يتشكل المشهد الفنيّ السوريّ اليوم باتجاه غير مسبوق من حيث كثرة الإنتاج وارتفاعِ سقف الحرية الناتج عن الخروج من قبضة نظام الأسد. ففي الفن التشكيلي مثلاً، انتشرت في 2012 و2013 صورُ فنانين تشكيليين سوريين على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي بما لم تعهده الساحة السورية كمّاً أو نوعاً. وقد اختلفتْ أشكالُ هذا الفنِّ وتنوعتْ، فبعضُها حافظَ على الطرقِ التقليديةِ مثل لوحاتِ منيف عجاج (2012) في سلسلة تناولتِ الدكتاتور والسجان، وكذلك أعمالِ عزة أبو ربيعة، ولوحاتِ مجموعة "صرخة" لعمران يونس (2017 و2018) ورسوم لمحمد عمران في مجموعته "عالم الرجال" (2018)، وكذلك في أعمال ياسر الصافي ومحفوراتِهِ "الجنرال يدخّن" و"الشارع الآن" بالإضافة إلى صورٍ مركبة لإيمان حاصباني "الانفصال" (2017) وغيرها من التجارب الأخرى التي تفاعلت مع الحدث كتجربة يوسف عبدلكي. لا تكاد ترى في هذه التجارب إلا تمازجاً تمثيلياً لما حدث في سوريا، إذ تبرزُ في هذه الأعمال سوريا المحمولة على الأكتاف، ليس شدواً وإنما ذلك الحمل الذي يُراد به القبر، إذ طغت مسائل مثل الاعتقال والعسكر والمظاهرات والسلاح والدماء والأشلاء وما سينتجه هذا من ظلم وقهر على تلك التجارب.
لا يختلف المشهد الشعريُّ كثيراً عن المشهدِ الفنيِّ. فقد صدرتْ دواوين عدة تحمل خواصَّ شعريّة لا يُمكن التفكير فيها دون حضورٍ للواقع السوريّ اليوم، مثل ديوان "إذا قفزت عن السياج ولم أُصب بأذى" لعمرو كيلاني (2014) وديوان "لم أتمدد يوماً على سكة القطار" لأحمد باشا (2014) وديوان "الدرب مسامير" لمنار سهران شلهوب (2016)، وكذلك دواوين ياسر الأطرش. لقد التزمتْ هذه الدواوينُ فكرةً وموضوعاً بالمأساةِ السورية. فبرزتْ موضوعات مثل الموت والحرب والسلاح والمجزرة في الأعمال الشعريةِ التي صدرتْ بعد سنة 2011. لم يكن حضورُ هذه الموضوعات فحسب هو ما يشكلُ فرادةَ الإنتاج الشعريّ في سوريا وإنما كثافة حضورها، ففي كلِّ مقطعٍ وكلِّ بيت تجدُ سلاحاً ودماءً وأشلاءً: إنه شعر يُعنى بسوريا التي تقع على الجبهة بكلِّ ما تحملها من خوف وخطر، وهي سوريا التي أُفرِغَتْ من أهلها بالخوفِ والرصاص. ها هو أحمد باشا يفتتحُ قصيدتَه الطويلة "إعتام" برصاصةٍ "رصاصة واحدة تكفي" ثم يستعيضُ عن حضن الزوجة بالبندقية: "تنامُ مع بندقيتك، ماذا عن زوجتِك؟"
وللحدث السوري حضور كبيرٌ في المشهد الروائي أيضاً. ولو حاولتُ أن أرسمَ خيطاً أَنظِمُ فيه هذه الأعمالَ بمختلفِ أشكالها لأصنعَ صورةً ومشهداً للمأساةِ السوريةِ لجازَ لي ذلك، حتى مع كوني أتعاملُ مع أشكالٍ تعبيريةٍ تبدو من الوهلةِ الأولى متفرقة عصية عن الجمع. أولاً لأن كلَّ عملٍ من هذه الأعمالِ يغني على ليلى واحدة هي سوريا. ليست البلد الضارب في التاريخِ وإنما سوريا اليوم، الآن وهنا. ثانياً لأن موضوعات مثل العنفِ والموتِ والنزوحِ وتشظّي الأنفسِ تُشكل العمود الأساس لهذه الأعمال، أي أن ما يُحركها هو الاصطدامُ بالمأزقِ الإنسانيِّ. لكن تعاني الروايات السورية الصادرة بعد الثورة من مشكلة طابعها التوثيقي وقربها الشديد من الحدث، مما حال دون ظهور رواية سورية عظيمة من خضمّ ثورة راح ضحيتها الملايين ما بين قتلى وجرحى ومهجّرين. أنتج التعبير عن ويلات هذه الحرب بالروايات جيلاً بنى نفسه من جديد من بين القتل والدمار واتخذ من الكتابة والفن عموماً علاجاً.
قد يؤدي هذا التفاعل إلى ابتكار إمكان جديد للأداء الفني دون أن يرتبط برسالة سياسية أو يقتصر على التدوين والتوثيق. بل يتجاوزُ المأساةَ من كونها نتاجَ ظرفٍ سياسيٍّ ليرتبط بالشرط الإنساني الأعمق. ففي السياق الروائي السوري، نجد أن الأدب الذي أُنتج في المأساة يُعالج هذا الحدث معالجةً معقدة وعميقة، مصوراً المأساة الإنسانية بأبعادها المختلفة. تسعى الروايات السورية التي كُتبت بعد سنة 2011 إلى مجاراة الكارثة محاولةً أن تتحمل ثقل المأساة وتمثل المشهد السوري بصدق. نعم، تقدم الروايات رؤية للحياة تحت وطأة الحرب، وتساهم في بناء ذاكرة جماعية للمجتمع السوري، خالقة مساحة للتأمل والتعافي، لكنها أيضاً افتقرت في سعيها لإنتاج عمل من خضم المعاناة إلى أعمال فنية عظيمة. فهناك، وفيما يبدو، أزمة في تمثيل الحدث السوري.
ويُمكن بعد عرض المشهد الفني السوري عزو هذه الأزمة إلى ثلاثة أسباب: الأول يتعلق بالوسيط، فكثافة اللحظة تثقل كاهل الحامل وتسائل حدوده المعرفية ذاتها لغةً ونصاً أو صوتاً وصورة من حيث قدرته على استيعاب الحدث أو الظاهرة. وعليه، فهناك صعوبة بالغة في التمثيل والتعبير عن الحال. والسبب الثاني هو المجاراة، فالإنتاج الفني السوري لا يضاهي تلك الكثافة لا كماً ولا نوعاً، فكم الأصوات والقصص التي لم تجد أذناً تقع عليها أو روحاً تلهما كبير، وعليه فإن الذين يكتبون قلة، والذين ضاعت حكاياهم كُثر. ولكن مسائل مثل سقف الحرية ومؤسّسات التعليم وأدبيات البعث الرثة التي تربى عليها من قبل جيل الثورة وانعدام الحياة السياسية قد تكون مفتاحاً لفهم هذه المسألة.
أما السبب الأخير فهو طبيعة التجربة الفنية السورية الراهنة نفسها. ففي التجربة الروائية مثلاً، ركزت بعض الأعمال على التوثيق والأرشفة، وعلِقت أخرى في الانفعال والمباشرة. فمما انتبهت له بالمرور على المشهد أن هناك شيء من الاستعجال تتسمُ به العديد من الروايات. وكذلك مما يُمكن ملاحظته الامتهان والاستسهال في كتابة الرواية، فالأول يقتل الصنعة، فيما يقوض الثاني البعد الجمالي ويضعفه. مع أن عبور الحدود وحرية الشكل والامتهان أحياناً ليست بالضرورة صفات سلبية، ولكن الرواية السورية اليوم فنّ لا يجيده كثير ممن يكتبونها ويحسبون عليها. طورت تجارب روائية صيغ تعبير جديدة وحاولت تمثيل المشهد، فحملت بهذا شيئاً من حساسية اللحظة ولو جزئياً، وقد تكون هذه الأعمال حجر أساس لتجربة روائية سورية جديدة.
يفصّلُ الكاتب السوري ياسين الحاج صالح فيما يسميه بعضاً من خصائصِ الكتابةِ السوريّة الجديدة. ويذكر في مقالته المنشورة في موقع الجمهورية "عن بعض خصائص الكتابة السورية الجديدة" أنَّ إحدى أهم خصائص هذه الكتابة هي حرية الشكل، وهذا يُحيل إلى صعوبة تصنيفها: "ليست مقالة رأي، ليست تحقيقاً صحفياً، ليست قصةً، ليست شهادة شخصية، ليست خواطر مرسلة. الكتابة المنظمة ذاتها هي أقرب إلى مزيج من هذه الأشياء". وهو يحيل هنا إلى مرحلة تأسيسية قد تنتج أنماطاً إبداعية متنوعة. لكن ياسين الحاج صالح يخلص إلى أنَّ الأدب بشكل عام والرواية على وجه الخصوص هي التمثيل الأنسب لحرية الشكل الكتابي: "إن الأدب، الرواية بخاصة، هي الشكل الأنسب للكتابة السورية الجديدة. هذا لأن الرواية تستطيع استيعاب صيغ تعبير تتراوح بين التقرير الصحفي والخواطر والقصة والشهادة، وكذلك التحليل الاجتماعي والنفسي، فضلاً عن كونها متعددة الأصوات، وتتيح مساحةً للتأمل الشخصي أحادي الصوت لا تتاح في غيرها".
إذن، نحن أمام محاولة للحكي عن واقعٍ أليمٍ تَتجشمُ عناءها اللغة، وتبدو الرواية الشّكل الأمثل لمحاولةِ الحكي هذه، أمام راوٍ يروي لنا حكاية حدثٍ واقعي. حدثٌ نراه رأي العين مباشرةً أو بالصوت والصورة الوسيط الأكثر مباشرة من اللغة. ولكن اللحظة السورية بكثافتها تُحيل إلى الخيال بأشكاله والأسطورة، ليس لأننا تخيلناها، بل لأنها معقدة جداً لتوصيفها بالكتابة، مع أن الرواية هي أفضل شكل فني لتمثيل هذه المأساة.
تطرحُ هذه الوضعية سؤالاً مهماً عن موقع الراوي أو الكاتب، والسؤال يحيل إلى شكل الواقع الذي أمامنا: واقع يتصف بالأصالة والموضوعية أم واقع يتصف بالذاتية؟ على أن الواقعين لا يتعارضان لكن الأصالة أقرب إلى التدوين (إشارة إلى التاريخ الموازي الذي تشكله الرواية) ينشغل الكاتب فيها بالحدث عن ذاته، بينما نكون في الحالة الثانية إزاء تجارب شخصية لها نظرتها الخاصة لكنها قد لا تنجو من الانفعالات.
إن الكتابة عن التجربةِ السورية هنا لا تنفصِل عن الواقعِ الذي حدث ولا عن الذات التي ساهمت بحُدوثه، وفي بعضِ الأحيان عن تجربة الكاتب نفسه. كل هذا يشكّل الحالة الإبداعية السورية الحالية، تجربةٌ تقطع يد النسيان، تعبُر الزمن وعيناها تحدقان على وجلٍ نحو المستقبل.
تطغى حالة التوثيق هذه على المشهد الروائي السوريّ بعد سنة 2011، بل تكادُ تهيمن عليه، فقد اتخذ السرد من التوثيق غايةً بعد أن غلب عليه الخيال الرمزيّ أو التاريخيّ. من الممكن فهم ذلك في سياق محاولة قول ما يحدث أو الحيْلولة دون احتكار السردية عما يحدُث.
في رواية “تقاطع نيران" (سمر يزبك، 2012) التي تحمل أيضاً عنواناً فرعياً "من يوميات الانتفاضة السوريّة" تُؤكد الكاتبة في عملها الغاية التوثيقية، وباستخدامها العنوان الفرعي كأنّها تُبرر ما قد يُثيره العمل الذي يرتبطُ بالمباشرة، كما أنها ترفع عن نفسها حرج التدقيق والمراجعة الذي يمارس عادةً على مثل هذه المحاولات التوثيقية بتبريره أيضاً في بداية العمل حين ذكرت أن العمل ليس توثيقاً مباشراً. لكنه في الواقع ينطوي على شكل من أشكال النقل أو التسجيل المباشر وهنا مثال على ذلك: "اليوم في جمعة العزة، المدن السورية تخرج للتظاهر. أكثر من مئتي ألف متظاهر يشيعون قتلاهم في درعا . . . حمص ثلاث قتلى، وفي اللاذقية قتلى وجرحى".
يُمكن أن نفهم عمل سمر يزبك في سياق سنة 2012 فتلك لحظة سريعة وكثيفة في السياق السوري، وأن كتابة أدبية عن لحظة أنت نفسك تقف فيها ينطوي على مغامرة ما، ففي هكذا لحظة قد يُنتهك خيالك. وأظن أن يزبك كانت تعي هذه المعضلة وهي التي تقول في عملها على لسان الساردة: "يقولون إنّ كتابة الرواية تحتاج إلى خيال، وأنا أقول تحتاج إلى واقع".
إنّ التوثيق لم يكن وليد اللحظة، فقد حافظ على مركزيته حتى في الأعمال المتأخرة إنْ صح التعبير. تتفاوت المباشرة من عمل لآخر، تجده مثلاً في رواية "عمت صباحاً أيها الحرب" (مها حسن، 2017) في مفردات مثل الحراك الثوري، التنسيقيات المحلية، الفصائل، المعارضة والروس، سقوط حلب. وفي رواية "باص أخضر يغادر حلب" (جان دوست، 2019) التي توثق سيطرة تنظيم داعش على مدينة منبج والصعوبات التي عاناها الناشطون بسبب القمع.
ونجد التوثيق في رواية "نزوح مريم" (محمود حسن الجاسم، 2015)، وهي حكاية ترصد صدى المظاهرات في مدينة الرقة وأثرها على البيت الواحد، وقمع الناس، وسيطرة تنظيم داعش على المدينة ومن ثم النزوح الداخلي وطريق اللجوء ومهربيه والبحر ومخيمات اللجوء. هذه الرواية تفتح لنا باباً آخر نحو الأرضية التي تحدث عليها الرواية التوثيقية، فهي تحاول قول كل شيء دفعة واحدة، وهذا أمر يتسرب إلى الرواية حين ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالواقع الذي تُحاول أن تسرده.
الواقع، الذي تقول سمر يزبك إن الرواية تحتاجه، يصبح أحد أكبر مشاكلها الفنية. لا يعني ذلك أن الرواية فنّ غير ملتزم، إنما يكمن الإشكال في شكل الالتزام. فإن كمّ الروايات السورية التي ركزت على الرصد والتوثيق كبير. وهي تشكل مساهمة كبيرة ومهمة في محاولة حكاية ما حدث في سوريا والتفاعل معه. بيد أنّنا إذا فكرنا بالأمر جمالياً وأدبياً فإن التقرير والرصد المباشر قد يسقط عن الرواية بعض خصوصيتها بنزعِ البعد الجمالي عن اللغة بالتقرير والخلط مع اللغة الصحفية. وهذا لا يعني أن لغة الصحافة لا تنطوي على بعد جمالي، ولكن القصد هو أنّنا نتعامل مع مساحتين مختلفتين. ولذلك تلاحظ بالنظر إلى السياق السوري أنّ طيفاً واسعاً من الصحفيين السوريين شرعوا بكتابة الرواية بعد سنة 2011، وهذا أمر لا ينجح في كل مرة. صحيح أن هناك كتّاب نجحوا بهذه النقلة كغابرييل غارسيا ماركيز، إلا أن لغة الكثير من النصوص الروائية السورية تطغى عليها الصبغة الصحفية.
والرواية انتصرت تاريخياً للهامش. وحركة الرواية التوثيقية، إن صح الاصطلاح، حركة مركزية أي أنها تُعنى بالأحداث الكبرى وتوثقها، وبالتالي فإنّها بهذا المعنى توازي عمل المؤرخين والناشطين. بالإضافة إلى ذلك قد يصعب على الراوي الموثق أن يخفف من حدة التوجهات المسبقة لأن المسافة بينه وبين الحدث مرمى النظر وبالتالي فإن الرؤية ضيقة واللغة فضفاضة. نستعيد هنا قول المتصوف النفري الذي جرى مثلاً: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، والعكس صحيح.
تبدتْ الورطة التي وقعت فيها الرواية السوريّة أكثر في ملفٍ كتبته مجموعة واسعة من الروائيين والروائيات السوريين في مجلة "جدلية" عن تجربتهم لإنجاز ملفٍ خاص بالتناول السردي للحرب السورية والعنف من كتابات عدد من الروائيين والروائيات السوريين في زمن الفجائع والقتل. وهو ملف مهم لأنّه أعطى الفرصةَ للكتّاب أنفسهم لتقديم رؤيتهم ومراجعتهم للمشهد.
تقول الروائية هيفاء البيطار عن كتابها "وجوه من سوريا": "للمرة الأولى أترك أسماء الأشخاص كما هي لأحافظ على نضارة الألم". ويقول الروائي إبراهيم الجبين: "فكلما كنت واقعياً أكثر في وصف سيكولوجيا أبطالك، كلما كنت مصوّراً". وتقول ابتسام تريسي: "ليس من السهل أن تعيش الحدث وتكون شاهداً محايداً وتكتب بمنطق من يرى من بعيد، متخلّصاً من أحاسيسك المتناقضة ورأيك الذي كوّنَته المشاهد والأحداث".
يُمكن أن تكون هذه الاقتباسات اعترافات ضمنية بالورطة. فبالرغم من أنهم لم يستطيعوا فصل أنفسهم ولغتهم عن الحدث فقد اختاروا الكلام أمام لحظة كثيفة وثقيلة لابدّ لها من وسيط يحتوي كثافتها وثقلها، وسيط يُوثق ويُؤرشف ويروي حكاية ربما حدثت وربما نُسجت من خيال، لكنها في نهاية الأمر تنطوي على المأساة السورية. وهذا أمر قد تدفع جمالية العمل ضريبته، فلابدّ أن تنطوي اللغة على بعد جمالي يكثف فيما يستطيع خفتها (اللغة) وقصوره أمام واقع فظ وخشن وكثيف. والسؤال هنا إلى أي مدى حملت الرواية السورية هذا البعد؟
إن المثير في حالة خالد خليفة في رواية "الموت عمل شاق"، وهو عمله الوحيد الذي تناول سوريا اليوم، أنّه أضعف أعماله من حيث الصنعة، بيد أن النص في حد ذاته نجح في تكثيفِ حدث سوري تكرر على مدار السنوات الأخيرة. الموت، بدءاً من كثافة العنوان الذي حول الموت إلى شُغل شاق مروراً بإعطاء الجثة حركية وجعلها تلهث إلى قبر يضمُها ويريحُها من صوت الدمار ورائحة الدخان والحديد والبدلات العسكرية ونقاط التفتيش وسماجة الضباط والأقنعة السوداء وأكتاف أثقلت بحملها.
بهذا المعنى استطاع خالد خليفة أن يخلق مسافة مكّنته من تكثيف حدث يُحيط به، وهو أمر ينطوي أيضاً على جانب ذاتي بحت، فقد ذكر خالد أنه استلهم الفكرة وهو في المستشفى من التفكير بما ستؤول إليه جثته بعد أن تعرض لأزمة قلبية. بهذا المعنى ليست أزمة الرواية السورية أزمة علاقة بسياق ذاتي كثيف وسريع فقط، بل ربما هي أزمة صنعة أيضاً.
في نفس السياق، وفي مقالة "الكتابة بين مسافتين" المنشورة في موقع الجمهورية تكتبُ خلود منصور عن خالد خليفة بعد رحيله وتصف لقاءها الأخير به. تتعجبُ وتشتكي في بداية المقال مما تسميه الكتابة والرثاء والمراجعة والتفكير بالرؤى بشكلٍ شبه فوري وآني، بالتزامن مع الحدث أو الكارثة أو الفقد، في حين أنها لم تزل عاجزة عن رثاء والدتها رغم مرور السنوات.
تشير الكاتبة هنا، ولا أدري إن كان ذلك بوعي منها، إلى أن الكتابة عن سوريا أشبه بكتابة النعوات. ونعرف الظروف التي تصاغ بها النعوة: مستعجلة ممزوجة بالانفعال ويجبُ كتابتها، كما أنّها تلتقطُ لحظة زمانية محددة أو تلهث وراءها. صحيح أن هذه الخصائص قد تُسقط الكتابة بفخ المباشرة وربما الابتذال. إلا أن اختزال الكتابة عن سوريا بعد مرور ثلاث عشرة سنة بالموت أمر ينسف الهامش الذي أسست الرواية عليه نفسها، لأن الموت فعل مركزي لا هامشي في سوريا تحديداً، لما كان له من كثافة وسرعة. واشتراط مرور مدة ما عن الحدث لنستطيع الكتابة عنه أمر يجب التفكير به أكثر. فالمسافة التي تحتكم إليها الكتابة بمخيالها أمر يتعلق بالكاتبِ نفسه وكذلك تعاطيه مع الحدث الذي يحاول الكتابة عنه، وخلق المسافة بين الفضاء المكتوب فيه والحدث المُتمثل فيها أمر فيه خصوصية وفرادة.
إن المثير في حالة المحو هذه أنها ستُشكل تجربة كتابة، تُحاول دون النسيان، محاولة للتذكر، شكلاً من أشكال إعادة الرسم تُصدرها التجربة الإبداعية التي تمخضت عن تجربة الفظيع. الموت هنا يختبئ وراء الستار، إنها لحظة ولادة، وذلك الجسد المعذب والمشوه صار طرساً يُكتب عليه، هنا تأخذ الجثة في رواية "الموت عمل شاق" بعداً جمالياً فريداً، إنها تمثيل لسوريا تكتب قصتها بجسدها ويحيط بها الموت وهي ميتة، والأكتاف المرتعشة التي حملتها لا تملك لها إلى أن تُلقي بها إلى القبر.
يُشدد ياسين الحاج صالح على أهمّية التمثيل الإبداعي. فهو يرى أن أخطر ما قد يحدث لمجتمع أو فرد يتعرضُ لتجربة عنف أو فظاعة هو فشله بعد هذا التعرض في تمثيل ما تعرض له. ويقصد بالتمثيل تحويل المعاناة إلى فكرة أو إبداع، لأن الفشل في هذه الحالة يحول هذا المجتمع والفرد إما إلى كائنات خائفة منعزلة أو إلى وحوش كاسرة بأفواه مفتوحة نحو الشر. لأن التمثيل حالة علاجية لوضعية ما بعد الرضّة، أي التعرض لمعاناة ما. فهو إما أن يُعطي الناجي مسافة عن معاناته توفر له نظرة تأمل شاملة تُحوّل رضته إلى إبداع، أو أن يكون التمثيل حيزاً وبراحاً يرتب بتعبير الحاج صالح ما "فَشْكَلته"، أي خربته، تلك التجربة.
إذن نحن أمام جانب ذاتي علاجي تحمله الرواية السورية، يبدع لكيلا يموت، وهو أيضاً مقاوم للموت والزمن، فإذا كان الموت يحصر الإنسان بالوقت، فالإبداع هو حيلة الأخير لفك ذلك الحصار. يموت الناس ويبقى إبداعهم، نحيل هنا إلى الضدية من النسيان، وقد قلنا سابقاً أن هذا فن تعرف الرواية كيف تحمله وتوصله وتصل به.
هذه المحاولة الإبداعية لمواجهة الفظيع لا تنفصل عند ياسين الحاج صالح عن الذاتية. فهي أيضاً منطلق لإعادة اختراع النفس وتغييرها، والتغيير هنا يشير بالضرورة إلى رؤية مستقبلية ما، إن لم تتحقق على مستوى الجماعة، فقد تتحقق، وهذا أضعف الإيمان، على مستوى الفرد، إذا كان هذا الفرد يملك أدوات الإبداع. هناك من يهرب من خرابه إلى الكتابة، وآخر من ذاكرة الدم فيه إلى الفن، ولا ننسى أن هذه الذات بصدد التشكل، فهي ذاتٌ تمخضت عن أهوال التجربة السورية، أو عن أهوال الفظيع، وهي ذاتٌ يجب أن تمثلها التجربة الإبداعية لئلا تموت. يقول ياسين الحاج صالح:
"هناك ذاتٌ جديدة تشكل هذه التجارب ركيزتها، ذاتٌ انخرطت في الصراع وعاشت الخطر، اعتُقلت وعُذبت، كادت تموت، بقيت محاصرة في البلد أو خرجت منه مضطرة. هناك ذوات كثيرة تتحرر أو تصارعُ لتتحرر، تعمل على تحرير نفسها عبر الصراع، وإن يكن غير قليلين منهم خرجوا محطمين بقدرٍ ما منه. رواية حكاية الصراع تساعد في الصراع مع التحطم الذاتي وبناء الذات الجديدة، وكذلك في التقاء شركاء. هذا شيء جديدٌ في سوريا، يُرجَّح له أن يؤسس لجيل جديد من الكاتبات والكتاب، هم صناع الثقافة والتفكير السوري الجديد في السنوات القادمة".
بهذا الوصف نحن أمام ذوات أنتجتها المأساة، وهي الآن تحاولُ تحرير نفسها أولاً ثم ستساهم في تشكل تجربة كتابة جديدة. وبما أننا أمام مأساة تحركها السياسة، فإن الحكي عنها قد يكون بشكل من الأشكال قولاً سياسياً. يقودنا هذا الوصف إلى سؤال كان قد طرحه الباحث الفلسطيني إسماعيل الناشف: ماذا يعني أن نستخدم الرواية أو السينما وما هي الحمولة المعرفية وتبعاتها كقول معرفي سياسي يبدو أحياناً أن له موقفاً جمالياً؟ يفصل الناشف في محاولة الإجابة، أنه في الحالة السورية هناك جدلية نكوص، إذ لا يوجد وسيط (مؤسسات أو قوى اجتماعية) بين النظام والناس. لذا بفقدان هذا الوسيط، أصبح عنف النظام موجهاً إلى المستوى المادي والجسدي الفج والمباشر: الانتقال إلى البرميل هو شكل من أشكال النكوص. يتشكّل هنا مشهد يفوق الوصف. باتتْ اللغة عاجزة وفاقدة للفاعلية تجاه تجربة كهذه، ويقصد باللغة هنا جهاز إنتاج المعنى للحياة، لا يُمكن الاتكاء عليها في حالة إنتاج المعنى من هذه الفظاعة. مجزرة حي التضامن أي لغة يُمكن أن نستخدم لوصفها؟
إن عجز الوسيط هنا هو ما دفع الباحثين والكتاب والناشطين نحو الرصد والتوثيق والترجمة والوسائط الأخرى. استخدام الفن والأدب لإيصال رسائل، وكذلك للتعرية والاتهام في العلن. إذن، كيف يُمكن فهم الفنّ والأدب في هذا السياق للتعبير عن الصراع؟ يرى إسماعيل الناشف أن ذلك يكمن في البعد الجمالي للعمل الفني، فالبلاغ والتعرية لا يستنفذان حمولة العمل الأدبي ما يعني أن هناك إمكان آخر لها، أي أن هناك حمولة أخرى للعمل الفني وهو البعد الجمالي، ليس بمعنى جميل وقبيح، وإنما بما يفتح آفاقاً محتملة للمستقبل، الأمر الذي يسميه ياسين الحاج صالح "خلق حيوات جديدة" ما يعني أن جمالية العمل الفنّي تكمن في الحياة في رفض الموت والنسيان.
في الختام، تُظهر المأساة السورية وتفاعل الفن معها مدى تعقيدها، وبالتالي مدى صعوبة تمثيلها فنّياً. ومن هنا، فإن تميز الألم السوري وأبعاده العميقة والمعقدة انعكس بوضوح على مختلف أشكال التعبير الفني، بدءاً من الفنون التشكيلية والشعر وصولاً إلى الرواية، التجربة التي حاولت بناء ذاكرة جماعية سورية لهذه المعاناة. مع ذلك انطوت التجربة الروائية السورية كما بينّا على أشكالٍ منها التوثيق والأرشفة والصبغة الصحفية، وعلى إشكاليات مثل مسألة قدرة الوسيط الفني على استيعاب الكثافة والوقوع في المباشرة وغياب البعد الجمالي وغيرها. ربما ما يحتاجه الأدب السوري في هذه اللحظة حركة نقدية تأخذ بيد هذه الحركة الأدبية الناشئة إلى آفاق جديدة.