أتَذَكَّرُ نساء ليبيَّاتٍ كُنَّ يلتحفنَ الرِّداءَ التَّقليديَّ، على اختلاف أعمارهنّ. كان الرِّداءُ لباساً للاختباءِ والتّستّر، ووسيلةَ تعبيرٍ عن الثّقافةِ والـهُوِيَّةِ أيضاً. تَتَبَدّى رمزيةُ الرّداءِ في كونه الحاجِبَ والكاشِفَ في آن. فحين ترتدي المرأةُ التّقليديّةُ رداءَها، تُخفي جَسَدَها وشيئاً من هُوِيَّتِها عن أعين الأغراب، تُعلن بذلك امتثالَها لقيمة الحِشْمَةِ وتُحَصِّنُ نفسَها من التمييز المتعلّقِ بالعُمْرِ ولونِ البشرة والشَّعر وشكل الجسم. لكنّها في الوقت ذاته تُظْهِرُ فِعلَ الإخفاء ذاته، يقول لسانُ حالِها "أنا أُخفي شيئاً ما" ويغدو الرِّداء ذا وظيفتين متعارضتين: الاختباء من جهة، والتّعبير من جهة أخرى.
وقياساً على الرِّداء الذي يستر حرارةَ المشاعِرِ المسكوتِ عنها ويحتفظُ بحرارة التّوقِ وجموحِ الخيال، تحتجب رغباتُ النِّساء الـمُتَّقِدَةُ تحت طَيَّاتِ خَرَاريفِهنّ أيضاً، والخراريف جمع "خرّافة" وتعني حكاية خيالية. أريد في هذا المقال أن أقتفي أثر ذلك المخفي تحت رداءِ الخراريف، أريد بذلك أن أُكَرِّمَ شيئاً من ذكرى جَدَّتي مبروكة صَهَّد، باستنطاق المتنِ الشّفهيِّ لحكايات الجَدَّات لا بالانشغال بمركز المعنى فيه، بل بتفكيكِ المركزِ، والبحثِ عن المضامين التي أُنْتِجَتْ بها تلك المعاني. أفترضُ أنّ تلك المضامين تشكِّل مِجَسّاً كاشفاً لما يقع خلف كثيرٍ من تصورات النساء اللّيبيّات عن أنفسهنّ.
وأحداثُ خرَّافة الرَّحِم تحكي عن امرأةٍ حُبْلَى نذَرت أن تَتَصدّق بإحدى بناتها السَّبعِ، إن هي رُزِقَت ذَكَراً. يحين موعد الإنجاب وتفرحُ الأمُّ فَرَحاً عظيماً بمولودها الذّكر، وحين يجيء موعد الوفاء بالنَّذْرِ تحمل ابنتَها التي وقعت عليها قُرعَةُ النَّذْرِ إلى غابة بعيدة وتربطها في جذع شجرة، تبكي البنتُ متوسّلة لكنّ الأمَّ لا تستجيب إلى توسّلاتها وتخبرها بحزم أنها مضطرة إلى التّخلّي عنها. تجوع البنت في مربطها وتعطش وتعاني التعب الشديد، لكنّها بطريقة ما تجد سبيلاً لفكّ قيدها فتعيش في الغابة مع الغزلان، تَبْلَى ثيابُها تدريجيّاً فتسدِلُ البنتُ شعرَها الطويلَ على جسمها وتغدو كائناً غريبَ المنظر. تمضي أعوام قبل أن يمر بالغابة فارسٌ يمضي في رحلة صيد، يراها فيتعجّب منها. يطاردها لكنّها تفلتُ بفضل خفّتها التي باتت تضاهي خفة الغزلان. يعود الفارس حائراً، وفي أثناء سيره يمرّ بعجوز فيقف عندها للاستراحة والاستسقاء. يحكي لها عمّا رآه في الغابة وأنّه قابل غزالةً لا تبدو مثل سائرِ الغزلان، تقترحُ العجوزُ أن يُعِدَّ قَصْعَةَ عَيْش، وهو من ضروب الطّعام في ليبيا يشبهُ العصيدةَ، وأن يُكْثِرَ الملحَ في العَيْش ويختبئَ لمراقبتها. فإن هي أكلت فهي إذن إنسان، لأنّ الغزلان كما تخبره العجوز لا تأكل العَيْشَ الـمَالِحَ. يمتثل الفارس لحيلة العجوز وما إن يضع القصعة في الغابة حتى تقترب الغزلان لتتحسّس الطّعام بأنوفها، غير أنّها تنفر مباشرة، وحدَها البنتُ تقعُدُ لتأكل كلَّ العيش، يكرّر الفارسُ الأمرَ كلَّ يوم استجابة لحيلة ثانية تقترحها العجوز بُغْيَةَ تسمين البنت وإثقال حركَتِها، وحين يطاردها أخيراً ينجح في إمساكها، يعود الفارس بالبنت إلى العجوز التي تتولّى تهذيبَها وإعادةَ تأهيلِها للاختلاط بالبشر، وينتهي الأمر بالفارس أن يتزوج البنت.
وتروي الحكايةُ أنَّ ابنَ الأم التي أنجبت ولداً كَبُرَ وتزوج امرأة مُتسلّطة، وأنّ زوجَةَ الابنِ تشترط عليه أن يصبغ جسد أمّه بالـحِنَّاءِ وأن يجعلها خادمتَهَا وراعيَةَ أغنامِها. تسير الأحداث إلى لحظةٍ نجد فيها الأمَّ نفسها قد أضاعت الطريق إلى البيت لتبقى وقطيع الأغنام تحت وابل المطر حتى تصل إلى أقرب نجع، حيثُ ينصبُ البدو خيامَهم، وكان بمحض الصدفة نجعَ ابنتِها. تتعرّف البنتُ إلى أمِّها، ولا تنجح الأمُّ في التّعرف إلى ابنتها، فتسردُ الأمُّ قصتَها مُظهِرَةً ندمَها. ثم ما يلبث أن يصل الابنُ باحثاً عن الأُمِّ الخادمةِ، تُحسنُ البنتُ ضيافةَ أخيها الذي يجهل هُويَّتَها فتطلب من أحد صبيانها أن يأتي بكبشٍ مَلِيح ليذبَحَهُ وأن يسارع في إحضار "رَحِمِ" الكبش ليُشوى إكراماً للضّيف. يردُّ الصَّبي متعجباً "لكن يا ستّي، الذّكر ما عنداش رحم!"، لكنّ البنتَ تُصرّ طالبةً منه أن يُفَتِّشَ جيّداً في أحشاء الكبش. فيخرج الضّيف عن صمته باستغراب لِيُحَرِّرَ العبارةَ الـمُنتَظَرَةَ "راه صادق يا لِلَّا [سيدتي]، الذّكر ما عنداش رحم"، هنا تردُّ البنتُ "ما دام الذّكر ما عنداش رحم، يبقى أمّي وصلتني، وأنت خوذ شواهيك وعَدّي [خذ أغنامك وغادر]". وبهذه النّهاية يتداخل المفهوم العضويّ للرَّحِمِ بمفهومه الاجتماعيّ، بما يحمله من معنى صَونِ الرَّحِم وصِلتِهِ تنتهي واحدة من أكثر خَراريف طفولتي جاذبيّةً، ربما لِفَرطِ ما ألتقي جدَّتي وأفكارِها ومشاعرِها بين طيّاتها.
جدتي التي عاشت مئة عام كانت تجسيداً لصمود الزّمن ورقة الروح، رغم الصعاب التي مَلَأَتْ حياتها. عاشت آلام العقود الأولى من القرن العشرين بما فيه من ترويع وشتات. وعاشت الحرب الليبية الإيطالية منذ اليوم الأول لدخول قوات الاستعمار الإيطالي مدينة شَحَّات (قورينا) شرق ليبيا في منطقة الجبل الأخضر سنة 1911. وكثيراً ما كانت تسرد لي أحداث تلك الأيام الصعبة بذاكرة متينة بالطريقة ذاتها التي اعتادت أن تسرد بها خراريفها، بعبارات شعرية قصيرة مكثفة تكاد تغيب فيها حروف العطف. وما تزال المشاهد التي اعتادت أن ترويها لي عن تلك الحقبة نابضة في ذاكرتي. أتذكّرُ أحاديثها عن جدتها، وعن صبرها وجلَدِها في الحرب وكيف كانت كبيرة العائلة بهدوء وحكمة، مما جعلني أتخيلها على صورة جدّتي نفسها، كأنما أرواح الجَدَّات تتناسخ من جَدَّة إلى جدة.
كانت جدتي مبروكة تنسج بذاكرتها عالـماً من الخراريف والأحداث التاريخية كأنها خيوطٌ متشابكة. كانت مواضيع خراريفها امتداداً لتجاربها الحياتية، لا يمكنني المرور بخرّافة الرّحم من غير تذكر أن أحد الجروح الغائرة في قلب جدّتي كان فقدانها بناتِها الثلاث قبل أن يصلن سنَّ البلوغ. أذكر أن عينيها قد دَمِعَتا ذات لحظة صفاء قائلة "يانا عاللّي ما عنده بْنَيَّة" وهي عبارة مُفرطة في رِقَّتها يمكن فهمها على أنها شعورٌ بحسرةِ كلِّ مَنْ لا بِنْتَ له.
في خرّافة الرَّحِم يدفعني لفظُ النَّذرِ إلى السُّؤال: لِـمَ يبدو النَّذرُ في الحكايةِ أقربَ إلى القُربانِ منه إلى الصَّدَقَة، فما دواعي تقاطع المفهومين. ألا يقتضي الثَّاني التّنازُلَ عن شيءٍ ماديٍّ لمحتاج إن استجاب الله للدّعاء، بينما يقتضي الأوّلُ التّفريطَ في كائنٍ آخر بِنِيَّةِ التَّقرُّبِ من قوّة عُليا يشعر المرءُ نحوَهَا بمزيج الرّهبة والانجذاب. إذا ما اتّفقنا على الأدوارِ الخفيّةِ التي تضطلع بها لُعبة الحكي في تحريرِ الأحلامِ والمخاوفِ والقيمِ والتّجارِبِ الحياتيّةِ والتّعبيرِ عن المكانةِ، فإنّ موقفَ الجدة الساخر يتجلّى في ثنايا الحكاية حين تُعرّي بعفويةٍ مُبطّنةٍ سخفَ النذر الذي يُفضِّل الذَّكر على الأنثى. يكشف مجازُ الرّحمِ عن عبثيّة هذا الاعتقاد، إذ تقف البنتُ بإصرارٍ أمام فكرة غيابِ الرحم في الذكر، لتقول بمرارةٍ هازئة: "خذ شواهيك وعَدّي".
يحضرني الآن ما وقفت عليه فاطمة المرنيسي، الكاتبةُ والمفكرةُ المغربيّة، في كتاب "نساء على أجنحة الـحُلم"، بالتقاطِها ملاحظةً من بهو الحريم الذي عاشت فيه طفولتَها. تقول إن العمّة حبيبة، المرأةَ التي تكاد تحتكر دور الحكّاءة الأولى في الحريم، تحتفظ بقصّة "المرأة ذات الأجنحة"، التي تطير من الدار حين ترغب في ذلك، لتسردها في المناسبات الكبيرة. تُعَلِّل فاطمة المرنيسي ذلك التّقديرَ لقصّة الأجنحة بأنّ النّساء في الحريم كُنَّ يحلمن بحريّة التّجول في الأزقّة. تتذكّر الكاتبةُ الطّريقةَ التي كانت تتفاعل بها الحريم مع سَرد العمّة حبيبة لتلك القصّة: "تشدّ النّساء تلافيف القفاطين إلى الحزام، ويشرعن في الرّقص فاتحات أَذْرُعَهُن َّكما لو كُنَّ سَيَطِرنَ". تمنحني هذه الملاحظة بعضاً من الشجاعة لتأمّل العلاقة الوطيدة بين تفضيلات جَدَّتي للخراريف التي تسردها، ورغبتها في التعبير عمّا يجول في خاطرها.
قد تبدو لنا خرَّافة الرّحم مثالاً واضحاً لقَصٍّ يحاولُ إنصاف المرأة إنصافاً صريحاً. ولنفهَمَ كيف أُنْتِجَت تلك الغاية لا بد من الوقوف على جوانب أخرى تبدو هامشيّة. ولنبدأ بهذه الملاحظة: تُنصفُ خرَّافةُ الرَّحِم المرأةَ لكنّها في الوقت ذاته توجّه نقداً خَفيّاً لنماذجَ محَدَّدةٍ من المرأةِ. تُسَجِّلُ الخرّافةُ موقفاً من الأمِّ التي تُقِرُّ خِطاباً معادِياً لأنوثتها بتفضيلِ الذَّكَرِ على الأنثى، ومن الزَّوجةِ التي تدفع الابنَ إلى عقوق أمِّه وتطلب منه أن يَصْبِغَ أمَّهُ بالحِنَّاءِ وأن يجعلَها خادمتَها وراعيَةَ أغنامِها. ومع هذا تتبنّى الـمُؤَلِّفَةُ المجهولةُ للـخرَّافَةِ أو المؤلِّفُ المجهولُ، إن وُجدا، بعضاً من خطابٍ يبدو معادياً للأنوثة. فمثلاً حين اقتضى الأمرُ التّقليلَ من رجاحة عقل الابن، أُظهرَ خاضعاً لزوجتِهِ، فهل يَعيبُ خَلَدُ الـخرَّافَةِ على الزّوج طاعةَ الزّوجة، أم أنّه يسجّل نقداً على ضربٍ مُـحدَّدٍ من ضروب الطّاعة تَبَدَّى في امتهانِ الأمِّ. وهل من المصادفةِ أن نجد البنتَ في مشهد ربطها في الغابة تتوسَّلُ أُمَّها بهذه الكلمات "يا يَامْ، نا يوم نَكبَرْ نعاونك! يوم نَكبَرْ نْطَيِّب لِكْ الطّعام ونْكنس دارِكْ ونغسل لِكْ"، أي بالأعمالِ ذاتِها التي باتت الأمُّ تؤديّها في دار زوجة ابنِها، وهي أعمال تُكَلَّف بها البنات ويعفى منها الأولاد الذّكور.
لا بدّ أيضاً من الانتباه إلى إشارةِ صَبْغِ الأمِّ بالحنّاء التي تبدو كأنّها ترسيخٌ لارتباط العبوديّة بلون البشرةِ الغامقِ. وما له من دلالة تحيل إلى علاقات القوّة في المجتمع الذي يحتفظ للرَّجلِ بمكانة أسمى من مكانة المرأة، ويحتفظ للمرأة البيضاء بمكانة أسمى من مكانة المرأة السوداء.
لنمضي الآن خرافة "بو نفّيص" وهي خرافةعن رَجُلٍ له سبعُ زوجاتٍ. ولا بدّ أن يستوقفنا الرّقم سبعة متى اقترن بالزَّواج في ثقافة تُقرّ تعدد الزوجات مُشتَرِطَةً الرَّقمَ أربعة حَدّاً أقصى. قد لا يختلفُ الرّقم سبعة في مقامنا هذا عن الرّقم ثلاثة أو الرّقم أربعين أو غيرهما من الأرقام المتكررة في الحكايات الشعبيّة، والواقع أن كلَّ هذه الأرقام تُحيل إلى الرّقم اثنين فهي لا تقدم لنا إلا نموذجين من الشّخصيّات. في حالة الرّقم سبعة يكون النّموذج الأوّلُ شخصيّةً مستنسخةً ست مراتٍ، وشخصيّةً سابعةً فارقةً هي بطلةُ القصّةِ. في حكاية الجديان السّبعة مثلاً، وهي النسخة اللّيبيّة من حكاية الذئب والخراف السبعة، يأكل الذّئبُ ستَةَ جديان متشابهة تبدو مستنسخة عن بعضها، بينما ينجحُ السّابعُ في الاختباء، ثمّ في مُؤَازَرَةِ أمّه وإنقاذ إخوته من بطن الذّئب.
بالعودة إلى خرَّافةِ بُو نفّيص التي تبدأ بإعطاء الزُّوجِ كلَّ زوجةٍ من زوجاته السّبع تفّاحةً. تأكُلُ كل زوجة من الزوجات الست تفاحتها، بينما تقسم السّابعةُ تفاحَتَها نصفين فتأكل نصفاً وتحتفظ بالآخر. في المساء يطرق بابَها طالبُ حاجةٍ فتعطيه النصفَ الثاني من التّفاحةِ. يأكله ويدعو لها بالخير ثمَّ يمضي في طريقه.
تحبِلُ الزّوجاتُ السّبعُ، ثم تلد كلُّ زوجة من الزّوجات الستّ اللّواتي أكلن تفاحاتِهِنَّ كاملةً ولداً. أما السّابعة التي أكلت نصف تفاحة فتلدُ نصفَ ولد. على طول الحكاية يحاول نصفُ الولد مجاراة إخوته في مغامراتهم بنصف إمكانات، كأنّما يريد انتزاع اعترافٍ كاملٍ من والده الذي يبدو أنه يعترف به نصف اعتراف. عندما يكبر الأولاد يهب الأبُ كُلَّ ابن من أبنائه السّتّة حصاناً، ويُعطي ولده السابع "بُو نفّيص" نصفَ حصانٍ، فيلجأ بونفّيص إلى أخواله فيعطونه كبشاً. يغدو الكبشُ حصانَ بونفّيص في رحلة دراميّة تبلغ ذروتها في مدخل كهفٍ غامض يتّضح لاحقاً أنه كهف الغولة. تستضيف الغولةُ الفتيان السّبعة وتدعوهم إلى المبيت عندها، تُعِدُّ المضاجعَ لهم، وتفرش لبناتها السبع أيضاً، ينتبه بونفّيص أن ملمس الأغطية التي غطَّت بها الغولةُ بناتِها مختلفٌ عن ملمس أغطيتهم، فيقنع قرينَتَهُ أن يتبادلا الأغطية. وحين ينام الجميع تنهض الغولةُ في جنح الظّلام، لتحمل الفتيان السبعة وتضعهم في قِدْرٍ كبير، والواقع أنها قد حملت الفتيان الستة مع ابنتها التي بادلت بونفّيص الغطاء.
ينضجُ الطعام فتضع الغولةُ العشاء لبناتها الستّ وبونفّيص الذي يتحلّق معهن حول القصعة منتحلاً شخصية بنت الغولة السّابعة، وعلى طول ما تبقى من الحكاية يحاول بونفّيص إخفاء شخصيته بصوت بنت الغولة وغطائِها.
هل لنا أن نتخيّل نسخةً من الخرّافة، تنجب فيها الزّوجةُ السّابعةُ بِنْتاً بدل نصف ولد، يبدو الأمر مثيراً في ثقافة تجعل قيمةَ البنتِ نصفَ قيمة الولد، فحظُّ ميراثِ الذَّكَرِ مثلُ حظّ الأنثيين، وعقيقةُ الولَدِ ضِعفُ عقيقةِ البنتِ، وشهادة الذّكر عند القاضي بشهادة امرأتين اثنتين. فهل يمكن أن نتخيّلَ نسخةً أنثويّة من بُو نفّيص. هل يحمل نصفُ الولد هذا على نحوٍ ما شحنةً أنثويَّةً، وإنْ في خَلَدِ الثّقافة التي أنتجت شخصيَّتَه الفريدةَ، وهل من المصادفة أن ينتحِلَ نصفُ الولدِ شخصيّةَ بنت، وأن يلجأ في الرِّحلة التي يكافح فيها بنصف إمكانات عكس إخوته، إلى أخواله لينصفوه كُلَّما جار عليه أبوه، أي أنّه يلجأ إلى الشِّقِّ الأنثويِّ من نَسَبِهِ.
لا أدّعي أنَّ بُو نفّيص رمزٌ موضوعٌ بِوَعْيٍ لغرض الإحالة إلى أنثى. بل أرمي إلى أمرٍ آخرَ يمكن شرحه بالنظر إلى الثنائيَّات التي تُنتَج في متن الخرّافة. وهي هنا الذَّكر في مقابل نصف الذَّكر، والحصان في مقابل نصف الحصان، والتَّقدير في مقابل نصف التّقدير. وهي مُتقابِلات يمكن قياسها على ثنائيَّات أخرى من غير أن يختلّ القياس، أي على الذَّكَرِ في مقابل الأنثى، وسَهمِ الميراثِ في مقابل نصفِ السَّهمِ، وسَهمِ العقيقةِ في مقابل نصف السَّهمِ، وتقديرٍ في مقابل نصفِ تقديرٍ. فهل يمكن القول إن الحكاية التي تنصف القيمةَ التي أنتجتها الثنائيّات الأولى قابلَةٌ لإنصاف القيمة التي أنتجتها الثّنائيّات الثّانية.
في مقامِ افتراضِ أنّ إنتاج الخطاب في كلّ مجتمع إنتاجٌ مُرَاقَب ومُنتَقى ومُنَظَّم ومُعَادٌ توزيعُهُ. يمكن القول إنّ الجَدَّة أو المرأة التي تسرد الخراريف تحظى بامتيازٍ في نظام المراقبة توافَرَ بفضل ضَربٍ من ضُروبِ الطّقوس الخاصّة وهو فعلُ الـحَكي. أي أنّ الـجَدَّةَ في هذا المقام تملك ما يشبه الرُّخصَةَ التي تستمدّ مشروعيّتها من الجمهور. ولا بدّ أن نشير أيضاً إلى تداخل الذّاتيّ والشّعبيّ. فالـخرَّافة بما هي فَنٌّ شفاهيٌّ لا تثبتُ في نصٍّ واحدٍ، بل تتجَدَّدُ في كلِّ مرَّةٍ تأثراً بمناسبة الرّواية وبتدخّل الرّاوية بالحذف والإضافة والتّهذيب، لا سيما الرّاوية المعروفة عند دارسي التّراث الشّعبيّ بالرّاوية الإيجابيّة، التي من أبرز سماتها المقدرةُ الفنيّةُ على الصَّوغ السرديّ، والحسُّ الاجتماعيُّ لاختيار النّص في مناسبته. على هذا النحو تحظى الجَدَّات بسلطة ناعمة وخفيَّة بسرد الخراريف، تعيد تشكيل معارفنا وتفتح أبواباً جديدة لفهم العالم وفق رؤيتهنَّ التي تشاركها نساء المجتمع. ولأنّ من يملك قابليةَ إنتاج المعرفة في مجتمع ما، يملك القدرةَ على تشكيل الخطاب السّائد، ثم السّلطة. ومن يمتلك السّلطةَ وممارسةَ الخطاب يملك بالضّرورة قابليّةَ تشكيل المعرفة. فالجدَّات باحتكارهِنَّ طَقس الحكي يضَعْن أنفسَهُنَّ في قلب المعادلة الدَّوارة.
تحضرني الآن خرَّافتان من خراريف جَدَّتي أعدّهما مثالين جريئين على اضمحلالِ الحيادِ في سرد الجَدَّات: الأولى هي خرَّافة "بُو شْلاد"، والأخرى خرَّافة "أم بريرة".
لا بدّ أن يثير ضربُ الزَّوجِ زوجَتَه استهجاننا. أَمَا وَقَد ضرَبَتِ الزّوجةُ زوجَها، فلن يثير الأمرُ استهجاننا بقدر ما يثر استغرابنا، ولا بدّ أنّ المتلقّي قد شَعُرَ بشيء من طرافة الموقف على ما في الخرَّافةِ من تفصيلٍ مأساويٍّ تَـمَثَّلَ في موت الرّضيع.
إذن، ما الدّواعي الرّمزية لعنف الزّوجة، هل لأنّ حماقَةَ بُو شلاد تستحق أقسى عقوبة يمكن أن تشفي غليل المتلقّي، أم أنَّ الجدّةَ أو المرأةَ التي تروي الحكاية تسجّل موقفاً ناقداً للنّظرة الدّونية للعمل المنزليّ، فتعمدُ إلى انتقامٍ رمزيٍّ من الفجوة الكبيرة بين الإدراك الذّكوريّ والواقع، أم لأمرٍ أعمقَ مرتبطٍ بالدّور الاجتماعيّ، بِمَغْزَى أنّ المرأةَ التي أخذت دورَ الرّجلِ أخذت أيضاً صفة العنف ضِدَّ شريك الحياة، بما تحمل من بُعدِ سَلبيّ. وعليه، فالمرأةُ التي أصبحت رجلَ البيت أدّت الدّورَ بحذافيره، وبما فيه من عنفٍ ذكوريٍّ مُبَرَّرٍ مجتمعيّاً.
تبدو خرَّافةُ بُو شْلاد منحازةً إلى الأنثى، وتَدْعَمُ افتراضاً يفيد أنّها مرويَّة من وِجهةِ نظر أنثى، وأنّها ضربٌ من ضروب المناكفة بين الجنسين. وإلَّا فما ضرورة تجسيد فشل الزّوج ما دامت الغاية إظهار قيمة العمل غير المرئيّ الذي تضطلع به النّساء ونقدِ النّظرة التي تقلّل من شأنه.
لنمضي الآن إلى خرّافة أمّ بريرة، وهي خرّافة ثانية تُعالِجُ سؤالَ الدّور الاجتماعيّ هذا. فعلى خلاف موقف بُو شْلاد، يتذمَّرُ زوجُ أم بريرة من بقائه في البيت دون عمل، ويتأفّف من أخذ زوجتِه دَورَهُ في الاشتغال خارجاً. وحين يطلب منها السّماح له بالخروج نيابةً عنها تُذكِّرُهُ بحقيقةِ فشله المتكرّر. لكنّها تُوافِق على مضض، فتشرح له المهمّة.
تقتضي المهمّةُ أن يسير إلى حديقة في مكان معلوم، وأن يتّجه إلى منتصفها، حيث شجرة وارفة مثمرة. تحذّره من أن يقطف الثّمرة الضّخمة التي تتوسّط الفروع لأنّها لُبُّ الشّجرة، وأنَّ عليه الاكتفاء بجني الثّمار الصّغيرة المحيطة بها. غير أنّ الزّوج ما إن يصل إلى الشّجرة في المكان المعلوم حتّى يطلق اللّازمة التي يكرّرها على طول الخرّافة "عَطِكْ دعوة يا أم بريرة. هذا كبرها وتجيبي غير الصّغار!". يقطف الزّوجُ الثّمرةَ ويضعها في القفّة ويقفِلُ راجعاً. وما إن ترى أم بريرة الثمرةَ في القفّة حتّى تحرّر لازمتَها التي تكرّرها هي الأخرى على طول الحكاية "عَطَكْ دعوة. قطعت رزقي ورزق عيالي!". في اليوم التّالي تتّجه أم بريرة إلى الشّجرة فتجدها وقد استحالت يابسة لا ثمار فيها، فترجع ويبيتون دون عشاء. لا بدّ أن تستوقفنا واقعة الثّمرة التي تبدو نسخةً أنثويّةً من قصّة الخطيئة الأولى، تلك التي يبدو آدمُ فيها مسؤولًا عن قطف الثّمرة المحرّمة بدل حواء.
في اليوم التّالي تخرج أم بريرة للبحث عن الرِّزق في مكان آخر. وفي نهاية الـخرَّافة، تكتشف كهفاً عظيماً لِغُولٍ مملوءاً بالخير الوفير، أي أكياسِ الحبوبِ والـخَضْرَاواتِ والفواكهِ المجفّفةِ وقِرَبِ السّمنِ. تسير أم بريرة كلّ صباحٍ إلى كهفِ الغولِ، مختلسةً حاجَتَهَا من غير أن تثير انتباهه. يُلِحُّ الزوجُ ثانيةً فتصارحه زوجتُهُ أنّها لا تستبعد أن يأكله الغول، أو أن يتسبَّب غباؤه في اكتشاف الغول طريق البيت. ينجح الزّوج تحت وطأة الإلحاح في افتكاك موافقة أم بريرة، وما إن يدخل الكهفَ تحت وقع الدّهشة، يعيد لازمَتَهُ "عَطِكْ دعوة يا أم بريرة. كلّ ها الخير وتجيبي غير شوَيّ!" ينكبُّ الزّوج على جمع الطّعام بلا توقف، وفي لحظة فارقة، يقع الزوج أسيراً في يد الغول. يشير الغولُ إلى قِدْر يُغْلَى ماؤه فوق الموقد، ويطلب من الزّوج أن يطهو نفسَه في ماءِ القِدْرِ ريثما يعود، فيمتثل الزّوج إلى أَمْرِ الغول.
تستشعر أم بريرة تأخر زوجها، فتجري مسرعةً صوب المقبرة ثم تُسرِعُ صوبَ كهف الغول تحمل على ظهرها جثةَ رَجُلٍ حديثةَ الدّفن. في الكهف، تفاجأ بمشهد زوجها وهو يغمس إصبعه في الماء الفائِرِ، وفي كل مرة ينتفض محررّاً لازمَتَهُ "عَطِكْ دعوة يا أم بريرة. كيف تديري، كيف تديري!" هنا تطلب منه العودةَ إلى البيت وتضع الجثة في القِدر لتوهِمَ الغولَ بأنّها جثةُ الزوج، ثم تقفل عائدة إلى أطفالها، ويبيتون بلا عشاء.
تبدو الحكاية متطرّفة في تقزيمِ الزَّوجِ تقزيماً يقطع الحياد. إذ عوضَ الاكتفاء بالإشارة إلى أنّ النّجاح ليس مرتبطاً بجنس الفرد، بل بقدراته وإرادته في مواجهة التحديات، تعكس الخرّافة تقدير النّساء لأنفسهنّ ودورهنّ الحيويّ في الحياة اليوميّة، بإبراز قوّة المرأة وذكائها وقدرتها على التّكيف مع الظّروف المختلفة في مقابل فشل الرّجل الذّريع وإخفاقه في مهام مِنَ المفترض أنّه يضطلع بها، لأنّها من دوره.
أريد أن أقول لجدّتي التي كانت جزءاً من تراث وطني وهُوِيَّتِهِ وبعضاً من طِينِ قَلْبي إنني ممتن لكلِّ اللحظات التي قضيتها متشبّثاً بطيَّات ردائها منصتاً بانتباه إلى خراريفها التي لم تكن وسيلة للتسلية وتقديم الدّرس فقط، بل كانت رِدَاء الـمَجَاز. وكَرِداء القماش اضطلعت خراريف جَدَّتي بدَورين مُتنافرين: لباسِ الاختباءِ، وكساءِ التّعبيرِ عن الذَّات.