تُبرِزُ هذه الطريقةُ التي يورِّطُنا بها مخرجُ الفيلمِ جوناثان جليزر وملحّنُه الموسيقيُّ ميكا ليفي ما قالَه الأوّلُ في كلمتِه التي ألقاها بعد فوزِه بجائزةِ الأوسكارِ لأفضلِ فيلمٍ ناطقٍ بغيرِ الإنجليزيةِ والتي أثارت ضدَّه عاصفةً من الاستهجانِ والاتّهامِ بمعاداةِ الساميّة. نَدّدَ جليزر في كلمتِه باعتيادِ نزعِ الإنسانيةِ عن الضحايا، ورَبَطَ فيها بين ما حدثَ في آوشفيتز ومعسكراتِ الإبادةِ النازيّةِ الأخرى وما يحدثُ في غزّةَ، متّهِماً مرتكبي المجازرِ في غزّةَ "باختطاف الهولوكوست" واستخدامِه للتبريرِ والتغطيةِ على الجرائمِ المرتكَبةِ بحقِّ الفلسطينيِّين.
بسببِ تلك التصريحاتِ وتوقيتِ صدورِها اقترنَ الفيلمُ بحادثةِ السابعِ من أكتوبر وما تلاها من حربٍ في غزّةَ، مع أنّ عرضَه الأَوّلَ في مهرجانِ كان السينمائيِّ جاءَ في مايو 2023. إلّا أنّ هذا الاقترانَ يُخفِي السؤالَ الفلسفيَّ الرئيسَ الذي حاولَ جليزر معالجتَه. فهذا الفيلمُ يأتي تتويجاً لمسيرةِ جليزر السينمائيةِ التي تناولَ فيها، وبأساليبَ سينمائيةٍ مختلفةٍ يجمعُها التجديدُ والابتكارُ، موضوعاتٍ وتساؤلاتٍ فلسفيةً تمسُّ جوهرَ وجودِنا الإنسانيِّ ومعناه على هذه الأرض. وبعيداً عن حربِ غزّةَ التي عُرِضَ فيلمُ "منطقة الاهتمام" قبلَها وبصرفِ النظرِ عن اقترانِها به فإنّ هذا الفيلمَ كان معنيّاً، إذا ما استرشَدْنا بمسيرةِ المخرجِ السينمائيةِ، بتقديمِ فحصٍ مجهريٍّ لفكرةِ التعايشِ مع القتلِ الجماعيِّ المنظّمِ ومجاورتِه والتوافقِ مع القهرِ واعتيادِه.
إذا نَظَرْنا لفيلمِه الأوّلِ، الوحش الجذّاب، الصادرِ سنةَ 2000 سنَرَى قصةَ رجلِ عصاباتٍ معتزلٍ ومتزوّجٍ وهو يَتلقَّى التهديدَ والتخويفَ من زميلٍ سابقٍ كي يعودَ للإجرام. هنا نرى كيف يتصرّفُ الإنسانُ المهدَّد وكيف يتعاملُ الأفرادُ مع التخويفِ وإحساسِهم بأنّ استقرارَ حياتِهم أصبحَ على المحكِّ وكيف يتصرّفون خارجَ إطارِهم الطبيعيِّ في هذه الظروف. فهذا الزميلُ السابقُ الذي يخشاه البطلُ وكلُّ مَن حولَه، يَلقَى حتفَه على يدِ من كانوا يخشَونه. الفعلُ هنا هو التهديدُ ورَدُّ الفعلِ هو القتلُ أسلوباً دفاعيّاً.
أمّا في فيلمِ الميلادِ، والذي صدرَ في 2004، نرى أرملةً لعبَت دَورَها نيكول كيدمان، تستعدُّ للزواجِ بعد عشرِ سنواتٍ من وفاةِ زوجِها ثم يأتيها طفلٌ عمرُه عشرُ سنواتٍ، ليدَّعيَ أنه روحُ زوجِها الراحلِ، بل ويحكي لها عن أدقِّ التفاصيلِ الحميمةِ بينهما. ووسطَ اندهاشِ الجميعِ تبدأُ الأرملةُ في تصديقِ هذا الطفلِ حتى قابلَ الطفلُ عشيقةَ الزوجِ الراحلِ التي تصارحُه بأنها لا تصدّقُ أنه هو بالفعلِ لأنه لَم يأتِ إليها أوّلاً، وهذا يدفعُه أن يعودَ للأرملةِ مرّةً أُخرى ويقولَ إنه ليسَ زوجها وإنه كان يَكذبُ طوالَ ذلك الوقت. وهذا يعطي الفيلمَ العديدَ من التساؤلاتِ، هل كان الطفلُ روحَ الزوجِ المستنسَخةَ بالفعلِ وكَرِهَ نفسَه عندما أَدركَ أنه كان خائناً، أمْ أن الزوجة لم تستطِعْ أن تتجاوزَ حزنَها وألمَ الفراقِ فباتت تصدِّقُ أيَّ شيءٍ.
يمكنُ أن نَعُدَّ فيلمَ تحتَ الجلدِ دراسةً عن البَشرِ في القرنِ الواحدِ والعشرين بأعينِ كائنٍ من كوكبٍ آخَر تَجسَّدَ في صورةِ إمرأةٍ بَشريّةٍ، لعبَت دورَها الممثلةُ سكارليت جوهانسن، هدفُها خطفُ الرجالِ، خصوصاً غيرُ المتزوّجين لابتلاعِهم بعد إغوائِهم لممارسةِ الجنس. ومثلما يَدرسُ العلماءُ تصرّفاتِ الكائناتِ الحيّةِ وطبائعَها يتيحُ لنا الفيلمُ رؤيةَ البَشرِ من وجهةِ نظرِ الكائنِ الفضائيِّ وهي تراقبُ تصرّفاتِهم اليوميّةَ والطبقاتِ الكثيفةَ التي تتخلّلُ علاقاتِهم من حبٍّ وجمالٍ وعنفٍ وشهوةٍ وغيرِها. ونرى في الفيلمِ المغايرِ بضعَ مشاهدَ تسجيليةٍ تحاورُ فيها البطلةُ أناساً حقيقيِّين ليسوا ممثّلِين ولا يَدرون بوجودِ كاميرا تصوِّرُهم بالأساس. ولعلّ هذه النزعةَ التسجيليةَ وهاجسَ تحليلِ سلوكِ البشرِ ومراقبة طبائعِهم أدّيا إلى تحفةِ جوناثان جليزر الأخيرةِ، منطقة الاهتمام.
لَم يَستخدمْ جوناثان جليزر في فيلمِه الشخصياتِ الخياليةَ الموجودةَ في الروايةِ، بل اعتمدَ الأسماءَ الحقيقيةَ، كما ابتعدَ تماماً عن حكايةِ قصةِ مثلّثِ الحبِّ والخيانة. إلّا أنّ الفيلمَ لَم يقدّمْ النازيّين على أنهم أشرارٌ كي نكرهَهم أو نشعرَ بالرعبِ منهم ولا هو حاولَ أن يتعاطفَ معهم، بل إنّ الفيلمَ لَم يكُن حتّى فيلماً تاريخياً مفعَماً بالجمالياتِ السينمائيةِ التقليديةِ التي تأتي عادةً مع أفلامِ الحقبِ التاريخية. تخيّلْ أنّنا سافَرْنا في الزمنِ وزَرَعْنا كاميراتٍ ولاقطاتِ صوتٍ في هذا المنزلِ وراقَبْنا هذه الأُسرة. هذا هو أسلوبُ فيلمِ منطقة الاهتمام وتوجّهُ مخرجِه في التعاملِ مع تلك الشخصياتِ التي نشاهدُها بمسافةٍ تجعلُنا نَشعرُ أننا نَدرسُهم. وفي حينِ يلجأُ الكثيرُ من صنّاعِ السينما إلى العديدِ من الحيلِ للتغلّبِ على شكلِ الصورةِ الرقميةِ لدرجةِ تفضيلِ التصويرِ على شريطٍ سينمائيٍّ خامٍ، نَجِدُ جليزر يصوّرُ فيلمَه بكاميراتٍ رقميةٍ شديدةِ الدقّةِ والوضوحِ لتبدوَ الصورةُ حادّةً وشديدةَ الحداثةِ، مثلما الحالُ مع أثاثِ المنزلِ الذي يبدو جديداً، فهو كان جديداً بحقٍّ وقتَها. هذه الحداثةُ هي مفتاحٌ مهمٌّ جدّاً في قراءةِ الفيلم.
يقدّمُ الفيلمُ حياةَ أسرةِ قائدِ معسكرِ اعتقالِ آوشفيتز اليوميةَ. حياةٌ تبدو عاديّةً للغايةِ لو اجتُزِئَت من سياقِها العامِّ المرعبِ القائمِ على استمراءِ القتلِ والسلبِ والاستيطانِ والنهب. مِن المَشاهدِ المتلصِّصةِ نُراقِبُ أفرادَ هذه الأُسرةِ في حياتِهم اليوميةِ. فالأبُ يذهبُ لعملِه يومياً والأمُّ ترعى حديقتَها التي تَفخرُ بها وتتسامرُ مع صديقاتِها ويبدو كلبُهم حاضراً دوماً. ولكن عند الإنصاتِ لأحاديثِ الأمِّ وصديقاتِها نجدُهنَّ يتبادلْنَ أحاديثَ ساخرةً عن استخدامِهنّ لممتلكاتٍ تعود لمعتقَلاتٍ يهوديات. فنرى الأمَّ تَستقبلُ غنيمةً جديدةً من الملابسِ، تُعطي الأسمالَ منها للخادماتِ البولندياتِ وتأخذُ هي معطفاً من الفراءِ كان لامرأةٍ بولنديةٍ، على الأرجحِ ملقاةٍ في أحدِ معسكراتِ الاعتقالِ إنْ لم تكن قد قُتلت. تَنزعُ الزوجةُ العلامةَ المكتوبَ عليها اسمُ المالكةِ الأصليةِ للمعطفِ وتُخرِجُ من جيبِه قلمَ أحمرِ شفاهٍ وتجرّبُه دون أن تهتمَّ كثيراً بمصدرِه أو بمصيرِ صاحبتِه. بل وتشيرُ في حديثِها مع صديقاتِها إلى صورةِ صاحبةِ المعطفِ الأصليةِ وهي ترتديه على صفحةِ إحدى المجلّاتِ، قبل أن تقودَ محادثتُهنَّ التي يَسخرْنَ فيها من اليهودِ الذين خبّؤُوا قطعَ الألماسِ في أنابيبِ معاجينِ تنظيفِ الأسنانِ. وبناءً عليه تطلبُ هيدويج، التي تفتخرُ بتسميةِ زوجِها لها ملكةَ آوشفيتز، المزيدَ من أنابيبِ المعجون أملاً في العثورِ على الألماسِ المهرَّب.
ففي هذه المَشاهدِ يصرُّ المخرجُ على تصويرِ عاديّة حياةِ هذه الأسرةِ مع التذكيرِ الدائمِ بأن هذه العادية ليس منبعُها الجهلُ أو الغفلةُ بما يحدث. فالزوجة مثلاً لا تَظهرُ غافلةً، بل على علمٍ ودرايةٍ بعملِ زوجِها وبِما يدورُ خلفَ الحائطِ الذي يَفصلُ منزلَهم عن المعسكر. بل إننا نراها في مشهدٍ تهدّدُ خادمةً بأن زوجَها سيَحرقها إذا استمرَّت في تعكيرِ مزاجِها. أمّا الزوجُ، رودولف هوس، فيُجري مقابلاتٍ واجتماعاتٍ عن أحدثِ تقنياتِ الأفرانِ التي تضمنُ قتلَ أكبرِ عددٍ من المساجين حرقاً في أقلِّ وقتٍ ممكِن. ونراه قبل دخولِه المنزلَ يَتركُ حذاءَه المتّسخَ بالدماءِ خارجاً ليغسلَه بعضُ المساجين العاملين بالسخرةِ في منزلِه. نرى المساجينَ يُمِيطون عن الحذاءِ دماءَ أشخاصٍ قد يكونون من أصدقائِهم أو أقاربِهم. ونرى رودولف يأمرُ زملاءَه الضبّاطَ بالحفاظِ على شكلِ أحواضِ الزهورِ ويتوعّدُ بعقابٍ من يشوّهِها، فهي موجودةٌ ليستمتعوا بها جميعاً. أمّا الأطفالُ فيستمتعون باللهوِ في هذا المنزلِ وحديقتِه الواسعةِ مع رفقائِهم من أبناءِ أصدقاءِ الأبِ والأمِّ وزملائهم الذين يَكتبُ أطفالُهم رسالةَ امتنانٍ لآلِ هوس تشهدُ أنهم قَضَوا في هذا البيتِ "أحدَ أجملِ الإجازاتِ الصيفيةِ التي مرّت عليهم".
اختارَ جليزر أن لا يعرض مَشاهدِ القتلِ والتعذيبِ التي اعتدناها في الأفلامِ التي تتناولُ الهولوكوست، وهنا يَكمنُ ذكاؤه في إظهار بشاعةَ هذه الجريمةِ وهولها من معايشةِ هذه الأسرةِ التي تحاولُ عيشَ حياةٍ عاديةٍ في محيطٍ غيرِ عاديّ. ومِن هذه الطرقِ ما جرى للجدّةِ، أُمِّ هيدويج، التي تأتي للزيارةِ وتنبهرُ أوّلَ الأمرِ بالحالِ الميسورةِ التي أصبحَت ابنتُها وزوجُها عليها. تبدو أُمُّ هيدويج للوهلةِ الأُولى امرأةً نازيّةً تقليدية. فهي تَنتقِدُ وجودَ خادماتٍ يهودياتٍ في المنزل، لتقولَ لها هيدويج إنهن مجرّدُ بناتٍ محلّياتٍ ولَسْنَ يهودياتٍ، وأن اليهودَ موجودون وراءَ الحائط. ترتبكُ الجَدّةُ وتتسائلُ عمّا إذا كانت مخدومتُها اليهوديةُ السابقةُ في هذا المعسكرِ وراءَ الحائط. شيئاً فشيئاً ينزاحُ الانبهارُ الأَوّليُّ ليحلَّ محلَّه حالاتٌ من الفزعِ والقلقِ وعدمِ القدرةِ على التعايشِ مع هذه المجزرة. فنراها تحاول أن تأخذَ قيلولةً في الحديقةِ ولكن تقومُ وتذهبُ للداخلِ لعدمِ تحمّلِها رائحةَ حرقِ المساجين. ونراها ليلاً وهي مصابةٌ بالأرقِ وتراقبُ برعبٍ ألسنةَ الدخانِ الأحمرِ الكثيفِ الناتجِ عن المَحارق. في الأخيرِ، ترحلُ الأُمُّ ليلاً تاركةً لابنتِها رسالةً لا نرى محتواها ولكن نرى تأثيرَها على الابنةِ التي تحاولُ كتمَ ضيقِها بها وتُلقيها في الفرنِ لكي تحترقَ، ثمّ تهدّدُ خادمتَها الصامتةَ بالقتل.
والطريقةُ الأُخرى التي يتكشّفُ بها هَولُ الجريمةِ من داخلِ حياةِ الأُسرةِ في مشهدٍ حينما يأخذُ الأبُ رودولف أبناءَه في قاربِه الصغيرِ الجديدِ على البُحيرة. وبينما هُم مستمتعون بوقتِهم يَجِدُ رودولف في الماءِ صَفَّ أسنانٍ بشريّة. يَجري هَلعاً مُخرِجاً أبناءَه من الماءِ ويأمرُ بتحميمِهم بقوة وعنف من آثارِ المياه. ونراهم إذْ يحمَّمُون فيَخرجُ من أجسادِهم الرمادُ الناتجُ عن رفاتِ الجثثِ البشريةِ المحروقة. هذا الهلعُ الذي أصابَ المنزلَ هلعٌ طبيعيٌّ لأطفالٍ امتزجَت أجسادُهم برفاتِ أمواتٍ، لكنّه مع طبيعيّتِه يكشفُ معه إدراكاً عميقاً بعدمِ طبيعيّةِ المكان.
إنْ بَحَثْنا عن تعريفٍ لكلمةِ الاستعمارِ الاستيطانيِّ فسنجدُ أنها تعني الاستيلاءَ على أراضٍ في دولةٍ أُخرى وعلى مواردِها وإبادةَ سكّانِها واستغلالَهم. وهذا هو عينُ ما يفعلُه قائدُ المعسكرِ هاوس وعائلتُه. يعيشون في بيتٍ كان على الأرجحِ مُلْكاً لبولنديين غالباً من اليهودِ الذين اعتُقِلوا أو هُجِّروا أو قُتِلوا. وتعيشُ هذه الأُسرةُ في هذا البيتِ حقّاً مكتسَباً لهم حتّى أنّ هيدويج، الزوجةَ، تتمسّكُ ببقائِها في ما سمَّتْه منزلَها حقّاً لن تتنازلَ عنه أبداً. ورفاتُ القتلى التي غسلَتْها الأُسرةُ مِن أجسادِها تجسيدٌ لكلِّ الدماءِ والجثثِ التي يعيشون عليها.
تَتخلّلُ الأحداثَ مَشاهد أَشبهُ بالحُلمِ نرى فيها فتاةً بولنديةً وهى تنثرُ ثمارَ التفاحِ للمساجين في أماكنَ مخبّأةٍ، نعرفُ فيما بعدُ أنهم تقاتلوا عليها، وتَعثرُ على نوتةٍ موسيقيةٍ لمعزوفةٍ كَتَبَها موسيقيٌّ قُتِلَ على الأَرجح. نرى مشاهدَ هذه الفتاةِ وهي تتسلّلُ بين الضبّاطِ ليلاً بصورةِ الأسود والأبيض تُضاعفُ إحساسَ الحُلمِ، على صوتِ رودولف وهو يحكي لأبنائِه الأسطورةَ الألمانيةَ الشهيرةَ لـ "هانسل وغريتل"، الطفلَيْن اللذَيْن حَبَسَتْهما الساحرةُ الشريرةُ ورامَت التهامَهما فانتقَما منها "بإلقائِها في الفرنِ وإحراقِها". ثمّ نرى الفتاةَ مع أسرتِها في منزلِهم في مشاهدَ ملوّنةٍ عاديّةٍ وهُم يعيشون في ظلامٍ وعلى ضوءِ الشموعِ، عكسَ بيتِ آلِ هوس المضيءِ دائماً. هذه الفتاةُ قد تمثّلُ الشخصيةَ الوحيدةَ في الفيلمِ بأكملِه التي تَبعثُ الأملِ، فهي نقطةِ الضوءِ في هذه القصّةِ المرعبة. حتى زوايا تصويرِ الفتاةِ تختلفُ، وليست الألوانُ والإضاءةُ فحسب. فلا نراها بالشكلِ التسجيليِّ الباردِ الذي نرى عليه الأُسرةَ الألمانيةَ، وإنما نراها بلقطاتٍ مقرَّبةٍ تميلُ إلى الشاعريةِ مثلَ مشهدِ عزفِها النوتةَ الموسيقية.
وفي آخِرِ الفيلمِ أيضاً تحوّلٌ مفاجئٌ يكثِّفُ موضوعِ الندمِ والتذكّر. فبَعد محاولةِ التقيّؤِ الفاشلةِ، يَنظرُ الأبُ من ممرٍّ فنجدُ الفيلمَ ينتقلُ فجأةً إلى الوقتِ الحاليِّ بعد أن تَحوّلَ آوشفيتز إلى متحفٍ للتذكيرِ بأهوالِ الهولوكوست. نرى العاملاتِ في المتحفِ وهنّ يفتتحنَ أبوابَه في الصباحِ الباكرِ استعداداً لاستقبالِ الجمهور. ثمّ نرى أعمالَ التنظيفِ المعتادةَ التي يعملها عمّالُ النظافةِ، ونرى في الوقتِ نفسِه خلفَ الزجاجِ النظيفِ أحذيةَ ضحايا الهولوكوست ومقتنياتِهم في مكانٍ ونرى ممرّاً طويلاً معلّقاً على جدرانِه صورُ الضحايا. بعد هذه القفزةِ الزمنيةِ، يعودُ الفيلمُ بنا مَرّةً أُخرى إلى الأبِ رودولف هوس وكأنه كان يراقِبُ هذا المشهدَ، أو لِنَقُلْ يتوقَّعُه أو يَرى لمحةً من المستقبل. وكأنّ الفيلمَ بهذه اللقطةِ الختاميةِ يقولُ لنا: نحن ما زلنا نعيشُ التاريخَ الآن.
لا أعتقدُ أنّ هذا المشهدَ الختاميَّ إدانةٌ لوجودِ متحفٍ للهولوكست قدرَ ما هو رؤيةٌ للتعايشِ وتأمّلٌ في فكرةِ عادية المجازر. فالعاملون في المتحفِ محاطون بما يشبهُ أشباحَ ضحايا المجازرِ البشعةِ، صورُهم وأحذيتُهم ومتعلقاتُهم، ويعملون حولَها كما لو أنهم يعملون في مستشفىً أو مدرسة. وهذا تأكيدٌ على أننا لا نرى صفحةً من تاريخٍ أسودَ بعيدٍ وأحداثٍ صعبٌ أن تتكرّرَ الآنَ فحسب. ولا هي مشاهدُ نراها في زيارةٍ لمتحفٍ فنشعر بأن ذلك زمنٌ ولَّى. بل هناك شعورٌ دائمٌ بآنيّةِ الحدث. كما ذَكرْنا، فالتصويرُ المعاصرُ وإحساسُنا أنّا إزاءَ شيءٍ يحدثُ الآنَ هو عينُ الإحساسِ الذي يَصِلُ لنا في نهايةِ الفيلم.