قصة إبادتين: عن الاستثنائي والمشترك في عنف الشرق الأوسط الجماعي. 

ترسم المقالة بنظرةٍ واسعة خريطةَ العنف في الشرق الأوسط، لتضع عنف إسرائيل الإبادي على غزة في سياقه المشابه لدليل بشار الأسد في عنفه الإبادي في سوريا.

Share
قصة إبادتين: عن الاستثنائي والمشترك في عنف الشرق الأوسط الجماعي. 
فلسطينيون يؤدون صلاة الجنازة بعد نقل جثامين ضحايا اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي في 24 سبتمبر 2024.تصوير: معز صالحي، الأناضول عبر غيتي.

في الشرق الأوسط بلدٌ تحكمه دولة قومية عرقية مدججة بالأسلحة، قضت به على أكثر من أربعين ألف شخص في نصف عام من نزاع مسلح غير متكافئ، حتى اقتضى الحال إعادة النظر بأدبيات الإبادة الجماعية لوصفه. في تخوم ذاك البلد، بلدٌ آخر يحكمه نظام طائفي مدجج بالسلاح قمع به انتفاضةً فأفنى نصف مليون شخص في عقد واحد. وقد حاز البلد الأول إسرائيل، وما زال، تغطياتٍ إعلامية ووعياً شعبياً واهتماماً سياسياً يفوق بكثير البلد الثاني سوريا.

في العالم اليوم ستة وخمسون نزاعاً مسلحاً، ستة منها على الأقل في الشرق الأوسط، في ليبيا واليمن وسوريا وكردستان وفلسطين والعراق إلا أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هو الذي يتصدر الصفحات الأولى. ينبع كثير من هذه الصدارة من أربعة عناصر تتعلق بالخطاب عن فلسطين وإسرائيل، وهي انشغال ديني مردّه قداسة المنطقة لأتباع الأديان الثلاثة الكبرى، وكون اليهود أقلية مضطهدة تاريخياً في أوروبا، وتسييس النزاع في خطوط فكرية أوسع، وأخيراً كون فلسطين قضية رأي عام في العالمين العربي والإسلامي. ولكن بقياس عدد الضحايا المدنيين والصراع غير المتكافئ والعنف العشوائي وعدم قابلية قسمة الأرض، فلا يختلف هذا النزاع كثيراً عن ما يجاوره من نزاعات. 

يعاني العنف الجماعي في الشرق الأوسط من "وعي زائف" مزدوج في الأوساط الغربية والعالمية. فبينما تركز الأفكار اليسارية التقليدية على فلسطين أمّةً مقموعة لم يكتمل تشكُّلها، يُسحر اليمين بالعنف المنسوب إلى الإسلاميين، ويعدُّه شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني المشابه للعنف في القرون الوسطى والذي يهدد الحضارة الغربية. يضّخم شكلا التسييس هذان العنفَ أكثر من حجمه في المخيلة والتمثيل والمكان في تراتبية العنف، بمعنى أنّ العنف في المخيال والتمثيل يترتب هرمياً تحتل فيه فلسطين المرتبة الأولى. مع أنَّ عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين منذ سنةَ 1948 منخفضٌ نسبياً في ترتيب النزاعات الأوسع في الشرق الأوسط، ومع أنَّ داعش قتلت 3 بالمئة فقط من كل المدنيين في سوريا مقارنة مع الأسد الذي قتل 90 بالمئة منهم، إلا أن التيارات الفكرية ظلت متمسكة بمواقفها من غير أن تعيد التفكير بصور العدو التي تخدم غاياتها السياسية. وتظهر هذه الازدواجية أيضاً في الميدان الأكاديمي بحجم التفاعل مع ما كتب عن الإبادة الجماعية في بلدان مثل سوريا وتركيا وما كتب عنها في غزة مع أنها جميعاً توصف "بالإبادة الجماعية" بمعناها التقليدي، وتتجلى الازدواجية أيضاً بالاهتمام الشعبي بإبادات دون أخرى اهتماماً غير مبنيّ على شدّة العنف فيها. 


في أثناء سنوات بحثي عن النزاع السوري قابلت عدداً من فلسطينييّ سوريا. من بين هؤلاء شابٌّ من مخيم اليرموك المدمر جنوبَ دمشق، والذي كان يضم أكبر جالية فلسطينية خارج فلسطين قبل ثورة 2011. اعتُقل هذا الشاب وعُذِّب سنةَ 2011 في "فرع فلسطين" ذي السمعة السيئة التابع لمخابرات نظام الأسد العسكرية، لمشاركته بالاحتجاجات المناهضة للنظام. نُفيت ثلاثة أجيال من عائلته، أجداده في نكبة 1948، ووالداه من مرتفعات الجولان سنة 1973، وهو شخصياً سنة 2016 حينَ أصبحَ مخيم اليرموك مكاناً لا يصلح للعيش بعد أن سوَّاه الأسد بالأرض. استهزأ هذا الشاب من "لابسي الكوفية بنهاية الأسبوع" من اليساريين لأنه لم يكن يراهم قبل ذلك، سواء قبل السابع من أكتوبر سنة 2023، أو عندما كان الفلسطينيون يعانون خارج الحدود الإسرائيلية يومَ اضطهدَ المستبدون العرب الفلسطينيين الذين يقطنون دولهم، قائلاً: "هل يهتم الناس بفلسطين لأنهم يحبون الضحايا أم لأنهم يكرهون الجلادين؟ أين كان هؤلاء الناس حين دُمر اليرموك؟".

ينتظر السكان في طابور لتلقي المساعدات الغذائية الموزعة في مخيم اليرموك للاجئين في 31 يناير/كانون الثاني 2014 في دمشق، سوريا. الصورة من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عبر صور غيتي

تتطلّب مقارنة العنف الإسرائيلي وتأطيره مع سواه وضوحاً أخلاقياً واتّساقاً موضوعياً. فإذا كان العنف يقاس بعدد الضحايا، فسوريا أو العراق محل نظر لذلك. وإذا كان يقاس بالعنصرية، فيجب عدم نسيان دارفور. وإذا كان بالأهمية، فيجب عدم تجاهل ناغورني قره باغ، بين أذربيجان وأرمينيا. وإذا كان الاستعمار محَّل النظر، فيجب أيضاَ لفتَ النظر إلى الإيغور. بل إن وصف إسرائيل بأنها "آخر معاقل الاستعمار" ليس مبرَّراً في الشرق الأوسط، ناهيك عن خارجه. ولا ننسى الاستعمار التركي القومي في القرى الأرمنية والسريانية البالغ عددها ثلاثة آلاف قرية، أو بسياسات التعريب لكردستان في العراق وسوريا تحت حكم نظامي صدام والأسد. كلها كانت شكلاً من أشكال الاستعمار التي قُتل بها مئات الآلاف أو استُؤصلوا أو أُدمِجوا.

فهل الامتناع عن إدانة انتهاكات حقوق العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، في الدول المجاورة ينفي النظرة الاستعمارية، وهل الحدود على الأرض مع إسرائيل حدودٌ أخلاقية. إذا كان "ما بعد الاستعماري" أو "المتحرر من الاستعمار"  يعني أن كل أرواح البشر متساوية، فلا يمكن لمعاملة الجناة في دولة قومية ما بمعايير آداب أعلى، أو التعاطف مع ضحايا تلك الدولة تعاطفاً  بتلك الدولة- الأمة بتعاطف أكبر، أن يكون "متحررا من الاستعمار". يشير انشغال عدد من الإسرائيليين اليساريين، مثلاً، بجرائم دولتهم إلى أنهم يرونها أفضل من جيرانها أخلاقياً. 


هذه التناقضات موجودة على الضفّة الأخرى من الطيف السياسي. فكثيرٌ ممن كانوا ينصتون بإعجاب لأبحاثي عن تركيا أو سوريا لا يرتاحون لحديثي ومحاضراتي وكتابتي عن جرائم إسرائيل وقتل الفلسطينيين. فسرعان ما تواجهنا محددات الحرية الأكاديمية والتسامح السياسي في المجتمعات الغربية. فالذين أيدوا أبحاثي عن الجرائم الإبادية للجمهورية التركية أو نظام الأسد أو روسيا بوتين هم أنفسهم الذين ينقلبون فجأة عندما ألتفت إلى الاستعمار والاحتلال والقتل الجماعي في إسرائيل أو التدخل الغربي في العراق أو أفغانستان.

إن العالم معتادٌ على سماع إنكارات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها بكين وأنقرة وموسكو وطهران ودمشق. لكنَّ السنة الماضية كانت درساً تعليمياً لفهم التوجهات الغربية من الجريمة الإسرائيلية في غزة. إذ وصف وزير الخارجية الأمريكي اتهامات الإبادة الجماعية بأنها "لا أساس لها" وشتت الانتباه عن العنف بالإشارة إلى الحالة الإنسانية، وكأنها حصلت من تلقاء نفسها.

لا تسعى دراسات الإبادة الجماعية أن تكون ملائمة سياسياً أو آمنة عاطفياً. وهذا نبأ سيء لمدّعي الأخلاق الانتقائيين. فإسكات الطلاب والباحثين والناشطين، والذي يشمل بعض اليهود، بسبب أبحاثهم أو نشاطهم عن فلسطين هجوم سيءٌ على الحرية الأكاديمية، إذ لا أحد فوق القانون أو النقد. مع ذلك فالتبعات السياسية والقانونية أخطر، إذ تتردد الولاياتُ المتحدة والاتحاد الأوروبي في عتاب إسرائيل التي ترتكب الفظائع، بينما سارعا من قبل إلى إدانة النظام السوري وفرض العقوبات على سوريا. حتى ألمانيا التي تفتخر بنظام عدالتها العالمي، تحاكم عناصر جيش الأسد الذين قتلوا الفلسطينيين في سوريا، بينما لا يمكن أن يفكر مدعٍ ألماني بتوجيه اتهامات لضباط إسرائيليين ارتكبوا جرائم شبيهة في غزة. بل إن ألمانيا اصطفت مع إسرائيل في القضية الموجهة ضدّها في "محكمة العدل الدولية"، وهو  سلوك منافق ومتناقض وغير ديمقراطي. 


يعلمنا تاريخ الإبادة الجماعية أن أغلب العنف لا يتوافق مع التصورات عنه. فقد اهتمت المنشورات العلمية والتغطيات الإعلامية والوعي الشعبي ببعضِ الإبادات اهتماماً أقل بكثير مما تستحق. فلو قسَّمنا مثلاً عدد ضحايا النازيين على مجموع ما كُتِبَ عنهم، فسيكون العدد أكبر بكثير من النسبة نفسها للقتل الجماعي بالاتحاد السوفييتي أو بجمهورية الصين الشعبية أو للإبادات الاستعمارية. ولذا فهناك انتقائية وتصورات مشوهة تؤدي إلى نسيان إبادات جماعية أو عدم الحديث عنها بما يكفي. فإذا كانت الحيوات متساوية، لا يبدو أن الموت كذلك.

عانى الشرق الأوسط، لا سيما في السنوات العشرين الأخيرة، من هذا الاهتمام غير المتكافئ بفاعلين عنيفين هم المسلحون الإسلاميون من ناحية، وإسرائيل من الناحية الأخرى. وقد صُوّر العنفُ الإسلاميُّ كثيراً على أنَّه قاسٍ، وأنه رمز راسخ لعدم التوافق الجلي للثقافة الإسلامية جوهرياً مع الحضارة الغربية. وكانت الدهشة والحيرة من عنف داعش تعبيراً عن تحيز ضد فكرهم. تحتل إسرائيل موضعاً شاذاً شبيهاً في مشهد العنف بالشرق الأوسط. تقول لورا روبسون، في كتابها الشمال حول تاريخ العنف الجماعي بالشرق الأوسط:

"رغم أن هناك أدبيات علمية كبيرة عن الشرق الأوسط في القرن العشرين، لا سيما عن فلسطين (إسرائيل) هناك قلة صادمة من الأعمال التي تسعى إلى فهم المنطقة، بما فيها إسرائيل، بوصفها كياناً كليّاً، وتحديد سمات موحدة لمسارها التاريخي الحديث. إن الأدبيات عن الشرق الأوسط في القرن العشرين كثيراً ما فصلت، بحرص شديد، فلسطين (إسرائيل) عن بقية المنطقة لدرجة أنها توجد الآن بشكل أقرب للحقل الفرعي الخاص".

اعتمدت دراستي على مدى العنف ونسبته بالمنطقة. لأن نظامي صدام حسين وعائلة الأسد كانا القاتلين الأكبر في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وكانت الأنظار متوجّهة إلى هؤلاء البعثيين. وربما يُنظر لإسرائيل على أنها ليست مثل أي دولة، لكن  بالنظر إلى عنفها ضمن السياق الشرق أوسطي للمجازر تبدو مشابهةً تماماً لجيرانها العرب والترك والإيرانيين، الذين لا تقل عنهم عنفاً. ولذا يجب معاملتها مثلهم.

عائلات فلسطينية نازحة من الشمال إلى الجنوب في وادي غزة في شارع صلاح الدين، 11 نوفمبر2023. تصوير لؤي أيوب لصحيفة واشنطن بوست عبر صور غيتي.

وقع العنف الجماعي قبل السابع من أكتوبر. فالإبادة الجماعية ليست مرتبطة بالمجازر فقط، وقد سكّ رافييل ليمكين مصطلح "الإبادة الجماعية" على أنه طريقة "تدمير النمط الوطني للجماعة المضطهَدة" المتزامنة مع "فرض النمط الوطني للمضطهِد". لا يُعد العنف الحاصل في السابع من أكتوبر أو القصف الشامل المتواصل الذي أعقبه هو الفعل "الإبادي" فقط، بل يدخل بالفعل الإبادي أيضاً استعمار الأراضي والاستيلاء عليها، والذي يكون دائماً على حساب الفلسطينيين لتوسع القوة الإسرائيلية أرضاً واقتصاداً. يمكن فهم الغضب من حالات محددة من العنف الجماعي، لكن السياسة اليومية الفريدة "بفرض النمط الوطني" مدمرة بوضوح لكونها أحد أشكال "الإبادة الجماعية البطيئة".

يؤدي التركيز الكبير أيضاً على فلسطين إلى التقليل من العنف الإبادي في سوريا، البعيدة بضعَ كيلومترات فقط عن الكارثة الفلسطينية. تضج وسائل التواصل الاجتماعي بأسئلة استنكارية مثل "هل كان هناك حرب بالتاريخ وثقت فظاعتها بهذا الشكل الشامل والمباشر؟"، أو "هل حصل بالتاريخ استهداف للمستشفيات كما في هذه الحرب؟". إجابة كلا السؤالين هي: طبعاً، "وبشكل أشد، سنوات، في سوريا". هذا النوع من السذاجة دليل محدد على الحاجة إلى نظرة أوسع للعنف بالشرق الأوسط. علاوة على ذلك، التأثيرات المتبادلة بين النزاعين في سوريا وفلسطين (إسرائيل) هائلة. لا يقتصر هذا على مئات الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا في أثناء الثورة السورية وعلى دعم الأسد لحزب الله. اتّبع الأسد، مثل نتنياهو، خطّة الأرض المحروقة والقمع، وقوض معايير خوض الحروب الدولية. إن معظم أشكال العنف الإسرائيلي في غزة تبدو وكأنها اتباع حرفي لدليل بشار الأسد: قصف المستشفيات واستخدام القوة واللغة العنصرية والإبادية العلنية والاعتقالات غير محددة المدة والحصار والتجويع وتدمير الإرث. كل أشكال العنف هذه استمرت بلا حسيب في سوريا وأصبحت أشيع في فلسطين. وههنا باتت كلمة "السياق" مكروهة، لكن التحليل السياقي مهم لفهم فلسطين أفضل، ولتقليل عزلتها وانتزاعها من سياقها. 


في مقالة نشرتها سنة 2010، قلت إن الفلسطينيين في قطاع غزة يقعون ضمن "مجموعة محددة من المجتمعات المظلومة التي تواجه عملية بطيئة، لكنها مستمرة، من الاضطهاد المؤدي على المدى الطويل للتراجع الحاد، ما لم يكن الدمار الكامل". وجعلتُ الطبيعة الجوهرية غير المتكافئة للنزاع العنيف عنصراً أساسياً من آلية الإبادة الجماعية،، وخلصت إلى أن "هذه الأرقام آلية العنف يجب أن تكون علامات لا يمكن أن يخطئها أي باحث نزيه مختص بالعنف الجماعي لعملية مكافحة متمرد متصاعدة يمكن أن تؤدي بالنهاية نحو الكارثة". إذن، ليست آلية العنف منذ السابع من أكتوبر تحولاً نوعياً، وإنما نتيجة بديهية في مسار تاريخ النزاع المستمر: علاقات القوة غير المتكاقئة، ومحاولة اجتثاث المدنيين. 

وقد شاع استهدافُ المدنيين في "الحرب الشاملة". إذ  يتجاهل المستهدِف عمداً التفريقَ بين المسلحين والمدنيين. في النزاع الحالي، كان إلغاء تصنيف "المدنيين" سمة رئيسة بمخطط كلا الطرفين. فعند حماس، كلُّ الإسرائيليين "محتلون صهاينة" ولذلك ينظرُ إليهم على أنهم مقاتلون، ولذا، برأيهم، لم يُقتل أي مدني إسرائيلي في السابع من أكتوبر. بينما يرى الإسرائليون أنَّ كل سكان غزة إرهابيون أو شبه إرهابيين أو من المحتمل أن يكونوا إرهابيين قدموا أصواتهم لحماس أو دعموها بطريقةٍ ما، ولذلك يجب أن يُوصفوا بالمقاتلين الأعداء. كانت تبعاتُ إزالة كلا الجانبين للتمييز بين المدني والعسكري ارتفاعَ معدلات الضحايا بين المدنيين في السابع من أكتوبر وما تبعها من قتلٍ وحشي وجماعي لسكان غزة. 

على الضفّة الأخرى، أشار بعض الكتّاب والباحثين إلى أن حماس ارتكبت "مجزرة إبادية"، قُتل بها عمداً حتى الذين يظهر أنهم غير مقاتلين. تعكس هذه النقطة السياسات الإسرائيلية بالاعتداء على مجتمع بأسره، بغض النظر عن المواقف السياسية أو الجنسيات التي يحملها ضحاياه. ويشمل مفهوم "إبادة التابع"، أي إبادة المستَعمر، هذه الأنواع من حوادث القتل الجماعي، مثل العنف المعادي للبيض في جنوب أفريقيا، والمجازر بحق المستوطنين البيض المعروفين باسم "الأقدام السوداء" في الجزائر الاستعمارية، وفترة "بيرسياب" التي قتل السكانُ الأندونيسيين الأصليين بها آلاف الأوروبيين وغيرهم في أثناء العنف المناهض للهولنديين. في تلك الحالات زرع عنف الطرف الأضعف مشاعر واسعة من الإهانة والخوف والسخط لدى الطرف الأقوى، انحدر بالنهاية ليصبح قتلاً عشوائياً انتقامياً.

يتضح أيضا لمعظم المراقبين أن رد الفعل الإسرائيلي إبادي مضاد تماماً كماً ونوعاً وفي آلية العنف الجماعي. حتى إذا غضضنا الطرف عن عدد الضحايا المتزايد حتى الآن، فتحليل العناصر النوعية للعنف يشير إلى عملية معقدة من الدمار. إذ قصف "جيش الدفاع الإسرائيلي" غزةَ قصفاً شاملاً، قضى به على مجتمعات محلية وعائلات بأسرها، وبقتله أكثر من أربعين ألف شخص حتى الآن، 70 بالمئة منهم من النساء والأطفال، وإصابة ثمانين ألفاً وتهجير مليونين وقهر كل من بقي وراءهم.

ولا يمكن تفسير الهجمات أيضاً على المشافي والمدارس والصحفيين والجامعات والبنية التحتية المدنية الأخرى إلا أنها محاولات لجعل غزة غير صالحة للعيش، والقضاء على أي مستقبل متخيل بها. وقد استعملت إسرائيل أسلحة غير تقليدية كالفسفسور الأبيض، الذي ليس له استخدام عسكري إلا قتل المدنيين وبث الرعب بينهم. أمَّا حملات الاعتقال الرجال الفلسطينيين من المراهقين إلى العجائز العشوائية والتعسفية فتُظهر تعاملاً للأسرى والمعتقلين يذكّر بـ"الحرب العالمية على الإرهاب". إذ يُسجنُ الأفرادُ المشتبه بصلتهم"بالمنظمات الإرهابية" بلا إجراءات مناسبة لأن "اتفاقيات جنيف" كما يبدو لا تنطبق على هؤلاء "المقاتلين الجناة". بعض الفلسطينيين الذين نجوا من هذه السجون تحدثوا عن ظروف لا تختلف كثيراً عن غولاك الأسد. 

ظهرت أسوأ صور تلك الاعتقالات الجماعية من بيت لاهيا شمال غزة، لعشرات الرجال مغمضي العيون ومجرَّدين من ملابسهم ومجبرين على الركوع في شارع فارغ ثم في أخدود عميق، بينما يقف وراءهم جنود إسرائيليون بينهم رجل يرتدي قناعاً يخفي وجهه كنذير شؤم. كانت هذه المشاهد مرعبة لأنها تستحضر في المخيال صور داعش وهم يعدمون أسراهم بالصحراء، بل ربما صوِّر المشهدُ بهذه الطريقة ليستحضر المعتقلون خيالات جبروت الجنود الذين يمكن أن يعدموهم بلا تردد.

تمحو الهجماتُ، التي تستهدف الإرث الثقافي، ذاكرةَ التراث الفلسطيني، فقد استُهدف أرشيف غزة المحلي والمكتبات العامة ومكتبات الجامعات ومحال بيع الكتب والمخطوطات والمساجد التاريخية والأضرحة والمعابد والحمامات التاريخية والمتاحف والأديرة والكنائس والقلاع والقبور وعدد من المواقع الأثرية. 

ومثلما حمت روسيا بشار الأسد ورعت الصين عمر البشير، تظل إسرائيل مدعومة دعماً مطلقاً من الولايات المتحدة. كثيرٌ من صنَّاع السياسات الأمريكيين والأوروبيين يبدون عدم اكتراثهم بأرواح الفلسطينيين المدنيين، مما يقوي موقف الجناة المباشرين. إن أشكال العنف المذكورة سابقاً تجعل مما يجري في غزة إبادياً بالمعنى التقليدي.

اشترك في نشرتنا البريدية