تتسبب المقاطعة في خسائر مالية كبيرة لشركات كبرى مثل ماكدونالدز وستاربكس، لكن الواقع أن تأثير المقاطعة على الاقتصاد الإسرائيلي نفسِه محدودٌ حتى اللحظة، وهو ما يبرز التحديات في تحقيق أهداف حركة المقاطعة. ثمة فرق بين التأثيرات الفورية والنتائج طويلة الأمد للمقاطعة، وقد طورت إسرائيل اقتصادها على مدى عقود للتعامل ليس مع المقاطعات فحسب بل ليكون جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي. إلا أن دور حركات المقاطعة في رفع الوعي العالمي والتحولات السياسية المحتملة لا يُنكر وأكبر مثال على ذلك حركة مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، على أن هناك فرقاً لا يمكن تجاهله بينها وبين مقاطعة إسرائيل. فقد فرضت إسرائيل نفسها في سلسلة الإمدادات العالمية الخاصة بصناعات حساسة مثل التقنية حتى أصبح الاستغناء عن منتجاتها صعباً.
ولسهولة قياس الأضرار على عائدات الشركات الكبرى، لأن الشركات المساهمة تنشر بياناتها بشكل ربع سنوي، يُحتفى كثيراً بنجاح المقاطعة بتحقيق تلك الأرقام هدفاً نهائياً، ويُغفل انعكاس ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي نفسه. فما زال التأثير على إسرائيل محدوداً حتى يومنا هذا رغم قِدم حركة المقاطعة العربية والتي بدأت سنة 1922، أي قبل إعلان قيام دولة إسرائيل.
في أوائل فبراير الماضي أعلنت سلسلة مطاعم ماكدونالدز الأميركية للوجبات السريعة أن نمو مبيعات الشركة في الشرق الأوسط والصين والهند بلغ 0.7 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي، أقل بكثير من توقعات السوق 5.5 بالمئة. عَزَتْ الشركة جانباً من هذا الأداء المخيب للآمال إلى الإدانات الصادرة من تلك المناطق لقرار فرع ماكدونالدز في إسرائيل تقديمَ آلاف الوجبات المجانية لعناصر الجيش الإسرائيلي المتهم بارتكاب جريمة إبادة الشعب الفلسطيني في غزة منذ السابع من أكتوبر، وأصبحت الشركة بالتالي في مرمى حركات المقاطعة الاقتصادية حول العالم. أكد ذلك الرئيس التنفيذي للشركة كريس جون كيمبكزينسكي قائلاً إن الحرب كان لها تأثير "مثبّط" على المبيعات في دول الشرق الأوسط وغيرها من الدول ذات الأغلبية المسلمة كماليزيا وإندونيسيا.
ليست ماكدونالدز العلامة التجارية الغربية الوحيدة التي تعاني من تبعات ميولها السياسية المرتبطة بهذه الحرب. جاء إعلان ماكدونالدز عن أدائها المتواضع بعد نتائج مخيبة للآمال مماثلة في شركة ستاربكس، التي قوطعت منتجاتها في الشرق الأوسط والولايات المتحدة منذ الأيام الأولى للحرب فانخفضت مبيعاتها السنوية. فقد قالت سلسلة المقاهي الأكبر في العالم للمستثمرين في 30 يناير إن هناك "تأثير كبير على حركة الزبائن والمبيعات" في الشرق الأوسط بسبب الحرب في غزة. وجاءت أرقام ستاربكس للأشهر الثلاثة الأولى من السنة المالية 2024 أقل من توقعات المحللين. فبدلاً من زيادة الإيرادات بنسبة 10 إلى 12 بالمئة، وهي توقعات شهر نوفمبر، خفضت توقعاتها لتصل 7 إلى 10 في المئة، وأكدت ستاربكس أيضاً أن المنافذ العالمية التي كانت مفتوحة لمدة عام على الأقل لن تنمو بالمستوى المتوقع سابقاً.
في الأسابيع الثلاثة التي تلت 16 نوفمبر 2023، أكدت ستاربكس أنها خسرت أكثر من 9 في المئة من قيمتها السوقية، أي أحد عشر مليار دولار وهو جزء من أطول سلسلة انخفاضات في أسهم الشركة منذ طرحها العام الأولي سنة 1992. وقد فُسر ذلك جزئياً بالمقاطعة الناتجة عن رفع الشركة دعوى قضائية ضد نقابتها العمالية ستاربكس وركرز يونايتد في أكتوبر بعد نشرهم النقابة رسالة دعم للفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي ما أحدث رد فعل عالمي ضد شركة القهوة.
لم تقتصر آثار المقاطعة على الشركتين وحسب، وإن كانتا الهدف الأول لدعوات المقاطعة، بل واجهت العواقبُ المالية شركاتٍ أخرى غيرهما نتيجة حركات المقاطعة العالمية. بل تضاف هاتان الشركتان إلى قائمة متزايدة من الشركات المستهدفة بالمقاطعة بسبب ظهور أدلة دعمها حكومة إسرائيل، سواءً استثماراتها في إسرائيل أو حصولها على عقود حكومية إسرائيلية، أو مجرد نشاطها داخل السوق الإسرائيلية ودفع ضرائبها للحكومة. من هذه الشركات عمالقة التقنية غوغل وأمازون وديل وإنتل، ومصنّعي المشروبات الغازية كوكاكولا وبيبسي، وشركات الأطعمة السريعة الشهيرة مثل دومينوز وكنتاكي فرايد تشيكن وبيتزا هت وبرغركينغ.
سارعت فروع ماكدونالدز في المملكة العربية السعودية وعمان والكويت والإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر والبحرين وتركيا إلى النأي بنفسها عن عمليات الشركة في إسرائيل. لأن الامتياز الذي يحصل عليه المستثمر المحلي يقتصر على اسم العلامة التجارية ونسبة من الأرباح يُتفق عليها مع الشركة الأم ولا يقتضي بالضرورة التعاون أو تداخل العمليات مع المستثمرين المحليين في دول أخرى، وتعهدت هذه الفروع جماعياً بتقديم أكثر من ثلاثة ملايين دولار لدعم الفلسطينيين. ونشر فرع ماكدونالدز في عُمان، الذي تبرع بمبلغ مئة ألف دولار لجهود الإغاثة الإنسانية في غزة : "دعونا جميعاً نوحد جهودنا وندعم المجتمع في غزة بكل ما في وسعنا … نسأل الله تعالى أن يحفظ وطننا الحبيب وكل العرب وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه".
ولتحقيق المزيد من التغيير المُستدام فإن الحركات الاحتجاجية التنظيمية، وعلى رأسها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل (المعروفة اختصاراً: بي دي إس) التي يقودها الفلسطينيون، تواصل تنظيم المظاهرات والدعوات الرقمية في جميع أنحاء العالم. يذكر موقع حركة "بي دي إس" أن الحركة استمدت الدروس من حركة المقاطعة العالمية ضد نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، حيث كان نظامُ الفصل العنصري بين السود وغيرهم من السكان غير البيض والمستوطنين البيض قائمًا بين عامي 1948 و 1994. ففي عام 1959 أقنعت حركةُ المقاطعةِ العملاءَ بعدم شراء السلع من نظام الفصل العنصري وضغطت من أجل مقاطعة دولية لمنتجات جنوب إفريقيا. وبحلول الثمانينيات، استهدفتْ الحركةُ أكبرَ شركات الأزياء في المملكة المتحدة ومنها ماركس آند سبنسر ونكست وأوستن ريد، فرفضت العديد من الشركات بيعَ السلعِ القادمة من جنوب إفريقيا فتدهورت عوائدها وأثر ذلك على نظام الفصل العنصري وفُرضت حزمٌ من العقوبات الدولية التي خنقته اقتصادياً.
تواصل حركةُ مقاطعة إسرائيل الدعوةَ للمقاطعة الاقتصادية والثقافية لدولة الاحتلال، ولسحب الاستثمارات المالية من الدولة وفرض العقوبات الحكومية جزءاً من حملة الضغط الأقصى على الحكومة الإسرائيلية "للالتزام بالقانون الدولي وإنهاء سياساتها المثيرة للجدل تجاه الفلسطينيين". ومع اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي بشكل خاص على التجارة والاستثمار الدوليين، تسعى الحركات أيضاً إلى فرض مقاطعة اقتصادية دولية بالضغط على الشركات الخاصة لإنهاء علاقاتها التجارية مع إسرائيل.
وتشير حركة المقاطعة أيضًا إلى أن "العديد من الشركات العالمية مثل جي فور إس وإتش بي تتربَّح من مساعدة إسرائيل في الحفاظ على نظام الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني". وأن "الحملات ضد الشركات الدولية وسحب الاستثمارات منها تزيد من الضغوط عليها لإنهاء تواطئها مع القمع الإسرائيلي للفلسطينيين". وكان من أنجح مساعي حركة المقاطعة سحبُ الاستثمارات الكبيرة من شركات تصنيع الأسلحة، مثل شركة إلبيت سيستمز (المورّد الرئيسي لأسلحة الجيش الإسرائيلي). فبسبب ضغوط الحركة في الأشهر الأخيرة سحبت الشركات وصناديق الاستثمار والمؤسسات العامة استثماراتِها، ومنها أكبر صندوق معاشات تقاعدية في النرويج (كيه أل بي) وصندوق التقاعد النيوزيلندي (أن زِد أس أف) وصناديق التقاعد الهولندية والدنماركية وبنك إتش إس بي سي وآكسا للتأمينات.
وفي نوفمبر 2023، أكدت جامعة معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا الأسترالية أنه لم تعد لديها أي شراكات مع إلبيت سيستمز بعد أن أعلنت سابقاً عن مشاريع شراكة في عامي 2019 و 2022. وقد عقّب حلمي دباغ من الجناح الأسترالي لحملة المقاطعة: "لقد تم إخطار الجامعات الأسترالية بأنها ستُستهدف بالحملات إذا دخلت في شراكة مع أي شركة أو مؤسسة إسرائيلية متواطئة في انتهاكات حقوق الإنسان والهجمات على الفلسطينيين".
وهذه دلائل ملموسة تشير إلى أن أصحاب المصلحة أصبحوا أحذرَ في دعم الجهات المشبوهة عما كانوا عليه قبل اندلاع الحرب. لكن التأثيرات المحددة للمقاطعة، حسبما قال كبير محللي الأبحاث في "إيه بي بيرنشتاين" دانيلو جارجيولو لصحيفة فاينانشال تايمز: "من الصعب للغاية التحقق منها أو تحديدها كمياً … فمن المؤكد أنها شيء يفكر فيه المستثمرون هذه الأيام". هذا عن الهدف المرحلي للحملات وهو إضرار الشركات الداعمة لحكومة الاحتلال، وهي شركات ليست إسرائيلية في الغالب، ورفع تكلفة هذا الدعم. لكن ماذا عن الهدف النهائي الذي تعلنه حركات المقاطعة وهو إضرار إسرائيل نفسها بتعميق عزلتها الاقتصادية ورفع تكاليف سياساتها الحالية؛ ما يدفعها لمسار سياسي يضمن حق الفلسطينيين.
في يناير 2018، نشرت الحكومة الإسرائيلية "قائمة سوداء" للجماعات التي سيُمنع أعضاؤها دخولَ البلاد. وقد ربطت الحكومة الإسرائيلية هذه الجماعات بحركة المقاطعة "بي دي أس"، وكان حظر دخولها جزءاً من جهد منسق بذلته الحكومة الإسرائيلية لمواجهة الحركة المقاطعة، التي ينظر إليها القادة الإسرائيليون على أنها تهديد دبلوماسي خطير. فالحركة في نظرهم تهدف إلى إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين، أو ربما حل إسرائيل بالكامل وتفكيكها واستبدالها بدولة مختلفة تشمل كافة أراضي فلسطين التاريخية وتضم الشعبين، وهما خياران كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تأخذهما بجدّية.
ولكي تدفعَ المقاطعةُ الشاملة المواطنين الإسرائيليين أنفسَهم إلى اتخاذ خيارات سياسية مختلفة والضغط على حكوماتهم لإحداث التغيير لا بد أن يكون لها تأثير محلي واسع. فيشعر الجمهور الإسرائيلي بالألم الاقتصادي المباشر والناتج عن المقاطعة نفسها وليس نتيجة لارتفاع تكاليف الحرب التي تُخاض على جبهتين.
لاحقاً، اتخذت المقاطعة بُعداً إقليمياً في ديسمبر 1945 عندما دعت الدول الست المؤسِّسة لجامعة الدول العربية لمقاطعةٍ اقتصادية ضد الجالية اليهودية في فلسطين. تجاوز الإعلان مجرد التشجيع وحث جميع الدول العربية، بغض النظر عن عضويتها في الجامعة، على حظر تجارة المنتجات اليهودية. وفي سنة 1946 تطور الوضع عندما أنشأت جامعة الدول العربية لجنة المقاطعة الدائمة لتشديد تنفيذ المقاطعة. ومع هذه الجهود لم تنجح المقاطعة أيضاً، وهو ما ورد في التقرير السنوي الأول للجنة المقاطعة آنذاك.
عززت الرابطة هيكلَها وحولتها إلى مكتب المقاطعة المركزي ومقره الرئيس في دمشق لمعالجة أوجه القصور التي تعاني منها اللجنة، وأنشأت مكاتب فرعية في كل دولة عضوة في جامعة الدول العربية. أُنشئَ الدور المحوري لمفوض المقاطعة لقيادة المكتب مع نواب معينين ضباطَ اتصالٍ معتمدين من كل دولة عضوة في جامعة الدول العربية. وتولى المكتب المركزي في دمشق الدور المحوري لتنسيق المقاطعة بالتعاون مع المكاتب التابعة له، وكان مسؤولاً عن تقديم تقارير منتظمة إلى مجلس الجامعة العربية. بدءاً من سنة 1951 حُددتْ اجتماعات نصف سنوية لمزامنة سياسات المقاطعة وصياغة قوائم سوداء للأفراد والشركات التي لا تلتزم بالمقاطعة. ونُفذت الإجراءات العقابية محلياً، فقامت كل دولة بتنفيذ قراراتها بإجراءات قانونية وإدارية.
ومنذ سنة 1951 وحتى الآن، ظلت الدعوات إلى المقاطعة تتكرر مع كل صراع سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. واستُخدمت مراراً وسيلةَ مقاومةٍ ضد إسرائيل وسياساتها غير العادلة للسكان الفلسطينيين.
برزت محطّاتٌ عديدة لحركة المقاطعة تغيّرت مع تغيرات المشهد السياسي في فلسطين ومحيطها. ففي المقاطعة الأولية لم تتاجر الدول العربية مع إسرائيل فصارت جزيرة محاصرةً اقتصادياً، فارتفعت تكاليف التجارة كثيراً، واعتمدت إسرائيل على إمدادات غير مستقرة من السلع الأساسية وموارد الطاقة. وفي المقاطعة الثانوية هددتْ الدولُ العربية ودول أخرى بفرض عقوبات على الشركات التي تتاجر مع إسرائيل، مما قلّص عدد الشركات الراغبة في التجارة مع الدولة الفقيرة آنذاك. فلم يكن حصول إسرائيل على السلع الاستهلاكية ذات العلامات التجارية العالمية سهلاً، مثل بيبسي وتويوتا وغيرها الكثير، ولم تستفد الصناعة الإسرائيلية كذلك من المواد الخام والمنتجات الصناعية الواردة من البلدان الأخرى. لكن المقاطعة الثانوية، والتي كانت الأضرّ بإسرائيل، تبددت بعد توقيع اتفاقيات أوسلو سنة 1993 فملأتْ إعلاناتُ العلاماتِ التجارية الكبرى الطرقَ الإسرائيلية فجأة وحُررت الصناعة الإسرائيلية من القيود، ماساعد في تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات اللاحقة.
يشير التصنيف الذي وضعه الباحث الاقتصادي جيمس راوخ من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو إلى أن إسرائيل تصدر المزيد من السلع المتمايزة بدلاً من السلع المتجانسة التي يمكن استبدالها بسهولة كالفواكه مثلاً. والسلع المتمايزة هي التي تُتداول في أسواق أضيق وأكثر تحديداً، فتكون أقل عرضة للمنافسة مثل شرائح الكمبيوتر المتخصصة. وبحلول سنة 2015، كانت حوالي 50 بالمئة من قيمة الصادرات الإسرائيلية سلعاً مختلفة، بزيادة قدرها خمس عشرة نقطة مئوية منذ سنة 1985. واتجاه البيانات واضح، فمع نمو الاقتصاد الإسرائيلي زادت نسبة صادراتها ونمت السلع المتمايزة كذلك.
إن سلة الصادرات الإسرائيلية تتجه باستمرار نحو السلع ذات التكنولوجيا المتقدمة، مثل أشباه الموصلات، وهي مواد ناقلة للكهرباء، وأجزاء الكمبيوتر الأخرى والآلات المتقدمة والأدوية وغيرها من المنتجات التي لا يمكن الاستعاضة عنها بسهولة. لذا فإن حظر البضائع الإسرائيلية قد يؤثر على المستهلكين في البلدان التي تستورد هذه البضائع حالياً، وسيكون الأمر معقداً للغاية حتى بالنسبة لنشطاء حركة المقاطعة أنفسهم.
وعند المقارنة مع الحركة التي ألهمت حركة مقاطعة إسرائيل، تبدو الصورة مختلفة تماماً عندما فرض المجتمع الدولي عقوبات على اقتصاد جنوب إفريقيا في العقد الأخير من حقبة الفصل العنصري، فقد كان يمكن الاستغناء إلى حد كبير عن السلع التي تصدرها جنوب إفريقيا في منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات. فأكثر من 60 بالمئة من سلة صادرات جنوب إفريقيا آنذاك كانت سلعاً متجانسة مثل المعادن والفلزات والمنتجات الزراعية. وفي ذلك الوقت لم يكن لحظر الواردات من جنوب إفريقيا تأثيرٌ كبير على المستهلك العالمي.
العقبة الأخرى أمام حركات المقاطعة هي جودة سلع إسرائيل. تذكر بيانات جودة الصادرات في جامعة أوكسفورد أن إسرائيل أصبحت مصدّراً للسلع ذات الجودة العالية في السنوات الثلاثين الماضية. بينما في أوائل الثمانينيات كانت أكثر من 90 بالمئة من قيمة الصادرات الإسرائيلية أقل من الجودة العالمية المتوسطة، و خمسة بالمئة فقط من صادراتها كانت أعلى من الجودة العالمية المتوسطة. لكن ومنذ سنة 2015 صارت قرابة 40 بالمئة من الصادرات الإسرائيلية أعلى من الجودة العالمية المتوسطة، وأقل من 10 بالمئة فقط في في الربع الأدنى على مؤشر الجودة. وإذا كان يصعب استبدال السلع عالية الجودة بغيرها فإن هذا يشير إلى أن المستوردين العالميين صاروا أكثر اعتماداً على الصادرات الإسرائيلية التي أصبحت اليوم أقل عرضة للمقاطعة وحظر الاستيراد. وعلى النقيض من ذلك، كانت أكثر من 70 بالمئة من صادرات جنوب إفريقيا سنة 1990 أقل من الجودة العالمية المتوسطة، وأكثر من نصف هذا الرقم في الربع الأدنى.
إضافة إلى ذلك، تشير بيانات موقع حلول التجارة العالمية المتكاملة التابع للبنك الدولي، أن حوالي 40 بالمئة من الصادرات الإسرائيلية يمكن تصنيفها سلعاً وسيطة، أي أنها تستخدم في عملية إنتاج السلع الأخرى المنتجة في أماكن أخرى. وهذا يعني ضمناً أن إسرائيل مندمجة في سلاسل الإمدادات العالمية، فالشركات في جميع أنحاء العالم – وليس فقط الأفراد – تستورد هذه السلع. ويصعب كذلك استهداف السلع الوسيطة في عمليات المقاطعة لأن الكثير منها غير مرئي للمستهلك العادي، وتختفي في منتجات من دول أخرى قد لا تكون مستهدفةً بحملات المقاطعة بذاتها.
إضافة إلى الصادرات، تتصدر إسرائيل وكوريا الجنوبية عالمياً في الاستثمار في البحث والتطوير. إذ يشكل هذا الاستثمار حصةً من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل، بنسبة تبلغ حوالي 2.3 في المئة. وأصبحت إسرائيل الآن موطناً لمراكز البحث والتطوير الرئيسية، وفي كثير من الحالات حتى مرافق الإنتاج، لبعض أكبر الشركات متعددة الجنسيات وأنجحها. وهذا يساهم في جودة المنتجات الإسرائيلية وتمايزها، ويصعّب على الشركات تجاوز الصناعة والتكنولوجيا الإسرائيلية.
لكن هذا لا يعني أن المقاطعة لا تهدد إسرائيل مطلقاً. من غير المرجح أن تُقاطعَ معظم المنتجات التي تصدرها إسرائيل بفعالية، لكن هناك جزء قد تنجح المقاطعة فيه نظرياً، كالسياحة، وبعض المنتجات الزراعية إذ حظرت عدة مدن أوروبية استيراد المزروعات القادمة من المستوطنات، والتصنيع غير المعقد، وربما بعض صادرات الخدمات.
وقد يكون للمقاطعة الثقافية والأكاديمية تأثير أيضاً، وفتح قنوات التواصل مع الإسرائيليين المناهضين لسياسات بلدهم؛ فهم عامل رئيسي في إنجاح المقاطعة وتعميق أثرها. ومع ذلك، فالبنية الأساسية للتجارة الإسرائيلية الحالية تجعل تهديد الاقتصاد الإسرائيلي صعب المنال وبعيداً عما يتمناه مؤيدو حركة المقاطعة.
من وجهة نظر اقتصادية، فإن أي شيء أقل من العقوبات الرسمية على الدولة أو قطاعات كاملة فيها قد لا يؤدي إلى نوع الضغط الاقتصادي الذي مورس على جنوب إفريقيا كما يرجو أنصار حركة المقاطعة. لكن هذا لا يغير أن المقاطعةَ فعلٌ احتجاجي سلميّ ومعركة ثقافية ونفسية قبل أن تكون اقتصادية. فمبالغة الحكومات الإسرائيلية في التعامل المتطرف مع الحركة، وكذلك الضغط على الدول الأخرى لسن تشريعات مناهضة لمقاطعة إسرائيل مثل قانون مناهضة المقاطعة البريطاني، وإدراج حركة مقاطعة إسرائيل حركة متطرفة في ألمانيا وغيرهم قد تكون وقوداً لحريقٍ صغير ربما ما زال في بدايته.