كيف دمّرت الحرب والمجاعة مكتبات غزة

إن كان المغول أتوا على مدينة بغداد ودمّروا مكتبتها، فإنه لم تنجُ مكتبة من جحيم الحرب الإسرائيلية على غزة

Share
كيف دمّرت الحرب والمجاعة مكتبات غزة
تُباد الحياة الثقافية أيضاً في غزة / تصميم خاص بمجلة الفِراتس

بعد أيامٍ قليلةٍ من بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، حمل الكاتب والأكاديمي الفلسطيني محمود عساف ذكرياته وأطفالَه ونزح من بيته في حيّ تل الهوى جنوب مدينة غزة، ظنّاً منه أنه سيعود في القريب. ترك منزلَه ومكتبتَه التي تضمّ أعزَ ما يملك، أكثرَ من ثلاثين ألف كتابٍ في شتّى التخصّصات، إلى جانب الروايات والمعاجم، جمعها على مدار خمسةٍ وثلاثين عاماً من عمره. مرّت الأيام والأسابيع والشهور، بينما عساف يتنقل بين خيمةٍ وأُخرى في وسط القطاع وجنوبه. لم يتمكّن من العودة بعد قطع الجيش الإسرائيلي الطرقَ وفصلِ مدينة غزة وشمال القطاع عن الوسط والجنوب بما بات يسمّى محور نتساريم جنوب وادي غزة. وفي السادس عشر من نوفمبر 2024 كان عساف على موعدٍ مع النكبة الأكبر بين نكبات الحرب حين تلقّى المحاضرُ الفلسطينيّ، الذي ألَّف خمسةً وعشرين كتاباً ونشر أكثر من مئة بحثٍ علميٍّ، اتصالاً هاتفياً من صاحب مجموعة أفران خبزٍ طينيةٍ يعرض عليه شراء ما تبقّى من محتويات مكتبته المنزلية بعد أن تلف بعضها جرّاء القصف الإسرائيلي، لتكون وقوداً بديلاً عن الحطب، مقابل مبلغٍ ماليٍّ يحوّله له عبر تطبيقٍ بنكيٍّ إلكترونيّ. 

فَقَدَ عساف الأملَ في العودة إلى منزله ومكتبته وكتبه وحاقت به المصائب، لا بسبب مصير إرثه المعرفي والعلمي وحسب، بل أيضاً لعجزه عن رفض العرض لضيق الحال وحاجة أطفاله الخمسة الذين يعانون الحرمان والجوع. يقول عساف إنّ ما جاءه: "اتصالٌ مشؤومٌ ينذر بأن القادم قاتمٌ، وأن آخِر معاقل الإنسانية والثقافة بدأ ينهار على عتبات الجوع والطمع والوقاحة"، ويُردِف، "ليتني متّ قبل هذا"، مشيراً إلى جانب آخَر من الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة يشبه ما فعله التتار بمكتبة بغداد وحواضرها الثقافية في القرن الثالث عشر تقريباً. إذ تُحرَق في غزّة الكتبُ وتُباد المكتبات العامة والخاصة ودُور النشر والأرشيف ومظاهر التراث الثقافي والفكري كافةً، كما يُباد الفلسطينيون وأُسَرهم قتلاً وتجويعاً. وكأن هذه الحلقةَ الأعنفَ في مسيرةٍ إسرائيليةٍ طولُها عقودٌ استَهدفَت الثقافة الفلسطينية، بهدف طمسها لنزع الفلسطينيّ من سياقه وهويته وتاريخه.


في دراسةٍ نشرها المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين "بديل" سنة 2009، ذكر مدير مكتبة المجلس التشريعي برام الله، عنان حمد، أنه لم يحدث أن حُوربت المكتبات والثقافة بوحشيةٍ سوى في عهدين؛ عهد المغول واحتلالهم العراق وتدميرهم المكتبات وإغراق نهر دجلة بجميع الكتب والمخطوطات سنة 1258، وعهد احتلال الصهاينة فلسطينَ بعدما نهبت العصاباتُ الصهيونية ثلاثين ألف كتابٍ ومخطوطةٍ من بيوت الفلسطينيين أثناء النكبة سنة 1948. استولت كذلك على محتويات المكتبات العامة ومكتبات المؤسسات، ومنها مكتبات دوائر حكومة الانتداب البريطاني، ونقلت قسماً منها إلى مكتبات معاهد "الدولة الناشئة" وإلى مكتبة الجامعة العبرية ومكتبات إسرائيليةٍ أخرى، وما زالت كتبٌ كثيرة مكتوباً عليها عبارة "ممتلكات متروكة". وبعد أن احتلّت إسرائيلُ قطاعَ غزّة والضفّة الغربية سنة 1967، حاصرت إسرائيلُ المكتباتِ الفلسطينيةَ حصاراً ثقافياً بمنع الكتب وحظر استيرادها، وتعمّدت سلطاتُ الاحتلال حرقَ المكتبات ومصادرة المقتنيات النادرة.

لم يقتصر استهدافُ إسرائيل الثقافةَ الفلسطينية على الأراضي المحتلّة، بل هاجم الجيشُ الإسرائيليُّ مركزَ الأبحاثِ التابعَ لمنظمة التحرير الفلسطينية أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبنانَ سنة 1982 واستولى على مكتبته التي ضمّت نحو عشرين ألف مجلّدٍ، منها خمسة عشر ألفاً باللغة الإنجليزية. شملت هذه المقتنياتُ وثائقَ المنظمة وأرشيفَها المركزيّ، ونُقلَت إلى مكتبة الجامعة العبرية حيث أُدرجت ضمن قسم الدراسات الفلسطينية. وقد أعادت إسرائيلُ جزءاً كبيراً منها إلى منظمة التحرير سنة 1985، بعد أن نسخت جميع المجلدات والوثائق وصَوَّرَتها.

شهدت المكتبات الفلسطينية نهضةً ملحوظةً مع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قطاع غزة والضفة الغربية سنة 1994 بعد اتفاقية أوسلو، إلّا أنها نهضةٌ قُوبِلَت بحملاتٍ إسرائيليةٍ متكرّرةٍ للتضييق على المكتبات، سواءً كانت مكتباتٍ عامّةً أو خاصّةً أو تابعةً للجامعات.

تصاعدت الاستهدافات أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، خاصّةً في قطاع غزة، حيث دمّرت القواتُ الإسرائيلية العديدَ من المكتبات ونهبتها. تكرّرت هذه الاعتداءات، خاصّةً في حربَي 2008-2009 و2021، حين استُهدِفَت الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر وجامعة القدس المفتوحة وغيرها من المؤسسات التعليمية، ودُمّرت مكتباتٌ خاصّةٌ كلّياً أكثرَ من مرّةٍ، مثل مكتبة سمير منصور في مدينة غزة. 

عقب سيطرة حركة حماس على غزة سنة 2007، شدّدت إسرائيلُ حصارَها على القطاع، ما أدّى إلى تدهورٍ حادٍّ في الأوضاع الإنسانية والثقافية. فأصبح إدخال الكتب والمواد المطبوعة مهمّةً شبه مستحيلةٍ، حتى أنها "تجاوزت صعوبة إدخال المواد الغذائية الأساسية"، كما يقول عاطف الدرّة، صاحب دار الكلمة للنشر التي تأسست سنة 2005. ويُضيف أن الفنانين والأدباء مُنعوا من المشاركة في الفعاليات والمؤتمرات الدولية، وحُظرت إقامة المعارض والندوات الثقافية. قابل الفلسطينيون هذا التضييق بوسائل بديلةٍ لنشر المعرفة والثقافة، مثل المكتبات الإلكترونية والمبادرات الفردية لإصدار الكتب والمجلات. ومع ذلك فإن هذه الجهود لم تكن كافيةً لتعويض الخسائر الفادحة التي لحقت بالحياة الثقافية في غزة.


مع أن استهداف المشهد الثقافي الفلسطيني مستمرٌّ وتراكميٌّ، إلّا أن ما حدث في حرب 2023-2024 الحاليّة يمكن أن يُعَدّ مجزرةً ثقافيةً موازيةً القتلَ الجماعيَّ والتدميرَ في أرجاء غزة. كان في القطاع قبل الحرب الحاليّة ستّةٌ وسبعون مركزاً ثقافياً وثلاثة مسارح وخمسة متاحف وخمس عشرة دار نشرٍ ومركزاً لبيع الكتب وثمانون مكتبةً عامّةً أو ضمن مرافق المؤسسات العامة والأهلية والخاصة، وذلك بحسب بيانات وزارة الثقافة الفلسطينية. وقدّرت الوزارة كذلك نسبة توفّر المكتبات المنزلية الخاصّة بنحو 34 بالمئة من الأُسَر في قطاع غزة، أي ثلاثٍ من كلّ عشر أُسَرٍ لديها مكتبةٌ منزلية.

ومع بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023، دمّر القصفُ المباشر والإحراق مناحي الثقافة الفلسطينية كافّةً في عمليات التوغل البرّي. وثّق جهاز الإحصاء الفلسطيني حتى الثالث عشر من مارس 2024 مقتلَ خمسةٍ وأربعين كاتباً وفناناً وناشطاً فلسطينياً في الحقل الثقافي والتراث، وتدمير اثنين وثلاثين مركزاً ومؤسسةً ثقافيةً واثني عشر متحفاً. واندثر أكثر من ألفين ومئة قطعةٍ من الأثواب والقطع المطرّزة ودُمّرت سبعٌ وعشرون جداريةٌ وقُصِفت ثماني دور نشرٍ وطباعةٍ وثلاث شركاتٍ ومراكز إنتاجيةٍ إعلاميةٍ وفنّيةٍ وتسع مكتباتٍ عامّةٍ وأربعة مقاماتٍ دينيةٍ وأَسْبِلَةِ مياه. ودَمّر الجيشُ الإسرائيليُّ أكثر من خمسمئة مسجدٍ ما بين تدميرٍ كاملٍ وجزئيٍّ، وثلاث كنائس ومئةً وخمسةً وتسعين مبنىً تاريخياً وتسعة مواقع أثريةٍ وتسع عشرة جامعةً وكُلّية.

من بين المكتبات التي قُصفت وحُرقت مكتبة بلدية غزة الرئيسة التي تحوي آلاف الكتب والوثائق، وأرشيف المدينة المركزي الذي يحوي سجلّاتٍ توثّق مئةً وخمسين عاماً من تاريخ المدينة. فقد أعلن رئيس البلدية يحيى السرّاج في بداية العام الحاليّ أن كامل الأرشيف دُمّر وحُرق، ما يعني فقدان تاريخ المدينة المدوَّن أبداً. وأُحرقت مسارحُ البلدية ومكتباتُها الأُخرى وقُصفت ودُمّرت كلّها إلى جانب مكتبات الجامعات مثل الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر وجامعة الأقصى وجامعة القدس المفتوحة. وزرع الجيش الإسرائيلي المتفجّراتِ في مكتبة جامعة الإسراء ونَسَفَها ومعها المتحف الوطنيّ الملحق بعد أن استولى على ثلاثة آلاف قطعةٍ أثريةٍ بالمتحف قبل التفجير.

دُمِّرَت 60 بالمئة من المباني التجارية والحكومية والسكنية في مختلف مناطق قطاع غزة. طال الدمارُ مئات المكتبات المتخصصة التابعة لمؤسساتٍ حقوقيةٍ وثقافيةٍ ونسويةٍ ومكتبات المنازل الشخصية. وَصَفَت منظمةُ "مكتبيون ومؤرشفون من أجل فلسطين" في تقريرٍ وثّقت فيه "التدمير والإتلاف والنهب" الإسرائيليّ للأرشيفات والمكتبات والمتاحف في غزة من أكتوبر 2023 وحتى يناير 2024، بأنه طمسٌ للتاريخ والثقافة الفلسطينية للحدّ من حقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره ولنزع وجوده العرقيّ والتاريخيّ وأصول هويّته الفردية شعباً ذا سِماتٍ مستقلة.


بعد أن أحرق الجيشُ الإسرائيليُّ مكتبة دار الكلمة للنشر، عاطف الدرّة، في الحادي عشر من ديسمبر 2023، قال صاحبها عاطف معلّقاً على استهداف إسرائيل البعدَ الثقافيَّ في قطاع غزّة: "لا بيع ولا نشر ولا طباعة. كلّ عملنا توقّف من اليوم الأوّل للحرب، وبعدها تعرّضت الدار للحرق والتدمير الكامل خلال اجتياح الجيش للمدينة. اُحرقت الكتب والمجلدات وحتى ماكينات الطباعة".

قبل السابع من أكتوبر 2023 اختصّت دارُ الكلمة بطبع كتب القضية الفلسطينية وإسرائيل ومجلّداتها، سواءً كان الكاتب والناشر من فلسطين أو من خارجها. وكان الدُرّة يركّز اهتمامه على توفير تلك الكتب المتخصّصة في مجال عمله واهتمامه، لكنه كان يواجه عقبتين. الأولى منع سلطات إسرائيل المتحكّمة بالمعابر تصدير الكتب، فهي تسمح لهم بالاستيراد فقط. العقبة الثانية فرض القيود على استيراد الكتب والمجلّدات الخاصّة بالقضيّة الفلسطينية أو المجتمع الإسرائيليّ، إذ يَمنع الرقيبُ العسكريُّ الإسرائيليُّ استيرادَها من الخارج إلى الضفّة الغربية ومن ثمّ إلى غزّة. والرقيبُ العسكريُّ الإسرائيليُّ وحدةٌ استخباريةٌ عسكريةٌ في الجيش الإسرائيلي مهمّتها الرقابة الوقائية على نشر المعلومات والتحكّم بما يصل منها للجمهور.

العقبات نفسها أشار إليها مدير مكتبة الشروق الثقافية، الواقعة بجوار الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر غرب مدينة غزة، عدلي نزال في حديثه للفِراتْس، مضيفاً إليها عاملَ الركود الذي عانته المكتبة في عمليات البيع قبل الحرب بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية في القطاع. ويقول عدلي: "كان عنّا زبائن دائمين من القراء والمثقفين، لكن عمليات البيع بشكل عام كانت تمرّ بفترة ركود نتيجة الوضع الاقتصادي والسياسي". ويضيف: "كانت هناك رقابة إسرائيلية على استيراد الكتب، وبالتحديد الكتب اللبنانية. كانت شبه ممنوعة من الدخول، وكنا بحاجة لعمل تنسيق خاص للسماح لنا باستيرادها سواء إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة".

على غرار دار الكلمة للنشر والتوزيع، قُصفت مكتبة الشروق ودُمّرت جزئياً في اليوم الثاني للحرب، ثم قُصفت مرّةً ثانيةً بعد عدّة أيّامٍ فدُمِّرَت المكتبة بكلّ محتوياتها، ثمّ قصفَ الجيشُ العمارةَ التي تحتوي على عدّة مؤسساتٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ ومسرحٍ والمكتبة أسفلها.

يقول عدلي نزال إن "ما لم يدمّره الاحتلال يحرقه النازحون من أجل إشعال النار للتدفئة أو الخبز أو طهي الطعام". نزح نزال وعائلته إلى جنوب القطاع بعد قصف مكتبته ودمار كلّ محتوياتها، موضحاً أن أحد معارفه أرسل إليه مقطعاً مصوراً لبعض النازحين الذين كانوا يقيمون في مباني الجامعة الإسلامية القريبة من المكتبة وهم يدخلونها ويحملون كلّ ما تبقّى فيها من كتبٍ وأرفف خشبيةٍ ومعدّات تصويرٍ وطباعةٍ ليستخدموها في إشعال النار للتدفئة وصنع الخبز.

بالطريقة نفسها التي وصلت بها أنباء إشعال النازحين النارَ في كتب مكتبات الشروق وأرفُفِها إلى صاحبها عدلي نزال، وصل صاحب الأفران الطينية إلى عساف الموجود في جنوب قطاع غزة بمكالمةٍ هاتفيةٍ قدّم عرضه فيها. رفض المحاضرُ الفلسطينيُّ حرقَ كتبِه وأبحاثِه العلميةِ لإشعال أفران الخبز بعد نفاد الوقود والحطب في مدينة غزة. وكان رفضُ عساف متزامناً مع حصوله على المرتبة الثالثة عربياً ضمن أفضل عشرة مؤلفين مؤثرين في الوطن العربي، حسب تقرير معامِل التأثير والاستشهادات المرجعية للمجلات العلمية العربية "آرسيف" لعام 2024.

بدأت رحلة عساف مع القراءة وهو في الصف السادس الابتدائي، حين أهدته والدتُه كتابَ "إحياء علوم الدين" لأبي حامدٍ الغزاليّ، وهو أوّل كتابٍ زَرَعَه في مكتبته. يستذكر كلماتِها، "من لم يقرأ الإحياء، فهو ليس من الأحياء، اقرأ لتبقى حيّاً". دفعت كلماتُ الأمّ ابنَها لمزيدٍ من الافتتان باقتناء الكتب وقراءتها، ومواصلة مسيرته العلمية حتى حصل على درجة بكالوريوس في علوم الرياضيات ودرجة بكالوريوس أُخرى في القانون، ومن ثمّ درجة الماجستير في أصول التربية، وأخيراً درجة الدكتوراه في الإدارة التربوية.

مكتبات غزة
رسالة عساف إلى الفِراتسْ بعنوان "ليتني متّ قبل هذا"

الكاتب والأديب الفلسطيني محمود جودة من الكُتّاب الذين فقدوا مكتباتهم المنزلية في مدينة غزّة أيضاً. أصدر جودة مجموعاتٍ قصصيةً في غزّة بعنوان "غزة اليتيمة"، وكتاب "رسائل إلى بغداد" ورواية "حديقة السيقان"، قبل اضطراره للنزوح قسرياً إلى جنوب القطاع ثمّ السَفَر مع عائلته إلى مصر ثمّ جنوب أفريقيا. يقول جودة :"إن أعظم الخسارات هي التي تقع في الأرواح، لكن أوجعها تلك التي وَضعت أرواحَها فينا. هذه هي المكتبة الشخصية بعد أن نعيد تعريفها فلسطينياً. لقد فقدنا ككتابٍ وصحافيين وعموم المهتمين في المجال الثقافي أرواحَنا الافتراضية التي توزّعت بين دفّات الكتب، وعلى أرفف المكتبة التي ضاعت تحت القصف والحرق والنهب".

فَقَدَ جودةُ مكتبتَه الصغيرة المتنوعة، كما يصِفها، مشيراً إلى أنها كانت رُكناً مهماً في منزله وكانت تضمّ كتبَه ورواياتِه المفضّلة التي جمعها واقتناها في سنوات الدراسة والاطلاع والسفر، وأغلبها إهداءاتٌ شخصيةٌ من أصدقائه الكتّاب والأدباء. ويعلّق: "أجمل الكتب كان ديوان شعرٍ للشاعر محمود درويش جَلَبْتُه من القاهرة عام 2022، وكنت أعتبر أنني أملك شيئاً مميزاً". وبقي ديوان درويش جوار دواوين ورواياتٍ وكتبٍ أُخرى في منزله بغزّة، بينما اضطرّ هو للنزوح والسفر، حتى أرسل له صديقٌ ما زال في القطاع بعضَ الصور لمنزله. يقول جودة: "رأيتُ كلّ شيءٍ وقد تحوّل إلى حالةٍ من الجنون. الكتب في مكانٍ والأثاث قد تكسّر، وبعض الغرف أُحرِقَت بفعل القذائف. ربما تَهُون بعضُ الأشياء التي يمكن شراؤها، لكن لا أعتقد أن شيئاً يمكن أن يعوّض كتاباً كنتَ تحبُّه، وأقمتَ علاقةً مع رائحته وذكرياته وسرد كلماته".

يقول جودة إنّه لم يَبْرَأْ بعدُ من فقدِ كتبِه، "ولا يمكن أن يستقيم معه الوجدان أو يتصالح. ربما تكون لنا مكتبات أُخرى، لن تكون مثل التجربة الأولى، أنا الآن في الشتات أمنع نفسي من أن أُعلّق بروازاً على حائط بيتي المستأجَر، لأنني أعرف أنني مؤقَّتٌ هنا. هذا على البرواز، فكيف لي أن أتجرّأ وتكون لي مكتبة".


مِثلَ عساف وجودة، فَقَدَ كاتبُ هذه السطور كُتُبَه التي جَمَعَها أثناء دراسته الجامعية للصحافة وبعدها العلوم السياسية، وفَقَدَ معها الرواياتِ المهداةَ من كتّابها. كنتُ أحتفظ بالكتب في إحدى زوايا منزلي، ولكلّ كتابٍ وروايةٍ قصةٌ في تنقّلها من بلدٍ إلى آخَر وبين المطارات والمعابر وصولاً إلى غزّة المُحاصَرة. كنتُ أشعر أنها مثل أبنائي قبل أن أُضْطَرَّ أنا أيضاً لتركها والنزوح جنوب القطاع على أمل العودة التي لم تتحقّق منذ أكثر من عام.

في السابق عندما أبحث عن أحد الكتب ولا أجده كنتُ أبحث عنه على شبكات الإنترنت عَلَّني أجد نسخةً رقميةً منه، وحين أجده أقرؤه متجاوزاً كلّ العقبات. لكن مع الحرب، ومع دمارِ منزلي جزئياً وفقدِ الكثير من محتوياته ومنها الكتب، فقدتُ أيضاً هاتفي المحمول الذي انكسر وصعّب الوصولَ إلى كتبي الرقمية أيضاً. أذكر يوماً من شهر مارس الماضي اتّصل بي هاتفياً صديقٌ مصريٌ قادمٌ ضمن بعثةٍ إنسانيةٍ إلى مدينة رفح، حيث كنتُ نازحاً، وأخبرني أنه يحمل لي هدية. حين التقيتُه لم أصدّق أنّ صديقي الكاتب المصري الشابّ محمد عبد الجواد قد أرسل لي نسخةً من روايتِه "الصداقة كما رواها علي علي"، موقّعةً بخطّ يدِه، احتفظتُ بها وكنتُ أَطْمَئِنّ أنها ما زالت بخيرٍ داخل سيّارتي التي تحوّلت إلى منزلي ووسيلةِ تنقّلي من مكانٍ لآخَر أثناء العمل الميداني. ستةُ أشهرٍ مرّت على احتفاظي بالرواية دون قراءتها، وكنت فرحاً لمجرّد حصولي عليها، وحزيناً  لأنها تذكّرني بما فقدتُ، حتى قرّرتُ التفرّغ لقراءتها. 

أثناء الحرب، اضطُرِرتُ للتنقل بين مدن النزوح ومخيماته كافّةً في جنوب القطاع. تجوّلتُ في الشوارع والأسواق التي نشأت حديثاً في مناطق النازحين قسراً بسبب الحرب. قابلتُ الباعةَ الذين يَعرضون بعض الكتبِ والرواياتِ القديمةِ أو التي أتلفَ القصفُ والدمارُ أغلفتَها، يعرضون عدداً من الكتب والروايات على الأرصفة بين العشرات من بسطات الخضروات والمعلبات والمواد الغذائية. الطعامُ هو الأكثر طلباً وحاجةً لعائلاتٍ فقدت منازلها وأعمالها وكلّ احتياجاتها، وباتت تقضي وقتها في صفوف تعبئة المياه أو الطرود الغذائية أو صفوف قضاء الحاجة.

قابلتُ في جولاتي ممدوح عبد السلام، الشابّ الثلاثينيّ النازحَ من شمال قطاع غزّة إلى مدينة دير البلح وسط القطاع. كان يجلس على الرصيف في السوق ويعرض عدداً من الكتب والروايات التي أصابها التلف، ومع ذلك يبيعها بأضعاف أسعارها الأصلية. قال: "باخد كتب من الناس وبعرضها للبيع، وإللى بلاقيله زبون وببيعه، بحاسب صاحبه، وبطلعلي نسبة ربح بسيطة". يوضح الشاب أنّ العديد من النازحين بعدما ضاقت بهم الحال واضطروا للبحث عن أيّ مصدر دخلٍ قد يساعدهم على شراء احتياجاتهم وأطفالهم من طعامٍ وملابس، فكّروا في بيع الكتب التي ما زالوا يملكونها بأسعارٍ مرتفعةٍ لتوفير سيولةٍ نقدية. ويقول: "اليوم كل شي غالي. المعلبات والخضار سعرها أضعاف سعرها الطبيعي قبل الحرب، وصاحب الكتاب بحاجة لتوفير أعلى مبلغ نقدي".

جمعتني الأقدارُ كذلك بالشابّة مروة أبو ريّا، الأخصائية النفسية، وهي مفتونةٌ بالقراءة قبل أن تفقد عملها بسبب الحرب. كانت صديقتُها صفية، التي كانت تعمل في مكتبة سمير منصور بغزة، تمنحها الكتب والروايات لقراءتها، تقول مروة: "صفية هي اللي كانت بتشجعني على القراءة بشكل دائم، وكانت دايماً تحكيلي، ما بفيدك ولا بنمّي تفكيرك وقدراتك غير الكتب والروايات".

كانت مروة تقضي النهار في عملها وتُفرّغ ساعات الليل لكُتبِها ومكتبتها الصغيرة التي بدأت في تأسيسها داخل غرفتها بمنزلهم في مخيم البريج وسط قطاع غزة. استمرّت على هذه الحال حتى تفجّرت الأوضاع ونشبت الحرب لتضطرّ إلى التوقف عن القراءة، فتقول: "يعني المكتبة اللي كنت أجيب منها كتب، تعرضت للقصف والدمار، وصديقتي صفية قُتلت في قصف إسرائيلي هي وعائلتها، ومشاهد القتل والدمار وأصوات القصف بشكل مستمر غيّرت كلّ تفاصيل حياتي ويومي".

في الأشهر الستة الأولى من الحرب، عملت مروة في المجال الإغاثي الإنساني وتوزيع الطرود الغذائية على النازحين في مخيمات النزوح. وأثناء عملها سمعت من زميلاتها أن معهنّ بعض الكتب والروايات فأصبحت تطلب منهنّ بين الحين والآخَر كتاباً لشَغْل وقتِها بالقراءة بعد انتهاء العمل اليومي، موضحةً "كنت بحاول أشْغِل حالي عن الحرب وأجواء الخوف بالحرب، وبنفس الوقت بستفيد من الوقت بالقراءة وزيادة المعرفة، القراءة بتحلّ كتير من مشاكلي وبتنمّي عقلي بشكل بجذبني إلها".

تقول مروة أيضاً إنها حاولت شراء بعض الكتب والروايات المعروضة على صفحات فيسبوك، لكنها أحجمت بسبب المبالغة في أسعارها، "الواحد صار بفكّر بالاحتياجات الأساسية بالمقام الأول". وفي الأسابيع الماضية كانت في السوق مع صديقتها لشراء بعض المستلزمات، ورأت شاباً يبيع الكتب فقررت هي وصديقتها شراء كتاب ودفعا قيمته الباهظة مناصفةً.

ومع أن الشابّة تجاوزت بعض العقبات واستطاعت توفير بعض الكتب والروايات لإشغال وقتها، حتى وإن كانت تقرأ الكتاب الواحد أكثر من مرّةٍ لانعدام البديل، إلّا أن ما يخيفها كثيراً هو تغيُّر طبيعة الأطفال في مخيمات النزوح وتَبدُّل اهتماماتهم. فبعدما فقدوا مدارسهم ومقاعدهم صاروا يهتمّون بكيفية توفير الطعام والشراب والاحتياجات الأساسية.

تردف مروة: "من ناحية نفسية، الحرب أفقدتنا كل شيء حتى وصلنا الحضيض. مثال لمّا بروح مخيمات النزوح وبشوف طفل ستّ أو ثماني سنوات بقاتل عشان يحصل على صحن معكرونة أو عدس وهو واقف في طابور طويل ورافع صحنه، أو طفل بجري وبسابق الأطفال الآخرين وحتى الكبار عشان يحصل على طرد غذائي لأسرته. هادي هي الحرب، حرب على كل شيء فكري وثقافي وتعليمي ومعرفي".

دمّر الجيشُ الإسرائيلي في أربعة عشر شهراً من الحرب 132 مدرسةً وجامعةً دماراً كلّياً، بينما دمّر 348 مدرسةً وجامعةً دماراً جزئياً في مختلف مناطق قطاع غزة. وفقدَ قرابةُ ثمانمئة ألف طالبٍ مدرسيٍ وجامعيٍ مقاعدَهم الدراسية وحُرموا من التعليم للعام الثاني، حسب الإحصائية الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي بغزّة أواخر نوفمبر الماضي. تحلم مروة بانتهاء الحرب لتستعيد غرفتها وتعيد تجهيز مكتبتها الخاصّة بكتبٍ جديدةٍ لتستمرّ في طموحها وتنمية معارفها بالقراءة، فقد أكسبها هذا "نوعاً من الحكمة" كما تقول.                                              

وكما مروة أبو ريا، أصرّ محمود عساف على استكمال القراءة والكتابة داخل الخيام، قائلاً: "كنت لمّا بمشي بالسوق وبشوف كتاب معروض على الرصيف، بروح أشتريه، وهيك كنت برفع من قيمة المؤلف قبل ما أرفع من قيمة الكتاب نفسه. أنا مؤلف لخمسة وعشرين كتاباً وأعلم جيداً ماذا يعني تأليف كتاب".

وبعد أن أهدته زميلته الأستاذة الجامعية التي تقيم في دير البلح طاولةً حديديةً ومقعداً بلاستيكياً ليواصل القراءة والكتابة ويتغلّب على آلام الغضروف، بدأ عساف من مكتبه في خيمته تحضيرَ جزءٍ ثانٍ من كتابه الأخير الذي ينتظر الطبعَ حالياً "كم موتاً يريدنا"، بعنوان "عمْر يساوي صفر". يقول عن سبب اختياره هذا العنوان: "بعد المضيّ في هذا العمر وما عانيناه، لم يتبقّ في العمر خمسة وثلاثون أو أربعون عاماً إضافيّة لأبدأ من جديد، بالتالي عمري الآن يساوي صفراً بعيداً عن المؤهلات العلمية والمعرفية".


هي حربٌ متشعّبةٌ في أوجُهِ دمارها. فمع القتل الجماعي غير المسبوق والنزوح تُباد الحياة الثقافية ويُستهدَف المثقّفون وكُتبُهم قصفاً وحرقاً ونهباً، وأوجه أخرى شابهت بوحشيّتها ما فعله المغول ببغداد قبل ثمانية قرون. وما ينجو من عدوان إسرائيل من الكتب يصبح بعضُه ملاذاً للجوعى، أي وقوداً للطبخ والتدفئة. ويبقى وجع المثقف بين فقدانه كتبَه، وهي امتداده الروحيّ، وبين رغبةٍ ملحّةٍ بمواصلة القراءة والكتابة ليستمرّ البقاء جسدياً ومعنوياً في زمن الإبادة.  

اشترك في نشرتنا البريدية