هذه الرؤية على قتامتها ليست غريبةً عن السياق المعاصر. فبعض دعوات حماية الطبيعة ترى الإنسان كائناً يترادف وجوده مع تدميرٍ مستمرٍ لنظامٍ بيئي حيٍّ مترابط. وبالتالي فلا سبيل لإنقاذ الكون إلا بالقضاء على الإنسان. واستحضار النموذج الكتابي المتمثل في قصة نوح لرسم هذه الرواية على شاشة السينما يمعن في تشخيص الخطيئة البشرية الأولى والمستمرة حرباً على الانسجام، ويلمح إلى نهاية الأحلام الكتابية في بشريةٍ جديدة.
تَطرحُ هذه الرؤيةُ سؤالاً عن إمكانية إنهاء الصراع بين الإنسان والطبيعة دون القضاء على أحدهما: ألا تتّسع فُلْكُ نوح، المنقذة لكلّ الخليقة، لبذرةٍ بشريةٍ جديدةٍ تتناغم مع محيطها بدل تدميره؟ يساعد النظرُ في التاريخ على إيجاد أصول إمكانية التناغم. فتدمير الإنسان الكونَ، على شيوعه، سلوكٌ طارئٌ لم يظهر إلّا في القرون القليلة الماضية. قبل ذلك، وبحسب فتحي المسكيني في كتابه "الإيمان الحر أو ما بعد الملة" المنشور سنة 2018، كانت الثقافات المختلفة ترى الطبيعة شيئاً بصرياً وجمالياً، أو "آية" كما كانت في التراث الإسلامي. ربما يكمن سبيل الخروج من هذا الصراع بين الإنسان والطبيعة في استلهام الإرث الثقافي الإنساني الواسع، ومنه الإرث الديني الكتابي، الذي يقدّم رؤيةً مغايرةً للعلاقة بينهما.
يمكن استنباط التصور الإسلامي للتناغم بين الإنسان والطبيعة بتأمل الصلاة. فالصلاة شعيرةٌ قوليةٌ وفعليةٌ، وهي الفعل اليومي الذي يمارسه مئات ملايين المسلمين كلّ يومٍ، ويحمل البيانَ الإلهيَ إلى الطبيعة عبر الجسد الإنساني. ويكشف تحليل هذه الشعيرة عن رؤيةٍ متوازنةٍ بين الإنسان والطبيعة التي يحيا في كنفها، تفارق التصوّرين المتصارعين في السياق المعاصر: التصور المتمركز حول الإنسان، والآخَر المتمركز حول الطبيعة، وتقدّم رؤيةً لا تظهرُ فيها رعايةُ الطبيعة فعلاً بشرياً خارجياً يمكن ضمانته بالمواثيق والقوانين فحسب، بل فعلاً يتعلقُ بحفاظ الإنسان على جوهر وجوده ومعناه متكلماً عن الله.
يؤكد القرآن أن الطبيعة عابرةٌ بطريقتين. أما الأولى فعبور الطبيعة الأخير إلى الفناء وتدميرها في الآخرة، والذي يبرز في سُوَرٍ مثل القمر والانفطار والانشقاق. هذه العبور، بحسب فضل الرحمن مالك في كتابه "المسائل الكبرى في القرآن" المترجم للعربية سنة 2013، يرسّخ الآخرة مفهوماً عقدياً تشريعياً. فتدمير الطبيعة يعني فناءَ العالم ووجودَ الآخرة التي تمثل الميزان الحقيقي للأفعال الأخلاقية للإنسان. وأما الثانية فعبور الطبيعة الدوري في الدنيا. مثلاً، نرى أن السوَر التي تبدأ بقَسَمٍ إلهيٍّ بأحد مظاهر الطبيعة تشير إلى الطبيعة في تحولها وعبورها، مثل القسَم "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا" في سورة الشمس.
يتشابه التعامل القرآني مع الطبيعة "العابرة" مع تعامل الكتاب المقدس. في كتابه "في أفق الخطاب، التفاعل بين الخطاب والصمت في الحوار بين الله والبشر والعالم" المترجم للعربية سنة 2024، يحاجّ الفرنسي جان لويس كريتيان أن الطبيعة في الكتاب المقدس لا تدلّ بذاتها على الخالق، لكنها تدلّ عليه بعبورها. يبرز في النصوص الكتابية التي يحلّلها أن "الجمال الفائت" يدلّ على الجمال والجلال الباقي خلفها. والتركيز على هذا العبور قصده التحذير من الانشغال بالطبيعة عن الخالق. فالطبيعة طريقٌ إلى الله عند رؤيتها آيةً، لكنها قد تصير "مسكناً نركن إليه" ولا نتجاوزه لما وراءه إن لم يُلتفت لعبورها.
يرتبط إصرارُ القرآن على إبراز الطبيعةِ عابرةً بسعيِه لترسيخ التوحيد. بحسب عالم الأديان والمصريات يان أسمن في كتابه "التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية"، المترجم للعربية سنة 2006، فإن "عبادة الطبيعة" لا الشرك هي العدوّ الحقيقي للتوحيد. فالشرك لا يؤدي لإنكار وجود إلهٍ أعلى خالقٍ، في حين تمنع عبادة الطبيعة تأليهَ أيّ كائنٍ خارجها. لذا تُبرز السُوَر المكية أن الطبيعة عابرة، وتُجرِّدها من سطوتها وسحرها، وتنزع عنها جاذبيتها ورهبتها وهي سماتٌ أصيلةٌ للمقدس.
تتجلّى فائدة هذا الإصرار عند النظر للسياق الذي ظهر فيه القرآن. إذ كانت العرب عشيّة الإسلام تقدّس الطبيعة. مثلاً، يشير الطبري في تفسيره لآية "وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى" لعبادة بعض العرب كوكبَ الشِعرَى. وثمّة إشاراتٌ في كثيرٍ من الأخبار لتقديسِ العربِ الأنواءَ ونسبتِهم التصريفَ وإنزالَ المطر إليها. وفي كتابه "من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية" المنشور سنة 2014، حاول الحاج سالم ضمّ شتات هذه الأخبار إلى البحوث المعاصرة عن الجزيرة وموقع عبادة الطبيعة داخلها، والاستفادة منها في بلورة تصورٍ للدين الجاهلي. يستند هذا الدين إلى "عقيدة فلكية إحيائية" جزءاً من منظومةٍ رمزيةٍ عالميةٍ ضمَّت كثيراً من الثقافات المتباعدة. وبتحليل كثيرٍ من الأشعار والشعائر الجاهلية المتفرقة، أوضح أن العرب كانت تُقدِّس ثالوثاً نجمياً "اللات [الشمس] والعزّى [الزهرة] ومناة [القمر]"، وأنها كانت تتحرك وفق منظومة "التماثل الرمزي" بين الأرض والسماء. وهذه التصور للكون هو الذي واجهه القرآن في سوره المكية الأولى.
يساعد ارتباطُ النظام الشعائري بالجسد في بنائه العالمَ الديني. فالجسد ليس مادةً مصمتةً معزولةً عن الأطر الرمزية والعالم الطبيعي والتاريخ، بل هو الوحدة الوجودية "التي تَسِمُ وجود الكائن في العالم [. . .] ويشكل هدفية الوجود الإنساني، وله علاقاتٌ ذات ميسمٍ ثقافيٍ ورمزيٍ وتعبيريٍ، يعيد بها الجسم صياغة العالم"، كما يعبر فريد الزاهي في كتابه "الجسد والصورة والمقدس في الإسلام" المنشور سنة 1999. هنا يصبح الجسد مجمل الاستعدادات أو التوجهات البشرية في العالم وفق نظامٍ ثقافيٍ محدّدٍ، فهو "جسد في العالم" بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي. وبهذا يصبح المجالَ الأكبرَ لصرف قيم المقدس في اليومي، إذ يحوّله فعل المقدّس جسداً جديداً هو "الجسد العبادي" أو الثوابي أو الديني، وفق مصطلح الزاهي، ويعني به الجسد المتشكل عبر الشعائر.
كان الجسدُ الجاهليُ اليومي الذي واجهه الإسلام جسداً عبادياً تشكَّل عبر نظامٍ شعائريٍ مركزه عبادة الطبيعة. زمانياً، اعتمد هذا النظامُ الشعائريُ تقويماً مرتبطاً بطلوع القمر في منزل الثريا وعودته إليه، وارتبطت أكثر الطقوس بخصب الطبيعة وجدبها.
ومكانياً، ارتبطت العبادة بأماكن مخصوصةٍ، مثل الجبال والكهوف والسهول. وهيئةً، كان المتعبدُ يُقلِّد الطبيعة أو يشاكلها رمزياً، عبر إراقة دماء النوق أو الإفاضة من فوق جبل أو تسويد الوجه ودفن أجساد النساء في الأرض، استحثاثاً للسماء على الإمطار، إذ يماثل بأفعاله تلك إراقة السحب (أو النوق السماوية) دمها بالإمطار، أو استعداد الأرض للزواج من الإله ودّ (أو القمر) وإخصابها بالمطر.
فكّك الإسلامُ الجسدَ الجاهلي عبر مخالفة الشعائرية الإسلامية للطبيعة. فالزمن الشعائري العامّ المُقَرّ قرآنياً هو التقويم القمري، المنفصل عن مواسم الطبيعة مثل الطقس ومواسم الخصب والجدب. وهو بذلك يخلق زمناً عبادياً غير مرتبطٍ بتحولات الطبيعة، تتكرر فيه العبادات من أعيادٍ وصومٍ في مختلف أوقات السنة الشمسية. كذلك يظهر هذا الانفصال في "الزمان الشعائري" أو "المكان الشعائري" للعبادات التفصيلية مثل الصلاة. وبهذا ينقل النظام الشعائري الجسد البشري من كونه جسداً في الكون العادي أو المعبود ليكون جسداً في الكون المخلوق، بتعبيرات أركون في كتابه "الفكر الإسلامي قراءة علمية" المنشور سنة 1996.
تساهم الصلاة بصورةٍ رئيسةٍ في صناعة الجسد التوحيدي المفارق الطبيعة. فهي زمانياً لا ترتبط بصعود الشمس ولا بهبوطها، بل يتحتم أن تفارق مواقيت الشمس، كما جاءت في الأحاديث عن كراهة الصلاة وقت شروق الشمس وغروبها. وهي مكانياً تُؤدَّى على أيّ مكانٍ في الأرض. أما هيئتها فتخلو من أيّ تماثلٍ رمزيٍ مع الطبيعة. فهي عبادةٌ قوليةٌ لا تحاكي صمت الطبيعة، بل تتحداه بالخطاب. وأما كونها عبادةً جسديةً يتنقل فاعلها بين القيام والركوع والسجود فهي تحليقٌ فوق الطبيعة وفي مقابلها وخارجها. وقد فُرضت خارج الطبيعة، عند سدرة المنتهى في رحلة الإسراء والمعراج.
ليست الصلاة مع ذلك بياناً ضد الطبيعة. بل هي إعادة ترتيبٍ للعلاقة بين المصلّي والطبيعة، تجعل المصلّي نموذجاً لها. فالطبيعة ليست مَقْصيّةً عن القداسة التي ينالها المصلّي باتصاله مع الخالق. بل تشاركه فيها عبر محاكاتها صلاته. خلافاً للعبادة الجاهلية التي حاول الإنسان فيها محاكاة الطبيعة، يتحدث القرآن عن محاكاة الطبيعة عبادة المؤمن بالتسبيح والركوع والسجود.
يظهر الفرق بين الإنسان والطبيعة في الرواية الكتابية من لحظة ظهور الإنسان فيها. في سفر التكوين مثلاً، يقول الربّ عن الطبيعة بعد خلقها "هذا حسن"، بينما يقول بعد خلقه الإنسان "هذا حسنٌ جدّاً". ذلك لأن الإنسان، خلافاً للطبيعة، مخلوقٌ على صورة الربّ وهو موضع الكلمة الإلهية التي تنفتح منها الطبيعة ذاتها وتحضر للوجود. فالطبيعة تفصح عن ذاتها عبر البيان الإلهي لمن يستطيع سماعه، أي الإنسان. وفي النصوص الإسلامية تبدأ قصة الخلق بتعليم الإنسان اللغةَ، أو تسمية الأشياء التي بها انكشفت الطبيعة، ثم تكليفه.
تعكس هذه الروايات أهمية اللغة في صوغ العلاقة بين الإنسان والطبيعة. فاللغة مركز تشريف الإنسان كائناً مُبِيناً عن الله، وهي سبيل جلاء الطبيعة آيةً. على أن اختصاص الإنسان باللغة لا يعني منحه السيطرة على الطبيعة، بل تعني إلزامه استضافتها. فالإنسان "لم يخترع اللغة ولا يملك السيادة عليها" كما يؤكَّد كريتيان. والتسمية مرتبطة بالأشياء ذاتها وبظهورها لآدم، الذي "لم يخترع الطبيعة، بل كان عليه أن يحترمها" أي أن يدعها تنكشف أولاً.
إنّ احتجاب الإنسان عن البيان الإلهي يحجِّر الطبيعة. فالإنسان هو موضع الكلمة الإلهية، وهذه الكلمة هي التي تحرّر الطبيعة من صمتها. ومتى انقطع الإنسان عن هذا البيان، حرم الطبيعة الفضاء الذي يستضيفها ويمكنها من الانكشاف والتجلّي. وفي هذا حَجْرٌ عليها. لذا يمكن قراءة إدانة القرآن صَمَّ الإنسانِ أُذُنَه عن البيان الإلهي إدانةً لتحجير الطبيعة. من هنا يكون الأمر بالسماح للطبيعة بالانكشاف بالبيان الإلهي هو صورة مثلى، مما يسمّيه طه عبدالرحمن في كتابه "بؤس الدهرانية" المنشور سنة 2014 "الإيداعيّة الائتمانية"، إطاراً ناظماً لعلاقة الإنسان بالطبيعة. يعني طه بالمصطلح أن الإنسان يملك الطبيعة بنسبتها إلى الله. ويظهر السماح للطبيعة بالانكشاف طريقَ انكشاف الإنسان ذاته لذاته، باعتباره الحامل الوحيد للبيان الإلهي.
تعكس الصلاةُ الإسلاميةُ إمامةَ الإنسان لطبيعةٍ ناميةٍ وفاعلة. يقرأ الفرنسي كريتيان الصلاة المسيحية في علاقتها بالطبيعة الصامتة، فُلكاً راعياً يشبه فلك نوح. إذ إن اللغة التي تسمّي الطبيعة وتخرجها من صمتها هي نفسها التي يناجَى بها الربّ في الصلاة. وبهذا تدمج الصلاةُ المسكونةَ الصامتةَ وتستضيفها وتفصح بها نحو الانسجام. والصلاة الإسلامية لا تمثل فحسب "فلك نوح" لطبيعةٍ صامتةٍ، بقدر ما تُمثِّل إمامةً لها، كما يظهر من تحليل سورة الرحمن.
ترتبط سورة الرحمن بظهور الصلاة. شغلت السورة كثيراً من الدارسين، ومنهم عالمة الإسلاميات الألمانية أنجيليكا نويفرت التي أولتها اهتماماً خاصاً. في كتابها "كيف سحر القرآنُ العالم" المنشور سنة 2022، تعدّ نويفرت السورةَ واحدةً من "سور الرحمن"، وهي مجموعةٌ من السور التي تزامنت مع ظهور الصلاة تجسيداً مكثَّفاً للتقوى الإسلامية في أواسط العصر المكي. وفي دراستها "نظرتان للتاريخ والمستقبل البشري، الوعود الإلهية في القرآن والكتاب المقدس" المنشورة على موقع "تفسير" سنة 2022، تربط نويفرت السورة بتكريس قيم العدل وبمواجهة الإناسة الجاهلية المنحصرة في العالم والتاريخ دهرياً، والرؤى الكتابية الخلاصية.
تقرأ نويفرت الثنائية الإيقاعية في السورة تعبيراً عن التناغم بين الكون والكلمة. تعتمد السورة صيغة المثنّى في أكثر آياتها، مثل الحديث عن جنّتين وبحرين "يلتقيان" وشمسٍ وقمرٍ "يسجدان" وفي فواصلها، خصوصاً الآية المتكرّرة فيها "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" أيْ معشر الجنّ والإنس.
ترى نويفرت هذا الانتظام الايقاعي مرتبطاً بقضايا لاهوتية يريد القرآن تكريسها. إذ تعرض السورة في مفتتحها الازدواجَ الأصليَّ بين الكتاب المنظور (الطبيعة) والكتاب المسطور (القرآن). وهو عرضٌ قائمٌ على توازن الكون والكلمة كما خلقه وبيّنه الله: "َوَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ"، وعلى الأمر بالعدل الإلهي "أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ".
تصبح الثنائية الايقاعية بهذا توسعةً وتكريساً لهذه القضايا العقدية. في مقالته "الثنائية والتقابل والتيبولوجي في القرآن من منطلق رؤيوي" المترجمة على موقع تفسير 2021، يؤكد تود لاوسون، الأستاذ المشارك في قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة تورنتو، استنادَ ثنائيات القرآن لوحدةٍ خلفها، مشيراً لإيراد سورة الرحمن صور النعمة في الطبيعة وتعدّدها باستعمال التثنية للدلالة على وحدة الجمال الإلهي خلف كلّ هذه المظاهر، وعلى أمر الإنسان بتحقيق العدل الذي يعكس دِقَّة صنع الخالق.
ترسم السورة صورتين متتابعتين للطبيعة: الأولى في البداية لجنّة الأرض، تبدأ من الآية الأولى وتستمر حتى الثامنة والثلاثين. والثانية لجنّة المآل، تبدأ من الآية السادسة والأربعين وتستمر حتى الثامنة والسبعين. قسّمت نويفرت السورة، وفقاً للمحددات النصية المعتبرة، ثلاثة أقسامٍ هي تمجيدٌ عامٌّ، ثم تمجيدٌ مع ذِكر مخاطبين محدّدين هم الجنّ والإنس، ثمّ مشاهد أُخروية.
وعلى وجاهة هذا التقسيم فإن النظر يكشف انقسام السورة لمقدمةٍ تمجيديةٍ تعقبها صورتان للطبيعة. فتقابل صورةُ الطبيعة الزائلة المطموثة بفعل الإنسان في أول السورة صورةَ الطبيعة الباقية المصونة بيد الله في آخرها. أو تقابل "صورة الطبيعة العدوانيّة القاتمة، صورة الطبيعة دائمة الخضرة حاملة الثمار". بهذا تظهر جنّةَ الأرض ظلّاً لجنّةٍ سماويّةٍ أكثر انسجاماً. فبينما في الأرض فاكهةٌ ونخلٌ ورمّانٌ، تُخرج الجنّة السماوية من كلّ فاكهةٍ زوجين، متقابلَين ومتكاملَين. وفيها دون الجنّتين جنّتان. ليست الجنّة السماوية في هذا التصور محض مضاعفةٍ لما في جنّة الأرض، بل تختلف عنها في اكتمال التآلف، وانتفاء الصراع الذي يطبع الأرض بسبب تكذيب الله.
تفتح سورة الرحمن الباب للعدل مع الطبيعة. فهي تنيط بالإنسان، حامل البيان، الانتقال بالأرض من حالة الصراع إلى حالة الانسجام والتوازن، وتقريب الظلّ الأرضي المضطرب من المثال السماوي المنسجم. وهذه المهمة لا تتمّ إلا بالإنصات للبيان الإلهي الذي تذكره السورة في بدايتها خصيصةً للرحمن "عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". فالبيان، أو القرآن، هو تذكرةٌ للإنسان بالعدل لا في مضمونه فحسبُ، بل في بنيتِه القائمة على الثنائية المتوازنة الكاشفة عن الوحدة الإلهية والعدل الشامل.
نظر الدارسون للصلاة على أنها مركز الدين أو قمّته، ورأوا أن ظهور الدين يبدأ بها وينتهي إليها. هذا لأنها موضع التجلّي عبر الخطاب الفعلي أو "الأدائي". وقد اعتبر الفرنسي مارسيل موس شفهية الصلاة أو "خطابيّتها" أمراً حاسماً فيها، وأهمّ من الجانب الجسدي. ونظر التونسي الحاج سالم إلى هذه اللغوية، لغويةً فعليةً أو "أدائية". وحين نتحدث عن الصلاة الإسلامية، فإن لغوية الصلاة وأدائيتها تتكثف. فالصلاة مفتتحةٌ بالبيان الإلهي، وهو "بيان أدائي" لا يتوجّه لقوّةٍ دينيةٍ للتأثير فيها فحسب كما افترض موس، بل "يؤسس العالم الديني" عمليةً دوريةً لتعيد بناء عالم الإنسان "الطبيعة والتاريخ وموقعه فيهما" لتكون سبيلاً للحوار بين البيان الإلهي "القرآن" والبيان البشري "اللغة".
تربط الصلاة الإنسان والطبيعة بالبيان الإلهي المفتتح لها. تفتتح القراءة في الصلاة بالفاتحة، التي نصّت الأحاديث على كونها حواراً إلهياً بشرياً، إذا قال العبد فيها "الحمد لله رب العالمين"، قال الله تعالى "حمدني عبدي"، وهكذا.
هذا الحوار يُذكِّر الإنسان بالحوار الإلهي الأول مع أبيه آدم، الذي مُنِح فيه الإنسان نعمة البيان، وعلّمه اللغة بتعليمه تسمية الطبيعة فكان حديثاً عنها. أعقب الحوار الأول النداء الأول، الذي أمر الله فيه آدم ألّا يقتنص ثمرة الجنة (الطبيعة). وهذا الحوار يذكِّر المصلي فور افتتاح صلاته وإقباله نحو الواحد، بضرورة مدّ الوحدة التي شملت "جسده الأصغر" لتضم شتات الطبيعة أو الجسد الأكبر. وبضرورة التواؤم معها نعمةً إلهيةً مهداةً، ولتذكيره بضرورة إشاعة هذا الانسجام البادي في الصلاة في القرآن، وبين البيان والفعل الجسدي، ليشمل كل الكون، لينفتح هذا الكون ويوجد من خلاله. هذا يجعل الصلاة الإسلامية مع هيئتها المفارقة للطبيعة فعلاً تُستعلَن من خلاله هذه الطبيعة وتنكشف في كل لحظةٍ في "عبورها" اليومي من الفجر إلى الليل، عبر البيان الإلهي المُعلَن فوقها والمفصِح عنها وهو حامل الكلمة "الإنسان".
لا تكتفي الصلاة بإتاحة انكشاف الطبيعة عبر البيان، وإخراجها من صمتها بوساطة الكلمة، بل تكشف الصلاة مأمومية الطبيعة للإنسان. فالطبيعة حيّةٌ ومتكلّمةٌ "مسبِّحة وراكعة وساجدة". وفي التراث الإسلامي أخبارٌ تدلّ على صلاة سائر الكائنات، التي تَصلح توثيقاتٍ للتلقّي الإسلامي للصلاة ورؤيته لها في ضوء القرآن.
مثلاً، يقول الحكيم الترمذي في كتابه "الصلاة ومقاصدها": "وأما شأن الصلاة من بين الأعمال، فإن الله تبارك اسمُه خلق سبع سماواتٍ وحشاها بالملائكة وتَعَبَّدَهم بالصلاة لا يفتُرون عنها، فجعل لأهل كلّ سماءٍ نوعاً منها. فأهل سماءٍ قيامٌ إلى نفخة الصور وأهل سماءٍ ركوعٌ وأهل سماءٍ سجودٌ وأهل سماءٍ جثاةٌ على ركبهم وأهل علّيّين ومن حول العرش وقوفٌ وطوّافون يسبّحون بحمد ربهم، فجمع لك هذا كلّه في صلاةٍ واحدة".
ولا يسجد العاقلون وحدهم، فالأحاديث تشير لسجود الشمس والقمر وسائر النجوم، وإلى هذا تشير آيات القرآن، وفق بعض المفسرين وكما تؤيده بعض الأخبار، ومنها الآية الثامنة عشرة من سورة الحج: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ". وفي الآية السادسة من سورة الرحمن "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ" وغيرها من الآيات في مواطن عديدةٍ في القرآن. وبصورة أشمل يمكن القول إن كلّ شيءٍ في الكون يُسبِّح ويركع ويسجد، ليقف الجسد الأكبر بكلّ ساكنيه مأموماً خلف خليفة الله المصلّي جسداً وبياناً.
في التراث نجد كذلك صورةً قريبةً من هذا السجود الجمعي تأتي دلالتها الخاصّة من تعلُّقِها بسورةٍ تبدأ بقَسَمٍ"بالطبيعة العابرة". ففي كتب التفسير، مثل "تأويلات أهل السنة" و"تفسير القرآن العظيم" و"التحرير والتنوير"، جاء أن جميع السامعين سواءً مسلمين أو مشركين قد سجدوا في سورة النجم، التي أوّلُها "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى". إنها سورةٌ شاملةٌ تبدأ من كونٍ كان معبوداً مثل نجم الثريا والشِعرى وغيرها من الأجرام، وتنتهي عند إمامة المصلّي لكلّ الكون الساجد خلفه، وهو تحوّلٌ كبيرٌ جاء به الإسلام، لا في موقع الكون فحسب بل كذلك في موقع الإنسان منه وفي مسؤوليته.
يتصارع في السياق المعاصر تصوّران حول الإنسان والطبيعة، يمركِز أحدُهما الإنسانَ سيداً متسلطاً غير مهتمٍّ بالطبيعة ذاتها ولا مستقبلها، أما الآخَر فيمركِز الطبيعة. ومع محاولة النظرية التي تقدس الطبيعة تأسيس ذاتها على كثيرٍ من النظريات الأحيائية عن ضرورة الاشتراك الكوني للحفاظ على تكامل العالم وانسجامه، إلّا أنها تفتقد الأساس النظري. فالأحيائي يفتقد القدرة على تقديم تأسيسٍ أو شرعية.
وكما جاء في كتاب "الفلسفة البيئية، من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية" الذي حرره مايكل زيمرمان ثم ترجم للعربية سنة 2006، فقد حاولت هذه النظريات تأسيس تصوّراتها إذ بَنَتْها على مثلث يتكون من "منظومة اعتقادية، موقف أخلاقي، مجموعة من قواعد الواجب ومعايير الشخصية". إلا أن هذا التأسيس بدا مفتقداً الصلةَ الحاسمة والعضوية بين أضلاعه ذاتها، فيبعُد أن نعدّه أساساً لربط الإنسان بالكون.
في المقابل فإن الشعائر الجسدية القولية كالصلاة تستطيع تقديم هذه الشرعية والتأسيس والارتباط، هذا باعتبارها وسيلة تحويل الجسم إلى جسدٍ يحمل قيماً أو فنّاً للعيش مع الكون وضمنه، قائماً على قيم "الإمامة" و"التراحم" و"العدل" و"ضمان الانفتاح"، ومتجذِّراً في روايةٍ أشمل عن هذا الكون ومعناه وعلاقته بالإنسان وبالله.
وهي صورةٌ أعمق من أن تضع بين الإنسان والطبيعة ميثاقاً أو قانوناً يعمل ضماناً خارجياً ضدّ تدميرها وتفتيتها. بل هي صورةٌ منسجمةٌ تضعنا في تواصلٍ تامٍّ ومباشرٍ مع الطبيعة، ولا يصبح تفتيتها وتدميرها بحثاً عن تملّكها –مثلما فعل أبونا آدم– مجرّد تهديدٍ بدمارٍ حيويٍ ربما لا يخصّ إنسان هذا القرن على الأقل. بل حجاباً لنا عن أعمق ما فينا وأكثره ديمومةً، أي جوهر وجودنا متكلّمين مبِينِين عن الله وبه وإليه. إذ يفصلنا هذا عن مصدر بياننا، أي الإنعام علينا "علّمه البيان" باللغة وبالبيان الإلهي "ندائه وذكره" الأبدي، ويُغلِق علينا تلك الفرجة التي فتحها الله لنا منذ ندائه أبينا في الجنة.
من هنا يصبح إنماء الطبيعة في كلّ لحظةٍ عمليةٍ إنماءً لوجودنا ذاته ولفعلنا الضيافي لكلّ الكون، مظهرين لما خلق الله. لذا فهو إنماءٌ يُؤمَر به الإنسان إلى "نهاية العالم" كما في الحديث المشهور: "فإذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها". فهو إن لم يفعل، لم يعُد هو.
