبةً، أُصبح كائناً جنسياً – أو بالأحرى فتاةً جنسية – وهو ما لم يكن التعبيرُ عنه وفهمُه أمراً سهلاً في الكويت آنذاك. مع ذلك كان الأمرُ أسهلَ عليَّ من الفتيات الكويتيات الأُخرَيات بسبب المدرسة التي التحقتُ بها ولأن أهلي كانوا أكثر تساهلاً مِن غيرهم، لكن هذا لم يمنع شعوري بأني مقيَّدةٌ بشِباك الأدب وضوابط المجتمع. فأيُّ زلّةٍ من فتاةٍ قد تُزعزِع سمعتَها وسمعةَ عائلتها ثم تهدِّد فرصَها في الزواج، وهو ما كان منتهى الأمل حينَها ولا يزال كذلك عند الأغلبية المحافظة. وهرباً من كلّ ذلك ألقيتُ نفسي في ربوع كتابة الرواية، أُفضفِض لها برغباتي الدفينة، كتطلعاتي الكتابية، التي كانت مسموحةً بل محلَّ حفاوةٍ أيضاً.
حين امتزجتْ رغباتي الجنسية مع الكتابة أوّلَ مرّةٍ كانت جنونيةً وماتعةً بالقَدْر نفسِه. ويُعيد ذلك مشهد ستيفن الذي يتخلّى أخيراً عن مسلك الكهنوت الكنسيّ في لحظةٍ من الانكشاف، ويُلقي عن كاهله كلّ مشاعر الذنب، وينتصر لوعد الشباب:
"لقد كان وحيداً لا أحد يُلقي له بالاً، سعيداً وقريباً من ضجيج الحياة قي قلبه. كان وحيداً وشابّاً مفعَماً بالعزم والروح، واقفاً وحيداً بين الرياح العاتية والمياه المالحة، وأصداف البحر، وأشعة الشمس المستترة بالضباب، وشخوص الصبيان والبنات المرحين الفرحين وأصواتهم وأصواتهنّ تملأ الأجواء".
كانت هذه اللغة الكثيفة تعبِّر عن المشاعر المتدافعة في الجسم مجسِّدةً الرغبات والكلمات معاً. كلّ ذلك كان أكبرَ من عمر فتاةٍ في ربيعها الرابع عشر ببلدٍ مسلم. لقد تشرّبتُ هذا الكلام في أعماقي وأشعَرَني بالحرّية.
في قراءتي الأولى لرواية "صورة الفنان في شبابه" لم أعِ السخريةَ التي تنطوي عليها، ولم أستوعب هذا الجانب إلا بعد أن تجاوزتُ العشرينات من عمري. حينها لاحظتُ أن جويس كان يسخر من عنجهية ستيفن ورومانسيته المأساوية البائسة. بمرور الوقت تبدّت حماقةُ إيكاروس، لا سيما إذا ما نظرت إليها من منظور والده الحكيم ديدلس. ويتجلّى ذلك كلّما اقتربت نهايةُ الرواية، وكذلك مع الانتقال المفاجئ من الكتابة الحرّة غير المباشرة بضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم، إذ تقفز الرواية إلى اقتباس مذكّرات ستيفن القصيرة مع دُنُوّ أجَلِه. وكانت الجملة الأخيرة في الرواية دعاءً بشكل أو بآخر: "أيها الأب، أيها الصانع، فلتكن معي الآن وأبداً". ولم يكن ستيفن يدعو الرب بل كان يصلّي للإبداع نفسه وللمهارة والابتكار، وهي القيم التي تجلّت في أبيه. ولعلّ في ذلك تناقضاً مع الطابع العام وهو الابتعاد المستمر والعازم عن العائلة حتى تلك اللحظة، وهذا ما يدفع إلى التساؤل: هل ستيفن عالقٌ في الشِباك أكثرَ ممّا يظنّ؟ في خاطرته قبل الأخيرة يقول: "أهلاً بكِ أيتها الحياة. سأذهب لأواجه الواقع للمرّة المليون ولأصبّ في روحي وعياً لَم يعرفْه بنو جلدتي من قبلُ". وإذا كان هذا فعلاً ما يشعر به، فلعلّه كان عالقاً في الشِراك، عالقاً في دائرةٍ مفرَغةٍ من التجارب المكرَّرة مليون مرّة، يمشي على دروبٍ مشت عليها قبلَه أفواجٌ وأجيالٌ. وفي وجه حتمية الأقدار لا يملك حولاً ولا قوّة. هذه التعليقات التي يكتبها جويس عن ستيفن تغتال عنفوانَ شبابه في أعين القارئ، وتُعلِن في الوقت نفسه الوصولَ المنتظَرَ للفنّان الذي صنع شخصية ستيفن.
لا يحاول جويس إعادة إنتاج معادلةٍ مستهلَكة عن ماهية الإيرلندي أو الفنان عكسَ ستيفن، بل يكتفي بإبقاء هذه الأسئلة مفتوحةً مع نهاية رواية "صورة الفنان في شبابه". وبذلك ينزع طابعَ الشخصنة من قصص الوطن والعِرق والانتماء، ويصدِّر بدلاً من ذلك الاحتمالات السرمدية التي يمكن أن تتشكّل بها هذه العناصر باختلاف الزمان والمكان.
لقد سافرَتْ إيرلندا متجاوزةً حدودَ الأقطار لتصلَ إلى الكويت. وعنوانُ أولى رواياتي "منزلٌ لا يدوم" مستوحىً من اقتباسٍ يَرِدُ في نهاية رواية "صورة الفنان في شبابه" يتجلّى فيه شعورُ اللا انتماء: " ثم كان سيذهب مع العصافير التي تغدو وتروح، تبني بيوتاً لا تدوم في حوافّ سقوف المنازل ثم تهجر هذه البيوت التي بنَتْها كي تهيم في الأرض".
الطيور تحلّق بأسرابٍ في رواية "صورة الفنان في شبابه"؛ وهذا ما استلهمتُه منها عندما شعرتُ أن العنوان المزمَع لروايتي الأولى لم يؤدّ الغرض. فعنصر الطيور حاضرٌ في روايتي أيضاً؛ أن نبني بيوتاً لا تدوم ثم نهجرها لنهيم في الأرض. إنه أحد الدروب التي تسلكها الشخصيات النسوية في روايتي، وكأنهنّ عصافير وبناتُ سبيلٍ، ويتحوّل هذا العنصر إلى المحرِّك الذي يدفع السرديةَ إلى الأمام. في روايتي أنسج كُوَيْتاً من مخيّلتي؛ كويتٌ تُشكّل التاريخَ الصلبَ لإنتاجِ حاضرٍ متغيّرٍ ومستقبَلٍ مختلف، لغةً وأسلوباً. لَمْ أستحضِر صورةَ جويس وأنا أكتب "منزلٌ لا يدوم" ولكن بعد أن أنهيتُها استحضرتُ شخصيةَ "الصانع القديم" وكلَّ ما كان معه من صقرٍ ومالك حزين وإوزةٍ ونورسٍ وسنونو، وأدركتُ وقتها كم تشرّبتُه وكم أنا ممتنةٌ لذلك.
منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا أُدرّس "صورة الفنان في شبابه" في مساقاتٍ عن الحداثة في جامعة الكويت من حينٍ لآخر. ومع انخفاض الطلب على مساقات الحداثة في العقد الأخير، لم أُدرّس هذا الموضوعَ كثيراً. لكن هذا العام عزمتُ على إعادة هذا المساق لأني افتقدتُه كثيراً، وقد سجّل فيه سبعة طلاب بكالوريوس في عامهم الأخير. ولا أدري ما حاجتهم للتعلّم عن الحداثة الأوروبية الأمريكية وما حاجة ذلك لطالب جامعة يدرس الأدب في الكويت اليوم؟ ماذا سيجدون في "صورة الفنان في شبابه"؟ فطلابي، حالُهم كحالِ طلاب الجامعات في العالم كلِّه، مهتمّون بإيجاد هويةٍ لهم أكثرَ من اهتمامهم بتقدير قوّة اللا انتماء. فغايةُ مُناهم التعبيرُ عن أنفسهم بمسميّاتٍ توطِّد صفاتِهم وخصالَهم، مهما كانت هذه الصفات والخصال. وإيجاد الهوية يمنحهم شيئاً من الطمأنينة في عالم الشبكات الاجتماعية المفتّت والاستهلاك المفرط، حيث يبحثون جاهدين عن جماعةٍ ينتمون لها. إلّا أن هذه الرغبة بالهوية تُوصِد البابَ في وجه الصُدَف والانفتاح والتحوّل، أي احتمالية ترتّب الأمور بطريقةٍ مغايرة. ولا أظنّ أن طلّابي يَعُون ذلك، فهم لا يَرَوْن رغبتَهم بالهوية منزلَقاً نحو الشِباك التي تحدّث عنها جويس بل يَرَوْن فيها تعبيراً عن ذاتهم. كما أنهم لا يدركون سهولةَ استغلالِ هذا التعبير الخوارزمي المنظّم عن الذات.
وجد الفنّانون والنقّاد الحداثيون، كتيودور أدورنو، أن الفكر النقدي يتّسم بالتعقيد. فاللغة أو الأسلوب أو الشكل الذي يحاول تبطئةَ الإدراك يخلقُ مشاعرَ ومفاهيمَ جديدة. والبطءُ عكس الثقافة الرقمية المتسارعة التي التهمت طلابي. كانت قراءةُ جويس لطلابي عذاباً، فقد أصررتُ أن نقرأ النص جهراً صفحةً صفحة، ونمرّ على كلّ سطرٍ فيه. ولو تركتُ الخيار لهم لاعتمدوا الملخّصات الموجودة على الإنترنت لا الكتاب نفسه. هل كان ذلك مجدياً؟ هل استفادوا من هذه العملية؟ لستُ متأكّدة. لم أشهد أي "انكشافاتٍ" لا في قاعة المحاضرة ولا في كتاباتهم، ولكن هذا في عِلم الغيب. كان تشارُكُنا بهذه التجربة من البداية إلى النهاية انتصاراً بحدّ ذاته، فقد أُتيحت لي مشاركةُ تجربةِ القراءة، التي كانت تحصيل حاصلٍ عندما كنتُ في عمرهم. ولا أقصد بذلك القراءة المغلقة العميقة كما تفهمها المدرسة النقدية الجديدة، أي قراءة النص بمعزلٍ عن أي سياقاتٍ خارجةٍ عنه، وإنما قراءة مباشرة تستحثُّ بها الكلماتُ على وجه صفحة الكتاب المشاعرَ. حاولتُ أن أناقش طلابي عن تجاوز الكتابة التجريبية إلى التفكير الحر بل إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إلى الوجود العفويّ في العالم. لا أعرف إن كانوا قد مرّوا بتلك التجربة الكثيفة العميقة التي مررتُ بها عندما كنت في سن الرابعة عشر. فجيلُهم غارقٌ في محيطٍ من الملهِيات التي تتنافس على سرقة انتباههم، ولا ملامةَ عليهم في ذلك. لَم تختلف الكويت كثيراً عمّا كانت عليه، فلا تزال قيود العائلة والدين واللغة والجنسية والقانون مفروضة، بل زادت بعضها في المجتمعات المحافظة التي تشكِّل الأغلبيةَ اليوم. لذلك فالمشكلة مستعصية الحلّ طالما أن الثقافة الاستهلاكية تقوِّض المهارات النقدية التي تستنطق تلك القيود، وهي مهاراتٌ تغذّيها النصوص الحداثية.
تُخيّر كليةُ الآداب في جامعة الكويت الطلابَ بين تخصّصَي الأدب أو اللسانيات، ومعظمُ الطلاب يختارون اللسانيات بسبب سهولتها، كما يعلّل الطلابُ، مع أن الحال لم يكن كذلك في السابق. في المعركة بين اليسير والصعب ينتصر اليسيرُ كلّ مرّة، وما كان هذا ليروقَ جويس في الكويت ولا حتى للحداثة. قد نرثي نحن المدرسون والكتّاب والمفكرون والمخلوقات الأخلاقية التفكيرَ النقدي في مواجهة الإعلام النقدي والذكاء الاصطناعي. وقد يُنظر إلينا على أننا خارج ركب الثقافة المعاصرة، نخبويين وتقليديين أو – يا للهول – عَجَزَة. ومع ذلك يصمد صنفٌ من الكتّاب في وجه السائد. ولعلّ الرغبةَ في عدم الانصياع ميزةٌ "ستيفينية" عديمةُ الجدوى. ولكن هذه اللا جدوى قد تجلب معها بذرةً صغيرةً لمستقبلٍ بديلٍ لا يمكن التنبّؤ به أو تفكيكه قبل قدومه. وليس هذا تعبيراً عن آمالٍ مثاليةٍ غير متحقّقة، وإنما انتصاراً لقوة الأدب الراسخة في مواجهة هذا المكان المسعور المحيّر الذي نسمّيه وطناً.
