محمد مهدي شمس الدين.. الفقيه الذي خرج من عباءة المرجعية إلى أفق المواطنة

دعا محمد مهدي شمس الدين جميع الشيعة إلى الاندماج في أُطُرِ دُوَلِهم الوطنية بالاشتراك مع سائر المواطنين، بما ينسجم مع رؤيته المنطلقة من الفقه الشيعي نحو دولة مدنية تقوم على العدالة والمواطنة.

Share
محمد مهدي شمس الدين.. الفقيه الذي خرج من عباءة المرجعية إلى أفق المواطنة
تبدو أفكار شمس الدين اليوم أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى | تصمم خاص بالفراتس

بينما صعدت نظرية ولاية الفقية بعد انتصار الثورة في إيران سنة 1979، كانت نظريةٌ أخرى من داخل الفكر السياسي الشيعي تتطوّر، ثم تبلورت بوضوحٍ عند محمد مهدي شمس الدين. فقد قدّم رؤيةً مبكرةً وجريئةً تدعو إلى بناء دولةٍ تضمن حقوق الجميع بلا تمييز، وتقوم على أسس المواطنة الكاملة، لا على أساس الانتماءات الطائفية والولاءات السياسية. رؤيةٌ انطلقت من إيمانه بدور الدولة راعيةً للجميع. إذ لم يرَ تعارضاً بين الدين والدولة الحديثة. وفي ظلّ الأزمات التي تعيشها عدّة مجتمعاتٍ عربيةٍ من بينها لبنان، موطن شمس الدين، تعود هذه الرؤية إلى الواجهة محاوِلةً الإجابة عن أسئلةٍ شائكةٍ عن شكل الدولة ومسائل الهوية والمواطنة والعدالة. هي إجاباتٌ تركها شمس الدين في إرثٍ فكريٍ غنيّ.
لم يكن النقاش حول الدولة والمواطنة محصوراً في بلدٍ أو سياقٍ إسلاميٍّ محددٍ، بل كان جزءاً من تحوّلٍ أوسع شهده الفكر السياسي السنّي والشيعي في العقود الأخيرة. لا سيما علاقة الدين بالدولة وموقع رجل الدين من السلطة. وفي صلب هذه النقاشات والتجارب كانت تجربة محمد مهدي شمس الدين، على الجانب الشيعي. فمع انتمائه في بداياته إلى الخط التقليدي من الفقه الشيعي القائم على مرجعية الفقيه والدولة الدينية، إلا أنه مال لاحقاً بعد تجربةٍ مديدةٍ نحو طرحٍ مدنيٍ حديثٍ يركّز على "ولاية الأمّة" لا "الفقيه"، وعلى مشروعية الحكم المستمدة من الشعب لا من النصوص الدينية. يُفهم هذا التحوّل من معرفة السياقات الفكرية والسياسية التي ساهمت في بلورته، ودفعت شمس الدين إلى إعادة النظر في فكرة الدولة الدينية ليقترب من تصوّر الدولة المدنية وولاية الأمّة على نفسها، في مقابل نظام ولاية الفقيه.


لم يكن اسم محمد مهدي شمس الدين مجرّد امتدادٍ لنَسَبٍ علميٍّ عريقٍ، ينتهي إلى ما يعرف عند الشيعة بالشهيد الأول وأحد كبار فقهاء الشيعة الإمامية، محمد بن مكي العاملي، الملقّب شمس الدين. وهو الذي أعدم سنة 1384 في دمشق بأمرٍ من السلطان المملوكي، بعد أن اتُّهم بالإفتاء بخلاف المذاهب الأربعة. بل كان نواةً لمسارٍ فكريٍ ودينيٍ تشكّل في قلب الحوزة العلمية في النجف بالعراق، المعنية بتدريس العلوم الإسلامية والفقهية وتكوين العلماء، ونضج لاحقاً على إيقاع التحوّلات الكبرى في العالمين العربي والإسلامي.
ولد محمد مهدي شمس الدين العاملي، نسبةً إلى جبل عامل في جنوب لبنان، سنة 1936 في النجف، حيث كان والده عبد الكريم مقيماً للدراسة الدينية في الحوزة العلمية. تنحدر العائلة من بلدة خربة سلم في جنوب لبنان. غير أنّ أفرادها مثل العديد من أبناء تلك القرى والبلدات كانوا يقصدون النجف للدراسة والتدريس.
نشأ شمس الدين في بيت علمٍ وتديّن، ولكن على شظفٍ من العيش. ما إن بلغ الثانية عشرة من عمره، حتى تعلّم القرآن على يد والدته زينب علي كمال. كذلك تعلّم مبادئ النحو والصرف من والده، ومقدمات الأصول والبلاغة والمنطق على يد بعض مدرّسي الحوزة العلميّة في ذلك الحين. منهم الشاعر عبد المنعم الفرطوسي، أحد أعلام الأدب الشيعي في العراق.
كان شمس الدين في الثانية عشرة من عمره عندما قرّر والده العودة إلى لبنان سنة 1948. جاءت العودة في سياق الأوضاع التي كانت تشهدها فلسطين عشيّة النكبة. إذ كان معظم أهل جنوب لبنان يمتلكون أراضيَ ويزاولون أعمالاً في فلسطين وقتها. يقول عبد الكريم شمس الدين عن ابنه: "تركتُ الشيخ محمد مهدي في العراق يعاني الفقر والجوع والبرد. اختار البقاء بعزمٍ وإصرار".
وعن تلك الفترة أيضاً والسنوات التي أعقبتها، يقول محمد مهدي شمس الدين: "كنت وقتها في بداية الشباب وذروة الحياة الدراسية في النجف الأشرف، حيث الفقر والحاجة إلى حدّ الجوع. كانت حياةً قاسيةً، والملاذ من كلّ ذلك الدرس والقراءة. وكان من جملة ما نلوذ به، إذا مللنا الدرسَ، ديوان شعرٍ، أو كتاب تاريخٍ، أو قصّةٌ موضوعةٌ أو معرّبةٌ، أو جريدة". ويضيف أن الحصول على الجريدة كان صعباً لغلاء ثمنها، أو لأنهم لا يجرؤون على اقتنائها. فالجريدة والمجلّة كانتا في عُرف النجف الصارم آنذاك من الأمور العصريّة التي تحمل في ثناياها "الكفر والضلال وأفكار الأجانب من دول الغرب الكافر الذي غزانا واستعمرنا، وجاء بقوانينه المخالفة للشريعة الإسلاميّة".


أمضى شمس الدين نحو ثلاثةٍ وثلاثين عاماً متواصلةً في العراق مفضّلاً متابعة دراسته الدينية هناك، مع صعوبة الظروف المعيشية. وقد شكّلت المرحلة العراقية النجفية من حياته حقبةً نشط فيها في مجالاتٍ متعددة. فإلى جانب دراسته وتدريسه، شارك في أنشطةٍ فكريةٍ واجتماعيةٍ وعملٍ إسلاميٍّ عامّ.
كلّفه المرجع العراقي السيد محسن الحكيم، بإدارة شؤون المرجعية في منطقة الفرات الأوسط، ما بين وسط العراق وجنوبه، بين سنتي 1961 و1969، وكان مركز عمله في مدينة الديوانية. شاركه في هذه المرحلة عددٌ من العلماء الذين أصبح لهم دورٌ بارزٌ لاحقاً، ومنهم اللبناني موسى الصدر، مؤسس حركة أمل الشيعية تحت اسم "حركة المحرومين"، وقد اختفى في ليبيا سنة 1978. ومنهم أيضاً العراقيون محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم ومهدي الحكيم ومحمد تقي الحكيم. وعملوا معاً ضمن حلقةٍ من العلماء الشباب المحيطين بمحسن الحكيم، ثم بعده بالمرجع أبي القاسم الخوئي.
في المرحلة الأولى من نشاطه الفكري في العراق، أصدر شمس الدين كتاب "نظام الحكم والإدارة في الإسلام" سنة 1954. جاء الكتاب معاصراً صدور كتابات عددٍ من المفكرين الإسلاميين، مثل تقي الدين النبهاني وعبد القادر عودة وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي. كان هدف الكتاب، كما يذكر المؤلف في مقدمته "التدليل على أننا في الإسلام نملك نظاماً للحكم والإدارة [. . .] فالإسلام دينٌ ودولةٌ، والحكومة جزءٌ من التشريع الإسلامي [. . .] تتحقق بالنص وليس بانتخاب أو اختيار البشر". وفي الكتاب، يرفض شمس الدين فكرة الديمقراطية ومشروعيتها في اختيار الحاكم. كذلك لا يعترف بالتعددية السياسية، ويرى أنّ الأحزاب السياسية تمزّق المجتمع وتقوده إلى التشتّت والفرقة. ويرى أن ذلك مرفوضٌ دينياً وإسلامياً، "فالأحزاب توغر الصدور، وتَحُول دون أن تكون الأمّة على معنىً واحد".
روى لي شمس الدين أنّ أبناء جيله في النجف، ممّن نشؤوا في نهايات الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، تأثّروا بالأحداث في العالم العربي، وخصوصاً بما كان يأتيهم من مصر. وفي مقابلةٍ سابقةٍ مع مجلة "الحوادث" اللبنانية، وجد عددَها المطبوع على الآلة الكاتبة ابنُه إبراهيم لكنه لم يتبين عدد الطبعة، يتذكّر شمس الدين من طفولته حادثةً وقعت في ليلةٍ صيفيةٍ على سطح بيتٍ بالنجف حيث كانت جلسات السطح أمراً شائعاً في المدينة.
جلس والده يومها مع بعض أصدقائه على ضوء فانوسٍ، وبسطوا جريدةً هُرّبَت، لأنها من المحرّمات حينئذ. تضمنت الجريدة شتات أخبارٍ وأفكارٍ عن معارك تدور في أماكن مختلفةٍ من العالم، منها دخول الجيش الأحمر السوفييتي الحرب العالمية الثانية، وتحقيق نصرٍ سيدفع ثمنه المسلمون. ويقول: "عندما أصبحت واعياً، صرت أسمع عن الشيوعية وخطرها، وكنت أشعر بالرعب الذي يولّده ذكرها في نفوس من حولي… هذا الرعب كان حافزاً للاطلاع على فكر الشيوعيين".
لذا قرأ شمس الدين، كما يورد في المجلة، كتابَ "رأس المال" لكارل ماركس، واطّلع على ما كتب عنه. وطالع مذكرات الشيوعيين، وقرأ الكتب الدعائية المؤيدة للشيوعية، وتلك المعارضة لها على السواء. وتعرّف إلى الأدب الروسي السابق للحقبة الشيوعية. فقرأ أعمالاً لتولستوي مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، ولفيودور دوستويفسكي مثل "الأخوة كارامازوف"، ولميخائيل شولوخوف مثل "الدون الهادئ". واطّلع على نصوصٍ مترجمةٍ لألكسندر بوشكين، الشاعر والكاتب المسرحي. وقرأ أدب المرحلة اللاحقة مثل "الأم" لمكسيم غوركي، وبعض ما تُرجم من شعر فلاديمير ماياكوفسكي.
ويضيف في نصّ المقابلة: "نشأنا في مرحلة انطلاقة الحركات القومية العربية واستفحالها، ووصلَنا دويُّ بعضها، كحركة رشيد عالي الكيلاني في العراق. نما وعيُنا في فترة صعود هذه الحركات، وتفتّحت أعيننا على حزب الاستقلال في العراق [. . .]". ثم يقول جاءت ثورة يوليو 1952 في مصر وأحدثت دويّاً هائلاً، "وَصَلَنا عبر الجرائد المهرَّبة وعبر الراديو، الذي كان كغيره من مظاهر المعاصَرة، محرَّماً، لاعتباره آلةَ لهو". ومع ذلك، "كنّا كما اللصوص، نذهب إلى بعض البيوت ونغلق الأبواب علينا لنستمع إلى ما تبثه الإذاعة المصرية".
ويتابع أن مجموعته من طلاب النجف كانوا يذهبون إلى "باب الولاية"، أي مدخل مدينة النجف، حيث كان هناك دكانٌ صغيرٌ ووحيدٌ تأتيه جرائد اليوم السابق، مثل جرائد بغداد، وأحياناً جريدة "الحياة" البيروتية ومجلة "الرسالة من القاهرة. يقول: "كنا نقرأ ونقارن بين صورة الإنسان المنفتح الذهن، كما تظهر في هذه المواد، وبين الوضع السائد في النجف".
ولعلّ هذه القراءة والتفاعل مع العالم الخارجي، شكّلا لدى طلاب النجف رؤيةً مغايرةً عن العالم، ووعياً بأوضاع العرب والمسلمين. ونشأت لديهم حالة مقارنةٍ جدّية. وعن هذا يقول شمس الدين في مقابلة مجلة "الحوادث": "كان هناك عالَمان: أحدهما نعيش فيه، والآخر يطرق أبوابنا، يقترب من عالمنا المغلق". وهو ما ولّد لديهم نوعاً من المساءلة الداخلية، وطَرَح أسئلةً كثيرةً معلَنةً وسرّيةً، ما دفعهم إلى مزيدٍ من البحث والقراءة.
وكذلك يتحدّث شمس الدين عن قراءاته حينئذٍ، كأدبيات النكبة الفلسطينية وثورة 1936 على الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية. وقرأ سيَرَ شخصياتٍ مبرّزةٍ في النضال الفلسطيني، مثل عزّ الدين القسّام وعبد القادر الحسيني. بالإضافة إلى الوثائق السياسية مثل وعد بلفور. ويشير إلى أنّ "التأثير الأكبر على جيلنا جاء من نكبة فلسطين". ويربط هذه القراءات بحاجته المتزايدة إلى الفهم والتحليل، وعن تأثره ببعض أعلام عصره من رواد الفكر الإصلاحي الإسلامي، مثل مفتي الديار المصرية محمد عبده، وعالم الدين الأفغاني جمال الدين الأفغاني.
في تلك الحقبة من حياته في النجف، كتب محمد مهدي شمس الدين في عددٍ من المجلّات، وساهم في تأسيس بعضها، بهدف نشر الفكر الإسلامي والثقافة السياسية الإسلامية المواكبة لتطورات العصر. شارك مثلاً مع الفقيهين الشيعيين العراقيين، محمد رضا المظفّر ومحمد تقي الحكيم في تأسيس جمعية "منتدى النشر" ومجلة "الأضواء" سنة 1959، اللتين شكّلتا منبرين للعمل الإسلامي آنذاك ولفكرة تطوير الخطاب الديني.
هذا الاتجاه التحديثي برز أيضاً أثناء عمله محاضراً في كلية الفقه في النجف. سعى شمس الدين مع عددٍ من زملائه المجدّدين إلى تنظيم الدراسة في الحوزة العلمية وفق مناهج وأسسٍ عمليةٍ أكثر استجابةً لمتطلبات العصر. وساهم في الجهود الهادفة لإعداد خطباء للمنبر الحسيني (المرتبط بإحياء واقعة كربلاء)، قادرين على استيعاب المتغيّرات والتعامل مع الواقع الثقافي والاجتماعي بلغةٍ رصينةٍ، ومعرفةٍ علميةٍ وموضوعية. ومع أنّ هذه الدعوة إلى التغيير قوبلت بمعارضةٍ شديدةٍ في البيئة النجفية، إلا أن القائمين عليها واصلوا جهودهم. وأسهمت هذه المحاولة في تخريج عددٍ من الخطباء المبرّزين الذين حملوا خطاباً أكثر وعياً ومعاصرةً، وفق ما أخبرني شمس الدين في أحاديث سابقةٍ بيننا.
برز هذا الجهد التحديثي أيضاً في سلسلةٍ من الكتب التي أصدرها شمس الدين، وأعيد طبعها عدّة مرّات. مثلاً كتاب "ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها الاجتماعية" الذي جاءت طبعته الأولى سنة 1970، وتناول ثورة الإمام الحسين من زوايا متعددةٍ خارج الإطار الديني الصرف. فضلاً عن سلسلة دراساته عن الإمام علي بن أبي طالب وكتاب "نهج البلاغة" نشرت مع مطلع السبعينيات تحت عنوان "دراسات في نهج البلاغة".
آنذاك أسّس شمس الدين "المكتبة العامة"، وهي مؤسسةٌ ثقافيةٌ في منطقة الفرات الأوسط. وأشرف على بناء أكثر من عشرين مسجداً في مدينة الديوانية ومحيطها.
وعن الصورة الأوسع لتلك الفترة في النجف، يشير شمس الدين في مجلة الحوادث كذلك لتجربته في العمل الإسلامي في مرحلة ما بعد انقلاب 14 يوليو 1958 الذي أنهى الحكم الملكي في العراق. إذ نشطت الحركة الإسلامية (التيار الإسلامي الشيعي الناهض آنذاك) علناً، وانخرط فيها مع عددٍ كبيرٍ من رفاقه.
يقول إنّ الجهد الذي بُذل في إنشاء المكتبات والمساجد لم يكن هدفه فقط تجميع الناس، بل تمثّل أساساً في نشر الوعي وتحفيز الناس على المشاركة في تغيير الواقع السياسي الفاسد آنذاك. ومن مجالات العمل السياسي التي انخرط فيها مع رفاقه إصدار البيانات وتنشئة أشخاصٍ مؤهلين بتوجهاتٍ إسلاميةٍ، وكتابة النصوص التي تحدّد مهمّات العمل الإسلامي وقتئذ. ويلفت شمس الدين في مقابلة مجلة الحوادث إلى أنّ همّ العلماء في النجف والديوانية لم يكن تأسيس أحزابٍ سياسيةٍ على النمط السائد اليوم، وإنما تشكيل عملٍ إسلاميٍ جادٍّ ومنظّمٍ، قادرٍ على مواجهة النظام السياسي السائد.


ضمن هذا المشهد، كانت النجف في منتصف القرن العشرين فضاءً حيوياً التقى فيه أبرز المفكرين الشيعة، ممّن صار لهم لاحقاً دورٌ رائدٌ ومكانةٌ في الحراك الفكري والسياسي الشيعي. عملوا معاً تحت جناح مرجعية محسن الحكيم الدينية، وفي إطار مدرسة النجف العربية التقليدية.

أوّلهم نجله، محمد مهدي الحكيم، الذي لم يترك أيّ مؤلفاتٍ منشورةٍ باستثناء مذكراته "حول التحرك الإسلامي في العراق"، الصادرة في طهران سنة 1988. والثاني شقيقه محمد باقر الحكيم، الذي اغتيل في النجف سنة 2003، وترك مجموعةً كبيرةً من الدراسات معظمها من دروسه في تفسير القرآن، وبعضها في موضوع الإمامة وفقه "المرجعية الصالحة" عند أهل البيت. إضافةً إلى خطبٍ سياسيةٍ وندواتٍ جماهيريةٍ، فقد كان منشغلاً بالعمل السياسي المباشر ضدّ نظام الرئيس العراقي صدام حسين، وأسّس "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" سنة 1980 في طهران، قبل أن يعود إلى العراق بعد سقوط النظام في أبريل 2003. بالإضافة إلى محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله، وقد تميّزوا بغزارة إنتاجهم الفقهي والفكري، مع اختلافٍ في مقارباتهم للمسائل النظرية المرتبطة بالمرجعية والحزبية والدولة والمواطنة.
يضاف لهؤلاء موسى الصدر، اللبناني الأصل الإيراني المولد والنشأة، الذي عاش وسلك مسلك التعليم الشرعي في حوزة قم كما التعليم العام في جامعة طهران. ثمّ حضر إلى النجف سنة 1953 لاستكمال دراساته، على عادة علماء الشيعة. غادر النجف سنة 1958 إلى لبنان، وانخرط في تثبيت ركائز خطّه الإصلاحي المؤسساتي، وقد وثّقتُ ذلك في كتابي "الشيعة اللبنانيون في تبلور وعيهم الوطني" الصادر سنة 2007.
وفي حين ركّز معظم هؤلاء العلماء الشيعة على قضايا الدولة الإسلامية والمرجعية وولاية الفقيه، تفرّد محمد مهدي شمس الدين برؤى عن الدولة الوطنية بين الإسلامية والمدنية والمواطنة والمساواة والتسامح. وقدّم طرحاً متقدماً في قبول الديمقراطية الغربية والتعددية السياسية، من مبدأ "ولاية الأمّة على نفسها". وعلى حداثته الظاهرة، كان لطرح شمس الدين جذورٌ في أفكار مفكرين شيعة سبقوه بعقود.


أخبرني شمس الدين أنّ وعيه الفقهي تأثر مبكراً بتراث المرجع الشيعي الإيراني الميرزا حسين النائيني، المتوفى سنة 1936. كذلك أثّر النائيني في فقهاء النجف عامةً إبّان الخمسينيات.
كان هذا التأثير في شمس الدين مما رواه أساتذته عن الثورة الدستورية الإيرانية بين سنتَيْ 1905 و1911، وما عاصرها من صراعات. قاد تلك الثورة مراجع دينيون ومثقفون ليبراليون وتجارٌ، مطالبين بدستورٍ ومجلس شورى يقيّد سلطة الشاه مظفر الدين. دعم عددٌ من علماء النجف هذه المطالب بفتوىً موحدةٍ شكّلتْ عامل ضغطٍ على الشاه، فاضطر سنة 1906 لإقرار الدستور وتأسيس مجلس شورى. غير أن المشروع واجه معارضةً من بعض العلماء ورؤساء العشائر.
في ظل هذا الانقسام، برز النائيني مفكّراً دينياً وازناً يمثّل التيار الديمقراطي. وشارك في الدفاع عن الحركة الدستورية ساعياً لتأصيلها ووضع مقاربةٍ فقهيةٍ للمطالب ولمسألة شكل الحكم في "زمن غَيْبة الإمام". وحسب الاعتقاد الشيعي الاثني عشري، زمن الغيبة قائمٌ على أنّ الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري (وهو نفسه المهدي)، قد دخل في غيبتين. الأولى هي "الغيبة الصغرى" من سنة 260 إلى 329 للهجرة، وكان له فيها أربعة سفراء تعاقبوا على تمثيله أمام الشيعة، ينقلون أسئلة شيعته ورسائلهم إليه. والثانية هي "الغيبة الكبرى" التي بدأت سنة 329 إلى اليوم. ومن حينها يُرجع الشيعة أمورَهم إلى العلماء والفقهاء الذين يُعَدّون حجَجَ الله على الناس في غياب المهدي.
تمثل تأثير النائيني في الفقه الشيعي في كتابه "تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة" الذي طبع أول مرّةٍ سنة 1909، إذ أصّل شرعياً للنظام الدستوري المدني والبرلماني. ويشير الكتاب إلى أنّ النصوص الشرعية تتضمن مبادئ، كفصل السلطات والمساواة والعدالة والحرية، معتبراً أن السلطة نتاجٌ للمجتمع وأن الإسلام لم يحدّد شكلاً ثابتاً لها. ويرى النائيني أنّ الولاية الزمنية، أي "السلطة في عصر الغيبة" هي للأمّة لا للفقهاء. وأنّ ولاية الأمّة على نفسها شأنٌ سياسيٌ لا شرعيٌ، معتبراً أن غيبة الإمام المعصوم تحتّم على الأمّة إقامة سلطةٍ دستوريةٍ تقيّد الحكم وتمنع الاستبداد. وشدّد على دور الأمّة في الرقابة والمحاسبة عبر برلمانٍ منتخَب. وأيّد مبدأ الأكثرية، بل وفتح المجال أمام غير المسلمين للمشاركة في مجلس الشورى.
أثّرت أفكار النائيني تأثيراً بالغاً في طروحات المرجع السيد محسن الحكيم، أحد أبرز تلامذته. ومع أنّ الحكيم لم يطرح برنامجاً سياسياً متكاملاً، ولم يؤمن بـالنظام الديمقراطي الغربي ولا بـنظرية ولاية الفقيه اللاحقة، إلّا أنّه رأى أن للفقيه دوراً في الزعامة الدينية وكذلك الاجتماعية، من دون أن يعني ذلك تسييساً لوظيفته الدينية.
انقسمت الدائرة المقربة من الحكيم، من طلابه وأبنائه، إلى فريقين. الأول مؤيدٌ للانخراط بالعمل السياسي، ضمّ ابنيه محمد مهدي الحكيم ومحمد باقر الحكيم، إلى جانب زملائهما محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله. في المقابل، تمسّك الفريق الثاني بمبدأ "الانتظار" وتجنّب السياسة، والاكتفاء بالوظائف الدينية التقليدية، كابنه يوسف الحكيم، وحسين الحلّي مدير مكتب الفتوى عند محسن الحكيم آنذاك، ومحمد الرشتي مدير مكتبة الحكيم العامة وقتها. وهو ما أخبرني به شمس الدين سابقاً، ودوّنته في كتابي المذكور آنفاً.
وساهم محسن الحكيم في تأسيس "جماعة العلماء في النجف الأشرف" سنة 1958، ثمّ "جماعة علماء بغداد والكاظمية" سنة 1964. وقد شكّلت الجماعتان الإطارَ التنظيميَ لعمل عددٍ من علماء الشيعة الإصلاحيين آنذاك، وبينهم محمد مهدي شمس الدين، في سياق انخراطهم في الشأنين الوطني والعربي، وفق مذكرات مهدي الحكيم الصادرة سنة 1988.
لم يغيّر رحيل محسن الحكيم سنة 1970 من موقف المرجعية النجفية التي انتقلت إلى أبي القاسم الخوئي، مع بزوغ أطروحة "ولاية الفقيه المطلقة" في إيران على يد قائد ثورتها روح الله الخميني سنة 1979. إذ عدّت أدلّتها "ضعيفة في السند والدلالة"، كما جاء في كتاب الخوئي "الاجتهاد والتقليد" الصادر سنة 1990. وأجرى بعض تلامذة الخوئي، مثل عبد الأعلى السبزواري وعلي السيستاني المرجع الشيعي في العراق حالياً، تعديلاتٍ محدودةً على نظرية ولاية الفقيه الجزئية مستفيدين من نظرية الخميني. ويلتزم السيستاني موقفاً وسطاً، فيعدّ صلاحيات الحاكم الشرعي أو الفقيه مقتصرةً على حفظ المصالح العامة، دون التدخّل المباشر في السياسة.


بينما كانت المرجعية النجفية تبلور مواقفها في قضايا الدين والسياسة، وقبل وضوح ملامح أطروحة ولاية الفقيه المطلقة على يد الخميني، كان محمد مهدي شمس الدين غادر إلى لبنان سنة 1969.
جاءت عودة شمس الدين إلى لبنان بدعوةٍ ملحّةٍ من موسى الصدر، وبتكليفٍ من المرجع محسن الحكيم، للمشاركة في تأسيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، ليسهِم منذئذٍ في صياغة توجّهاتٍ شيعيةٍ إسلاميةٍ لبنانية. وانطلق هذا المشروع من اتخاذ المجلس مؤسّسةً مرجعيةً للشيعة اللبنانيين، تضطلع بدورٍ وطنيٍ في الحوار والتفاعل مع سائر المرجعيّات الروحية للطوائف اللبنانية، فضلاً عن تنظيم شؤون الطائفة. كل ذلك في إطار الدولة الوطنية الواحدة الموحّدة.
تولّى شمس الدين سنة 1969 رئاسة "الجمعية الخيرية الثقافية"، التي شارك في تأسيسها سنة 1966 مع مجموعةٍ من الناشطين في العمل الخيري والثقافي. وأنشأت الجمعية عدداً من المعاهد والمؤسسات التربوية والثقافية، ودور رعاية الأيتام والمحتاجين. ونظّمت ندواتٍ ومحاضراتٍ فكريةً وأصدرت نشراتٍ ثقافيةً إسلامية. وكان لهذا النشاط دورٌ فاعلٌ في تكوين جيلٍ من المتخصصين الذين انخرطوا لاحقاً في العمل الإسلامي الاجتماعي والثقافي.
في السنوات العاصفة التي مرّ بها لبنان بين سنتَيْ 1969 و1975، عندما تصاعدت التوترات الاجتماعية والسياسية حتى اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، برز دور شمس الدين في الإرشاد والتوجيه. في تلك المرحلة حين كان لبنان فضاءً مفتوحاً أمام مختلف التوجهات ومختبراً لها، نشط شمس الدين عبر محاضراته الأسبوعية ومقالاته الصحفية ومؤلفاته التي تناولت قضايا الفكر والسياسة.
وظهر هذا الجهد في عددٍ من كتبه، مثل "مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني" الذي جاء رداً على كتاب الفيلسوف السوري صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني"، الذي أثار ضجّةً عند صدوره سنة 1969 بسبب نقده العميق والصريح للبنى الدينية التقليدية. أخبرني شمس الدين أنّ هدف كتابه كان سحب قضية العظم من دائرة المحاكمة والإدانة أمام القضاء ونقلها إلى مجال النقاش والحوار الفكري.
ومن كتب شمس الدين الأخرى "العلمانية وهل تصلح حلاً لمشاكل لبنان؟" المنشور سنة 1980 و"السلم وقضايا الحرب عند الإمام علي" الصادر سنة 1981، وهي التي قدّمت نماذج فكريةً وعقائديةً لجيلٍ جديدٍ من الباحثين عن بدائل، وسط صراع التوجهات الفكرية.
مع بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 كان شمس الدين قد انتُخِب نائباً أوّلَ لموسى الصدر في رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وقد بذل الرجلان جهداً كبيراً في محاولات احتواء الفتنة الطائفية بالاعتصامات في عددٍ من المساجد وزيارة الكنائس، والحوارات المكثفة مع مختلف أطراف النزاع. كان موقفهما واضحاً منذ البداية، إذا كان نضال الشيعة لرفع الحرمان التاريخي عنهم، وإقامة الدولة العادلة والمتوازنة من شأنه تسعير الحرب الأهلية، فإنهم يعلّقون جميع مطالبهم الخاصة ويقدّمون السلم الأهلي على سائر القضايا.
لم تمضِ ثلاث سنواتٍ حتى واجه لبنان محطاتٍ خطيرةً جديدة. ففي مارس 1978 اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان حتى نهر الليطاني. ثم في أغسطس من العام نفسه، اختفى موسى الصدر في ليبيا في ظروفٍ غامضةٍ، ما جعل شمس الدين يتولى مهمّات رئاسة المجلس، الذي انتخِب رئيساً له رسمياً سنة 1994.
آنذاك عمل شمس الدين على ترسيخ ما سمّاه "الخيار الشيعي اللبناني"، أي الاندماج الكامل في الدولة، والتأكيد أنّ لبنان هو "الوطن النهائي لجميع أبنائه". صارت هذه المقولة بنداً أساساً في مقدّمة الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية سنة 1989 ونصّ على إلغاء الطائفية السياسية. وردت المقولة أوّلاً في وثيقة "الوفاق الوطني" الصادرة عن المجلس الإسلامي الشيعي سنة 1977.
شرح شمس الدين هذا المفهوم في عدّة مناسبات. إذ عدّ القول بأن "لبنان الوطن النهائي" يعني "ألّا يكون لبنان الوطن والكيان في نظر أبنائه… مجرّد محطّةٍ مؤقّتةٍ في سبيل كيانٍ أوسع، عربيٍ أو إسلامي. وألّا يكون هذا الكيان قابلاً للقسمة السياسية". لأنه يرى أن لبنان وطنٌ لكلّ فئاته، مسلميه ومسيحيّيه معاً، في إطار العيش المشترك والتفاعل المستمر. والجميع في ظلّ دولةٍ مدنيةٍ عادلةٍ ومتوازنةٍ يحكمها القانون والمؤسسات. وعبّر شمس الدين عن هذا التصور أيضاً وهو على سرير المستشفى، ضمن وصاياه الأخيرة التي نشرت في كتابٍ صدر سنة 2001 بعنوان "وصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين".
وتحقيقاً للعدالة والمساواة بين المواطنين، وانسجاماً مع اتفاق الطائف، طرح شمس الدين في بعض المراحل فكرة اعتماد "الديمقراطية العددية" بديلاً عن النظام الطائفي. ويقصد بها قاعدة الشورى واتخاذ المواطن الفرد، لا الطائفة، "الوحدة القانونية" في العملية الديمقراطية. أثارت هذه الدعوة جدلاً واسعاً وبعض التحفّظات، لا سيما من أطرافٍ مسيحيةٍ خشيت من غلبةٍ إسلاميةٍ عددية. وحمل ذلك شمس الدين لاحقاً على سحب هذه الدعوة من التداول، تفادياً لأيّ تأويلٍ سياسيٍ لا يتوافق مع غاياتها الأساسية بتحقيق العدالة بين المواطنين.
غير أنّ شمس الدين، في السنة الأخيرة من حياته، بدأ يميل إلى مراجعة موقفه من إلغاء الطائفية السياسية بالكامل. فدعا إلى إعادة النظر في هذا القرار، قائلاً بأن النظام الطائفي القائم في لبنان لا يحتاج إلى الإلغاء الكامل، بل إلى إصلاحٍ عميقٍ وترشيدٍ لأدائه بما يضمن العدالة السياسية ويحافظ على التوازن الوطني.
واصل شمس الدين جهوده الفكرية والفقهية محوّلاً الإشكاليات والأسئلة الجدلية في الواقع العربي والإسلامي إلى أطروحاتٍ تجديدية. ومن أبرز كتبه في هذا "الاجتماع السياسي الإسلامي" سنة 1992، و"أهلية المرأة لتولّي السلطة" سنة 1995، وفيه أفتى بجواز تولّي المرأة السلطةَ العليا في الدولة الديمقراطية الحديثة. أصدر كذلك كتاب "الاجتهاد والتجديد" سنة 1999.
وانسجاماً مع رؤيته المواطنةَ والدولةَ الوطنيةَ، وجّه دعوةً إلى جميع الشيعة في المنطقة العربية والعالم للاندماج في أوطانهم. وأن يكون مشروع الدولةِ الوطني مشروعَهم المشترَكَ مع سِواهم من المواطنين، قائلاً بأنّه "لا يفيدهم في شيءٍ أن يكون لهم مشروعٌ خاصٌ بهم". وأكّد ضرورة انخراطهم في أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام العامّ وإطاعة القوانين. "فالحوار والمصالحات الداخلية والاندماج الوطني، هي الطريق السليم لحفظ كرامة الشيعة وتعزيز مكانتهم، وليس الانكفاء والسلبية أو الحالة الهجومية"، وفق ما يرد في كتاب "وصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين".


لم يتبلور مفهوم المواطنة والمواطن والوطن بما يحمله من معانٍ حديثةٍ في فكر شمس الدين، إلّا في مرحلة ما بعد تأسيس حزب الله اللبناني رسمياً في فبراير 1985، الذي كان بدأ بالظهور تنظيماً مسلحاً سنة 1982. وكان شمس الدين تبنّى بعد الاجتياح الإسرائيلي لبنانَ صيف سنة 1982، موقفَ ضرورة دعم إعادة بناء الدولة اللبنانية على ركيزتين. الأولى المقاومة المدنية الشاملة ضد الاحتلال بمشاركة كل اللبنانيين، حكومةً وجيشاً وشعباً. والثانية العدالة القائمة على مبدأ الشورى.
أذكر أننا حضرنا معه ومحمد حسين فضل الله "الملتقى العالمي للفكر الإسلامي" في طهران في 31 يناير 1985. يومها بادر كلٌّ من علي خامنئي وعلي أكبر محتشمي بطرح فكرةٍ على شمس الدين وفضل الله بأن يشتغل الإيرانيون على إعلان تأسيس حزب الله. كان علي خامنئي (المرشد الحالي) حينها يشغل منصب رئيس الجمهورية، في حين كان علي أكبر محتشمي سفير إيران في سوريا ولبنان والمسؤول عن الملفين اللبناني والفلسطيني. رفض شمس الدين الفكرة بينما رحّب بها فضل الله، الذي أصبح لاحقاً "المرشد الروحي للحزب"، حتى اختلف مع الحزب سنة 1997 حول المرجعية.
وعبّر شمس الدين عن رفضه المشروعَ الإيرانيَّ في ثلاثة عناوين. أولاً، رفض انتحال اسم الله لمشروعٍ حزبيٍ سياسيٍ مهما كان هدفه أو صيغته، معتبراً أنه لا يجوز لعالِم الدين الانتماء إلى حزبٍ سياسي. ثانياً، رأى أنّه إذا كان المطلوب تشكيل هيئةٍ للطائفة الشيعية، فثَمّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وثَمّ حركة أمل، حيث يمكن العمل من داخلهما. أمّا إذا كان المطلوب تشكيل حزبٍ للدعوة الدينية المذهبية، فالجمعيات الدينية الشيعية كثيرةٌ ويمكن مباشرة العمل منها. ثالثاً، رحّب بتشكيل حزبٍ سياسيٍ إسلاميٍ مدنيٍ على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي نشأت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية على قاعدة احترام البشر والأوطان والبلاد التي تنتمي إليها. فهي ليست أمميةً عابرةً للحدود، ولا إلهيةً تنطق بِاسم المطلق.
قبل ذلك كان شمس الدين يتبنى الرؤية الإسلامية السائدة بين الشخصيات والحركات الإسلامية في الستينيات والسبعينيات، خاصةً في أوساط أترابه في النجف. وهي رؤيةٌ تأثرت بما وردها من كتاباتٍ إسلاميةٍ مصريةٍ وعربيةٍ، كتلك التي تبنّاها حزب التحرير والإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية في باكستان. وكانت تركز على العقيدة والأمّة وبناء المجتمع الإسلامي والشخصية الإسلامية، من دون الاهتمام كثيراً بدور الإنسان الفرد والمواطن. ويمثّل كتابه "بين الجاهلية والإسلام" الصادر سنة 1975 الصورةَ الأولى لتلك الرؤية، التي كانت مغاليةً في رفض الغرب وقيمه حضارةً ماديةً كافرة. فضلاً عن المناداة بضرورة استعادة المسلم هويّتَه الإسلامية الخاصة خارج أيّ أطرٍ مستوردةٍ على غرار الغرب. وتظهر هذه المرحلة تأثّر شمس الدين بكتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب.
غير أنّ شمس الدين تميّز منذ تلك الفترة المبكرة بفهمٍ سياسيٍ حداثيٍ لمفهوم الأمّة الإسلامية. فقد ميّز بين الانتماءات الثلاثة، الإسلامية والقومية والوطنية (أو القُطْرية) معطياً الأولويةَ للانتماء العَقَديّ، أي الرابطة الإسلامية. واستند في ذلك إلى مفهوم الأمّة الإسلامية التي تضمّ جميع بلاد المسلمين المنتمية إليها تاريخياً. وقال في محاضرةٍ بعنوان "الوحدة الإسلامية ومفهوم الأمّة" سنة 1987: "الأمّة مصطلحٌ سياسيٌ اجتماعيٌ له مضمونٌ واحدٌ، أو كيانٌ واحدٌ بمعنىً من معاني التوحيد، وهو لا يتنافى مع التنوّع أبداً، حتى على صعيد تعدّد الأئمة".
أمّا كيف تُوحَّد الأمّة سياسياً، فهي مسألةٌ ينبغي أن تطرح ولكنها ليست عائقاً أبداً. برأيه يوجد في علم الكلام وفي الفقه السياسي حلولٌ كثيرةٌ لأيّ صيغةٍ من الصيغ التي يمكن أن تنسجم مع الكتل الدولية القائمة. ولا مانع من عمله باعتماد صيغٍ مستحدثةٍ، سواءً عبر اقتراح حكمٍ جماعيٍ إسلاميٍ (سبق أن طرحه مالك بن نبي الذي تأثّر به شمس الدين وفق ما أخبرني سابقاً). أو في مسارٍ مشابهٍ لمسار الاتحاد الأوروبي، أو عبر أمميةٍ دوليةٍ تشابه الأممية الاشتراكية.


طوّر شمس الدين موقفه من مسألة الدولة وحدودها الوطنية، وما يترتّب على ذلك من بداية شرعنةٍ لمفهوم المواطِن والمواطَنة ابتداءً من منتصف الثمانينيات. وبرز هذا التحوّل في محاضرةٍ بعنوان "التعايش الإسلامي المسيحي بين الشرع والتاريخ"، ألقاها في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد البريطانية في ديسمبر 1987.
أجرى شمس الدين تكييفاتٍ فقهيةً وفكريةً طالت منهج الرؤية الاجتهادية، ولم تكن محض اجتهادٍ جزئيٍ في مسائل محدّدة. وترافقت هذه الاجتهادات مع لقاءاتٍ عقدها في القاهرة ولندن وباريس، مع عددٍ من الشخصيات البارزة في الفكر الإسلامي المعاصر، منهم حسن الترابي وراشد الغنوشي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي. وكنت شاهداً على هذه اللقاءات أثناء مرافقتي الشيخ.
رجع هؤلاء ومعهم شمس الدين إلى معطياتٍ تاريخيةٍ إسلاميةٍ كانت مغيّبة سابقاً، ولم يكن خطاب الحركاتِ الإسلاميةِ التقليدي يعيرها اهتماماً. ومن أبرز هذه المعطيات "صحيفة المدينة"، أو ما عرف بـالميثاق الذي عقده الرسول محمد مع مختلف مكوّنات المدينة المنورة من قبائل عربيةٍ، يهوداً ومسلمين، عقب هجرته من مكة.
واعتبر شمس الدين أنّ لفكرة المواطنة جذوراً في التجربة التاريخية الإسلامية، تعود إلى مرحلة إقامة أول حكومةٍ في الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدينة. نشأ هناك "مجتمعٌ سياسيٌ تبلورت ملامحه تدريجياً، من خلال الممارسة اليومية، وعلى هدى التشريع الإلهي التدريجي لمهامّ ومسؤوليات الحياة المدنية. كما برزت فيه علاقات مواطَنةٍ مع اليهود الذين كانوا جزءاً من هذا المجتمع عند نشأته، وقَبَلَهم الإسلام كمواطنين"، وفق ما يرد في كتاب شمس الدين "في الاجتماع السياسي الإسلامي" الصادر سنة 1992.
ولا تغيب عن شمس الدين حقيقة أنّ مفهوم المواطنة في الدولة الحديثة يختلف عن مفهوم ولاء الرعيّة للحاكم، أو الولاء الرعويّ. ويختلف هذا عن الولاء الذي يكون على مستوى القبائل والجماعات الأهلية، التي تحكمت في ولائها أو ممانعتها أغراض العصبية. ويستعير شمس الدين من المؤرخ والأكاديمي اللبناني وجيه كوثراني مفهومَ "المجتمع الأهلي" للإشارة إلى ذلك الشكل من الولاءات والتضامنات التي لا تنتمي إلى مفهوم المواطَنة أو المجتمع المدني.
فالمواطنة وفق كوثراني في كتابه "المجتمع المدني في الوطن العربي [. . .]" الصادر سنة 1992، "تقوم على عضوية الفرد الحرّ في المدينة السياسية، أي في الدولة الوطن، أو الدولة الأمّة. وهذه العضوية تنظّم العلاقة بين الناس في منظومةٍ من الحقوق والواجبات بين الدولة والمواطن. وتتأسس هذه المنظومة على قاعدة الحرية والمساواة بين المواطنين، حيث يضمن تطبيقها وجود آليّاتٍ ديمقراطيةٍ تحقق رقابة الشعب".
صحيحٌ أنّ نصوصاً إسلاميةً كثيرةً أقامت اعتباراً للإنسان الفرد وحقوقه المدنية والشخصية، لكنّ التجربة التاريخية الإسلامية طوال عهود الدولة السلطانية (حيث السلطة بيد فئةٍ ضيقة)، لم تنتج آليّاتٍ وشروطاً ضامنةً لهذه الحقوق. بل أفضت في بعض الأحيان إلى الاستبداد الفردي، وإلى الولاءات العصبوية والممانعات التي تؤدي، بسبب عقلية الإلغاء، إلى الانقسام والخروج.
وفي مقابلةٍ في مجلة "منبر الحوار" سنة 1994، يشير شمس الدين صراحةً إلى هذا الواقع التاريخي الذي يتطلّب النقد، فيقول: "إنّ أيّ مشروعٍ أو رؤيةٍ تهدف إلى إعادة إنتاج الدولة السلطانية بأيّ صيغةٍ من الصيغ المعروفة في التاريخ (من الدولة الأموية وحتى الصفوية والعثمانية)، أنا ضدّها، لأنّنا سنعيد إنتاج دولةٍ سلطانيةٍ غير إسلامية".


وينسجم هذا الموقف النقدي من الدولة السلطانية مع رؤيته الأوسع لطبيعة الدولة في الإسلام، إذ يميّز بوضوحٍ بين ما هو مقدّسٌ وزمنيٌ، رافضاً إضفاء أيّ طابعٍ دينيٍ مطلقٍ على السلطة السياسية.
في إحدى محاضراته المعنونة "المقدّس وغير المقدّس في الدولة"، وفق ما يرد في كتابه "في الأمّة والدولة والحركة الإسلامية" الصادر سنة 1993، افتتح شمس الدين مداخلته بتنبيهٍ لافت: "في الفكر والفقه الإسلاميين، الدولة كلّها غير مقدّسةٍ، ولا يوجد فيها مقدّسٌ على الإطلاق". ثمّ أوضح مقصده، ففرّق بين ما هو "مقدّس" وما هو "زمني" أو "نسبي"، قائلاً إنّ "المقدّس هو ما يتصل بالشأن الديني المحض، بينما غير المقدّس هو السياسي، وهو بطبيعته نسبيٌ وزمني". وانطلاقاً من هذا التمييز، عدّ "مشروع الدولة في الإسلام ليس مقدّساً، لا لأنه مرفوضٌ، بل لأنه مشروعٌ ناشئٌ من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة، وهي ليست مقدّسةً في ذاتها في الفكر والفقه الإسلاميَّيْن".
ويرى شمس الدين أنّ الخطاب الإسلامي المعاصر "تجريديٌّ في سِمَتِه العامة". ويقصد بصفة التجريد أنّ الفكر الذي حمل فكرة الدولة كان غير عمليٍّ أو واقعيّ. ومنشأ ذلك أن "هذا الفكر، خصوصاً في مسائل الاجتماع السياسي، كمشروع الدولة والنظام السياسي والحكم، ارتكز إلى خلفيةٍ كلاميةٍ لم تعد موجودةً مطلقاً، فلم يبقَ له مرتكزٌ في الواقع المعيشي".
ويضيف مفسّراً: "ففي الإطار السنّي، ارتكز الخطاب الإسلامي في مفهوم الدولة والسلطة إلى نظرة الخلافة، أي استند إلى الموروث النظري الفكري والفقهي والتنظيمي. وفي الإطار الشيعي، ارتكز الخطاب إلى نظرية الإمامة". وهذه النظرية حسبما يرى أصيلةٌ في تكوين الشيعة المعتقدي، ولكنها استثنائيةٌ، ليست دائمةً في الحضور اليومي والعملي. لذا يرى أنه لا يمكن في هذا العصر الاتّكاء على كلا النظريتين، الخلافة والإمامة، بل على نظريةٍ سياسيةٍ عامةٍ تستقرّ بالاجتهاد في الفقه الإسلامي، "ومن خلال التعلّم من تجارب التاريخ العالمي والواقع الحاضر".
وفي مقدمة كتابه "في الاجتماع السياسي الإسلامي"، يشرح فكرته هذه عن ضرورة النظريّة السياسية العامّة المبنية على الاجتهاد وعلى دراسة تجارب الشعوب. فيقول: "إنّ كلّ شعبٍ مسلمٍ، يحتاج إلى نظام حكمٍ وحكومةٍ يحفظانه. أمّا أن يكون هذا النظام إسلامياً، فقضيّةٌ غير بديهيّةٍ، كما هو الشأن في المجتمعات السياسية المعاصرة". ويوضح: "فكَما المجتمع البريطاني أو الأمريكي مثلاً، قد يحكمه نظامٌ اشتراكيٌّ تارةً ورأسماليٌ تارةً أخرى، مع التزامه العامّ بالديمقراطية، كذلك المجتمع الإسلامي. إذ يمكن أن يُحكَم بأيّ نظامٍ لا يتنافى مع الإسلام كعقيدةٍ للمجتمع، من دون أن يكون بالضرورة نظاماً إسلامياً".
ويرى شمس الدين أنّ الإسلام يمنح الدولة أصغر حيّزٍ ممكنٍ من السلطة على المواطن والإنسان والجماعة، وفق مقابلةٍ معه في مجلة "منبر الحوار" سنة 1994. وهو يناقش هذه المسألة مناقشةً أصوليّةً عميقةً، متناولاً أبعادها وتداعياتها في كلٍّ من الفكرَيْن السنّي والشيعي.
في الفكر السنّي، حيث يتولّى الخليفة منصب الحاكم ورأس الدولة، فإنّ مَرْكَزَة السلطات في شخص الخليفة تخالف أصولَ أهل السنّة في نظام الخلافة، كما تخالف الأصلَ الفقهيّ الأوّلي في مسألة سلطة الإنسان على الإنسان، "فالأصل الأوّلي عند أهل السنّة هو عدم مشروعية تسلّط إنسانٍ على إنسان". ومن هنا، فإنّ "ما يحتِّمه النظر العلمي الموضوعي هو رفض تمركز السلطات في يد الخليفة، وضرورة وضع نظامٍ يضمن الفصل بين السلطات وتوازنها"، وفق ما يقول شمس الدين في الطبعة المنقحة من كتابه "نظام الحكم والإدارة في الإسلام".
أما في الفكر الشيعي، فإقامة الدولة في عصر الغيبة ضرورةٌ، على قاعدة "ولاية الأمّة على نفسها". وفي هذا يقول شمس الدين إنّ الشورى تعني أنّ الشرعية تنبع من الأمّة، لا من الفقيه الذي يقتصر دوره على الإفتاء والاستشارة لا الحكم أو التشريع. ويتابع أنّ الأمّة عبر ممثليها تمارس السلطة والتشريع خارج نطاق أحكام الشريعة. أمّا في المجال الذي تشغله أحكام الشريعة فالمجتهدون يضطلعون بدورٍ فقهيٍ وتقنيٍ، من دون أن يكونوا مصدراً للشرعية أو السيادة الإلهية العليا، وذلك في عصر الغيبة. ويشير إلى أنه في عصر النبيّ والأئمة، كانت الشرعية لهم بالنصّ والأحاديث. لكن بعد وفاة النبيّ وغيبة الإمام المعصوم الثاني عشر، عُلّقت الولاية المعصومة، ما يفتح الباب أمام توافق المسلمين على مشروع دولةٍ على مبدأ ولاية الأمّة على نفسها.
وعلى هذا الأساس، "تتمكن الأمّة من التعبير عن إرادتها من خلال آليّة الشورى، بأيّة طريقةٍ مناسبةٍ، مع تعميمها بحيث لا تبقى أيّة مساحةٍ من مساحات عمل الإنسان في الشؤون العامة خارج إطار الشورى، إذا أمكن".
وفيما يخصّ الدولة مؤسسةً ناظمةً للمجتمع، يرى شمس الدين أن شروط إقامتها وإضفاء الشرعية على النظام السياسي وشرعية تولّي السلطة فيها، تكمن في أن يكون النظام قائماً بصورةٍ حقّةٍ على الإرادة الشعبية. ووفقاً لاجتهاده، فإن ذلك يؤسّس لمفهوم "الوطن" والمجتمع السياسي، ويتوافق مع مفهوم "الدولة المدنية" والجنسية الوطنية وما يترتب عليها من مضامين تندرج تحت عنوان المواطنة وحقوقها الفردية والجماعية.
وكان شمس الدين أكّد مشروعية انقسام الأمّة إلى أوطانٍ ومجتمعاتٍ سياسيةٍ متعددة. بل قال إنّ مفهوم الوطن السياسي، وما يرتّبه على المنتمي إليه من واجباتٍ ويمنحه من حقوقٍ "مفهومٌ إسلاميٌ، وليس دجلاً على الإسلام أو دخيلاً على الفكر الإسلامي"، وفق ما يرد في كتابه "في الاجتماع السياسي الإسلامي".
بالإضافة إلى نقاش الوطن السياسي، يتوسع شمس الدين في معالجة مفهوم "الأمّة". يبرز هذا في كتابه "الأمّة والدولة والحركة الإسلامية"، حيث يقول إنّ مفهوم "الأمّة" تجريدٌ لا يستند إلى أساسٍ فقهيٍ، ولا قيمةٍ علميةٍ له.
الأمّة بنظره خاضعةٌ لتقسيماتٍ وكياناتٍ مشروعةٍ فقهياً، ما لم تتصادم مصالحها. ويؤكد أنّ مقولة "الحكومة الإسلامية العالمية" لا تستند إلى شرعيةٍ فقهيةٍ أو علمية. حتى في عهد النبيّ، إذ كانت الدولة النبوية أقرب إلى كيانٍ يتراوح بين الاتحاد المركزي والتعاهدي. ويضيف أن وحدة المسلمين عقديةٌ، لكن وجودهم في دولٍ وأوطانٍ متعددةٍ واقعٌ مشروعٌ فقهياً وتاريخياً. ويضيف إنّ الدولة في زمن الرسول لم تكن دولةً موحّدةً بمعناها المركزي، معتبراً أنّ التهويل من تفرّق المسلمين لا مسوّغ له، إذ لا يوجد في الإسلام تشريعٌ يلزمهم بالعيش في كيانٍ واحدٍ يدار بأزرار.
ويلاحظ شمس الدين أنّ الفقهاء القدامى لم يلحظوا في أبحاثهم، عندما كانت الأمّة لا تزال موحّدةً سياسياً وتنظيمياً في دولةٍ، إمكانَ انقسامها إلى دولٍ أو انقسام دار الإسلام إلى أراضٍ تتبع هذه الدول. ولكنهم حين بدأت الأمّة تتشكّل في صيغٍ تنظيميةٍ وسياسيةٍ متعدّدةٍ، بحثوا عن مشروعية تعدّد الأئمة وفقاً لمعايير معيّنةٍ، شرحها شمس الدين في كتابه "نظام الحكم والإدارة في الإسلام". من هذه المعايير اتساع القطر أو تعدّد الأفكار. وكان من القائلين بذلك أيضاً الكرّامية والزيدية. وجواز تعدّد الأئمة، أي تعدّد الحكومات والدول في عصرنا الحالي.


وتأسيساً على نقده التاريخي لتجربة الدولة السلطانية، التي تحوّلت إليها دولة الخلافة، وكذلك على موقفه السابق بأنّ الإمامة المعصومة عند الشيعة "نظرية استثنائية"، وأن الخلافة عند أهل السنّة "حالٌ مَضَى"، حاول شمس الدين استنباط نظريةٍ سياسيةٍ عامةٍ عن الدولة من داخل أصول الفقه الإسلامي.
وتتوخّى هذه النظرية تحقيق الهدف الذي يعبّر عنه في كتاب "في الاجتماع السياسي الإسلامي". يقول: "إن المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية التي قامت عليها وتكوّنت منها فكرة الدولة في الإسلام، هي القيم ذاتها التي يتّجه إليها طموح البشر في العصر الحديث، على مستوى الدولة الوطنية والقومية، وعلى مستوى النظام الدولي المرتجَى". ويحدّد هذه القيم في "العدالة، والحرية الواعية، وكرامة الإنسان، وتيسير سبل التكامل الروحي والمادي لبني البشر".
ويرفض شمس الدين الموقف الأصولي الذي يرفض الآخَرَ وتجاربَه، خاصةً في ما يتعلّق بمفهوم المواطَنة. ويؤكد أن كون هذا المفهوم غربيّ المنشأ لا ينفي مشروعيته فقهياً. إذ إن المسلمين أخذوا كثيراً من الجوانب التنظيمية عن غيرهم منذ صدر الإسلام.
أما حول النعوت التي يطلقها بعض الإسلاميين على الديمقراطية والحضارة الغربية، فيرى شمس الدين أنها غير دقيقةٍ، مثل وصفها بسِمَة "الصليبية" أو "الشرّ المطلق". ويقول في المقابلة المنشورة في "منبر الحوار" بأن الحضارة الغربية ليست شرّاً. ففيها شرٌّ وخير. كذا فإنّ الحضارة الإسلامية ودولتها ليست خيراً مطلقاً. ويضع لهذا مثالاً، فيقول: "لا نستطيع أن ننظر إلى نظام الرقّ أو السبي على أنه مفخرةٌ من مفاخر هذه الحضارة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظام الجواري، وغيرها من المظاهر السلبية في الحضارة الإسلامية". كذلك فإنّ الديمقراطية تعدّ إنجازاً تاريخياً ناجحاً لإدارة المجتمع وتداول السلطة وتوفير الخدمات للمواطنين، فضلاً عن إطلاق الإمكانات والإنجازات الفنية والإبداعية مثل الموسيقى والأدب.
ويدعو شمس الدين إلى تجنّب المواقف الإطلاقية، سواء تجاه الذات أو تجاه الآخَر، أو أيّة حضارةٍ أخرى. فالخير في نظره يكمن في أحسن ما في كلّ حضارة. والديمقراطية من هذا المنظور، هي "أحسن القول الغربي، من الناحية التنظيمية للمجتمع، ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها".


توفي محمد مهدي شمس الدين في العاشر من يناير سنة 2001، تاركاً خلفه إرثاً فكرياً غنياً ومشروعاً إصلاحياً دينياً ومدنياً، لا يزال يحتفظ بحضوره. فقد قدّم مقاربةً مهمةً لقضايا الدولة والمواطنة والعدالة، تنطلق من داخل الفقه وتندمج فيه، ولكنها في الوقت نفسه تواكب تطلّعات الإنسان والدولة المعاصرين. وتأخذ بعين الاعتبار النظم السياسية القائمة، مثل الديمقراطية، ليس بكونها قيماً دخيلةً أو غربيةً معاديةً، وإنما تحمل في طيّاتها كثيراً من مبادئ عابرةٍ الحدودَ والأديانَ وتركّز على الإنسان ومجتمعه. وفي ظلّ ما يشهده الواقع العربي والإسلامي من تحدّياتٍ وأزماتٍ، تبدو أفكار شمس الدين اليوم أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى.

اشترك في نشرتنا البريدية