القائد مُكتفياً بنفسه، كيف يعيد قيس سعيد إنتاج نسخته من الاستبداد؟

انفردَ الرئيس التونسي قيس سعيّد بالقرارِ السياسي منذ 2021 وسعى بعد ذلكَ لإنتاجِ نسخةٍ جديدةٍ من الاستبدادِ ظنّ التونسيون أنّهم تجاوزوها.

Share
القائد مُكتفياً بنفسه، كيف يعيد قيس سعيد إنتاج نسخته من الاستبداد؟
صورة المرشّح الرئاسي قيس سعيّد في مدينةِ أريانة التونسية تظهر وحيدةً في 29 سبتمبر 2024 (الشاذلي بن إبراهيم/ نور فوتو من خدمةِ غيتي)

كانَ صوت الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي واهناً ومرتبكاً، وهو يخاطبُ التونسيين من قصر قرطاج الرئاسي على شاشة التلفاز يوم 13 يناير 2011 ليقول لهم أنه فَهِمَهم. كان نداءً يائساً يريد به ترقيعَ ثقوبٍ غائرةٍ في ملاءة حكمه الطويل. أما الخوف في عينيه فقد خان فَهْمَه المدَّ المتصاعد ضدّه. وخارج القصر، كان صوت المروحيات يحوم فوق العاصمة تونس التي يحاصِرها شعبُه. عجّت الشوارعُ بالحياة وتدفّقَتْ بطاقةٍ لم يفهمها بن علي. ذات يومٍ، كان يسيطر على كلّ شيءٍ. ولكن انزلق الحكمُ من بين يديه مثل حبّات الرمل. تحرّك نحو الباب وخطواتُه مثقَلةٌ بالاستسلام. بدا القصر يغلق أبوابه. وعندما صعد الطائرةَ وبجانبه زوجته ليلى الطرابلسي، كان العالَم الذي بَنَياه فوق أحلام الناس وجثثهم ينهار خلفهما. في هذه الساعات الأخيرة، أدرك الرئيسُ مدى هشاشة كلّ ذلك المجد الزائف، وكانَ هذا واضحاً من خطابِه الأخير. كانت نهايته شبيهةً بسلفِه في الحكم والاستبداد، الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي تشبّث بالسلطة حتى انتُزِعَت من يده وانتهى سجيناً في قصرٍ بعيدٍ بمدينةِ المنستير. 

كان الشعارُ السائدُ في تونس في الأيام التي أعقبت هروبَ الرئيس من البلاد "لا خوف بعد اليوم". اعتقد التونسيون، وكنتُ منهم، أن عودة أشكال الاستبداد التي عرفناها منذ استقلال البلاد سنة 1956 باتت مستحيلة. وتوهّمتُ أن الشعب عرفَ طريقَه أخيراً نحو حريةٍ لا يمكن أن تصادَر، وأن الدولة أدركت أن عواقب الاستبداد وخيمةٌ وأن نهاية المستبدّين إمّا السجن أو المنفى. وما كان أكثرُ المتشائمين ليصدّق أن تونس ستعود أدراجَها نحو اعتقالِ المعارضين السياسيين والصحفيين ومصادرة حرية التعبير والاعتقالات الجماعية والتعذيب، وأن رئيساً سيأتي بصناديق الاقتراع سينقلب على الدستور وينتجُ لنا استبداداً جديداً مغايراً لما سبقه. 

أدركتُ اليومَ أن الخوف لَم يَهربْ مثل هربِ بن علي خوفاً من الشعب. أصبحتُ أرى ذلك الخوف الذي عشتُه قبل الثورة في مخافر الشرطة وزنزانات السجن وردهات المحاكم وهمسات رواد المقاهي. وأصبحتُ أراه مرّةً أخرى في وجوه الناس، وما يكتبه التونسيون على وسائل التواصل الاجتماعي من كلماتٍ مثقلةٍ بالرموز والإيحاءات دون الإفصاح الواضح، كتسمية الرئيس قَيْس سْعَيّد بمسمّياتٍ غيرِ اسمِه أو ذمّه بكلماتٍ ظاهرها المدح، لأن وضوح المعاني يقودهم إلى السجن والمضايقات الأمنية. لقد عاد الخوف دفعةً واحدةً وكأنه لم يذهب يوماً. اليوم لا يخاف التونسيّ ممّا يقوله أو يكتبه فحسب، بل صار يخاف من الآخَرين بسبب انبعاث الوشاية من جديد. لقد تآكلَت الثقةُ بفضل المخبِرين. وحتى الأصدقاء، الذين تربطهم سنواتٌ من التقارب، لا يشاركون بعضَهم كلَّ الحقيقة خوفاً من أن يُساء تفسيرُ صمتِهم. ويبتسم الجيران بأدبٍ ولكنهم لا يطيلون الحديث، لأنهم يدركون أنّ الإفراط في الأُلفة قد يكون خطيراً. فأنت لا تعرف حقاً من يستمع إليك ومن يراقبك ومن ينتظر أن يبلّغ عنك. وهكذا يسود الصمت، فالتعليق غير المناسب يمكن أن يؤدي بك إلى السجن.

يدرك نظامُ قيس سعيّد جيداً أهمية هذا الخوف في توطيد أركانه. فهو أَحَدُّ من أيّ سيفٍ وأَدْوَمُ من أي سجنٍ ولا يتطلّب نشرَ الشرطة في الشوارع. لا يتطلب سوى اليقين بأن أيّ شخصٍ يمكن أن يُعتَقَل ويُحقَّق معه في أيّ وقتٍ. فطرقُ الباب في جنح الليل، أو رسالةٌ تُسلَّم دون تفسيرٍ، أو زميلٌ لا يحضر إلى العمل فجأةً يكفي لإبقاء الجميع في صفٍّ واحد. لكن الخضوع للاستبداد ليس قدرَ الجميع. لَم يَبْقَ الجميعُ في صفٍّ واحدٍ، فهناك من يجرؤ على المعارضة اليوم في تونس من جميع أطياف المجتمع ومختلف تيّاراته، متسلّحين بخبرة العقود الطويلة في مجابهة الاستبداد ضدّ بن عليّ وبورقيبة. ودُفِعَ هؤلاء بجرعة الحرية التي تمتّعوا بها على مدى عقدٍ صاخبٍ من بعد الثورة حتى انقلاب الرئيس سعيّد في 25 يوليو 2021، عندما عَطّلَ مجلسَ النوّاب واستفرَد بالسلطة. وهي الحرية التي ضيّعتها الائتلافاتُ الحزبية التي حكمت البلادَ منذ الثورة وجاءت بسعيّد في انتخابات 2019.

وعلى ما في الخوفِ من تطابقٍ بين عهود الثلاثة من بورقيبة إلى قيس سعيّد مروراً بزين العابدين بن عليّ، وتشابه أدوات الاستبداد وطُرقه التي تدور على المراقبة والعقاب ومنع التعدّد السياسيّ وتكميم الأفواه وتمجيد سلطة الفرد واختصار تنوّع الشعب في موالاة الحاكم والتصفيق له، إلّا أن طبيعة الاستبداد الذي شرع قيس سعيّد في بنائه بعد انقلابه تختلف عن أشكال الاستبداد السابقة التي عاشتها تونس منذ استقلالها، من حيث طبيعة السلطة وعلاقتها بالسكان. فإن كان بورقيبة وبن علي قد قايضا الشعبَ حريّتَه بالرعاية الصحّية والاجتماعية ودعمِ السلع التنموية، فإنّ سعيّد لم يفعل ذلك، فتونس تعيش واحدةً من أصعبِ أزماتِها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية اليوم، إذ قام استبدادُ سعيّد في شخصية القائد الشعبويّ المكتفي بنفسه عن غَيرِه.


ترك الحبيب بورقيبة خلفَه سنواتٍ من السجون والمنافي وقيادة الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي، فوجد نفسَه أمام طريقٍ مفتوحٍ لقيادة البلاد بعد الاستقلال. سمحت شرعيةُ التحرّر من الاستعمار لبورقيبة أن يكون في سدّةِ الحكم دون منافس. لَخّصَ بورقيبة شرعيّتَه في لقبٍ أطلقه على نفسه هو "المجاهد الأكبر"، فأَخْفَتْ وراءَها شرعيّةً مقدّسةً أضاف إليها شرعيّةً لا تقلّ مركزيةً في حكمه وهي شرعيّة "الأب المؤسّس". فلم يكن بورقيبة شروى سياسيٍّ يقود البلادَ أو يمارس صلاحيّاتٍ منحَها إيّاه الدستورُ فحسب، بل عدّ نفسَه أباً لشعبٍ صَنَعَه من "غبار الأفراد"، كما قال يوماً في أحد خطاباته الملحمية. وقدّم نفسَه أباً للأمّة التونسية باستخدام الاستعارات العائلية لتبرير سلطته، مثل وصمِ المعارضين بأبنائه العاقّين.

لَم يصنعْ بورقيبةُ الشعبَ كما زعم دائماً، لكن ما لا يمكن إنكاره أنه صَنَعَ الدولة. فقد صاغ الرئيسُ التونسيُّ شكلَ الدولةِ وجوهرَها ومؤسّساتِها وطريقةَ عملِها، وطَبَعَها بطابعه الذي ما زالت بعضُ معالمه حاضرةً حتى اليوم. حققتْ شرعيةُ "الأب المؤسس" والتاريخ حالةً من الرضا بين الناس على حكم بورقيبة. كان الرجل مستبدّاً معادياً للتعدّد السياسيّ وواعياً بذلك تماماً. فقد أشارَ دائماً إلى أن الشعب ما زال غير جاهزٍ للديمقراطية، وأن التعددية السياسية يمكن أن تدقّ إسفينَ الانقسام في جسد المجتمع. 

شَرَعَ بورقيبة بعد الاستقلال في تحجيم جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية خارج حزبه الحاكم، الحزب الحرّ الدستوري. فعلّق الصحفَ الحزبية وحَظَرَ جميعَ الأحزاب السياسية التي كانت قائمةً منذ عهد الاستعمار وسيطر على المنظمات الجماهيرية كاتحاد الطلبة والاتحاد النسائي والاتحاد العامّ التونسي للشغل، أهمّ اتحادِ عمّالٍ في البلاد، واتحادَيْ الصناعة والفلاحة. وصار الحزبُ جزءاً من مؤسسات الدولة. وقد أسّس بورقيبةُ صلابةَ ذلك النظام على قوّة المؤسسة الأمنية والحزبية، فيما أزاح المؤسسة العسكرية إلى الخلف خوفاً من حمّى الانقلابات التي كانت تضرب العالمَ العربيَّ وأفريقيا في الستينيات. لكن تلك النزعة الأبوية لم تكن كافيةً لبورقيبة كي ينجح في ترسيخ نظامه الاستبدادي، وينال ولاءً متيناً ممّن يحكمهم. 

نجح الرجلُ في أعقاب الاستقلال في تفكيك سلطة النظام الملكي الهشّ الذي كان حاكماً صورياً في عهد الاستعمار، ونجح أيضاً في تفكيك طبقة كبار الملّاك التي كانت مرتبطةً بالنظام الملكي. وأعادَ تشكيلَ النخبة الحاكمة بوضعِ عناصر حزبه في مفاصل الإدارة السياسية، وهم يمثّلون طبقاتٍ وسطى من مختلف جهات البلاد من ذوي الثقافة المزدوجة عربيةٍ وغربيةٍ. فدعم الإصلاح الزراعي وعلْمنَ القضاء الشرعي وألغى الأوقاف وأنهى النظام الملكي.

قادت هذه النخبةُ الجديدةُ، وعلى رأسها بورقيبةُ، سياسةَ بناء طبقةٍ وسطى ترتبط في مواردها الأساسية بالدولة وتشكّل قاعدةَ النظام الاجتماعية. لذلك قادت نهجاً اقتصادياً يقوم على سيطرة الدولة على الإنتاج ونهجاً اجتماعياً يقوم على دولة الرعاية الاجتماعية. فخلقت مقايضةً طبقيةً محدّدةً بين مصالح النخبة الحاكمة والطبقة الوسطى، متأثرةً بالحاجة إلى الاستقرار الاجتماعي والتعافي الاقتصادي في أعقاب الاستقلال. فقد واجهت البلادُ بعد استقلالها تحدّياتٍ اقتصاديةً كبيرةً، بما في ذلك ارتفاع معدّلات البطالة وندرة الإنتاج والحاجة إلى تطويرِ البنى التحتية. وأدركت النخبةُ أنّ معالجة هذه القضايا ضروريّةُ لاستقرار النظام على المدى الطويل.

انبثقت دولةُ الرعاية الاجتماعية من معادلة توفير الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم مقابل قوّةٍ عاملةٍ مستقرّةٍ ومنتجةٍ ومواليةٍ النظامَ وقائدَه. وقد ساعد وجود قيادة الاتحاد التونسي للشغل في صفّ بورقيبة على تأمين هذه المقايضة، فكانت النقابات والاتحادات المهنية راعيةً لها. ودفع السياقُ العالميُّ في الستينيات إلى تبنّي هذه السياسة بعد أن سادت المخاوفُ من انتشار الشيوعية. فعدّت أغلبُ الحكومات دولةَ الرعاية وسيلةً لمواجهة التيّارات اليسارية بتقديم امتيازاتٍ اجتماعيةٍ للطبقات الوسطى، وتوفير شبكة أمانٍ من شأنها أن تقلّل من جاذبية البدائل اليسارية. تسبّبت هذه السياسة في تونس في توسّع القطاع العامّ وسيطرة الدولة على الإنتاج والتوزيع، ثم تحوّل أغلب السكان إلى أُجَراء عند الدولة، فربط هذا رفاهيّتَهم الاقتصادية باستقرار النظام. وهذا الارتباط قوّى شرعية النظام وقلّلَ من معارضته أو مطالبة الناس بالديمقراطية لخشيتهم فقدانَ مصادر عيشهم. تُستثنى من ذلك محاولاتٌ من مجموعة ''آفاق" اليسارية، ذات الطابع النخبوي. وشكّلت الطبقةُ الوسطى التونسية أحدَ أسسِ استقرارِ الاستبداد، على عكس السائد في نظرية الديمقراطية التي تراهن على الطبقات الوسطى لتحقيق الانتقال الديمقراطي، لأنها لم تكن مستقلّةً اقتصادياً.

لم تكن دولةُ الرعاية شرّاً مطلَقاً في تونس. فلئن عَزّزَت عرى الاستبداد وكرّست بورقيبة حاكماً مطلقاً على مدى ثلاثة عقودٍ، فإنها وسّعت حجمَ الطبقة الوسطى في البلاد وخفّفت من التفاوت الطبقي. واستثمرَت في رأس المال البشريّ عندما وفّرت التعليمَ والتدريبَ المجّاني لخلق قوّةٍ عاملةٍ ماهرة، وهو ما أفاد أصحابَ العمل بزيادة الإنتاجية. وعلى مدىً طويلٍ خلقَت وعياً جديداً لدى هذه الطبقة الوسطى المتعلمة دفعها منتصف السبعينيات إلى الشروع في النداء بنظامٍ ديمقراطيٍّ. وقد ظهر ذلك ببروز الحركة الحقوقية، وهي جمعياتٌ مدنيةٌ لا تعمل مباشرةً في السياسة ولكنها تدافع عن الحقوق الفردية والسياسية.

لم يكن ذلك بعيداً عن أزمة النظام السياسية، وأزمة الرئيس بورقيبة الشخصية. فقد بدأ بورقيبة نهاية السبعينيات يعاني من تراجع صحّته وضعف القدرة على الحكم. وفي الوقت نفسه بدأت الصراعات بين رجاله حول خلافته في الحزب والدولة، وقد تزامن ذلك مع أزمةٍ اقتصاديةٍ بدأت تلوح منذ بداية الثمانينيات. تجلّت مظاهرُ هذه الأزمة المتعدّدة الأوجُه في الانفصال بين النظام والاتحاد العامّ التونسي للشغل منذ 1978، بعد انتفاضة العمّال في يناير من العام نفسه. وكذلك في التمرّد المسلّح الذي نفّذته مجموعةٌ قوميةٌ ثوريةٌ في يناير 1980 وأخمده النظامُ بدعمٍ غربيّ، ثمّ ظهر التيّار الإسلامي ظهوراً قوياً بعد سنواتٍ من السرّية. كل ذلك دفع الرئيسَ بورقيبة إلى التنازل وإقرار التعددية الحزبية وإطلاق حرّية تأسيس الصحف الخاصّة والحزبية وجمعيات المجتمع المدني بدايةً من 1981. وزادت الفوضى السياسية وضوحاً عندما أصبح أتباع بورقيبة يتصارعون على خلافة الرئيس الذي حافظ على الطابع الشخصي للسلطة، ولم يتنازل عن شرعيته التاريخية والأبوية حتى آخر لحظةٍ في حكمه ليلة السابع من نوفمبر1987، عندما أطاح به رئيسُ وزرائه زين العابدين بن علي بانقلابٍ عسكريٍّ بذريعةٍ طبّيةٍ، وحَبَسَه حتى وفاته في قصرٍ بمدينة المنستير.


لم تقم نسخة الاستبداد التي أسّسها الجنرال بن علي على شرعية تحرير البلاد أو الأبوية، لأنه لا يملك تاريخَ بورقيبة ولا خصالَه السياسية. أَسّس بن علي في البداية شرعيّتَه على قاعدةِ "الرئيس المنقذ"، الرجل الذي أنقذ البلادَ من الفوضى التي عاشتها في العقد الأخير من حكم بورقيبة. ومكّنَته هذه الشرعيةُ في السنوات الثلاث الأُولى من حكمه من تحقيق إجماعٍ على شخصه شعبياً وبين النخب السياسية من مختلف التيارات، بما في ذلك التيّار الإسلامي. 

 تفكّكت شرعية الإنقاذ هذه بعد ظهور معالم نظامه الاستبدادي منذ مطلع التسعينيات. فشرع الرجلُ في إعادة بناء نظام الحزب الواحد بدمج حزبه "التجمع الدستوري الديمقراطي" مع مؤسسات الدولة. وشَكّلَ بعد ذلك ولاءَ الشعبِ له بشرعيةٍ جديدةٍ سمّاها "شرعية الإنجاز"، إذ بدأت الدعاية الرسمية تتحدث عن "المعجزة الاقتصادية". وقد حقق إلى حدٍّ كبيرٍ بعض الاستقرار الاقتصادي، والخروج من برنامج الإصلاح الذي فرضه صندوق النقد الدولي على الدولة منذ الثمانينيات، مقابل قرضٍ ماليّ. وأقام شراكةً اقتصاديةً مع الاتحاد الأوروبي، فظهرت مؤشراتٌ قويةٌ على تحسّن الاقتصاد، ونجح في تسويق هذه ''المعجزة" محلياً وعالمياً. لكنه واصلَ في الوقت نفسه الاعتمادَ على هياكل السلطة نفسها التي تركها له بورقيبة، أي الحزب وترابطه بالدولة اعتماداً على المؤسسة الأمنية. 

واصل زين العابدين الاعتماد على المقايضة الطبقية موفّراً أُسُسَ دولة الرعاية للقطاع الأوسع من الطبقة الوسطى، مقابل الولاء للنظام. وربط الطبقةَ المرفَّهةَ بمصالح اقتصاديةٍ ومنافع مع شبكاتٍ عائليةٍ قريبةٍ منه ومن زوجته ليلى الطرابلسي. وشُكّلت تلك الروابطُ الاقتصادية في إطار ما صار يُعرَف "رأسمالية المحاسيب"، القائمة على علاقاتٍ شخصيةٍ وذات مصالح بين دوائر السلطة ودوائر الأعمال، أحد ركائز استقرار الاستبداد في البلاد. فيما وسّع بن علي مجالَ نفوذ الأجهزة الأمنية والاستخبارتية لحراسة هذه المعادلة الاستبدادية القائمة على توازنٍ بين تلبية متطلبات الطبقة الوسطى من جهةٍ وتحقيق مصالح الطبقة المترَفةِ المحظيّة من جهةٍ أُخرى.

كشف هذا التوازن عن هشاشته، لا سيّما في العقد الأخير من حكم بن علي. وبدأت تظهر بوضوحٍ الآثارُ الكارثية للتحول الاقتصادي إلى الليبرالية الجديدة منذ مطلع القرن مترافقةً مع سخطٍ شعبيٍّ. فقد أصبح النظامُ يلبّي مصالحَ المرفَّهين والمترَفين على حساب الطبقة الوسطى، فصارت موجاتُ الاحتجاج أكثر حدّةً، وقد تجلّت بقوة في انتفاضة مدن الحوض المنجمي جنوب غرب البلاد على خلفية أزماتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وبيئية. ووجد النظامُ نفسَه لا يملك غير فائضِ القوةِ القمعيةِ للسيطرة على المجال الجغرافي والسكان، وأصبحتْ شرعيةُ احتكارِ العنفِ السبيلَ الوحيدَ لاستدامةِ الاستبدادِ. واستمرّ على هذه الحالة حتى اندلاع الثورة التونسية سنة 2011، عندما لم يعد قادراً على السيطرة على الشعبِ باستخدام أجهزة الأمن؛ فاضطرّ إلى الاستعانة بالجيش فكانت نهاية نظامه بعد أن فضَّل الجيشُ الحفاظَ على الدولة والتضحيةَ برأس النظام. لتصل رحلة المقايضة الطبقية بين الخبز والحرية، التي وضعها النظام منذ 1956 إلى نهايتها.

كانت طبيعةُ الاستبداد الذي وَرِثَه بن علي وطوّره عن بورقيبة قائمةً على أسسٍ عقلانيةٍ، وتفترضُ وجودَ طبقاتٍ اجتماعيةٍ لها مصالحها، وتؤمن بضرورة تقديم مقابلٍ للشعب من أجل ضمان ولائه. فهذا النوع العقلاني من الاستبداد واعٍ بنفسه أنه استبداد، وواعٍ بأن احتكار القوة والقمع الأمني وحده لا يكفي للحكم، ولا يكفي أبداً لاستدامة هذا الحكم. وبالتالي فهو يحتاج إلى شرعياتٍ مختلفةٍ ومتآلفةٍ تتوزع بين تقديم منجزاتٍ تنمويةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ للناس لتحقيق قدرٍ من الولاء. فيما تُفرَّغ أجهزة المراقبة والعقاب لتتبّع الأقلية المعارضة. 


أسقطت ثورةُ 2011 كلَّ تلك الشرعيات. لقد خلع الشعبُ، ولأوّل مرّةٍ في تاريخه، حاكمَه كاسراً كلَّ صروحِ الطاعة والولاء التي تراكمت على مدى نصف قرنٍ. وأصبح هو مصدر الشرعية المباشرة للحكم، ومع ذلك أخلفت عشريةُ ما بعد الثورة وعودَها في التنمية والعدالة الاجتماعية. فبعد صعود حركة النهضة إلى الحكم سنة 2011 تواصل تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والشعبية وتدهور مستوى الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم والنقل، رغم مناخات الحرية الواسعة. غرقت الأحزاب السياسية في حالةٍ من الاستقطاب السياسي والثقافي بين العلمانيين والإسلاميين، فيما كان المجتمع في الأسفل يفقد كلَّ يومٍ شيئاً من قدراته على مجابهة الحياة اليومية. وأخفقت الانتخابات  في تغيير أحوال الناس، إذ تداولت الأحزابُ السلطةَ ولم تحقق شيئاً من وعود التنمية والعدالة الاجتماعية، سوى ما حقّقته لأعضائها من مناصب في الدولة ومكاسب خارجها. وقع في ذلك الوقت انفصالٌ واضحٌ بين النخبة السياسية الحاكمة والمعارِضة وبين الشعب. وصارت الطبقة السياسية رمزاً للمحاصصة والفساد في المخيال الجمعي، وتجلى ذلك في أقوال الناس وسلوكهم مع هذه الطبقة على أرصفة المقاهي وفي صفحات التواصل الاجتماعي.

تعمّقت هذه القطيعة مع تصاعد الهجمات الإرهابية، فقد هزّت البلادَ سنة 2013 عمليّتا اغتيالٍ سياسيّتان حين قُتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، عضوا الجبهة الشعبية من تحالف الأحزاب اليسارية. فاقمتْ الاغتيالاتُ الأزمةَ السياسيةَ، فاتَّهمَت أحزابُ المعارضةِ الحكومةَ التي يقودها حزبُ النهضة بالفشل في الحفاظ على الأمن والحدّ من نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة. وانحدر الوضعُ الأمنيّ مع وجود الجماعات الجهادية، لا سيما في المناطق الجبلية القريبة من الحدود الجزائرية. وتسببت الهجماتُ والكمائنُ التي استهدفت الجنودَ وقواتَ الأمن في انتشار الخوف وعدم الاستقرار، وصارت البلاد على حافّة الانهيار. وفاقمت الفوضى في ليبيا المجاورة، حيث أَنشأَ تنظيمُ داعش معقلاً له، التحدّياتِ الأمنية في البلاد. وجنّدت الجماعاتُ المتطرفة في ليبيا وسوريا الآلافَ من الجهاديين التونسيين، مما أسهم في عدم الاستقرار الإقليمي. انعكس الاضطراب السياسي والأمني على حياة الناس على نحوٍ كارثيّ. 

أدّى عجزُ الدولة عن توفير الخدمات العامّة الكافية إلى خيبة أملٍ واسعة النطاق. إذ استمرّ ارتفاع نسب البطالة، لا سيما بين الشباب، وزاد التضخم وعدم المساواة بين المناطق والطبقات. ورأى العديدُ من التونسيين، وخاصّةً في المناطق الداخلية المهمَّشة، أن وعود الثورة لم تتحقق، فأصبحت الاحتجاجاتُ حدثاً منتظماً بين 2012 و 2019. ومع ذلك بدت الحكومات المتعاقبة غير قادرةٍ على تنفيذ إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ شاملةٍ تعالج المشاكل الهيكلية داخل الاقتصاد التونسي. وعندما وصلت البلاد إلى انتخابات 2019 الرئاسية كان القطاع الأوسع من الشعب معادياً للأحزاب السياسية وباحثاً عن بديلٍ من خارجها. لذلك ذهبت أغلب الأصوات إلى المرشح قيس سعيّد، أستاذ القانون في جامعة تونس، والقادم من خارج المشهد الحزبيّ، والذي لم يُخفِ يوماً عداءَه للحزبية. 


أَسّسَ قيس سعيّد في البداية شرعيّتَه رئيساً منقذاً الشعبَ من فساد النخب وفوضى الأحزاب ومبشّراً "بانتقالٍ ثوريٍ جديدٍ". وكان نجاحه في كسب أصوات الناس واضحاً، فتعزّزت هذه الشرعية الإنقاذية بشرعيةٍ شعبيةٍ صدّقَتها صناديقُ الاقتراع. ومع كونه رئيساً بلا صلاحياتٍ واسعةٍ بين عامَيْ 2019 و 2021، إلا أنّه حافظ على شعبيةٍ مستقرةٍ لأنه رجلَ الدولة المنحازَ للشعب ضد "عبث الائتلاف الحزبي الحاكم"، كما يقول. 

لكن التحوّلَ الديمقراطي في تونس قد بدأ في الانهيار بحلول سنة 2021. فقد ضاعفتْ جائحةُ كورونا المشاكلَ الاقتصادية في البلاد، ما أدّى إلى أزمةٍ حادّةٍ في الرعاية الصحية ونقص الغذاء وارتفاع مستويات الفقر. ووسط الإحباط الشعبي المتزايد، اتخذ قيس سعيّد قرارَه بالانقلاب في 25 يوليو 2021 مستنداً إلى المادة الثمانين من الدستور والتي تتيحُ لرئيسِ الجمهورية أن يتخذ تدابيرَ احترازيةً في حالة خطرٍ داهمٍ لأمن البلاد. فأقال رئيس الوزراء هشام المشيشي وعلّق عمل البرلمان وقرر الحكم بالمراسيم الرئاسية مستعيناً بالجيش ومبررا خطوتَه بالادّعاء أن النظام السياسي أصبح مشلولاً، وأن هناك حاجةً إلى إجراءاتٍ عاجلةٍ لإنقاذ البلاد من "الخطر الداهم" كما سمّاه. 

وهنا يعتمد قيس سعيّد مرّةً أُخرى على شرعية المنقذ ليحقق في البداية دعماً شعبياً وسياسياً واضحاً لانقلابه. ومع أن القطاعات الشعبية التي دعمته كانت تبحث عن تحقيق مكاسب اجتماعية واقتصادية للخلاص من تدهور أوضاعها المستمر، إلا أنه تَوَجَّهَ بعد الانقلاب مباشرةً إلى تفكيك النظام السياسي الذي كان قائماً. فقد عَلّقَ العملَ بدستور 2014، وحَلَّ المجلسَ الأعلى للقضاء وحَلَّ البرلمان. ثمّ نَظّمَ استفتاءً على دستورٍ جديدٍ كتبه بنفسه سنة 2022، فيه صلاحياتٌ واسعةٌ للرئيس، وتقليصٌ لدور البرلمان، ووَضعُ أغلب السلطات في يد السلطة التنفيذية. ومع أن نسبة المشاركة في الاستفتاء كانت الأدنى بين جميع الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت منذ 2011، إذ لم تتجاوز 30.5 بالمئة من الناخبين، إلا أنّه عَدَّ ذلك نجاحاً ومضى قدماً في إقرار الدستور الجديد. ثم دعا سعيّد الناسَ للتصويت بكثافةٍ قائلاً في رسالةٍ نشرتها رئاسة الجمهورية :"قولوا نعم، حتى لا يصيب الدولة هرمٌ وحتى تتحقق أهداف الثورة … فلا بؤس ولا إرهاب ولا تجويع ولا ظلم ولا ألم". مؤكداً على شرعيته منقذاً، وواعداً بشرعية الإنجاز.

لم تكن وعودُ الرئيس سوى شعاراتٍ، فكانت أوضاع الناس تتدهور يوماً بعد آخَر. في المقابل كان الرئيس يردّ على ذلك بالحديث عن وجود مؤامرات، فأعاد كلَّ الفشل والإخفاق إلى وجود "غرف ودوائر وشبكات إجرامية تتآمر مع الداخل والخارج ضد الوطن". وهي الوصفة التقليدية التي يستخدمها الزعماء الشعبويون لتفسير انتكاساتهم السياسية أو تبرير أفعالهم، إذ يوفر هذا الاستخدامُ لنظريات المؤامرة عذراً مناسباً لأيّ فشلٍ سياسيٍّ مع الحفاظ على صورة الزعيم بطلاً لا يعرف الكللَ من أجل الشعب. وتوفر نظريةُ المؤامرة لسعيّد فرصةً لتقديم نفسه للشعب منقذاً وحده القادرُ على تحرير الناس من قبضة النخب الفاسدة. وتعزّز هذه الصورة شرعيّتَه مخلِّصاً، لأنها تسمح له بوضع نفسه الشخصَ الوحيدَ الكاشفَ والمتصدّي لأكاذيب النخب وتلاعبها. فهو وحده الذي يتمتع بالشجاعة والبصيرة لكشف المؤامرة والدفاع عن الشعب.

لم يشارك في الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت نهاية 2022 سوى 11.2 بالمئة من الناخبين. وبدا واضحاً أن شعبية الرئيس سعيّد أصبحت محلَّ تشكيكٍ، لا سيما وأنها تزامنت مع تدهورٍ غير مسبوقٍ في الوضع الاقتصادي، تجلّى في صفوفٍ طويلةٍ أمام منافذ بيع المواد الأساسية مثل السكر والدقيق والحليب والزيوت النباتية. بدأت أغلبُ الأحزاب والنقابات التي دعمت انقلابَه في نقد سياساته، وصار الدعم الشعبي أقلّ وضوحاً، إذ وصلت شرعيّتا الإنقاذ والإنجاز إلى طريقٍ مسدود. فلَم ينجح الرئيسُ في إنقاذ الوضع الاجتماعي ولا في إنقاذ الاقتصاد، ولا في إنجاز ما وعد به. ولم يعد له من أداةٍ لترسيخ شرعيّته سوى الاتّكاء على الأجهزة الصلبة، ألا وهي الأمن والجيش. 

بدأ الرئيسُ في حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ منذ مطلع 2023 طالت سياسيِّين وإعلاميِّين ورجالَ أعمالٍ ونشطاءَ في المجتمع المدني وشباباً ونساء. واتّسع نفوذُ الأجهزة الأمنية، وعادت الرقابةُ على وسائل الإعلام العامّةِ والخاصّة علناً حتى اختفت أغلب البرامج السياسية من التلفزيونات والإذاعات. ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك توقّف برنامج 90 دقيقة، الذي كان يذاع على إذاعة "أي أف أم" المحلية. وانتعشت شبكات الوشاية والمخبِرين من سُباتها الطويل، وطَوّرَت عملَها لتشمل الفضاء الرقمي. وقد وضع الرئيسُ قيس سعيّد مرسوماً خاصّاً لمعاقبة كلّ منتقدٍ بالقول أو الكتابة يسمى "المرسوم 54"، الذي صار ضحاياه في السجون بالمئات. وهو قانونٌ وضعه سعيّد دون العودة إلى البرلمان، موضوعه "مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال".


يُنتج قيس سعيّد نسخةً من الاستبداد مخالفةً لاستبداد بورقيبة وبن علي. فلا يقوم استبداده على السيطرة بالمؤسسات الوسيطة كالحزب أو المقايضة الطبقية بالنقابات أو بالمنظمات الجماهيرية كالاتحادات الطلابية أو النسائية أو المهنية، ولكن بشخصية القائد الشعبوي المكتفي بنفسه عن غيره. فهو وحده من يمثّل إرادةَ الشعب في علاقةٍ مباشرةٍ معه بلا وسائط، على نحوٍ غير بعيدٍ عن نموذج العقيد الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان معادياً للأحزاب والتمثيل السياسي ولا سيما المؤسسات السياسية في الدولة لكي يصوغ علاقةً مباشرةً مع الناس. ومع أنّ التمثيل الشعبي قد تآكَلَ، إلا أنّ الرئيس يواصل تقديمَ نفسه تجسيداً لإرادة الشعب، والإطنابَ في التحدّث عن "سيادة الشعب"، وأنه يتصرف نيابةً عن الشعب. لذلك فهو دائمُ الحرص على توجيه نداءاتٍ مباشرةٍ إلى الناس متجاوزاً المؤسسات السياسية القائمة أو الوسائط التمثيلية. وهذه النداءات المباشرة للشرعية الشعبية سمةٌ من سِمات الزعماء الشعبويين، والتي بها يبرّرون تفكيكَ الضوابط المؤسسية التي يمكن أن تقيّد سلطتَهم المطلَقة. وفي الاستبداد الشعبوي، تحلّ السلطةُ الشخصية للقائد محلَّ معايير الدولة الفنّية والعلمية غالباً، وتعكس مركزيةُ سعيّد المتزايدةُ في السياسة التونسية اليومَ هذا النمطَ.

ما يحاول قيس سعيّد بناءَه اليوم مختلفٌ جوهرياً عن شكل الاستبداد القديم في تونس، ليس بكسر المؤسسات الوسيطة فحسب، وإنما بالوعي بالذات. كان بورقيبة وبن عليّ يدركان أنّهما مُستبِدّان، وبرّرا ذلك بعدم نضج الناس لتقبل الديمقراطية دفعةً واحدة. كان بورقيبة من أنصار نموذج "المستبد المستنير" لفرض نوعٍ من التحديث القسري. أما بن علي فكانت ذرائُعه خطرَ الإسلام السياسي والإرهاب. لكنهما عَمِلا دائماً بمؤسسات وسيطةٍ، حزبيةٍ ونقابيةٍ ومجتمعيةٍ لتحقيق قدرٍ أوسع من الشرعية والرضا لدى المحكومين. وحاولا دائماً تلبيةَ الحاجات الاجتماعية والاقتصادية للأغلبية، لتكون رشوةً شعبيةً يقايضون بها الولاءَ السياسي. على العكس من ذلك لا يبدو قيس سعيّد واعياً بنفسه مستبدّاً. 

أما وجه الاختلاف الثاني بين استبداد بورقيبة وبن علي واستبدادِ قيس سعيّد فهو طبيعة العلاقة بين رأس النظام وجهاز الدولة. اعتمد بورقيبة على إنشاء جهاز دولةٍ مستقرٍّ مخلصٍ وفعّالٍ ومعزولٍ عن الضغوط المجتمعية والسياسية، وحافظَ زين العابدين بن علي على الجهاز ذاته. فقد شكّلت الطبقةُ الإدارية المستقرة والفعّالة أمراً ضرورياً للأنظمة الاستبدادية السابقة لتنفيذ السياسات وإدارة الاقتصاد والحفاظ على السيطرة الاجتماعية، وأدّت دوراً أساسياً في توزيع الموارد وتقديم الخدمات وتنفيذ أجندة النظام للحفاظ على النظام العامّ والشرعية. وقد اعتمدت على الإدارة الجيّدة لإدارة الاقتصاد، لا سيّما وأن الدولة كانت تسيطر على الصناعات والقطاعات الرئيسية ممّا ساعد على الحفاظ على الولاء بين الشرائح الرئيسية من السكان. وكان لها القدرة على توفير الخدمات الاجتماعية لضمان الامتثال الشعبي وتقليل احتمالية الاضطرابات، لذلك فإنّ فضلَ صمود نظام الاستبداد منذ الاستقلال حتى الثورة كان يعود إلى الجهاز الإداريّ المستقرّ في إدارة الإنتاج والتوزيع والخدمات، والحفاظ على الاستقرار السياسي مع حرّياتٍ سياسيةٍ محدودة. وهكذا برّر بورقيبة وبن علي حكمَهما الاستبداديّ بنجاعةِ الأداء الاقتصادي أو الأمني أو الاستقرار الاجتماعي. وكان استقرار جهاز الدولة أمراً حيوياً لهما لضمان قدرة النظام على تحقيق إنجازاته على هذه الجبهات، والحفاظ على الشعور بالشرعية بين السكان. 

في المقابل، نعيش اليوم استبداداً شعبوياً لا يقوم على استقرار جهاز الدولة الإداري، ولكن على ضمان ولاء أجهزة الدولة القمعية كالجيش والأجهزة الأمنية. شكّل الرئيسُ سعيّد منذ انقلاب 2021 ثلاثَ حكوماتٍ في ثلاث سنواتٍ، مع تغييراتٍ دوريةٍ للوزراء والولاة وكبار موظّفي الدولة. ومنهم من لم يعمّر سوى أسابيع في منصبه، إذ مكثت وزيرةُ التربية سلوى العباسي في منصبها مدّة الإجازة المدرسية الصيفية في أغسطس 2024 ثمّ وقّعت إقالتَها قبل بداية العام الدراسي الحالي. ويبدو واضحاً أن الرئيس سعيّد المنفرد بتمثيل الشعب لا يريد حتى لأعضائه في الدولة أن يطول مقامُهم في المناصب الرسمية. وكان تبريرُه لغالب هذه الإقالات مزاعم الفساد أو عدم الكفاءة، وأحياناً دافعٍ شعوره بوجود مؤامرةٍ من الدولة العميقة. وكان لهذا تأثيرٌ كارثيٌّ على الإدارة العامة، فشعر العديد من الموظفين المدنيين بالحاجة إلى إظهار الولاء للرئيس للاحتفاظ بمناصبهم. ويقاس على ذلك تهميش الحكم المحلي، فقد قلّص نظامُ سعيّد صلاحيات البلديات وسلطاتها مقوّضاً السعيَ نحو تفكيك المركزية ومخالفاً ما وعد به من توسيع التمثيل. وقوّض الهيئاتِ المستقلّة، مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئة مكافحة الفساد. فالتغييرات التي أدخلها الدستور الجديد تعيد تشكيلَ طبيعة الدولة إلى نظامٍ أكثر مركزيةً وهرميةً، مع وجود الرئاسة في الأعلى. وقد يؤدّي هذا إلى إضعاف القدرة المؤسسية للإدارة على المدى الطويل، فتصبح عمليةُ صنع القرار أكثرَ شخصيةً وأقلّ موثوقيةً في الضوابط والتوازنات المؤسسية.

يقوّض قيس سعيّد جميعَ المؤسسات ويُضعِف جهازَ الدولة الإداريّ. وهو مدفوعٌ في ذلك بشعبويةٍ معاديةٍ لجميع المؤسسات الوسيطة ليبقى وحيداً في قمّة الدولة له جميعُ الصلاحيات، دون احترامٍ لفصل السلطات أو تفويض الإدارة بالعمل على القضايا ذات التخصصات التقنية. فالرئيس التونسي، كما يقدّم نفسَه للجمهور، يفهم في كلّ التخصّصات وله مشروعٌ في كلّ القطاعات، حتى تلك التي تحتاج معرفةً علميةً دقيقةً، كما فعل في أزمة نقص المياه التي تعاني منها البلاد. لكنه في الوقت نفسه يحافظ على استقرار جهاز الدولة القمعي، فلا نشهد تغييراتٍ في مستوى قيادة الأجهزة الأمنية، ولا مستوى قيادة الجيش. وذلك لأن نموذج حكمه الاستبدادي لا يحتاج سوى قائدٍ منقذٍ يعبّر عن إرادة الشعب وأجهزةِ مراقبةٍ وعقابٍ قويةٍ ومسلحةٍ لحراسة هذا القائد. وهو نموذجٌ هشّ لا يمكن أن يدوم طويلاً لأنه يبني شرعيّةَ النظام على خيالاتٍ شعبويةٍ لا تستند إلى أساسٍ مادّيٍ قويٍّ، ولا إلى قاعدةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ تحقّق قدراً معقولاً من التماسك والولاء للنظام.

اشترك في نشرتنا البريدية