وفي لحظةٍ تاريخيةٍ، قبِل اليوسفي أن يتقدّم خطوةً داخل النظام، على أمل أن يتحقق التغيير من الداخل. غير أن ما واجهه كان أبعد من تفاهمٍ سياسيٍّ، إذ وجد نفسه في قلب آلةٍ لا تسمح إلا بالتسيير الرمزي. الوزراء يَفْرِضهم القصر، والقرارات تُصنَع خلف الأبواب المغلقة. خرج اليوسفي من الوزارة الأولى (ما يطلَق على رئاسة الحكومة سابقاً) في 9 أكتوبر سنة 2002. وفي 25 مارس 2003، ألقى كلماته الأخيرة في محاضرةٍ ببروكسل. فاعتبر قرارَ إعفاء الديوان الملكي من تشكيل الحكومة "خروجاً عن المنهجية الديمقراطية"، قبل أن يتوفى في مايو 2020.
بعد حوالي عقدٍ على غياب اليوسفي عن المشهد السياسي المغربي، ظهر في نوفمبر 2011 عبدالإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، في مشهدٍ شبيهٍ ومختلفٍ في الوقت نفسه. قدِم بنكيران من تجربةٍ إسلاميةٍ، واحتضنه الشارع بعد مظاهرات "حركة 20 فبراير" أثناء الربيع العربي سنة 2011. وقد منحه الملك محمد السادس مهمة التهدئة باسم "الاستثناء المغربي". لكنه وجد نفسه محاصراً في شبكةٍ كثيفةٍ من التعليمات والعراقيل الحكومية وحقوق النقض الخفية. وعندما حاول في يوليو 2016 أن يرفع صوته في لقاءٍ جمعه بشبيبة الحزب، قائلاً "في المغرب هناك دولتنا" في نقده لحكومة الظل من مستشاري الملك، خرج هو الآخر من الحكومة بأمرٍ غير معلَن. حُرم بنكيران حتى من الظهور في الإذاعة والتلفزيون العاميْن، كما قال في المؤتمر الجهوي السابع لحزب "المصباح" في يوليو 2025.
ما يجمع الرجلين، على اختلاف مرجعيتيْهما، ليس فقط فشل تجربتيهما في إحداث التغيير، بل وحدة النظام السياسي الذي واجهاه. يبدو النظام في المغرب قادراً على امتصاص النخب وتدجين الزعامات، وتحويلها أدواتٍ شرعيةً عابرة. تجربة الحكم هذه، حين تصبح الزعامة فخاً والسلطة مرآةً مشروطةً، لا تُظهر وجه الدولة الحقيقي إلا عند الانكسار. فكثيراً ما يُصنع الأمل داخل المشهد السياسي المغربي بحذر، ويُجهَض بدقة. منذ الاستقلال وحتى اليوم، توالى على رئاسة الحكومة رجالٌ حملوا على أكتافهم آمال التغيير، لكنهم خرجوا واحداً تلو الآخر وقد تكبّدوا خيباتٍ مُرّة. ليتضح أنّ الزعامة السياسية صعبة التحقق داخل بنية الدولة المغربية. ويبدو مشروع الإصلاح من الداخل سهل الإجهاض، في نظامٍ لا يمنح مفاتيح الفعل لمن هم خارج بنيته العميقة.
لقد بدا المخزن سلطةً تتعمد الحفاظ على حالة "اللاتنظيم الاجتماعي". وكأنها ترى في الفوضى المنظمة شرطاً لاستمرار "سلطتها القهرية"، كما نقل عبدالحق دادي، نائب رئيس مركز ابن غازي للدراسات والأبحاث، وصف المؤرخ الفرنسي ميشو بيلير، في كتابه "سؤال السلطة بالمغرب قراءة في الأسس البنيوية والتشكيلية" الصادر سنة 2023. يتغذى هذا الكيان على الغموض ويمارس سلطته من خلف الستار، حتى لا يُسمّى ولا يُساءَل.
فتنقسم السلطة التنفيذية في البلد إلى مستويَين متداخلَين، لكن غير متساويَين. من جهة، حكومة دستورية يقودها رئيس حكومة منتخَب يكلَّف بتدبير الشأن العام. ومن جهةٍ أخرى، ما يُسمى اصطلاحاً "حكومة الظل"، التي تتكوّن من شبكةٍ غير رسمية من المستشارين والمؤسسات القريبة من الملك ذات نفوذٍ فعليٍّ يتجاوز حدود النصوص القانونية. كتب الصحفي علي أنوزلا في موقع "نواة" سنة 2015 عن "كتيبة المستشارين" التي تستمد قوتها من قربها من الملك، دون أن تخضع لأيّ تأطيرٍ قانونيٍّ واضح. فهُم، كما يقول أنوزلا: "يشكّلون امتداداً لما كان يُسمى في عهد الحسن الثاني 'حكومة البلاط'، التي تحوّلت في عهد محمد السادس إلى 'حكومة الظل'"، بكل ما تحمله العبارة من دلالات هيمنة وتوجيهٍ خفيّ.
هذا الازدواج في السلطة لم يكن يوماً مجرّد توازنٍ وظيفيّ. كان انعكاساً لتفاوتٍ سلطويٍّ عميقٍ تُحرَم فيه الحكومة الدستورية من التأثير في الخيارات الاستراتيجية الكبرى، وتُترك لها فقط مهمة التدبير اليومي والتقني. هي بنية تسمح بتداولٍ محدودٍ للسلطة دون المساس بجوهر النظام، وتؤطر الانتقال الديمقراطي داخل حدودٍ مرسومةٍ سلفاً لا تغيّر قواعد اللعبة بل فقط الوجوه التي تمثلها. هذا ما يشرحه الكاتب حسن الزواوي، في مقالته "النظام السياسي المغربي ومأزق الدمقرطة"، المنشور سنة 2017.
في خلفية هذا المشهد، يطفو المخزن كائناً شبحياً لا يُرى ولا يُمسَك، لكنه حاضر في كلّ تفصيل. لا يرد اسمه في الدستور ولا تعرّفه القوانين، لكنه يحرِّك القرار ويوجِّه المسارات. حتى المؤسسات التي ترتبط به، مثل مؤسسة المستشار الملكي، تظلّ بلا إطارٍ قانونيٍّ واضح. ومع أنّ المستشارين يتقاضون رواتبهم من الميزانية العامة، إلا أن أدوارهم لا يحدِّدها نصّ ولا تساءَل، ما جعل علي أنوزلا يسمّيها "الوظيفة الوهمية". فمستشار الملك يمثِّل سلطةً خاصةً لا يحدّها شيء سوى إرادة الملك. وهو ما يعكس طبيعة النظام المغربي، كما صاغها محمد شقير، الأستاذ المختص في الشؤون الأمنية والسياسية بالمغرب، في مقاله "الملكية التنفيذية بالمغرب" المنشور سنة 2015. فقد اعتبر شقير أنّ العاهل المغربي "لا يستمد شرعيته من الدستور، بل هو من يمنح لهذا الدستور ذاته شرعيته".
كان الهدف من دساتير المغرب المتعاقبة، منذ استقلاله سنة 1956، تجديد أدوات هيمنة المؤسسة الملكية. ليس بإلغاء مشروعيتها التقليدية، بل بإضافة طبقاتٍ جديدةٍ من المشروعية الدستورية والقانونية تعضّد نفوذها وتضفي عليه مظهر التحديث. بذلك تمكّنت دولة المخزن من إعادة إنتاج سلطتها، وجعلت الزعامة السياسية مجرد فصلٍ في مسرحٍ تتحكّم هي في نصّه وسياقه. أما الأدوار الأخرى، فتبقى جزئية وهامشية، لا تغيِّر في الحبكة سوى أسماء الأشخاص.
يورد الكاتب والصحفي المغربي محمد الطائع في كتابه "عبدالرحمن اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض"، الصادر سنة 2014، أنّ الحسن الثاني كرّس بقية عمره لإنجاح التناوب التوافقي، واعتبره آليةً سياسيةً مغربيةً خالصةً تمكّن البلاد من الانتقال الديمقراطي. يقول الطائع إنّ الملك أراد تناوباً "لا يقوده إلاّ الاتحاد الاشتراكي دون غيره من الأحزاب، بقيادة عبدالرحمن اليوسفي دون غيره". فقد كان اليوسفي رجل مصالحة، لكنه أيضاً زعيمٌ سياسيٌّ آمن بإمكانية التغيير عبر المؤسسات. فدخل تجربة الحكم بلا أدوات القوة الحقيقية، في حضرة ملكيةٍ تواصل تعزيز نفوذها.
يستمرّ الطائع بالقول إنّ استقالة عبدالرحمن اليوسفي المفاجئة، يوم 9 أكتوبر 2002، شكّلت له صدمةً مازال "يحفظ تفاصيلها إلى اليوم". في ذلك اليوم، أنهى الوزير الأوّل اجتماعَ المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد السادس في القصر الملكي بمرّاكِش. وبعد الاجتماع، طلبَ العاهل المغربي اللقاءَ باليوسفي على انفراد. ويضيف الطائع: "وفيما كان اليوسفي ينتظر الدخول على الملك، وجد في قاعة الانتظار إدريس جطو (وزير الداخلية)، وإلى جانبه المستشار الملكي الراحل محمد مزيان بلفقيه. استقبل محمد السادس اليوسفي أولاً، ثم أخبره بأنه سيعيِّن جطو وزيراً أول مكانه".
لم يكن مصير عبدالإله بنكيران بعيداً عن مصير عبدالرحمن اليوسفي. فمع صعوده السلطة في سياقٍ مختلفٍ مطبوعٍ بغليانٍ إقليميٍّ ومحليٍّ أعاد رسم أولويات الدولة، إلا أنّ حزبه حاز أغلبيةً برلمانيةً نسبيةً في انتخابات 2011. اعتُبر وصول بنكيران إلى رئاسة الحكومة ترجمةً لمطلبٍ شعبيٍّ بالإصلاح، غير أن زعامته لم تَسْلَم من منطق المخزن. ففي 15 مارس 2017، أصدر الديوان الملكي المغربي بياناً أعلن فيه أن الملك محمد السادس قرر إعفاء عبدالإله بنكيران، بسبب عدم قدرته على تشكيل حكومةٍ بعد خمسة أشهرٍ على فوز حزبه بالانتخابات. وقرر "أن يعيِّن رئيسَ حكومةٍ جديداً، شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية".
ما بين عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران، لا تعبّر الزعامة السياسية عن شرعيتها الدستورية. فهي تتجاوز ذلك، لتصبح تعبيراً عن صراعٍ داخليٍّ مع المؤسسة الملكية والحزب والجماهير. اليوسفي القادم من المدرسة الاتحادية النضالية، دخل تجربة التناوب محمَّلاً بثقل الذاكرة التاريخية. في المقابل، صعد بنكيران على صهوة الربيع الديمقراطي محمولاً بخطابٍ أخلاقيٍّ ودينيٍّ وشعبويةٍ لغويةٍ أكسباه جاذبيةً جماهيريةً غير مسبوقة. وقد رأى المعتقل السياسي السابق محمد أمين مشبال، في كتابه "الخطابة السياسية الشعبوية عند عبدالإله بنكيران" الصادر سنة 2022، أنّ "عبدالإله بنكيران مثَّل في العقد الأخير ظاهرةً فريدةً في الحياة السياسية المغربية مثيرةً للجدل إبان رئاسته للحكومة. إذ نجح في الانفتاح على وسائل الإعلام، مما وفّر له حضوراً مستمراً لدى الرأي العام المغربي". فقد مثّل بنكيران صورةَ الزعيم الزاهد في السلطة، "وذلك عكْس ما ترسخ لدى الرأي العام من انطباعٍ عن جشع السياسيين وطمعهم في احتلال كراسي المسؤولية بأي ثمنٍ لقضاء مصالحهم الشخصية أولاً"، كما يقول الطائع.
مع شعبيتيهما، إلا أن عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران وجدا نفسيْهما في مواجهة آلةٍ مخزنيةٍ تعمل بمنطق التحكّم في الإصلاح، لا التمكين له. وقد كان وزير الداخلية القوي إدريس البصري آنذاك واجهة أحد فصول الصراع بين اليوسفي والمخزن، إذ اعتاد وضع جداول أعمال اجتماعات المجالس الحكومية بدل الوزير الأول. بل كان أيضاً يتهّكم ويقرّع الوزراء، وهو ما أكده اليوسفي في مذكراته "أحاديث فيما جرى"، التي كتبها امبارك بودرقة وصدرت سنة 2018. فقد طلب اليوسفي في ديسمبر 1998 عقد اجتماعٍ مع العمال والولاة. لكن كما يقول: "أبدى البصري مقاومةً شرسةً للحيلولة دون اجتماعي مع أطر [العاملين في] القطاع الذي يترأسه وزير الداخلية".
عانى عبدالإله بنكيران من ذات الأساليب. يحكي في ندوةٍ صحفيةٍ في أبريل 2025: "لن أكذب عليكم بخطاب الديمقراطية والصلاحيات. عندما وصلتُ لرئاسة الحكومة فهمت أنه [. . .] هناك مجالات لا يجب أن يقترب منها [رئيس الحكومة]، إلا إذا طلب منه". وفي التصريح نفسه، يحكي بنكيران أنّ وزير الداخلية محمد حصاد طلب منه عدم التواصل مباشرةً مع موظفي وزارته. وفي ندوةٍ صحفيةٍ أخرى عقدها في فبراير 2019، قال بنكيران: "مكتبي كان بجوار مكاتب مستشاري الملك. ولسذاجتي في البداية، كنت أظن أنني سأتعاون معهم. وهذا ما صرحت به في أحد المرات لإحدى الجرائد، وأغضب الملك".
تُظهر هذه الأحاديث كيف تحوّلت الزعامة التي حملها كلا الرجليْن، عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران، تدريجياً إلى عبءٍ رمزيٍّ وسياسيٍّ في العلاقة مع المناصرين. خاصةً حين بدأت تظهر التصدّعات داخل الأحزاب، والانقسامات والوشايات والتسابق على نيل رضا السلطة.
فقد دخل اليوسفي في خلافاتٍ مستعرة مع أطرافٍ متعددةٍ داخل الحزب، مثل خلافه مع منافسه الأبرز محمد اليازغي، عندما أعادَ اليازغي الخلاف القديم على زعامة الحزب سنة 1992 بعد وفاة زعيمه السابق عبدالرحيم بوعبيد، وخلافة اليوسفي إياه بدلاً من اليازغي. وامتدت خلافات اليوسفي إلى نوبير الأموي، القائد التاريخي للنقابة التابعة لحزب الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. وكان اليوسفي على خلافٍ مع الفقيه البصري، المعارض البارز للنظام، وفي صراعٍ مع قيادة شبيبة الحزب التي شكّلت ما سُمّي بتيار الوفاء الديمقراطي وترأسه محمد الساسي، الكاتب العام للشبيبة، ومعه محمد حفيظ وخالد السفياني ونجيب أقصبي. وهو التيار الذي رفض بشدة المشاركة في الحكومة بلا ضماناتٍ بانتقالٍ ديمقراطيٍّ حقيقيّ. كل هذه الخلافات اشتدت واحتدت مع المؤتمر السادس لحزب الاتحاد الاشتراكي، في مارس 2001.
الأمر نفسه حصل مع عبدالإله بنكيران الذي لم يستطع فرض رؤيته عندما دخل في خلافٍ مع قياداتٍ بارزةٍ في حزبه. فلم تأخذ حكومة سعدالدين العثماني، التي تشكّلت من حزبه بين 2017 و2021، بتوجيهاته. ووصل الحد لإعلان بنكيران تجميد عضويته من الحزب في مارس 2021 بعد تمرير مشروع قانون يسمح بزراعة القنب الهندي (نبات الحشيشة) في المغرب. وقد قطع بنكيران علاقاته مع ثلةٍ من القيادات المسؤولة عن تمرير هذا القانون، ومنهم رئيس الحكومة العثماني ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان مصطفى الرميد، والوزير المكلف بوزارة الشؤون العامة والحكامة لحسن الداودي، ووزير الطاقة والمعادن عبدالعزيز رباح، ووزير التشغيل السابق محمد أمكراز.
الجامع بين عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران هو ما أسماه مصطفى الرميد، القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية، في مقابلةٍ مع بودكاست "ضفاف الفنجان" سنة 2024 "فائض الزعامة". أيضاً ما يجمعها أن كلاهما جاء إلى السلطة محمّلاً بانتظاراتٍ جماهيريةٍ عريضةٍ، ليجد نفسه أمام جدارٍ صلب اسمه النظام المخزني. لم يكن هذا النظام سلطةً فوق دستورية، بل آلية لإعادة إنتاج السلطوية داخل مجتمعٍ يتظاهر بالتحديث السياسي، لكنه يرسّخ الماضي في العمق. فقد عانى عبدالرحمن اليوسفي من تحالف اليمين والإسلاميين ضدّه بدعم "حكومة الظل" ومساندتها، ما منح نوعاً من الغطاء السياسي لعملية تعويضه بإدريس جطو رجلاً تقنياً بدون انتماءٍ حزبي. أما عبدالإله بنكيران، فقد حاصره المخزن بشرط إدخال حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، ليكون نوعاً من الضربة الرمزية القاتلة.
يبدو أنّ المخزن بذلَ كلّ ما في وسعه لإفشال التجربتيْن معاً. فقد لعب على حبل النقيضين أو الخصومة الفكرية والسياسية. فضُرِبَ اليوسفي بحزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي شكَّل ائتلافاً مع حزب الاستقلال ضدّه في انتخابات 2002، وهي الانتخابات التي أُعفي بعدها اليوسفي. ثم ضُرِبَ بنكيران بحزب الاتحاد الاشتراكي، بعد أن رفض بنكيران مشاركته في الحكومة، وهو ما اعتُبِرَ تحدياً للدولة. فكان سبباً فيما عرف "بالبلوكاج الحكومي"، أي عرقلة عمل الحكومة كما تُعرف في السياق المغربي.
هكذا يجتمع عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران في المسار المتشابه في التحوّل من رمزَين للأمل إلى ضحيّتَين لمنظومةٍ تتحكم بالإصلاح دون أن تمكّنه. كلاهما جاء بدعمٍ شعبيٍّ واسعٍ، وكلاهما انتهى به الأمر خارج المشهد، بعد أن تكسّرت أدواته التنفيذية على صخرة التحكّم.
ذهبَ الكنبوري إلى أنّ عبدالرحمن اليوسفي تخلّى عن الاشتراكية عندما "باع كل شيء للرأسمالية". وقال إنّ الصحافة الحرة تلقَّت في عهد اليوسفي أكبر ضربةٍ لها، فُخِنقت حرية التعبير وأُغلقت بعض الصحف، مثل "لوجورنال دومان". وفي عهد اليوسفي، بدأت حملات الاعتقالات في صفوف المغاربة العائدين من أفغانستان والسلفيين بالعشرات، بينما كان رئيس الحكومة صامتاً. وضمن ملف أبريل 2016 لمجلة "زمان" بعنوان "من أفشل التناوب؟"، يقول القيادي السابق في تيار الوفاء الديمقراطي محمد الساسي "إنه من غير المقبول تقديم اليوسفي على أنه مجرد 'ضحية' للأخطاء التي ارتكبت في حقه، ولتآمر رفاقه ضده وخذلانهم له. بل إن اليوسفي يتحمل هو الآخر جزءاً من مسؤولية إضعاف الحزب خلال فترة التناوب".
مثل عبدالرحمن اليوسفي، أثارت تجربة عبدالإله بنكيران مواقف متباينة. فقد رأى عزيز غالي، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان السابق، في حوارٍ له سنة 2024 مع مدير موقع بديل "حميد المهداوي"، أنّه "تآمر على الشعب في 20 فبراير" وأن "التاريخ لايرحم". فيما اعتبر كمال القصير، في دراسة "المغرب: من الإصلاح السياسي إلى سياسة إطفاء الحرائق" المنشورة سنة 2016، أن الرجل اختار لعب دور "الإطفائي" عبر "إطفاء الحرائق السياسية التي يرجَّح أن يزيد اشتعالها تباعاً"، بدل أن يكون صوتاً لمطالب الشارع. ومع ذلك، عدّت السياسية لطيفة البوحسيني، في ندوةٍ نظمها مركز هسبريس للدراسات والإعلام سنة 2017، أنَّ بنكيران "لم يفشل، بل الجهات التي حاولت إقناعه بعدم احترام إرادة الناخبين هي التي فشلت [. . .]. مراكز النفوذ لم تكن تريد إرادةً شعبيةً فيها تيارٌ يساريٌّ، واليوم هذه المراكز لا تريد الإسلاميين".
يرى الأستاذ عبدالحق دادي، في كتابه "سؤال السلطة بالمغرب" الصادر سنة 2023، أن مركزية الملك تلقي بظلالها على المشهد السياسي والإداري. فيقول: "إن السلطة التنظيمية التي يتمتع بها الملك، في المناصب الحساسة، تجعل من الموظف تابعاً ليس للقواعد والقوانين التي تنظم عمله فقط، بل إلى التعليمات والتوجيهات العامة التي يكون مصدرها المؤسسة الملكية. وهذه المركزية لا تنحصر في التعيينات التي ينظمها الدستور، بل تتعداه إلى المؤسستين التنفيذية والتشريعية".
هكذا يتجاوز الملك المؤسستين التنفيذية والتشريعية في اختصاصهما. فقد عيَّن محمد السادس في 9 نوفمبر 1999 وزير الداخلية وكاتب الدولة في الداخلية، في غياب الوزير الأول عبدالرحمن اليوسفي، ودون علمه بالقرار. وفي نفس اليوم، ترأس الملك حفل تسليم السلطة بين الوزيريْن السابقين إدريس البصري وأحمد الميداوي بحضور الجنرال حسين بن سليمان، قائد الدرك المغربي، عوض الوزير الأول. وقد عيَّن الملك مدير عام وكالة المغرب العربي للأنباء ومدير الإذاعة والتلفزة في أغسطس 2002، في غياب وزير الاتصال المسؤول المباشر عن المؤسستين. وهذا ما يؤكده المفكر عبدالإله بلقزيز في كتابه "السلطة والمعارضة: المجال السياسي المعاصر"، الصادر سنة 2007، الذي اعتبر الإغراء السلطوي عند النخب المعارضة خطأ كبيراً. يقول بلقزيز إنّ هذا الإغراء "أنتج شعوراً حاداً – في أوساط بعض نخب المعارضة – بالحاجة إلى اقتناص فرصةِ الاستعداد السياسي الرسمي بإشراك المعارضة في السلطة. وذلك بتقديم استجاباتٍ غير مشروطة على عروض المشاركة، وعدم تكرار خطأ تفويتها، والقبول بأي شيء منها عَظُمت فاتورته السياسية".
لكن هذا لا يجب أن ينسينا أن هامش الإصلاح في المغرب يظل هشاً في غياب إرادةٍ حقيقيةٍ من مركز السلطة. وأن الزعامة في السياق المغربي كثيراً ما تتحوّل واجهةً رمزيةً، أكثر منها أداةَ فعلٍ حقيقية. ويفسّر المفكر والمؤرخ عبداللّٰه العروي، في مذكراته "خواطر الصباح يوميات 1967-2007" الصادر سنة 2017، العراقيل التي أحاطت بعمل حكومة اليوسفي بقوله: "لا نعطي للحكومة، لأي حكومة، لا صلاحيات كافية ولا ولاية كافية. فكيف نود أن تعمل بسرعة؟ [. . .] نطالب الحكومة بنتائج فورية، ومع ذلك لا نريدها منسجمةً ولا مطلقةَ التصرف وذلك منذ عهد الاستقلال، ثم نتعجب من التعثر والتسويف. العجيب أننا نتقدّم رغم هذا، ولو ببطء".
لقد سلّطت الأدبيات السياسية المغربية وكتابات التفسير والتحليل أضواءها الكاشفة على لحظات التحوّل الكبرى في تجربتَي عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران، لأنهما من أبرز الوجوه التي اختبرت حدود الإصلاح من داخل النسق. قدّم اليوسفي في خطاب بروكسل في فبراير 2003 قراءةً نقديةً صريحةً لتجربة "التناوب التوافقي" التي دامت من 1998 حتى 2002. واعتبر التجربة فشلاً في الوصول إلى "التناوب الديمقراطي". وقد شكّل هذا لحظةً تأسيسيةً صادمةً لأنه أفصح، بنبرةٍ جارحةٍ، عن خيبة رجل الدولة الذي اعتقد إمكان تدبير انتقالٍ ديمقراطيٍّ بتوافقٍ هادئٍ مع المخزن. لم يكن الخطاب مجرد شهادة، بل وثيقة نقدٍ ذاتيٍّ مؤلمة كسرت جدار التواطؤ الرمزي، وأسّست نموذجاً سياسياً مغايراً. الزعيم الذي يجرؤ على الاعتراف بالهزيمة أمام قوةٍ لم يشأ، أو لم يستطع، كبحها.
أما تجربة بنكيران، فقد وُلدت من رحم خطابٍ شعبويٍّ دينيٍّ ووجدانيٍّ، زاوج فيه بين روح الدعابة ومرجعيته الدينية. استثمر بنكيران لغة القرب من الناس، مطعّمةً بإيحاءات الزهد والتقشف الأخلاقي. لكن خلف هذه البلاغة كانت تتوارى "أنا خطابية" ملتهبة، تغرف من معين الزعامة والحضور القوي، وتؤمن أن الانتصار ممكن بالكلام وحده. بالمنبر لا بالمؤسسة، وبالنية الحسنة لا بميزان القوى، كما يوضّح مشبال في كتابه عنه.
الواقع في الحالتيْن كان أقوى من النوايا والخطابات. لم تصمد بلاغة بنكيران أمام جدار السلطوية المتجذرة، ولم تنفع "أخلاق الدولة" في إنقاذ اليوسفي من خيبة المسارات المسدودة. وقد يكون من أبلغ مظاهر هذا الفشل المتكرر في تطويع الدولة أو تقويمها، ذاك التوازي المدهش بين عبارتَين شهيرتَين صارتا تختزلان علامتَين على سقوط رهانات الإصلاح. وهما "عفا الله عما سلف" عند بنكيران، و"استحالة مطاردة الساحرات" عند اليوسفي.
الأولى صرّح بها بنكيران في حوارٍ لبرنامج "بلا حدود" على فضائية الجزيرة يوم 25 يوليو 2012، ثم كررها لاحقاً في عدة مناسباتٍ إعلاميةٍ وبرلمانيةٍ، في معرض جوابه عن محاسبة رموز الفساد الذين راكموا الثروة في عهد الحكومات السابقة. وهو ما فسّره يحيى اليحياوي، الأستاذ بجامعة محمد الخامس، في مقالته "بنكيران وشعار 'عفا الله عما سلف'" في موقع الجزيرة سنة 2012 بكونه مهادنةً "مع الفساد والمفسدين. لاسيما أنه أدرك بحكم منصبه أن محاربتهم أمر عسير ومعقد، وربما مستحيل بحكم تعششهم في كل أجهزة الدولة، بما فيها المستويات التقريرية من الصف الأول، وبحكم تشابك خيوط السوق بالسياسة، وتحوّل ماكينة الدولة الخفية إلى خصم وحكم".
أما الثانية، فقد صرّح بها اليوسفي في يونيو 1998 في سياق الحديث عن الخطوط العريضة وأولويات حكومته. فقد أراد الرد على تصاعد الانتقادات على بطء اتخاذ إجراءاتٍ ضدّ المسؤولين والمؤسسات التي تورطت في ملفات الفساد أو عرقلة الإصلاح، مثل الولاة والعمّال (محافظي المدن الكبرى) ومسؤولي الإذاعة والتلفزيون.
كلا التعبيرين، وإن اختلفت صياغتهما، يشتركان في تسليمٍ مبطنٍ بالعجز وتبريرٍ صامتٍ لاستمرار الفساد بنيةً عصيةً على الاجتثاث. هكذا تحوّلت الزعامة في التجربتين إلى نوعٍ من الخطابة الأخلاقية التي تفتقر إلى أدوات التأثير المؤسساتي. وتحوّل الزعيم من فاعلٍ سياسيٍّ يحمل مشروعاً إلى راوٍ يشرح حدود انكساره أو ساخرٍ سياسيٍّ يسلّي جمهوراً يائساً، فيما تعيد الدولة العميقة إنتاج نفسها بلا منازعٍ حقيقي.
كان من نتائج ذلك خروج اليوسفي من الحكم محبطاً من تكالب الدولة العميقة، أو ما سمّاه في مذكراته "جيوب المقاومة ممن تمكن من بناء مصالح أثناء العهود السابقة، وترى في التغيير والتجديد تهديداً لمركزه الاقتصادي أو مركزه السياسي". رغم أنّ العاهل المغربي محمد السادس نفى ما قيل في أحد حواراته مع جريدة الشرق الأوسط في يوليو 2001. فقال عن اليوسفي: "لا توجد حكومة داخل القصر وحكومة خارج القصر. فنحن حكومة واحدة، حكومة منسجمة مع عبدالرحمن اليوسفي".
وقد مارس النظام تقنية الإرباك الممنهج أو ما أسماه بنكيران "التحكم" الذي ارتبط بشكلٍ وثيقٍ بخطابه، خصوصاً في فترة رئاسته الحكومة بين 2011 و2017. وقد صرّح مرةً أنّ "التماسيح والعفاريت لا يريدوننا في الحكومة المقبلة"، في مهرجانٍ خطابيٍّ بطنجة أثناء الحملة الانتخابية لسنة 2016.
كان مفهوم "التحكم" بين أبرز المفاهيم التي وظّفها عبدالإله بنكيران لتوصيف تدخّل قوى غير منتخبة في القرار السياسي. وقد أراد بذلك إشارةً ضمنيةً إلى المخزن أو "الدولة العميقة"، من محاولات الطرد من الحكومة أو تعطيل التعيينات إلى فرض شروطٍ ضمنيةٍ عبر "البلوكاج الحكومي"، ثم اللجوء إلى الإعفاء والتعيين بلا توضيح. ما جعل بنكيران يلقي قنبلةً كلاميةً في لقاءٍ جمعه بشبيبة حزبه أواخر شهر يونيو 2016، ويصرح "أن المغرب فيه دولتان، واحدة يقودها جلالة الملك والثانية لا أعرف من يقودها". وهو التصريح الذي جرّ عليه غضباً ملكياً استُدعيَ على إثره للقصر ووبّخه الملك. هذه الوقائع تبيِّن كيف كان الهدف تقليم أظافر زعامةٍ بدأت تتمتع بشرعيةٍ شعبيةٍ مقلقةٍ، دون أن يخرج النظام عن قواعد اللعبة الشكلية للدستور.
في الحالتين، تعامل النظام مع الزعامة رأسَ مالٍ يجب التحكم فيه أو احتواؤه، أو إفراغه من معناه إذا لزم الأمر. فكلا الحكومتين لم تُمنحا المفاتيح الفعلية للسلطة. في حالة عبدالرحمن اليوسفي، حدد الملك الوزراء الأربعة السياديين دون نقاش. يقول محمد اليازغي في مذكراته "سيرة وطن" الصادرة سنة 2007: "أن الحسن الثاني، عندما كلّف عبدالرحمن اليوسفي، أبلغه أنه هو من سيختار وزراء الداخلية والخارجية والعدل والأوقاف".
أما في عهد عبدالإله بنكيران، فقد تحفّظ على تحالفاته وطُلِبَ منه رسمياً "عدم الاتصال بموظفي الداخلية مباشرة". وفُرِضَ عليه تغيير رئيس فريق الحزب، عبدالعالي حامي الدين، بمجلس المستشارين في أكتوبر 2015 رغم انتخاب حزبه له. لم يكن هذا مجرّد صراعٍ حزبيٍّ، بل تعبيراً عن إرادةٍ مخزنيةٍ في تطويع إرادة الناخبين. فقد جُرِّد بنكيران من أدواته تدريجياً وعُوِّض برجلٍ أكثر توافقاً، مع استرجاع القصر زمام المبادرة وإدخال "الاتحاد الاشتراكي" لحكومة العثماني عقوبةً سياسيةً لبنكيران.
تحوّل اليوسفي من قائد للحلم الديمقراطي إلى رجل صامت أمام أعطاب السلطة. لم ينجح في إطلاق إصلاحات هيكلية، ووجد نفسه محاصراً بتعقيد الإجراءات الإدارية ومحدودية الصلاحيات. أما بنكيران، فقد عاش زعامته مفارقاتٍ شخصية وجماعية. واجه الرجل ضغوطاً من الدولة ونيراناً صديقة من حزبه، قبل أن يُقصى من المشهد فجأةً. ومع شعبيته، لم يُمنح فرصة التسيير لولاية ثانية، ما جعله يصرّح لاحقاً لقناة الحرة سنة 2016: "لديّ صلاحيات، لكنها تقع في إطار صلاحيات الملك. وفي المغرب، هناك حاكم واحد [. . .]. ولو دخلت في نزاع مع الملك، لكانت التجربة ستنتهي. والمغاربة لا يحبّون النزاع، وهم راضون عن هذا التعاون".
سعى كل من عبدالرحمن اليوسفي وعبدالإله بنكيران، بطرقٍ ذكيةٍ وهادئةٍ، إلى تفعيل كافة إيجابيات المقتضيات الدستورية. احتمل كل منهما بذلك مسؤوليته قائداً للحكومة، ورفضا أن تكون الوظيفة مجرد موظفٍ سام. تُظهر التجربتان أن الزعامة في المغرب ليست فقط وظيفةً سياسيةً، بل موقع هش بين مطرقة الانتظارات وسندان السلطة الفعلية. وأنها في غياب الإرادة الملكية، تتحول بسرعة من أداة إصلاح إلى عبءٍ وجوديٍّ يُقصي الزعيم بدل أن يحصّن موقعه.
إذن، لم تكن الزعامة في السياق المغربي مجرد موقع مسؤولية، بل كانت فخاً رمزياً ومعنوياً. وقد قال الصحفي الراحل خالد الجامعي، في حوارٍ مع موقع "الأنباء بوست" سنة 2019: "فالمخزن يكيِّف ولا يكيَّف. كلشي عندو مجرد كلينيكس [منديل] ميمكنش تلوي ذراعو". وذلك في إشارةٍ إلى أن الزعامة والاستناد بالدعم الجماهيري وحدهما لا يكفيان.
خرج اليوسفي بخيبة أملٍ وجودية عميقةٍ أوقفته عن أي نشاطٍ سياسيٍّ فعليٍّ، وترك خلفه حزباً مشلولاً ومجتمعاً مفجوعاً. فحسب محمد الطائع: "فالحقيقة المُرّة التي وقف عليها الزعيم الاتحادي هو عدم قدرته على استعادة زمام المبادرة، تفيد بأنه لم يكن مسيطراً سيطرة تامة على هياكل حزبه، وأن الحزب 'العتيد' بات أشبه بمحارة فارغة. فمنطق الحلقية الضيقة والزّبونية المنتعشة بالربع الحزبي والوشاية الهدامة [. . .] مكّن غريمه محمد اليازغي من أن يبسط سيطرته على معظم التنظيمات الحزبية".
أما بنكيران، فبقي ممسكاً بخيوط اللعبة عبر خطاب المظلومية وتقديم الذات شهيدةً للشرعية، لكن ذلك لم يترجَم فعلاً سياسياً حقيقياً. بل إن الشعبية التي تمتع بها تحوّلت إلى عبءٍ أخلاقيٍّ في مواجهة رفاقه وخصومه معاً. ظلّ بنكيران يصرّ على أنه وحده من قاد الحملات الانتخابية، وهو الذي ضحّى، بينما الحزب بدأ يتآكل من الداخل. فكلا الرجلين لم يسقطا فقط بفعل المخزن، بل أيضاً بفعل بنيةٍ حزبيةٍ هشة وقصورٍ في فهم قواعد لعبة السلطة التي لا تقبل تقاسماً حقيقياً. وإنما تسعى فقط لإضفاء الشرعية بتدوير الزعماء واستهلاكهم رمزياً، ثم التخلّص منهم بطرقٍ مختلفة.
ظلّت هذه البنية المخزنية تمارس هيمنتها الناعمة، وأحياناً الصلبة، على المجال السياسي المغربي. عُيِّن وزراء سيادة خارج إرادة رؤساء الحكومات، واتُخذت قرارات استراتيجية من فوق السلطة التنفيذية الظاهرة. وقد شُكِّلت شخصيات، مثل مستشاري الملك فؤاد عالي الهمة ومنير الماجيدي وأندري أزولاي، لتكون واجهاتٍ واضحةً لهذه السلطة الرمزية التي تتحكم في السياسة والإعلام والاقتصاد والأمن، وحتى في المشهد الثقافي والديني.
كل هذا يبرز أن الزعامة في المغرب ليست موقعاً سياسياً فقط، ولكنها امتحانٌ عسيرٌ للذات والقدرة على التحرك داخل مساحاتٍ تضيق كلما اقتربت من المربعات المحرّمة. عبدالرحمن اليوسفي، الرجل القادم من زمن المقاومة، حمل ذاكرة النضال وكلفة المصالحة. فيما جاء عبدالإله بنكيران من عمق الصحوة الإسلامية، محملاً بخطاب الاستقامة والإصلاح من الداخل. لكنهما وجدا نفسيهما يواجهان جهازاً سلطوياً متجذراً يتقن إدارة الازدواجية، ويعيد تشكيل المشهد كلما استشعر خطراً على مركزه.
هكذا تصبح الزعامة السياسية في المغرب عمليةً مستحيلةً في ظلّ دولةٍ تتقِن إعادة تدوير رموز المعارضة ضمن لعبةٍ مخزنيةٍ محكَمة. فحين تتحول الزعامة إلى مجرد أداءٍ رمزيٍّ بلا أدواتٍ حقيقية، تُستهلك الشخصية السياسية. ويُعاد إنتاج السلطة كما هي، في دورةٍ مغلقة تضمن الاستقرار السلطويّ وتفرّغ السياسة من معناها الإصلاحي.
