بدت لي هذه النظرة للإنسان الريفي مختزلة ومجحفة. إذ ما الذي فعلته النساء في الريف كلَّ هذا الوقت من تسليط الضوء على الرجل، ربما لم يمكنني أن أتصورهنّ مستسلمات عقوداً من الخنوع والبكاء، لأن شخصية الريفي العنيد القوي الصلب التي تصفها كل كتابات المؤرخين وعلماء الإناسة الذين زاروا المنطقة، لم تكن صفة اختص بها جنس دون غيره. أثارت بعضُ أهازيج "إزران"، التي تترنّم بها أمي دائماً، فيَّ كثيراً من الأسئلة المحيرة أيضاً. إذ تغنت الفتياتُ الريفياتُ في الأفراح والمناسبات كلَّ فترة السبعينيات والستينيات وما قبلها بتلك الأبيات الشعرية الغنائية التي كان القسم العاطفي منها حزيناً ومثيراً للشجن، وشعرتُ أنها تحمل شحنة استسلامية غير مقبولة . أنشدت إحدى صديقات أمي ليلةَ عرسها: "أسكت إيِمِي ذَاترْوُذْ؟ ذَسَّاشَايْذْ رْمَاشْوَا. شُوفْ ذَاسَعْذِيثْ إِينُو مَانِي ذَايِي ذَانْضَا"، أي "أُسْكُتْ لماذا تبكي وتُخَرِّبُ منديلك؟ اُنظر إلي أنا وكيف قد طَوَّحَ بي حظي". كان الكلام موجهاً لحبيبها الذي جلس مع الحاضرين في حفل زفافها، وكان ابن قريتها. أما هي فقد زُوِّجَتْ عُنْوَةً شَخْصاً آخر، ولم يبق لها إلا أن تقومَ للغناءِ مع وصيفاتها متحسرة على حظها العاثر مثل أضحية. ربما كانت كلمة الحبيب هنا أكبر مما يجب أصلاً، إذ فَصَلَ المجتمعُ الريفي دائماً بين النساء والرجال بصرامة، وبدا لي أنهما قد عاشا قصة حبهما الحزينة فقط بالإيماءات المعبرة وتبادل النظر، أما فرصة اللقاء والوجود في مكان واحد فكانت من وراء باب الفناء أثناء الأفراح غالباً، ذلك الفضاء المنزلي الذي كان يُعتبرُ عالم النساء الحقيقي.
سَحَرَ هذا الفناءُ الغامضُ والحافلُ بالحركةِ والحياةِ المحجوبةِ خلفَ الأبوابِ عَالِمَ الإناسة الأمريكي دايفيد مونتغومري هارت الذي قضى فترة بحثه الميداني الأولى بالريف بين سنتي 1953 و 1955 عازباً. ثم أمضى به فترة ثانية متقطعة ما بين سنتي 1959 و 1965 مصطحباً زوجته أورسولا كوك كينغسميل. ساعدت أورسولا زوجها على استجلاء العوالم الداخلية للبيت الريفي في قبيلة "أيث ورياغر" تحديداً، بالتركيز على حياة النساء الريفيات اللواتي يستحيل على أي باحث ذَكَرٍ أن يتعرّف إليها في مجتمع محافظ كالمجتمع "الورياغلي". وكانت ثمرة هذه الإقامة كتابين، أولهما دراسة أكاديمية طويلة لدايفيد هارت بعنوان "أيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي، دراسة إثنوغرافية وتاريخية"، نُشِرَ بالإنجليزية أول مرة سنة 1976 ثم نشرت جمعيةُ صوتِ الديمقراطيين المغاربة بهولندا ترجمةً عربيةً له سنة 2016. وثانيهما لزوجته أورسولا، وقد عنونته "ما وراء باب الفناء، الحياة اليومية للنساء الريفيات"، وهو عمل أقرب إلى السيرة الذاتية يركز على تحليل وضعية المرأة في المجتمع الريفي، وصدرت نسختُه الأولى بالإنجليزية سنة 1994، وترجمتُه العربية سنة 2010 عن منشورات "تيفْرَازْ نْ أَريفْ".
كان همّي المقارنة بين صورة المرأة الريفية الأمازيغية في النصف الأول من القرن الماضي كما ترد في الكتابين، فهي ترتكزُ على وجهتيْ نظرٍ رجالية وأخرى نسائية، تكونت الأولى خارج فناء البيت بينما تكونت الأخرى داخله. أبرز الكتابان معاً ذكوريةَ المجتمعِ الريفي واحتكارَ الرجالِ عوالمَ السياسة القبلية والحياة العامة، واكتفاء النساء بأدوار التابعات لرجال العائلة المتخفيات وراء الأبواب. مع أنّ كتاب أورسولا كان الأقدر على سبر عوالم النساء ومحاولاتهنّ الحثيثة موازنةَ كفة أوضاعهنّ بالتعبير مثلاً عن تطلعاتهنّ وآمالهنّ بالفنِّ متجلياً في أهازيج "إزران"، متنفساً للتعبير عن رغبتهن في تغيير شروط حياتهنَّ بما تسمح فيه ظروف المجتمع الريفي المنغلق على نفسه. ومع مطابقة وجهتي نظر الزوجين الواقعَ في أغلب التفاصيل إلا أنهما يغفلان جوانبَ مهمة من مشاركة النساء حياةَ المجموعة، إذ انخرطت النساء بفعالية في حروب الريف المشهورة ضد المحتل الإسباني في العشرينيات، وكن دائماً الجزء الأهم من الاحتفالات الجماعية التي كان لها أكثر من دور على مستوى حياة القبيلة. وهذا يذكرنا بالطرحِ الذي يقول إن المجتمع الأمازيغي كان "أمومياً" في أصله، أي يُنسَبُ للأم، وذلك قبل تأثره التدريجي بالديانات الإبراهيمية.
يُطْلَق اسم الريف في المغرب على كل المنطقة الجبلية المحاذية للبحر الأبيض المتوسط، غَيْرَ أنَّ نِصْفَ سكان هذه المنطقة تقريباً فقط من يُسمون "الريفيين". ويعيش هؤلاء في المنطقة المحاذية للبحر المتوسط والممتدة من مضيق جبل طارق ومدينة طنجة غرباً إلى حدود الجزائر شرقاً، والتي تتداخل في الجنوب مع سهول الغرب ثم سهول سايس وصولاً إلى مناطق المغرب الشرقية. ويتحدث سكانها اللهجة الريفية من اللغة الأمازيغية "ذَارِيفِيثْ" أو "ذْمَزِيغْثْ"، وهي تختلف عن لهجة أمازيغ الأطلس المتوسط أو سوس والأطلس الكبير، حيث ينتشر فرعان آخران من اللغة الأمازيغية في المغرب هما "تَشَلْحِيتْ" و"تَمَزِيغْتْ".
تنقسم منطقة الريف ثلاثة أقسام، الريف الشرقي والريف الغربي والريف الأوسط. ويشكل الأخير عمق الريف بتضاريسه وهويته الأمازيغية الريفية القحة. في هذه المنطقة تركز عملُ دايفيد هارت الميداني، وفي قبيلة "أيث ورياغر" تحديداً، أحد أكبر قبائل الريف التي برزت إلى واجهة العالم سنة 1921 مع معركتي "ادْهَارْ أُوبَرَانْ" و"أَنْوَال" اللتيْن قاد فيهما الزعيم الثائر محمد بن عبد الكريم الخطابي الورياغلي - والملقب "أسد الريف" - منطقةَ الريفِ كلها ضد المستعمر الإسباني وانتصر عليهم.
أيا ادهار أوباران أيا مُسَوِّسَ العِظَام ِ مَنْ غَرَّتْهُ ثَرْوَتُكَ فَسَيَجِدُ الْمَجَاعَة
أَصْبَحَ أَهَِالي أَيْث عَزِّيمَان مُجَاهِدِينَ الآن جَاهَدُوا جَمِيعُهُم بِمَنْ فِيهِم النِسَاء
و"أَيْثْ عَزِّيمَانْ" قسم من قبيلة "أَيْثْ تُوزِينْ" الريفية المجاورة لقبيلة "أَيْثْ وَرْيَاغَرْ"، وتصف العديد من الأبيات بطولات بقية قبائل الريف ونسائهم، واستبسالهم أمام قوات المستعمر الكاسحة. إلا أن هارت لا يتوقف عند هذا الظهور اللافت لحضور المرأة الريفية ومشاركتها الفعالة في القتال من أجل حريةِ أرضها، ويُفَضِّلُ المرور رأساً إلى وصف حيثيّات المعارك والقبائل المشاركة بها، من غير أن ينسى تذكيرنا في مواضع كثيرة أخرى باحتكار الرجال لعوالمِ السياسة والشؤون العامة، باعتبار النساء "أدوات غير فاعلة سياسياً".
مثل هذا الموقف الذكوري هو ما تسخر منه زوجته أورسولا أحياناً في صفحات كتابها "ما وراء باب الفناء"، إذ ما يفتأ هارت يُذَكِّرُهَا منذ لحظة وصولهما إلى الريف بأهمية أن تكون محايدة وأن يقتصر دورها على الملاحظة من غير أن تتأثر أحكامها عاطفياً بأي شيء إلا أنها تتناسى نصائحه. وذلك ما يجعل عملها مفعماً بالدفء الإنساني، إِذْ إن هذه المرأة البريطانية المرحة التي ولدت جنوب وسط الهند وقضت فترة في فرنسا، كانت تعد المغربَ وطنَها الحقيقي الذي ترعرعتْ به. وبدت لها قواعد علم الإناسة الميدانية، التي علمها إياها زوجها على عجل قبل سفرهما إلى الريف من طنجة سنة 1959، أحياناً مادةً للسخرية. إذ تسخر في كتابها قائلة إنَّ "مصطلح الأشقاء [الأقارب] على سبيل المثال يجعلني أتخيّل كثيراً من البط والإوز الصغير ينعق، ويتقدم برزانة في صف واحد، وكان مصطلح أقارب العصب [الأقارب من جهة الأب] يوحي إلى حقل واسع يتجمع في وسطه قطيع نعاج . . . هكذا فعلم الإناسة ليس مملاً".
أقام الزوجان في منزل صديق ورياغلي سمّوه في كتابيهما اسماً مستعاراً "مُوحَنْدْ" من قرية "أَرَعْطَافْ" التي تقع في قمة جبل من جبال الريف. تحمست أورسولا منذ البداية لهذه الحياة التي وصفتها أنّها غير متحضرة، غير أن هذا الحماس سرعان ما خبا لتحل محله صداقةٌ وعلاقاتٌ إنسانيةٌ عميقةٌ وتضامنيةٌ ربطتها مع كل نساء عائلة موحند تدريجياً مع تحسن لغتها الريفية.
وصل الزوجان ومضيفهما إلى قرية أرعطاف التي كان هارت يعرفها من رحلاته السابقة، فاسترعى انتباهَ زوجتِه بدايةً تباعدُ المنازل وتشتتُها في المجال، حتى أنه يصعب الحديث عن وجودها في قرية حقيقية. لاحظتْ أورسولا أن المساكنَ كلها محاطةٌ بأحزمة من نبات الصبار، أو الهِنْدي كما يسمّيه المغاربة. ولهذه المنازل غالباً مجموعة من الكلاب التي تحرسها، وفسرت ذلك مباشرة بغيرة الرجل الريفي الشديدة على نسائه اللواتي لا يُسمح لأحد برؤيتهن. وهو ما يذكره دايفيد هارت في كتابه أيضاً، وربما يكون هو من قدّم لها هذا التفسير، مع أنّه يستحضر في جزء كبير من كتابه تاريخ الريفيين الطويل مع الاقتتال الداخلي والأخذ بالثأرِ ما بين سنتي 1898 و 1921، والتي عُرفت تاريخياً باسم "الريفُوبْلِيك". وتميزت هذه الفترة بانتشار الفوضى والتطاحن العشائري والعلاقة المتوترة مع السلاطين المغاربة الذين أرسلوا حملات تأديبية إلى المنطقة. كان للزعيم محمد ابن عبد الكريم الخطابي الفضلُ في إنهاء التطاحن العشائري حين وحّد الجهود والقبائل والبنادق ضد المستعمر الإسباني. وأَمَرَ بهدم أبراج المراقبة "أَشْبَارْ" التي كان يراقب منها الريفيُّ أعداءه الذين قد يكونون جيرانه أو أعمامه أو إخوانه أيضاً، ممَّا جعله يرتاب ويبتعد عن الجميع ويُسَوِّرُ منزله ويأخذ حذره.
دخلت أورسولا البيت الريفي وحاولت أن تُبْقِي عينيها مفتوحتيْن على كل التفاصيل وتفهم كل أحاديث الغرف الداخلية والفناء. باتت تحمل اسماً أمازيغياً هو "مُونَاتْ" أطلقه عليها مضيفها لتسهيل تواصلها مع النساء، وكانت تستيقظ باكراً لتشارك في عملهن الشاق كل يوم منذ طلوع الفجر.
أما أعمال الرجال فكانت موسميّة مرتبطة بالحرثِ أو الحصادِ أو الذهابِ إلى الأسواق الأسبوعية لشراء حاجيات العائلة. تُنَبِّهُنَا الكاتبة منذ الصفحات الأولى لكتابها إلى أنَّ النساء كنّ يأكلن ما يَفْضُلُ في صحن الرجال الذين يأكلون العشاء في غرفة معزولة يدخلون إليها من بوابة خارجية تسمى "ذَاخُوخْوثْ" عند وجود الضيوف. وتشير أورسولا إلى أنَّ قيمة المرأة عند الريفيين تتجلى في إنجابها أكبر عدد من الأولاد الذكور، وأنّ سبب حالات الطلاق، على قلتها في المجتمع الورياغلي، الأبرز هو العقم الذي يُنْسَبُ للمرأة بلا تمحيص. أما تَحَقُّقُ الكمال للنساء فهو أن تحترمهنّ وتوقرّهن زوجاتُ أبنائهنّ عندما يصبحن حماوات.
طافت أورسولا، أو "مُونَاتْ"، مع شابات العائلة لدعوة أهل القرية لحفل العرس. تأثرت بتعطشهنَّ الكبير لهذه اللحظات، فذكرت في كتابها أن "هذه الزيارات تعد الفرصة الوحيدة في حياة الفتاة كي تستمتع بما يكاد يشبه نوعا من الحرية . . . إنها المرة الوحيدة، بعد البلوغ، التي تخرج فيها الفتاة من منزلها لشيء آخر غير خروجها لجلب الماء والحشيش [للحيوانات] . . . بعيداً عن أعين وحراسة الأب والأخ . . . إنهن حرائر".
كانت معهنَّ وهنَّ يحدِّقن بطرف خفي إلى الشباب الذين كانوا يُفسِحونَ لهنّ الطريق بسبب ما أسماه دايفيد هارت في كتابه "حرمة" النساء أو "رْحُورْمَثْ"، وهو مفهوم أساسي في الثقافة الريفية، ويعني الاحترام الريفي لنساء الآخرين. وقد شاع عُرْفٌ في أثناء فترة "الريفوبليك" الدموية يُعْفِي مؤقتاً من الانتقام والقتل أيَّ شخص يمشي في ظل المرأة وحمايتها. كان مقدار هذا التوقير يزداد للنساء المتزوجات، فكُنَّ يُمْنَعْنَ من الرقص والغناء في حفلات الأعراس أو المناسبات الأخرى في فناء البيت، ويكتفين بشرب الشاي والتفرج على الحفل من نوافذ الغرف وإطلاق الزغاريد بين الحين والآخر. مع أنَّ عدداً من الذين حاورَهم دايفيد هارت قد ذكروا أن هذا المَنْعَ لم يُطَبَّق إلا منذ سنة 1921، وأنه كان من إصلاحات الزعيم الريفي محمد ابن عبد الكريم الخطابي ذي التكوين الديني الشرعي.
ومن منظور عالم الإناسة المراقب عن بعد يُورِدُ دايفيد هارت عن العقيد الإسباني إيميليو بلانكو، الذي كان حاكماً عسكرياً للريف بين سنتي 1927 و 1942، وَصْفاً طريفاً لوضعية الرجل الريفي الورياغلي في أثناء هذه الأعراس، فيقول: "المرأة ترقص وتضرب على الدف وتغني، بينما الرجل جالس بدون حركة، صامت ومنكمش على نفسه. يخفي الجلبابُ جسمَه كله وحتى رأسه ووجهه، ولكنه كله عيون. متوتر وقلق ومرتاب، ينتبه لمضمون الأغاني ولرد فعل الحاضرين وللتلميحات المغرضة والمتسترة وللشر والانتقام". ثم يضيفُ وصف مشاعر الريفي للمرأة قائلاً: "متخوف من إبداع الأنثى الطائش الذي قد ينطوي على نية سيئة والذي قد يطيب في نفس الوقت خاطره أو قد يوقظ في نفسه تناقضات دفينة . . هكذا تبقى راحة بال الفرد أو العائلة وأفراحه وأحزانه وسمعته ونفوذه دائما تحت رحمة نزوة المرأة. وبالتالي فليس هناك احتفال بل قلق مستمر".
لقد جرت العادة أن تكون هذه الحفلات مختلطة يشهدها الرجال، وتتبارى العازبات فيها على إظهار مهارتهنّ في الأهازيجِ والرقص التقليدي. وقد ينتهزنَ الفرصة إذا وقع اختيارهنَّ على شاب من الحاضرين فيرقصن أمامه لاستفزازه، أو قد يتغنينَ باسمه أو صفاتِه بمواربةٍ مفهومة، وتكون تلك شرارات أولى يبدأ إثرها والد الشابِ في المشاورات الأولى مع عائلة العروس حتى يتم الزواج، كما تقول أورسولا هارت.
مثل هذه الآثار قد نلمسها أيضاً في مساهمة النساء الكبيرة في حرب الريف التحريرية، كما أوضح المؤرخ الإسباني خوان باندو في كتابه "هيستوريا سيكريتا ده أنيوال" (التاريخ السري لحرب الريف)، الصادر في 1999، أو كما ذكر المجاهد محمد ابن عبد الكريم الخطابي نفسه للفرنسي روجر ماثيو مؤلف كتاب "مذكرات بطل الريف الأمير عبد الكريم الخطابي" وعرَّب الكتاب عمر أبو النصر سنة 1934، في وصفه لإحدى المعارك من سنة 1925 قائلاً: "اشتبك الفريقان . . . وهجم الريفيون على العدو بالمدى والهراوات، وظهرت النساء بين صفوفهم يشتركن في القتال ويشجعنَ الرجال على الحرب بالزغاريد".
تلتفت الأنظار هنا في هذه النقطة أيضاً إلى اقتصار الرجل الريفي عموماً على زوجةٍ واحدةٍ، وهو الأمر الذي يُرجعه كل من دايفيد وزوجته أورسولا هارت لفقر أغلب الورياغليين في فترة بحثيهما وعدم قدرتهم على إعالة أكثر من أسرة واحدة. هذا مع أنني قد شهدتُ في سنواتِ استقراري بالريف هذه الظاهرة أيضاً، حتى مع تحسن الأوضاع الاقتصادية للريفيين بسبب انتشار موجات الهجرة إلى أوروبا الغربية منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي. إذ يُطْلِقُ الريفي على زوجته اسماً فيه تقدير بادٍ هو "ذادارث" أي المنزل، خصوصاً عندما يتحدَّثُ عنها في وسط يَضُمُّ رجالاً آخرين. وتصفُ النساءُ أزواجهنَّ بالقول "أخّام اينو" أي الغرفة، أو غرفتي.
تكمنُ الإشارة المضمرة لأصول المجتمع الأمازيغي الأمومي عند آخرين في لازمةِ "أيا رالا بويا" التي تبدأ بها كل الأهازيج التي ترددها النساء والرجال، والتي تُعدُّ سمةً ثقافية للريف حتى يمكنُ القول إنَّ أية قبيلة لا تتغنى بها لا تعدُّ ريفية حقة، كما يقول دايفيد هارت. قد نستشف منها ما معناه "أيا سيدتي" أو "يا أبي" أو "يا أماه"، وقدم لها هارت تفسيراً سمعه من أحد الذين حاورَهم، والذي ذكر أنَّ هذه اللازمة تعود إلى تدمير السلطان يوسف بن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، إمارة النكور الأمازيغية بمنطقة الريف سنة 1084. كانت النساء الريفيات حينئذٍ يصرخن وسط النار والدخان مناديات على آباءهن الذين قُتلوا في الحرب "أبويا"، أي أبتاه بالدارجة المغربية، وهو النداء الذي حُوِّرَ لاحقاً ليصبح "رالا بويا". غير أنَّ مجموعة من الباحثين يخالفونه هذا الرأي الذي يعدّونه مغالاةً تنحو إلى أسطرة هذه اللفظة التي يؤكدون أنها لازمة غنائية موسيقية فقط، فيما يُصِرُّ كثيرون على ربطها باسم القائدة الأمازيغية "رالا بويا" التي وُلدت سنة 275 ميلادية ونُصِّبَت ملكةً على مملكة المور الأمازيغية شمال المغرب منذ سنة 304، فتكون اللازمة بذلك مناداة واستنجاداً بأنثى محاربة مقدسة.
منعت والدتي بناتِها من أكل بذور القرع لظنّها أنّها تحصر خلفتهن بالإناث، وذكرت مرات كثيرة عادة إطلاق الزغاريد وتعليق علم ملون على سطح البيوت التي وُلِدَ لها صبي بينما لا يُحتفى بمولدِ الفتيات بالطريقِة نفسِها. شغلني كثيراً هذا الخضوع الذي أظهرته نساء ذلك الجيل، وعند استقراري في الريف اختلطتُ في القرية، جانب المدرسة حيث أعمل، بِمُسِنَّات طيباتٍ أطلعنني على مفهوم مركزي في تصورهن لأنفسهنَّ يسمينه "الحرية". اشتبهتُ في البداية بأنه يحمل المعنى نفسه الذي نتداوله جميعاً، قبل أن أكتشف العكس تماماً. فأن تكون المرأة "تَاحُورِيثْ"، أو حُرَّةً، يعني أن تكون منضبطة تماماً لأعراف المجتمع ومطيعة لزوجها بلا شكوى. تفاخرت إحداهنّ بأنه لم يرَ أي غريب من النساء أو الرجال قدميْها أو يديْها اللتيْن تغطيهما باستمرار زيادةً وغلواً في "حريتها". وكانت النسوة يحركن رؤوسهنَّ بتعبير الرضى والموافقة على مَثَلٍ قديم بغيضٍ قالته أكبرهن، وهي زوجة عامل ريفي متقاعد في بلجيكا، يقول المثل "إنّ المرأة مزبلة".
لم يجرحهنَّ هذا التشبيه، إذ حملت النساء عبءَ كلِّ الشرور والخطايا الممكنة دائماً، خاصة تلك المرتبطة بالعفة. ولذلك فقد حظيتُ بنظراتٍ قلقةٍ وحائرة من جاراتي كلما تجاوزتُ ساعةَ مغيب الشمسِ خارجَ البيت. وتلقيتُ ملاحظاتٍ على ثيابي من مديري في العمل الذي لم يكن ريفياً، غير أنّه قد قضى فترة كبيرة في الريف مكنته من تحذيري من أنَّ مظهري قد يجلبُ لي المشاكل، إذ تبدو كل امرأة لا تغطي شعرها أو تضع بعضاً من الزينة هدفاً مستباحاً للتحرش والاحتقار في أماكن كثيرة من منطقة الريف. ونبهني زميلٌ إلى أنّ حضورَ أحدِ الأنشطة النقابية قد يسبّبُ لي حرجاً لأنَّ الحضور يقتصر على الرجال غالباً. وهكذا فقد جعلني المجتمعُ أسايرُ أغلبَ معاييره كأيِّ ريفيةٍ حقيقيةٍ بمرور السنوات، وذلك حتى في غياب ذكور العائلة الذين يُحصون تحركات المرأة في العادة ويقوّمون سلوكها.
لقد كانت مراقبة النساء تكتسي أهمية كبيرة دائماً وتؤرق بال الرجل الريفي الذي يسعى إلى تزويج بناته بسرعة. وعندها تثقلهن المسؤوليات ويكبرن "متحولات إلى نساء خاضعات" كما يقول دايفيد هارت، أو يمارسن رقابتهن ويطلقن أحكاماً قاسية على غيرهن، ويبررن الضرب وسوء المعاملة على أنّهما جزء طبيعي من علاقة الرجل بالمرأة. ونصحتْ امرأةٌ مسنة دايفيد هارت بأن يداوم على ضرب زوجته، لأنها هي قد ضُرِبَتْ كثيراً وتعرف بأنَّ ذلك أساسي لأي زواج ناجح. وهكذا تكون قد اكتملت دورة الأذى النفسي الذي يلحق بالمرأة منذ الطفولة، إذ إنّه "حين تكف امرأة عن البكاء تبدأ أخرى"، كما تقول أورسولا هارت، غير أنّ حالات الرفض والتمرد القليلة كانت تظهر منذ الستينيات.
يُقَرِّبُنَا كتابُ "وراء باب الفناء" مِنْ محاولات النساء الريفيات حينها للتحسين من جودة حياتهن بالتباحث سِرّاً بينهنَّ عن وسائل منع الحملِ المتكرر الذي كان يتباهى به الرجل الريفي، ويُهلك صحتهن أو يودي بحياتهن في ظروف الولادة السيئة والمليئة بالاحتمالات المخيفة. وتشير الكاتبة إلى التجاءِ النساءِ للساحرات "ذِيزُوهْرِيِّين" لتليين طباعِ أزواجهنَّ والتمائم التي كان يكتبها الفقهاء، أو الخلطات السحرية التي كانت تباع مكوناتها في "أسواق النساء". وهي أسواق عدّها دايفيد هارت ظاهرة تكاد تخص منطقة الريف وحدها، إذ يُمْنَعُ دخول الرجال كلياً. ومع ذلك فقد كان أغلب من يرتدنها من النساء المسنات أو بعض العازبات أو من هنَّ تحت سنّ الزواج، لأن الرجل الريفي يأنفُ من أن يرى الآخرون امرأته على طريق السوق.
تنقلُ لنا أورسولا في كتابها نموذجاً لامرأةٍ متمرِّدَةٍ على الأعراف على طريقتها اسمها "تَاميمونْت"، وهي امرأة ريفية جميلة لا تهتم كثيراً للأخريات اللواتي أشرن إلى أنّها عاقر ولا تفعل شيئاً لتغيير ذلك، بل تفضل أن تخلق من غرفتها الضيقة عالماً واسعاً قوامه جهاز المذياعِ ونسخة قديمة من مجلة غربية تكتفي بالتفرج على صور النساء العصريات فيها وتخيل نفسها مكانهن.
تذكر الكاتبة أيضاً حالة "يامنة" المشاكسة التي لا تنفك تطالب زوجها أن تصحبه إلى فرنسا حيث يعمل ويقيم أغلب أشهر السنة، وتحلم بحياة أكثر انفتاحا مع أنّه كان يعارضها معارضة شديدة بسبب خوفه من هذه الحريات التي ستكتسبها في أوروبا، كما قال بنفسه لدايفيد هارت. غير أن هذا الحلم سرعان ما تحقق لنساء كثيرات مع توالي موجاتِ الهجرة الكثيفة إلى أوروبا الغربية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. وأصبح في وسع الفتيات في أرض الوطن أيضاً أن يذهبن إلى المدارس تدريجياً ويتابعن دراستهن ويزاولن مهناً مختلفة يخترنها لأنفسهنَّ، مع أنَّ نظرة المجتمع لهنَّ حافظتْ على كثيرٍ من سماتها التي تعود إلى زمن آخر، خاصةً كلما اقتربنا من المناطق القروية في جبال الريف.
دفعتْ الانعطافات التالية للاحتجاجات لبروز المرأة في واجهة الأحداث. فشهدت المظاهرات، التي كانت أغلبية المشاركين فيها من الرجال في الأيام الأولى، مشاركة تدريجية واسعة من النساء حتى تصدّر عددٌ كبير منهنَّ الصفوفَ الأولى. ثم بدأت موجة اعتقالات قادة حراك الريف أواخر شهر مايو 2017، فسلَّط ذلك المزيد من الضوء على الناشطة الحقوقية نوال بنعيسى، ربة البيت الثلاثينية التي عدّها كثيرون "خليفة" قائد الحراك الشاب ناصر الزفزافي المُعْتَقَلِ منذ ذلك الحين. إذ باتت تقع على عاتقها الدعوة إلى تنظيم الوقفات والمسيرات واعتلاء المنصات أمام المحتجين وسط قمع أمني. وصارت "خاتشي" أي خالتي زليخة، أم ناصر الزفزافي نفسها أيقونة للريفيين، واكتسحت صورُها مواقعَ التواصل المغربية وهي ترفع شارة النصر باعتداد مع بقية أمهات المعتقلين في الوقفات الاحتجاجية طيلة فترة محاكمة أبنائهن. نما التعاطفُ الشعبي للحراك أيضاً بسبب اعتقال شابة فنانة هي سيليا الزياني، التي لم تتجاوز الثالثة والعشرين عندها، وقد عُرِفَت سيليا بمشاركتها الاحتجاجية للحراك منذ يومه الأول.
أدَّت احتجاجات "حراك الريف" التي استمرت أكثر من سبعة أشهر إلى كسر صور نمطية كثيرة عن المرأة كان التخلص منها قد يحتاج سنوات كاملة في ظروف أخرى، وأعادت إلى الأذهان صورة السيدة الأمازيغية التي سميت منذ القديم "ذَامْغارْثْ" التي تعني الرئيسة. إنها نفسها القائدة والمحاربة والفنانة ذات الروح الحرة التي لم تستطع الحياةُ الضيقةُ يوماً ترويضَها.
يذكرنا هذا بما كادت تتبيّنه أورسولا هارت وهي تراقب النساء الريفيات، وتلمس رغباتهنّ وطموحاتهنّ وطاقتهنّ على الحياة والحلم على محدودية آفاقهنّ. ويذكرنا بمرور دايفيد هارت سريعاً بأوجهِ مشاركةِ النساء في حروب الريف المصيرية المشهورة ضد المستعمر الإسباني. ولأنه رجلٌ لم يستطع أن يفهم قوةَ المرأة الريفية وطموحاتها، أو لأنه لم يعبر أبداً من باب الفناء الذي عبرته أورسولا زوجته، مع أنه تساءل أكثر من مرة عن مدى خوف النساء الورياغليات من أزواجهن، ذلك الخوف الذي كان يتباهى به من يحاورهنَّ من الرجال ويعززون به سرديتهم عن السيادة المطلقة للرجل في المجتمع الريفي.