في يوم الهجوم، ذهب زعماء عشائر من محافظاتٍ عدّة إلى النجف، ورافقهم مسلّحون من عشائرهم، وطلبوا لقاء السيستاني لإقناعه بضرورة الدفاع عن العتبات المقدسة. استقبلهم السيستاني مثمِّناً مواقفَهم الداعمة له بشأن الدستور العراقي والانتخابات. سأل السيستانيُ ضيوفَه عن غايتهم من إرسال المسلّحين إلى سامراء وأماكن أخرى، فذكروا الدفاعَ عن النفس ومنعَ المزيد من الهجمات على الشيعة. وجاءت إجابةُ السيستاني لتبيّن موقفه إزاء الدولة؛ الموقف الذي كرَّره لاحقاً مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عام 2014 بقوله: "إذا كنتم تريدون الأمن والحماية لأهلكم، فقولوا لأبنائكم أن يتطوعوا في القوى الأمنية ويساندوا الحكومة في فرض سلطة القانون".
جاءت وفودٌ جديدة إلى منزل السيستاني طالبةً موقفاً أقوى. وكان أكثرُها إصراراً قادةُ المجموعات التي تأتمر بأوامر القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والذي كان مسؤولاً عن سياسات إيران في العراق. حثّ هؤلاء القادةُ السيستانيَ على إصدار فتوىً لتعبئة قوى الدفاع الشيعية، مؤكدين قدرتهم على إرسال آلاف المسلحين إلى سامراء والعتبات والمزارات الأخرى. لكنّه أصرّ على رفضه، مؤكداً أن هدف القاعدة إشعالُ حربٍ أهليةٍ شاملة بين سنّة العراق وشيعته. فضغَط أعضاءُ الوفد عليه وألمَحوا إلى استعدادهم للذهاب إلى مراجع آخَرين في النجف أو استصدار فتوىً من المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي تسمح لهم بحشد قواتهم. كان السيستاني يطالِب بالتريّث، رافضاً أن يدليَ برأيٍ فوريٍ يخصّ قضيةً بهذا الحجم. ثم طلب من الوفد الانتظار حتى وقتٍ لاحقٍ من اليوم نفسه لاتخاذ قرارٍ حاسم، وأمر ابنَه محمد رضا بدعوة آيات الله الثلاثة الآخرين في النجف؛ الفياض والحكيم والنجفي؛ إلى اجتماعٍ عاجل. كان واضحاً أن تهديد الوفد بتجاوز السيستاني والذهاب لمراجع شيعية أُخرى قد أقلقه، وخاصةً الإشارة إلى إمكانية الذهاب إلى طهران وتجاوز السلطة الدينية في النجف. اجتمع السيستاني بآيات الله الثلاثة الذين كانوا يدعمونه ويَعُدُّونه الأوّلَ بين مجموعةٍ من المراجع المتساوين مرتبةً، ليكونَ الزعيمَ الدينيَّ الأكبرَ في العراق والمتحدثَ باسم شيعته. أراد السيستاني في ذلك الاجتماع أن يضمن وقوفَهم موقفاً موحّداً في لحظةٍ حرجةٍ كتِلك. نجحَت مساعي السيستاني وأكّد الثلاثةُ دعمَهم المستمر له وعدمَ إصدارهم أيّ فتوىً بالقتال بالرغم من مطالبةِ البعض بها. وحافظَ بذلك على وحدة النجف وضمانِ أنْ لا تنتقل قيادةُ شيعة العراق إلى طهران. وقد ساهَم رفضُه إطلاقَ يد ميليشياتٍ شيعيةٍ في منع حربٍ شاملة، ورَسَّخَ مكانةَ النجف في العراق الجديد. لم تكن تلك الحادثة إلا مثالاً واحداً على المواقف المحسوبة التي اتخذها السيستاني خلال العقود الماضية. يتناقض هذا الموقف بشدة مع نهج رجال الدين المتنفّذين في إيران. فقد كان الإيرانيون يَدْعُون للتدخُّل بالقوة، بينما دعا السيستاني إلى الوقوف مع سلطة الشعب والدفع بالاستقرار طوال مدّة الاضطراب الكبير التي مرَّ بها العراق.
يقترب السيستاني الآن من عامه الرابع والتسعين. ويتساءل العراقيون والشيعة في كل مكان عمّا سيحدث بعد رحيله. هل سيهيمن نموذج ولاية الفقيه الإيراني على العالَم الشيعي، أم سيرسّخ السيستاني موقفَه المؤيِّد للديمقراطية في الجيل الجديد، مع عدم وضوح من سيَخْلُفُه. يبيّن كتابي الجديد "رَجُل الله في العراق: حياة وزعامة آية الله السيد علي السيستاني" أنّ إرث السيستاني لا يقتصر على الأفكار، بل يمتدّ إلى شبكاتٍ ومؤسساتٍ ذات تأثير باقٍ. ويَشِي هذا الإرثُ بأن رؤية السيستاني ستصمد، وإنْ كانت المنافسةُ بين الرؤية الإيرانية والرؤية العراقية للإسلام الشيعي ستشتدُّ في السنوات المقبلة.
في النجف يُعَدُّ السيستانيُ المرجعَ الشيعيَ الأكبرَ منذ عام 1993. وهو يميل إلى الاعتكاف وعيش حياةٍ متقشّفةٍ شبيهةٍ بالحياة النمطية لرُهبان العصر الوسيط. عاش السيستانيُ ما يشبه الإقامة الجبرية أثناء حُكم صدام حسين، ومُنِع من ممارسة دوره زعيماً دينياً للشيعة في العراق. لكن هذا الوضع تغير جذرياً بعد الإطاحة بصدّام حسين عام 2003، فقد أتيحت الفرصة للسيستاني أن يتزعم الشيعة في العراق وخارجها. يتعارض موقفُ السيستاني الرافض لأداء رجال الدين دَوراً في الحكومة مع رؤية إيران، فيما تستمرّ المنافسة على قلوب الشيعة وعقولهم بين حوزة النجف والنظام الإيراني. تجلّت هذه المنافسة في العراق حين حاولت إيران تعزيزَ حضورها في النجف بتمويل بعثاتٍ لطلبة الحوزة واستثمارِ مشاريع عقارية في مدن العتبات المقدسة، وكذلك بناء شبكة من المجموعات المسلحة الموالية سياسياً ودينياً لخامنئي. إلا أن طهران لم تتمكّن من تجاوز السيستاني، الذي يلتفّ كثيرون حول نهجه السياسي الهادئ.
يعود رفضُ السيستاني مفهومَ ولاية الفقيه ونظامَ الجمهورية الإسلامية في إيران إلى أُسسٍ نظرية. ولكنّه أيضاً بمثابة ردٍّ على تغوّل منظومة المرشد الأعلى الإيرانية. فالسيستاني يؤْمِن أن سياق العراق غيرُ مُوَاتٍ لحكومةٍ إسلامية، بل ويرفض تدخّل الحكومة الإسلامية الإيرانية في العراق، أو تطويرَ حكومةٍ مشابهةٍ لها. ويصف السيستاني نفسَه بأنه ضمانةُ منعِ نشوء حكومة دينية عراقية تحاكي النمط الإيراني. وفي ذلك قال السيستاني أنه ما حَيِيَ فإن التجربة الإيرانية لن تتكرر في العراق. ومع أن السيستاني يحمل الجنسية الإيرانية، إلا أنه يتجنّب الانتقاد العلني للنظام الإيراني أو التعليق على الشؤون السياسية الإيرانية. لكنّ فقهاء حوزة النجف يقولون بوضوحٍ إن الحوزة لا تؤيد النموذج الإيراني، ما يشكّل إزعاجاً لطهران لسببَين. الأوّل أن المرجع السيستاني أعلى من خامنئي رتبةً دينيةً وأكثر منه أتباعاً ونفوذاً دينياً عابراً للحدود الوطنية، ما يمكّنه من تقييد سلطة خامنئي خارج إيران. والثاني قدرة السيستاني على التأثير في آراء المواطنين الإيرانيين الذين باتوا يرون نموذجاً مختلفاً لدَوْر المَرجع في المجتمع الإسلامي. فالسيستاني يمثل دَور المرشد لا الحاكم، وهو دَورٌ يبدو أكثر نجاحاً وقَبولاً عند الناس. ولعلّ هذا ما يفسّر اتّباعَ الكثير من شيعة إيران السيستانيَ واستمرارَ جاذبية مدرسة النجف لكثير من المسلمين الشيعة في إيران وغيرها. وليس هذا بجديد، ففي عام 1891، أصدر المرجع الأعلى في سامراء، ميرزا الشيرازي، فتوىً تحرِّم بشكل فعّالٍ تدخينَ التبغ، مما شكّل ضربةً قاصمةً لمصالح الشاه والاحتكار البريطاني الذي كان يسيطر على تجارة التبغ آنذاك. أثناء الثورة الدستورية في إيران من عام 1905 إلى عام 1911 استحثّت الجماهيرُ كبارَ المراجع في النجف لدعم الحركة الدستورية بقيادة أخوند الخراساني وميرزا حسين الخليلي والشيخ عبد الله المازندراني. وكان لتلك المرجعية تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى الأحداث في إيران، مما يعكس الدور الذي تؤديه النجفُ في توجيه المجتمعات الشيعية.
يثير هذا التنافسُ حفيظةَ حكّام إيران الذين عملوا على التأثير في النجف وبحثِ سبلِ تعزيز مواقعهم هناك بعد وفاة السيستاني. ويحتفظ خامنئي بمكتبٍ له في النجف منذ 2004 ويشرِف ممثّلُه الحالي في العراق مجتبى الحسيني على حملةٍ لجذب مزيدٍ من الطلاب إلى المدارس المرتبطة بإيران، ناهيك عن تقديم رواتب أكبر بكثير من الرواتب التي تدفعها حوزة النجف. كذلك حاولَت إيران قبل سنواتٍ تنصيبَ آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، الرئيس السابق للسلطة القضائية الإيرانية وأحد المقربين من خامنئي، مرجعاً نجفياً يَعترف بسلطة الوليّ الفقيه الإيراني. ثم دعمت إيرانُ كثيراً من الزعماء والجماعات والحركات الدينية في العراق منذ عام 2003 ممّن يحاولون تقويضَ سلطة السيستاني ونفوذه. ومؤخراً دَفعت مرجعاً عراقياً يقيم في مدينة قُم، المركز الديني في إيران، وهو آية الله كاظم الحائري، إلى دعوة الشيعة لاتّباع خامنئي. كانت هذه التحركات وغيرها الكثير جزءاً من مخططات تكريس سلطة المرشد الأعلى الإيراني في العراق وبلدان أخرى وجَعْلِها من سلطات ولاية الفقيه.
يُظهر المسؤولون الإيرانيون مع ذلك الاحترامَ للسيستاني في العلن، ومنهم خامنئي نفسه في مناسباتٍ عدّة. يشير هذا الاحترام إلى إدراكهم استحالةَ تحدّي سلطةِ السيستاني ومنصبِه. لذلك فإن الفترة التي ستَعْقب وفاةَ المرجع العراقي الأكبر مهمّةٌ جداً لإيران، إذ قد يُتاح لطهران بسطُ نفوذِها وربما التدخلُ في تحديد المرجع المقبل. واتّخذ السيستاني خطواتٍ للتصدِّي لمثل هذه المحاولات، فزاد أعدادَ الطلاب والأساتذة في حوزة النجف، ورفَع من مكانة الدروس في مدارسها بالاستثمار في إمكانيات الحوزة والرواتب. ثم حرص على السيطرة على المراقد وزيادة أنشطتها وتمويلها وزيادة قدراتها بما يحافظ على مكانة مرجعية العراق في قلوب شيعة العالم. إضافة إلى ذلك، فإن قانون الوقف الشيعي يشير بوضوحٍ إلى أنّ المرجع الأعلى في النجف وأنّ المراقد الشيعية تحت سيطرة النجف. يجعل ذلك سيطرةَ إيران على مرجعيات العراق شبهَ مستحيلٍ وبالتالي يحدُّ ذلك من دَوْر إيران المحتمَل في العراق.
ومع كل هذا التنافس والخلاف حول نطاق السلطة الدينية فقد يبالِغ المرءُ في تقدير حجم التنافس بين السيستاني وخامنئي أو بين النجف وطهران. فثمَّة توافقٌ كبيرٌ في المسائل الدينية والسياسية، فضلاً عن العلاقات والتعاون بين مرجعيات العراق ومرجعيات إيران. وأقربُ مثالٍ زيارةُ مسؤول المدارس الدينية في إيران للسيستاني مؤخَّراً. وقد أشادت إيران علناً بقيادة السيستاني في العراق، مدرِكةً أنه لولاه لكانت السلطةُ الشيعية في العراق – وبالتالي النفوذُ الإيرانيُ – أضعفَ بكثير. ومهما كان مِن تنافسٍ بينهما، تظَلُّ النجفُ في موقفٍ قويٍّ، ومن المرجَّح أن يتواصل ازدهارُها في السنوات المقبلة. بينما قد يواجِه نموذجُ الحكومة الإسلامية في إيران تحدياتٍ قاسيةً في المستقبل لأنه ربَط سلطةَ المرجع بالمصالح السياسية للدولة.
لَمْ يَكشِف السيستاني عن نظريته السياسية قَطّ. ويَصْعُب إيجادُها من كُتبه ودروسه نظراً لقلّة المعلومات حول آرائه. لكنّ نظرتَه السياسية بشأن عِراقِ ما بعد عام 2003 واضحةٌ، ويمكن استنتاجُها من تعليقاته العامة. ويؤكّد ذلك ممثلُ السيستاني في بيروت، حامد الخفاف، إذ يقول: "موقفُ السيستاني تجاه المرجعية يمكن فهمُه فهماً أفضلَ من ممارَساته، لا من نظريّاته الشرعية". ويرى بعضُ الفقهاء أن دَوْرَ المرجعية في الشؤون السياسية أقربُ لدَور طبيبٍ يتدخل عند الأزمات، أو يؤدي دور الأب الروحي. صرّح السيستاني بين عامي 2003 و2004 مراراً أن الشعب العراقي وحدَه هو مَن يحدِّد شكلَ الحكم في العراق. ويبدو ذلك عمادَ رؤيته السياسية، فمقتضى تصريحاته آنذاك هو أن إرادة الشعب وسيادتَه هُما مصدرُ شرعية النظام السياسي، وأن دَوره كمرجعٍ دينيّ يتمثل في دعم الناس لإيضاح إرادتهم وتهيئة الظروف لهم للتعبير عنها.
عمادُ سيادةِ الشعب في نظرية السيستاني السياسية هو ما أَطلق عليه العديدُ من الكتّاب تسمية "ولاية الأُمّة" أي سلطة الشعب، على عكس ولاية الفقيه، أو ربما بدقّةٍ أكبر "إرادة" الأُمّة. هذا يعني حقّ الشعب في اختيار نظام الحكم الذي يراه مناسباً لظروفه. فقدرة الناس على الاختيار تضفي شرعيةً على الدولة، ولذا ينبغي الالتزام بنتائج تلك الاختيارات. وبما أن أغلبية سكان العراق مسلمون فمن الطبيعي أن يبتغوا دولةً تحترم القيم الإسلامية. ولذلك أراد السيستاني دستوراً يكتبه عراقيون مُنتخَبون بالتصويت، وكان متيقّناً من النتيجة. وعندما سُئل السيستاني في أغسطس 2003 عن شكل النظام السياسي الذي يراه مناسباً للعراق أجاب: "النظام الذي يَعتمد مبدأ الشورى والتعددية واحترام حقوق جميع المواطنين". والشورى هنا هي الآلية التي تفضي إلى اكتشاف إرادة الأغلبية، وهي جزءٌ أساسيٌ من الديمقراطية التمثيلية. ويؤمن السيستاني أن الانتخاباتِ والديمقراطية البرلمانية أنسبُ أساليب الحكم في العراق. تُظهر تصريحاتُ السيستاني ومواقفُه ما بين عامَي 2005 و2020 أنه يريد برلماناً قوياً منتخَباً تتمخض عنه حكومةٌ شاملةٌ ذاتُ أغلبيةٍ قويةٍ قادرةٍ على فرض سيادة القانون. وحذّر مراراً من النزعات الاستبدادية، ودعا البرلمانَ إلى سَنّ التشريعات الصحيحة ومحاسبةِ السلطة التنفيذية. ونَصَح العراقيين كثيراً باختيار أنسبِ من يمثِّلهم في البرلمان قدرةً ونزاهة. وينبع نهجُه هذا من "صِدق إيمانه بالشرعية السياسية لعقدٍ اجتماعيٍّ بين الحكام والمحكومين"، كما قال الأكاديمي الأمريكي في جامعة ستانفورد، لاري دايموند، في دراسته عن الاحتلال الأمريكي للعراق.
إرادة الأُمّة لدى السيستاني تمنح الناسَ الحريةَ في اتخاذ خياراتهم بأنفسهم وتُحمِّلُهم مسؤوليةَ اختياراتهم تلك. وترتكز إرادةُ الأمّة على السلطة الدستورية وحرية تعبيرها عن إرادة الأغلبية بالانتخابات. فإذا اتفق الناس على الدستور واختاروا برلماناً يسنّ القوانين وينتخب الحكومة، غَدَوا مُلزَمين بمتابعة العملية أو تغييرها على النحو الذي يَرَونه مناسباً ضمن تلك الضوابط. ولذا يرى السيستاني أن دَوره لا يتمثل في التدخل بل في التوجيهِ وتمكينِ الناس من اتخاذِ الخيارات المناسبة، أو تصحيحِها بأنفسهم إذا كانت غيرَ موفَّقة. ويتجلّى منظورُه هذا في دعمِه حقَّ الاحتجاج، ودعوتِه النُخبةَ السياسيةَ إلى الإنصات لمَطالب الناس. ومن المثير للانتباه أن السيستاني يتجنّب مصطلحات "الديمقراطية" و"العلمانية" و"الدولة المدنية" لأنها لا توافِق لغةَ الفقه الشيعي وأعرافَه. وهو نصيرٌ قويٌ للمساواة والحقوق المدنية وحماية الأقليات العرقية والدينية وإشراكها في الحكم، وهي مُثُلٌ ينصّ عليها الدستور العراقي لكنها لا تُطبَّق بفاعلية، وهو ما دفع السيستاني لتوبيخ النخبة السياسية. غير أن آراءه في هذه المسائل لا تعني أنه ليبراليٌ يؤيّد الحريات المطلَقة التي لا تتماشى مع القيم الإسلامية.
لا يدعو السيستاني إلى نظام سياسي إسلامي بل إلى حكومةٍ تَحترم المبادئ والقيم الإسلامية، وهو ما يعني حكومةً لا تخالِف الشريعةَ الإسلامية. وفي حال وقوع مخالفةٍ صريحةٍ للإسلام، فما على المرجع إلا التوجيه والنُصح. يمكن عِدادُ هذا الموقف شكلاً من أشكال حق النقض على العملية السياسية، فلا يتدخل المرجعُ إلا عند مخالفة الإسلام، وهو شرطٌ يعتمد على واقع العراق ذي الأغلبية المسلمة. ولا نعرف ما هي وجهة نظر السيستاني فيما لو لم يكن العراق كذلك، غيرَ أنه قاوَمَ في مناسباتٍ عدّةٍ محاولاتِ أسلَمة العراق أو فرض قوانين الشريعة. ومن أمثلة ذلك حَلُّه للمحاكم الشرعية التي أنشأها الصدريون في النجف عام 2004 بعد أن استعاد اتباعُه السيطرة على ضريح الإمام عليّ، ثم انتقادُه قانونَ الأحوال الشخصية الجعفريَّ الذي طُرِح في عامي 2014 و2017 لأنه سيميّز في معاملته بين الشيعة وسِواهم من العراقيين وسيتعارض مع العديد من القوانين والاتفاقيات. وقد عارَض ذلك القانونَ مع أنه أكثرُ انسجاماً مع الفقه الشيعي مِن قانون الأحوال الشخصية القائم. تبدو "إرادة الأُمَّة" التي ابتَكَرَها السيستاني رؤيةً لدولةٍ مدنيةٍ يحكمها دستورٌ وقوانينُ تكرِّس الديمقراطية البرلمانية التمثيلية، تَحترم مبادئَ الإسلام وقيَمَه وفقاً لاختيار الشعب. فهو لا يدعو إلى نظامٍ علماني أو حكومةٍ إسلاميةٍ دينية بل يرى أن الشعب إذا ما حدّد خياراته بحُرّيّةٍ فعليه التزامُها، وليس للمرجع الديني أن يمنح الشعبَ أو يَسْلبَه أيّةَ سُلطة.
هذا الحضور للسيستاني يبيّنُ إمكانية الاحتفاظ بالهُويّات الدينية والعرقية والقومية وغيرِها في عالَمنا الحديث. وبتعبير الكاتب حسن عباس، فإن السيستاني "ساعَد العراقيين في تجاوُزِ الصدمة النفسية التي عاشوها في عهد صدام حسين، والنجاةِ بعد ذلك من وحشية الجهاديين وإرهاب داعش بعد عام 2003". فالنموذج السيستاني يبيّن أن بإمكان المرجع الديني أن ينفذ التزاماته في دولةٍ قوميةٍ متنوعةٍ بطريقةٍ تعزِّز احترامَ الحرّياتِ والمساواةَ والحقوقَ والسيادة. يرى الكثيرون في السيستاني رَجُلاً "ورِعاً ذا مصداقيةٍ وقوّة" كما وَصَفَتْهُ صحيفةُ نيويورك تايمز. أمَّا مَن درسوا تاريخَه السياسيّ فَيَرَوْن أنه ساهَم في منع انزلاق العراق نحو الفوضى العارمة أو الحرب الأهلية، ما جعل عدّة معلّقين أجانب بارزين يطالِبون بمنحه جائزة نوبل للسلام. لكنّ هذا لا يمنع وجود انتقاداتٍ عليه تمثلَت في ثلاثة مواضع، وهي دَوْرُه السياسيّ في العراق، وهيمنتُه على المرجعية الشيعية، ومَيْلُه نحو العُزْلة. أما سياسياً فيرى بعضُ العراقيين من السُنّة والأكراد والعلمانيين أنه ظَلمهم حين وَظّف نفوذَه لضمان تفوق الحركات الإسلامية الشيعية في اللحظات المفصلية. وانتقدوا دعمَه الائتلافَ العراقيَ الموحَّد عام 2005 ودعمَه العديدَ من رؤساء الوزراء. وأخذوا عليه الفتوى الصادرةَ عام 2014 والتي أَفْضَتْ إلى إنشاء قوات الحشد الشعبي، وتأييدَه العامَّ لتكريس الإسلام المحافظ في الدولة، بما في ذلك الدستور والتشريعات. ويأمل الإصلاحيون والناشطون المدنيون أنّ السيستاني يستطيع بذلَ المزيد من الجهد لدعم جهود الإصلاح، لا سيّما في الاستجابة لاحتجاجات أكتوبر 2019.
ويزعُم منتقدو السيستاني أنه ساهم في بناء النظام السياسي الحالي في العراق ثم عجز عن إصلاحه، ولذا فإنه يتحمل بعضَ مسؤولية غياب الاستقرار في العراق. وفي النجف يتساءل بعضُ رجال الدين سرّاً ما إذا كان السيستاني يُفْرِط في انخراطه بالسياسة، بينما يتساءل آخَرون عن قِلّة مشاركته فيها أو عدم اتخاذه مواقفَ حاسمةً بما يكفي. بل إنّ بعضَ كبار السياسيين الشيعة ممن استفادوا من دَور السيستاني يَرَون أنه أفرط في السياسة وأن عليه التركيز على واجباته الدينية. قال لي اثنان من هؤلاء السياسيين، ممن شغلوا مناصب أساسية في الحكومة عدّة سنوات، أن التكتيكات الشعبوية التي يتّبعها ويعلنها في خُطَب الجمعة تمثّل تدخّلاتٍ غيرَ لائقةٍ في الشؤون السياسية.
أما الموضوع الثاني من الانتقادات فيركز على سيطرته على المراقد وتهميش المرجعيات الأخرى، ما جَعَلَه أقوى مرجعيات عصره، وربما أقوى مرجعيةٍ شيعيةٍ في كل العصور. يرى البعضُ أن استئثار السيستاني يجعله فوق كلّ مَن سَبَقَه من نظرائه، ما يؤدّي إلى خللٍ في التوازن يسمح بتفرّد مرجعيةٍ وشبكةٍ واحدةٍ بسُلطةٍ مفْرِطة. لدى مناقشةِ مسألةٍ متعلقةٍ بالواعظين الشيعة المتطرفين مع أحد المرجعيات في النجف عام 2013، قال لي أنه لا يستطيع فعلَ الكثير لأن كل شيءٍ يتوقف على قرار السيستاني وسلوكه، فقد أصبح يُرجَع إليه في كل المسائل تقريباً. ويخشى البعضُ أن تؤدّي مركزيةُ السلطة والموارد إلى زعزعة الثقة بمؤسسة المرجعية الشيعية، وإلى تعقيد عملية الانتقال بعد وفاة السيستاني وتنازُع المرجعيات على خلافته. كما يساوِرُ البعضَ القلقُ من تقلّص مساحة النقد والتقييم الموضوعي وتنوع الآراء حول أداء المرجعية بسبب سُلطة السيستاني.
أما ثالث الانتقادات فيناقِش بُعْدَ السيستاني وعدمَ قيادته أتباعَه عن قُرْبٍ مثلما كان يفعل أسلافه وكما يُتوقّع من شخصيةٍ عامّةٍ وزعيمٍ دينيّ. كان يُؤمَل أن يَؤمّ السيستاني الصلاةَ شخصياً ويُدرِّس أعداداً كبيرة من الطلاب ويزورَ المجتمعات المحلية بنفسه ويُلقيَ الخُطَب في المناسبات المهمة وأن يكون أكثرَ قُرْباً من المسلمين الشيعة. غير أنه اختار تفويضَ غَيرِه بهذه المهامّ، وذلك لعدم ارتياحه لمسألة الظهور والتحدث على الملأ، وربما لرغبته في إظهار المرجعيةِ مؤسسةً جماعية. ربما كان لتفضيل السيستاني العزلةَ مبرِّرٌ في زمن صدام حسين، غير أن نُقّادَه في هذه النقطة الأخيرة يشعرون أن العراق بحاجةٍ في الوقت الحاضر إلى شخصياتٍ قياديةٍ أكثر ظهوراً وقرباً من الشعب. فغياب السيستاني عن الحياة الاجتماعية في الحوزة، بما في ذلك المناسبات الدينية والفعاليات المهمة، قد يَترك انطباعاً بعدم اكتراثه بتلك المسائل. والأهمّ أنه لم يَبذل جهداً في الردّ على هذه الانتقادات، مع أن نجلَه محمد رضا كان نشيطاً اجتماعياً في السنوات القليلة الماضية.
هذه الآراء تبيِّن الفضاءَ الذي تتحرك فيه أعلى مرجعيةٍ شيعيةٍ معاصِرة، وتُنبّه إلى أن العراقيين ليسوا جميعاً أتباعاً مخلِصين أو متّفِقين مع مواقفه وأفعاله. ومع ذلك، فلا أظنّ أنها ستؤثر على إرث واحدٍ من أهمّ رجال الدين في تاريخ العراق الحديث.
لا يبدو أن انتقال المرجعية إلى قُم واردٌ، فهي ستبقى في النجف، حتى لو تفوّقت إيران على النجف في عدد المرجعيات بعد وفاة السيستاني. ثمّة أسبابٌ ثلاثةٌ لعدم انتقال المرجعية إلى قُم. أوّلاً، ظلّت النجفُ مقرَّ السلطة الدينية الشيعية في أغلب تاريخها، حتى عندما كان الأمرُ يتعلق بإيران، كالثورة الدستورية بين عامَي 1905 و1911. فقد كانت النجفُ مقرَّ المرجعية الشيعية، وكان رجال الدين في إيران يقتدون مراجعَ النجف ويستشيرونهم في الأحكام الدينية والمسائل السياسية. ثانياً، تُفضِّل حوزةُ قم السلطةَ الدينيةَ في النجف على ولاية الفقيه التابعة للدولة الإيرانية حتى مع رغبة خامنئي والحكومة في جعلها في إيران. فأغلبُ المراجع في قُم عبر تاريخها لا يتبنّون ولايةَ الفقيهِ المطلَقةَ. ثالثاً، حتى لو لم تظهر في النجف مرجعيةٌ عليا فإن السلطة الدينية على شيعة العراق لا يمكن أن تنبع من إيران، خاصّةً عندما يتعلق الأمر بالشؤون السياسية وإدارة المراقد والحوزة العلمية، لأنّها تخضع لقوانين ديوان الوقف الشيعي التي تنصُّ بوضوحٍ على سلطة المرجعية العليا في النّجف.
في المقابل، بلغ خامنئي الخامسة والثمانين من عمره وتكثُر الإشاعات حول تردّي صحّته، وربما يعيش السيستاني إلى ما بعد خامنئي. وهذا الأمر من شأنه أن يصعِّبَ على النظام الإيراني بَسْطَ نفوذِه على النجف بعد وفاة السيستاني، فضلاً عن أن تأثير الأخير قد يمتد إلى الجيل المقبل من الزعماء الدينيين. فنهجُ السيستاني يحظى باحترامٍ كبيرٍ، سواءً تركيزُه على الواجبات الدينية والحذرُ من أداء دَور الزعيمِ السياسيّ، أو تقشّفُه الشخصيُّ في مرحلةٍ ينتشر فيها الفسادُ والتسلّطُ في الشرق الأوسط.
من غير المرجَّح أن يَرِث أحدٌ كلَّ ما خلّفه السيستاني من نفوذٍ وقوّةٍ. إلا أنّ إرثَه الذي يُمكن تسميتُه "النموذج السيستاني" يبقى دليلاً يَهتدي به رجالُ الدين المستقبليون في النجف. فهذا النموذج يرسم طريقاً لخليفة السيستاني، توضِّحُ دَوْرَ الدِّين في السياسة. قد لا يُرْضِي إيرانَ أن يزداد التشيّعُ العراقيُّ صعوداً، ولكنّ واقعَ الحالِ أن النجف ستبقى عاصمةَ الإسلام الشيعي. وسيكون هذا بسبب جهد السيستاني ومن سيأتي بعده. وباستمرار النجف عاصمة الشيعة ستبقى نظريةُ السيستاني، لا نظرية طهران ونموذج ولاية الفقيه، النظريةَ الشيعيةَ الأكثرَ أتباعاً في العالَم.