ليبيا: شهادة عبد المنعم الهوني والدور الأجنبي في ثورة سبتمبر 

تكشفُ شهادة عبد المنعم الهوني، الرجل الثالث في انقلاب القذافي، عن تناقض الشهادات التاريخية فيما يتعلّق ببدايات التنظيم الذي سيطيح بالمملكة الليبية.

Share
ليبيا: شهادة عبد المنعم الهوني والدور الأجنبي في ثورة سبتمبر 
اجتماع مجلس قيادة الثورة الليبية في طرابلس، ليبيا (تصوير جينيفيف شوفيل- سيغما عبر خدمة غيتي)

بعد دوامِ يومٍ مدرسيٍّ كنتُ أمشي مع صديق الصِبا الدكتور معتز يوسف الحاسي خارجَيْن من مدرسةِ علي وريّث الثانوية في طرابلس. هَمَسَ لي معتز بقصةِ ضابطٍ اسمُه موسى أحمد. قال إنه كان شريكاً لمعمر القذافي في استيلائه على السلطةِ في سبتمبر عام 1969 ثم قضى في السجنِ سنينَ لتدبيرِه محاولةَ انقلابٍ على القذافي مع ضابطٍ آخَرَ يُدعى آدم الحواز. قال معتز إنّ موسى أحمد قُتِل طعناً قبل أيامٍ في مزرعتِه على طريقِ المطار. وبما أن موسى ينتمي إلى قبيلة الحاسة التي ينتمي إليها والدُ معتزّ، فإنّ هذا كان حاضراً في المأتمِ إذ دخلَ عليهم القذافي معزّياً ومؤكّداً حرصَه على أن ينجزَ التحقيق في الواقعةِ التي أشيعَ أنّها كانت محاولة سرقة. وكانت الظنونُ تحومُ حول القذافي، لأنّ في الطعنِ بشاعةً تنفي نيّةَ السرقةِ، فضلاً عن أن السرقةَ لَم تَقَعْ أصلاً.

لَم تفارقْ ذهني حكايةُ معتز عن موسى أحمد وآدم الحواز. وشعرت فيها بشيءٍ من الإثارة التي يخلقُها الغموض. وكانت سبباً فيما بعدُ في اطّلاعي على أدبيّاتِ المعارَضةِ عن نشأةِ تنظيم الضباط الوحدويين الأَحرارِ واستيلائِه على السلطة، وجُلُّها مبنيٌّ على دعوى صلةِ هذا التنظيم بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وكنتُ آنذاك أتابعُ أسبوعياً على قناةِ الجزيرةِ برنامجَ الصحفيِّ الشهيرِ محمد حسنين هيكل عن تجربةِ حياتِه. وما زلتُ أذكرُ حين وصلَ هيكلُ إلى وقائعِ عام 1969 وأَتى على ذكرِ زيارتِه الشهيرةِ إلى ليبيا بُعَيْدَ نجاحِ الثورةِ في حلقتين كاملتين، خلاصتُهما أن مصر فوجئَت بما وقعَ كما فُوجِئَ غيرُها، وأن لا صلةَ لها بتنظيمِ صغارِ الضبّاط. غيرَ أنه تساءَلَ عن سرِّ نجاحِ الثورة مع وجودِ القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية. وكانت هذه الأحاديثُ سبباً آخَرَ يجذبني إلى هذا الموضوع. 

لَم يمرّ وقتٌ طويلٌ بعد حلقتَيْ هيكل حتى اندلعت ثورةُ السابع عشر من فبراير 2011. ومع أنّي آمنتُ بها بشدّةٍ، إلّا أنّي انتبهتُ إلى التناقضات والمبالغات وغيابِ التجرّدِ في الطوفانِ الهائلِ الذي فاضَ فجأةً؛ أحاديثَ وكتاباتٍ وبرامجَ إذاعيةٍ تتّصلُ بالتاريخ المبكرِ للقذافيّ وتنظيمِه. وفي عام 2012 سألتُ الدكتور محمود جبريل، رئيسَ تحالف القوى الوطنية، في حوارٍ صحفيٍّ عمّا اتّهمَه مناوئوه به من تمجيدٍ للقذافي في أطروحةِ الدكتوراه، فلَم يَنْفِ هذا فحسبُ؛ بل قال إن في الأطروحةِ ما يوحي بأن القذافي كان عميلاً للمخابرات الأمريكية. ولمّا سألتُه عمّا إذا كان مقتنعاً بهذا حقّاً، أجابَ بأنه لا يتصوّر أنّ فتىً في السابعة عشرة قادرٌ على إنشاء تنظيمٍ بكلِّ ذلك التعقيدِ، وكان يعني تكوينَ الخليّة الأُولى لتنظيم القذافيّ المدنيّ في سبها عام 1959، واستَشهدَ استشهاداً غيرَ دقيقٍ بدَورِ المخابرات الأمريكية في الكشفِ عن بعضِ محاولاتِ الانقلاب.

كثيراً ما يستدعي ذهني حديثاً تلفزيونياً سمعتُ فيه المؤرّخَ المصريَّ الدكتورَ عاصم الدسوقي يقول: "مهمّة المؤرّخِ هي التفسيرُ لا الحُكمُ". وأراها عبارةً تَصدُقُ على أَمثالي من هواةِ قراءةِ التاريخِ ولا تَقتصرُ على كُتّابِه، مع تسليمي بأنها عبارةٌ يعسُر الإجماعُ عليها، ذلك أنّ في الإنسانِ رغبةً عميقةً في البحثِ عن المعنى. ولا معنى عند معظم الناس في أن يقضي كَتَبةُ التاريخ ورواتُه، فضلاً عن قرّائه، السنينَ الطوالَ في التدوين والمقارنةِ والتصويبِ والتخطِئةِ والترجيحِ، إنْ لم يكُن ذلك كلُّه سبيلاً إلى إنزال حكمٍ بالمحسنِ والمسيءِ بحيث يكون هو الجائزةَ الوحيدةَ أو العقوبةَ الوحيدةَ لمَن صَنعَت أعمالُهم بالأمسِ عالَمَ اليومِ. ويَصدُقُ هذا الوصفُ في ليبيا على الرائدِ عبد المنعم الهوني، عضوِ اللجنة المركزية لحركةِ الضبّاط الوحدويين الأحرار، والرجلِ الثالثِ في هذا التنظيم الذي استولى على السلطةِ ليلةَ الفاتحِ من سبتمبر عام 1969 وصنعَ لليبيا مصيراً لا تزال حتى يومِنا هذا محكومةً ببعضِ اعتباراتِه.

أَطلَّ عبد المنعم الهوني من قناة "ليبيا الأحرار" شاهداً على عصرِه في سلسلةٍ مطوّلةٍ من برنامج "الشاهد" بدأَت في شهرِ سبتمبر 2023 وبلغَ ما أُذيعَ منها حتى الآن قرابةَ تسعةٍ وعشرين ساعةً تلفزيونية. وتَستمدُّ شهادةُ الهوني قيمتَها من كونِها أطولَ شهادةٍ تلفزيونيةٍ أُتيحَ فيها لأَحدِ أعضاءِ حركةِ الضبّاط الوحدويين الأحرارِ الحديثَ بشيءٍ من التفصيلِ عن نشأةِ هذا التنظيم وتطوّرِه ونجاحِه في الاستيلاءِ على السلطةِ، وعمّا خَفِيَ من علاقاتِ هؤلاءِ الضبّاطِ أوّلَ عهدِهم بتجربةِ الحكم، والتناقضاتِ التي أوجدَتها تلك التجربةُ بين معمر القذافي ورفاقِه في الحركة، إلى أن آلَت الأمورُ إلى سعيِ فريقٍ من هؤلاءِ الرفّاقِ، كان الهوني أحدَهم، إلى الإطاحة بالقذافي عام 1975، في محاولةٍ ارتبطَت بِاسمِ عمر المحيشي، أحدِ أعضاءِ مجلسِ قيادةِ الثورة. وتُعَدُّ تلكَ إحدى أخطرِ محاولاتِ الإطاحةِ بالقذافي طوالَ أَمَدِ حكمِه الذي ناهزَ اثنتين وأربعين سنة. وكان من أبرزِ ما اشتملَت عليه هذه الشهادةُ التاريخيةُ الحديثُ عن حقيقةِ صلةِ التنظيمِ بالقوى الخارجية العربية والدولية، وهي مسألةٌ طالَ فيها الجدلُ وكَثُرَ الأَخذُ والردّ. 


كان عبد المنعم الهوني في العشرين من عمرِه حين قَصَدَ طرابلسَ ملتحقاً بالمتقدّمين لامتحانِ القَبولِ في الكلية العسكرية الملكية عام 1963. وكان يومئذٍ نصيراً لحركةِ القوميين العربِ ومولعاً بجمال عبد الناصر، وساخطاً على مَلِكِ ليبيا إدريسِ السنوسيِّ ونظامِ حكمِه، يُضمِرُ الرجاءَ في أن تكونَ العسكريةُ طريقَه إلى الإطاحةِ بهما. وما كان يدري وهو يصافحُ فتىً يقفُ أمامَه في طابورِ الكشفِ الطبيِّ اسمُه معمّر القذافيّ أنه هو الآخَرُ يُضمِرُ الرجاءَ نفسَه، وأن اليدَ التي صافحَها ستغدو خلال ستّ سنواتٍ أقوى يدٍ بطشاً في القادمِ المنظورِ من عمرِ البلاد.

وُلِدَ الهوني ببلدةِ جنزور في يناير عام 1943 ليلةَ دخولِ الجيشِ البريطاني الثامنِ مدينةَ طرابلس التي تَبعد عن مسقطِ رأسِه سبعةَ عشرَ كيلومتراً. وتَربّى في كنفِ أسرةٍ ريفيةٍ بسيطةٍ شَهِدَ في طفولتِه حماستَها للزعيم الوطني بشير السعداوي، رئيسِ حزبِ المؤتمرِ الذي تمكّنَ من توحيدِ الكلمةِ في غربِ ليبيا على مطالبِ الاستقلالِ والوحدةِ والإمارةِ السنوسيةِ والانضمامِ لجامعةِ الدولِ العربيةِ، قبل أن ينشأَ خلافٌ شهيرٌ بينه وبين المَلِكِ قُبيلَ إعلانِ الاستقلال. ويؤصِّلُ الهوني لجذورِ التمرّدِ في شخصيتِه بحكايةِ خاله أحمد أبو عرقوب، مرشّحِ حزبِ المؤتمرِ المعارضِ للحكومةِ في انتخاباتِ 1952، أوّلِ انتخاباتٍ تشريعيةٍ في الدولةِ الليبيةِ المستقلّة. كان خالُه قد خسرَ مقعدَ جنزور وحُرِمَ تمثيلَها في انتخاباتٍ اشتهرَ أمرُ تزويرِها وكانت سبباً في اندلاعِ الاحتجاجاتِ واضطرابِ البلادِ وترحيلِ الزعيمِ بشير السعداوي. وطالَت حملةُ اعتقالاتٍ خالَ الهوني وأخاه الأكبرَ. وما زال الهوني بعدَ سبعةِ عقودٍ من وقوعِ تلك الحوادثِ يتذكّر باسماً دعواتِ جدّتِه وأُمِّه على المَلِكِ إدريسِ بعد صلاةِ الفجرِ كلَّ صباحٍ. ويرصدُ الهونيُّ هذا الأَثَرَ النفسيَّ العميقَ لتلك الأحداث المبكرة عليه مع صغرِ سنِّه إبّانَ وقوعِها، وهي جزئيةٌ كثيراً ما أهملَها من درسوا جذورَ هؤلاءِ الضبّاطِ وخلفيّاتِهم، فصَوَّروهم كأنّما جاؤوا من الفراغ.

وفي مدرسةِ الزاوية الثانوية تعرَّف الهوني في مطلعِ الستينياتِ على التيّاراتِ السياسيةِ المختلفةِ وانجذَبَ إلى حركةِ القوميّين العربِ، ولَم تنقطعْ صلتُه التنظيميةُ بها إلا بالتزامنِ مع نشوءِ تنظيمِ الضبّاطِ الوحدويّين الأَحرارِ. وكان القذافيّ هو الذي طلبَ من الهوني قطعَ الصلةِ بالقوميّين العربِ التزاماً بالسرّيةِ وتجنّباً لعواقبِ الملاحقةِ التي كانت مصيرَ المنخرِطين في العملِ الحزبيّ. والهوني ثالثُ ثلاثةٍ بدأَت بهم حركةُ الضبّاطِ الوحدويّين الأحرارِ، وقد أتاحَ له القَدَرُ أن يكونَ أبرزَ من قادوا التحرّكَ في طرابلس ليلةَ تنفيذِ الانقلابِ انطلاقاً من معسكرِ بابِ العزيزية. وكانت الخطّةُ في البدايةِ تقضي بأن يبقى الهوني إلى جوارِ القذافي في بنغازي ساعةَ الصفر، لولا أن النقيبَ عبد السلام جلّود، الرجلَ الثانيَ في التنظيم، عارضَ ذلك التحرّكَ واقترحَ تأجيلَه ولَم يَعُد للمشاركةِ فيه إلا قبل ساعاتٍ من بدئِه.

وبخلافِ القذافي الذي كان معجباً بالمغنّي السوريّ فهد بلّان، كان الهوني مغرماً بأمّ كلثوم، وكان هذا مدخلَ الحديثِ بينهما حين فاتَحَ القذافيُّ الهونيَّ في أمرِ التنظيمِ أَوَّلَ مَرَّة. جلسَ الهونيُّ ساعةَ استراحةٍ إلى جوارِ القذافيّ وسألَه: "هل استمعتَ البارحةَ إلى حفلِ أمّ كلثوم؟" فأجابَه القذافي: "احْنا في الهَمّ والّا في أمّ كلثوم". وحين تماشَيا ليشرحَ القذافيّ لصاحبِه معنى كلمةِ "الهمّ" كانت تلك عمليةَ التجنيدِ الأُولى في التنظيمِ، هذا إن استثنَينا جلّود الذي كان يطمحُ إلى أن يصيرَ طبيباً وما التحقَ بالكلية العسكرية إلا بسعيِ القذافيّ وإلحاحِه، فقد كان الرجلان صديقيْن قبلَ التنظيم. وإذا سلّمْنا بقولِ الهونيّ أنّ القذافيّ شرعَ في التجنيدِ للتنظيمِ منذ الشهرِ الثاني للدراسةِ، فإنه يكونُ قد حدّدَ بروايتِه دون أن يقصدَ اليومَ الذي بدأَ فيه التجنيد في الحركة، فيكون ذلك اليومُ هو السادسَ من ديسمبر عام 1963. فمنذ أكتوبر 1963، أي الشهرِ الذي بدأَت فيه الدراسةُ، لم يكُن لأُمّ كلثوم أيّةُ حفلةٍ حيّةٍ سوى حفلةِ الخامس من ديسمبر، وفيها غنّت أَوّلَ مَرّةٍ "كلّ ليلة وكلّ يوم" و "أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي".

وعلى ما لِلتقدّم في العمرِ من أثرٍ واضحٍ على تذكّرِه التواريخَ وبعضَ الأسماءِ، فإن الرجلَ بدا حاضرَ الذهنِ وهو يجيبُ أسئلةَ مقدّمِ البرنامجِ خالد سعيد بأدبٍ جمٍّ. وكان دقيقاً في رسمِ صورٍ للشخصيات التي أَتى على ذكرِها، متحلّياً بصبرٍ نادرٍ إزاءَ محاورِه الذي لَم يَلتزم الحيادَ المهنيَّ، بل أسرفَ في الوعظِ والتذكرةِ، وأضاعَ وقتاً طويلاً في السجالِ الأخلاقيِّ الذي لا صلةَ له بالتأريخِ.

لا تزال على محَيّا الهوني مسحةُ طفولةٍ. وفي صوتِه نعومةٌ لا تنحدر إلى الميوعة. صوتُه ثابتُ الطبقةِ نادرُ الانفعالِ، وحديثُه بطيءُ الإيقاعِ، كنتُ أضاعفُ سرعتَه مصغياً إليه على منصّة يوتيوب. وإذْ ناهزَ مُقامُه في مصر نصفَ قرنٍ ابتداءً من عام 1975، فإن هذا قد فَعَلَ فِعلَه في لكنتِه التي امتزجَت فيها المصريةُ بالليبيةِ، فأمسى لسانُه حائراً بين اللهجتَين. وكانت مرارتُه جليّةً وهو يتذكّرُ تعريضَ الناسِ بمحمود المغربيّ، أَوّلِ رئيسٍ للحكومةِ بعد الفاتحِ من سبتمبر، لأنّه لَم يكُن ليبيَّ اللهجةِ. وتذكَّرَ حينَها أختاً له كانت كثيراً ما تنهرُ ابنتَه حين تزور ليبيا لأنها تتكلّم باللهجةِ المصريةِ حتى نَفّرَت الصبيّةَ من زيارةِ وطنِها، وربما كانت تلك أقصى درجاتِ انفعالِه العاطفيِّ في جميع الحلقات. وكنتُ أظنُّ نظّاراتِ الهوني السودَ في صورِه القديمةِ جزءاً من الصورةِ النمطية للشخصية المخابراتية، حتى قرأتُ ما كتبَه فتحي الديب، رئيسُ دائرةِ الشؤون العربية في جهازِ المخابرات العامة المصرية في كتابِه "عبد الناصر وثورة ليبيا" عن مرضٍ في عينَي الهوني كان يَستحوذُ على جزءٍ كبيرٍ من حيّزِ تفكيرِه. ورَوى الهوني في برنامجِ الشاهد أنه أصيب أواخرَ أيامِ الدراسة العسكرية في إحدى عينيه إصابةً بالغةً أَوجبَت عنايةً خاصّة. وتكرّرَت الإشارةُ إلى ذلك فكأنّما أكّدَ هذا التكرارُ ملاحظةَ الديب الذي وصفَ الهوني أيضاً بأنّه يتحلّى بدماثةِ الأخلاقِ وهدوءِ الطباعِ والذكاءِ الواضحِ وروحِ المرحِ، وبأنه كتومٌ لا يَثِقُ بيُسرٍ فإن وَثَقَ فتحَ بابَ قلبِه على مصراعَيهِ. ولعلَّ هذه الخصلةَ الأخيرةَ هي ما يفسّرُ السرعةَ التي استجاب بها الهوني للقذافي في قبولِ خوضِ مغامرةٍ خطيرةٍ كمغامرةِ تأسيسِ تنظيمٍ داخلَ الجيشِ يسعى إلى قلبِ النظامِ الملكيِّ ولَم يَكَد ينقضي شهران على الشروعِ في الدراسة. 

تقلّدَ الهوني إدارةَ المخابرات العامة ووزارتَي الداخلية والخارجية بين عامَي 1969 و 1975. وما أكثرَ ما تبدّلَت في حياةِ الرجلِ الظروفُ والأحوال. مِن العملِ السِرّيِّ إلى قلبِ لعبةِ السياسة داخلَ مجلسِ قيادة الثورة، ومِن المنفى الاختياري والمعارضةِ ابتداءً من منتصفِ السبعينيات إلى الصلحِ مع صديقِه وغريمِه القديمِ معمّر القذّافي، والعودةِ لتمثيل نظامِه ممثّلاً دائماً لليبيا في جامعة الدول العربية مع نهاية الألفيّة. حتى إذا جاء الفصلُ الأخيرُ من عمرِ نظامِ القذّافي أعلنَ الهوني تأييدَه لثورة السابع عشر من فبراير، فكان مِن أوائلِ الدبلوماسيّين الذين استقالوا من وظائفهم. وكاد أن يعقبَ هذه الفصولَ فصلٌ جديدٌ حين قَدّمَ الهوني أوراقَ اعتمادِه مرشّحاً لانتخاباتِ الرئاسةِ التي كان مزمعاً إجراؤها في ديسمبر 2021، غيرَ أنّه فضلاً عن فرصِه شبهِ المعدومةِ في الفوزِ بالرئاسةِ، فإنها انتخاباتٌ وئِدَت في مهدِها ولَم يُسمَحْ للشعبِ الليبيّ أن ينجزَها.

ولِحساسيةِ المناصبِ التي تقلّدَها الهوني في السنواتِ الستِّ الأُولى من العهدِ الجمهوريِّ لا سيّما في المخابراتِ والداخليةِ لَم تَخْلُ شهادتُه من نَفَسِ المرافعاتِ التاريخية. ومِن ذلك نفيُه أيّةَ مسؤوليةٍ عن اعتقالاتِ عامِ 1973 التي تَلَت خطابَ زوارة، وهو خطابٌ شهيرٌ يُعَدُّ في جوهرِه انقلاباً قادَه القذافي على مجلسِ قيادة الثورة لتفريغِه من محتواهُ وجعلِه صورةً ميتةً لا روحَ فيها. وكان المتّفقُ عليه بين أعضاءِ المجلسِ أن يقدّمَ القذافيّ أثناءَ هذا الخطابِ استقالتَه أمامَ الشعب. وبينما كان الهوني ورفاقُه ينتظرون الاستقالةَ على الهواءِ، إذْ بالقذافيّ يعلنُ ثورةً شعبيةً ويعطّلُ القوانينَ المعمولَ بها كافّةً ويعلنُ الحربَ على الحزبيِّين. وصَوّرَ لنا الهوني الهشاشةَ التي وَصَلَ إليها المجلسُ في وقتٍ قصيرٍ من ممارستِه الحكمَ، فقال إنه –وهو مديرُ المخابراتِ العامّةِ– كان يتلقّى الأخبارَ من الشارعِ بعد أن أصبحَ القذافيّ يستعينُ بالمدنيِّين والمخابراتِ الحربيةِ. وتحدَّى الهوني أن يقولَ قائلٌ إنّ المخابراتِ العامّةَ على عهدِه اعتَقَلَت أو حقّقَت أو حَبَسَت، وحَصَرَ عملَها في التوثيقِ والمتابعة.

وعلى ما كان بين القذافيّ والهونيّ من خصومةٍ طويلةٍ، فإنّ هذا لم يحمل الهوني على الشططِ في الحكم. وقد نجحَ في أن يتّخذَ موقفاً لا يخفى فيه الإنصافُ، لا في ما يتّصلُ بالقذافيّ فحسبُ، بل في ما يتّصلُ بالنظامِ الملكيِّ الذي انقلبَ عليهِ، وما زال مصرّاً حتى هذه اللحظة أنّ تغييرَه كان ضرورةً.

ونَفَى الهوني في شهادته وجودَ خليّةٍ مدنيةٍ متأثّرةٍ بحركة القوميين العرب قبل بدءِ التنظيم العسكري. ولا ريبَ في ذلك حالياً، لا سيّما بعد شهاداتِ جلّود ومحمد بلقاسم الزويّ، آخِرِ أمينٍ لمؤتمر الشعب العامّ في عهدِ القذافيّ وعضوِ الخليةِ المدنيةِ الأُولى التي تشكّلَت عامَ 1959. فيرى الهوني أن القذافي لم يبدأ الحديثَ عن هذا التنظيم سوى بعد محاولةِ عمر المحيشي سنة 1975، وأن هذا كان جزءاً من إعادةِ نسجِ الحكاية حتى تتّسقَ مع المرحلة التي تَلَت إحباطَ المحاولةِ التي تورّطَ فيها ثلثُ أعضاءِ مجلس قيادة الثورة. ولنا أدلّةٌ جليّةٌ على بطلانِ هذا الرأيِ، منها كتابُ الصحفيةِ الإيطاليةِ ميريلا بيانكو "رسول الصحراء" المنشورُ في طبعتِه العربيةِ عام 1974. 


ولَئِن اشتملَت شهادةُ الهوني على قدرٍ نافعٍ من المعلومات، لا سيّما في وصفِ العلاقةِ بين نظامِ الفاتح من سبتمبر وبين الدولِ الكبرى والقوى الإقليمية. وفي نشوءِ الصلةِ بين النظام وما سُمّيَ "حركات التحرر العالمية"، ودورِه هو شخصياً في الاتصالِ بالجيش الجمهوري الإيرلندي الذي كانت ليبيا تدعمُه في مواجهةِ بريطانيا، والمحاولاتِ الانقلابية الكبرى والمحطاتِ الفارقة كإجلاءِ القواعد العسكرية الأجنبية والمستوطنين الطليان وتأميمِ النفط، وفي رصدِ شخصيةِ القذافي وتغيّرِها زمناً بعد زمنٍ، وفي وصفِ أبرزِ رجالات النظام وعلاقاتِ بعضهم ببعض. إنّ أهمَّ ما اشتملَت عليه هذه الشهادةُ هو أنها تمسّكَت بتبرئةِ حركة الضباط الوحدويين الأحرار من تهمةِ الصلةِ بالأجنبيّ، لا سيّما الولايات المتحدة وبريطانيا.

والدلالةُ البالغةُ لهذا الأمرِ ترجعُ إلى أن الهوني لَم يستنكفْ أن يعترفَ في شهادتِه بأنه أَبدَى استعداداً للتعاون مع الاستخبارات الأمريكية لإسقاطِ القذافي. فحكى قصةَ لقاءٍ جَمَعَه في الرباطِ أوائلَ الثمانينيات مع مندوبِ وكالةِ الاستخباراتِ المركزية الأمريكية، وكان ممّن عمِلوا سابقاً في ليبيا. يقولُ الهوني إنّ المندوبَ بادَرَه أوّلَ ما رآه قائلاً : "أنت سببُ كلِّ ما حصلَ، لأنك كنتَ تشدّدُ علينا الرقابةَ حين كنتَ مديراً للمخابرات، وإلّا لأسقطناه مبكراً". ويضيفُ الهوني أنه ردَّ على المندوبِ قائلاً بأن "الوقتَ لم يَفُتْ بعدُ فلنعملْ على إسقاطِه الآنَ". وهذه الروايةُ على وجه الخصوص قد تكون مِن أخطرِ ما أَتَى على ذكرِه الهونيُّ في شهادته. ولَم يكن قد تطرّقَ إليها صراحةً في أيّةِ شهادةٍ سابقةٍ مكتوبةٍ أو مرئيّةٍ. ومن ذلك حواران شهيران أَجراهما معه الصحفيُّ اللبنانيُّ الشهيرُ غسان شربل عامَي 1995 و2011 ونُشرا معاً في فصلٍ واحدٍ من كتابِه "في خيمة القذافي" في يناير 2012. كان الهوني قد ذكرَ لغسان شربل تلميحَ القذافي في أوّلِ لقاءٍ بينهما بعد القطيعة عام 1988 إلى علاقةٍ تربطُ الهوني بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأن القذافي قال له ما مَعناه إنهم سيستخدمونه ثم يرمونه كورقِ المرحاض. غيرَ أن الهوني أمسكَ عن الحديث في هذه الصلة –فيما نُشِرَ منه على أقلّ تقدير– فما نفاها ولا أكّدَها كما صنعَ في شهادتِه الأخيرة. أمّا وقد أكّدَها الآنَ فما الذي يجعلُنا نَفترضُ أنّ الهوني يَستتِرُ على صلةٍ أمريكيةٍ بحركةِ الضباط الوحدويين الأحرار لو كان شاهداً عليها؟

في ساحة الكتابة التاريخية الليبية تيّارٌ يبذل وسعَه منذ عقودٍ في لمّ شتاتِ القرائن التي تتفاوت ضعفاً وقوّةً محاولاً إثباتَ الدور الأجنبي في حركة الفاتح من سبتمبر. وإمامُ هذه المدرسةِ من المشتغِلين بالتأريخ هو الدكتورُ محمّد المقريف، مؤسسُ الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، أخطرِ التنظيماتِ التي ناهضَت القذافي وهدّدَت نظامَ حكمِه، وأَوّلُ رئيسٍ للمؤتمر الوطنيّ العامّ الذي انتُخِب بعد ثورة السابع عشر من فبراير 2011، وأحدُ الذين قدّموا شهاداتِهم المتلفزةَ مفصّلةً في هذا البرنامج وفي غيره. وحين كان الدكتور محمد المقريف ضيفاً في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة عام 2019 أفاضَ في الحديث عن الدورِ الأمريكيِّ في انقلابِ سبتمبر كما صنعَ سابقاً في كتاب "انقلاب بقيادة مخبر" الذي تعوزُه دِقّةُ المعلومات. وخلاصةُ روايةِ المقريف في كتابه هذا وفي شهاداته المتلفزةِ أن القذافي كان مخبراً لدى دوائرِ الأمنِ في العهدِ الملكيِّ وأن ديفيد نيوسوم، السفيرَ الأمريكيَّ في ليبيا بين عامَي 1964 و1969، هو صانعُ انقلابِ سبتمبر وراعي معمّر القذافي، المخبرِ الذي دُفِعَ إلى الالتحاقِ ضابطاً في الجيش. وتُناقِضُ هذه الفرضيةُ إفاداتِ كلِّ من أدلَوا من قبلُ بشهاداتِهم من أعضاءِ التنظيمِ. بل إنها تُناقضُ كذلك كلَّ ما رُفِعَت عنه السِرّيةُ حتى الآنَ من وثائقَ أمريكيةٍ بموجبِ قانونِ حرّيةِ المعلومات. ومِن أعضاءِ التنظيمِ الذين كتبوا عن تجربتِهم عبد الكبير الشريف في كتابِه "جانب من قصة الثورة الليبية"، وعبد الله الحجازي في كتابه "يوميات شاب في الستينات"، وأحمد محمود في كتابه "سيرة من أجل ليبيا"، وعبد السلام جلّود في سيرته الذاتية التي سمّاها "الملحمة". ومن الأعضاءِ أيضاً من تناولَ شيئاً من تفاصيلِ تلك المرحلةِ في مقابلاتٍ متلفزةٍ كعبد السلام جلّود وعوض حمزة وبشير هوادي وخليفة حفتر وعمر الحريري وخليفة مصباح.

وكان مشروعُ التاريخِ الشفويّ الأمريكيّ قد أَجرَى عامَ 1991 حواراً مع ديفيد نيوسوم، السفيرِ الأمريكيِّ قبل الأخيرِ في العهدِ الملكي. وفي ذلك الحوارِ سُئلَ نيوسوم عن معرفتِه بتنظيم القذافيّ قبل تنفيذِ الانقلابِ، فأكّدَ أن الأمريكيين لم يَعلموا بوجود التنظيم، وأنّ ما حصلَت عليه وكالةُ المخابراتِ المركزية الأمريكية من أخبارٍ لا يعدو بعضَ المعلوماتِ عن تنظيمٍ آخَرَ يلتفُّ حولَ العقيدِ عبد العزيز الشلحي، أقوى رجلٍ في الجيش والمقرّبِ من المَلِكِ إدريس، وأنّ هذا التنظيمَ أيضاً بُوغِتَ بانقلابِ القذافي.

ولا يعني إصراري على رفضِ ما لم يَقُمْ برهانٌ على وقوعِه أنني لا أَعِي مساوئَ عهدِ الاستبداد. فلا يُعفي القذافيَّ من مسؤوليتِه التاريخية عن تفريغِ الدولة من محتواها وعن تاريخٍ طويلٍ من امتهانِ كرامةِ الإنسان ومن العبثِ والفوضى والشذوذ، أنَّ حركتَه كانت ليبيةً محضةً لا صلةَ لها بالغرب.


لَم يُتِمّ الهوني شهادتَه حتى هذه اللحظةِ، وما زال مِن أعضاءِ حركةِ الضباط الوحدويّين الأحرار نفرٌ غيرُ قليلٍ في صحّةٍ طيّبةٍ لكنّ معظمَهم يؤثِرُ الصمتَ. رأيت مؤخراً الرائدَ مختار القروي، عضوَ مجلس قيادة الثورة، يتمشّى في المدينة القديمة بطرابلس، ورأيتُ اللواءَ أحمد عون في محاضرةٍ بطرابلس للمؤرّخ سالم الكبتي. وبعثَت رؤيتُهم في صحّةٍ طيّبةٍ أملاً في أنّ تفاصيلَ كثيرةً عن حركةِ الضباط الأحرار قد تَخرجُ إلى النور ممّن بقيَ حيّاً من أفرادها. 

وفي ليبيا تجربةٌ ضخمةٌ في مجال جمعِ التاريخ الشفهي شَرَعَ في إنجازها المركزُ الوطنيُّ للمحفوظات والأرشيف والدراسات التاريخية، الشهيرُ بِاسمِ مركزِ الجهاد، منذ أواخرِ السبعينيات. وأسفرَت عن ثروةٍ تاريخيةٍ شفويةٍ تتّصلُ بتاريخِ حركة المقاومةِ خاصّةً والتاريخِ المعاصرِ عامّة. تزيدُ الموادُّ عن عشرةِ آلاف شريطٍ من المقابلاتِ التي أُجريَت مع عددٍ ضخمٍ من رجالِ المقاومةِ الوطنية والسياسيين وعلماء الدين والمثقفين والأعيان، غطّت بقاعَ ليبيا. وقد قال جان فانسينا، عالِمُ الإناسةِ البلجيكيُّ والأبُ الروحيُّ للتأريخِ الشفويِّ في أفريقيا، إنه مشروعٌ لا مثيلَ له في العالَم. ولمّا كانت الوثائقُ الرسميةُ للدولة الليبية على حالها الراهنةِ من السوءِ حفظاً وترتيباً وإتاحةً للباحثين، فإن الشهاداتِ المكتوبةَ والمسموعةَ والمرئيةَ كشهادة الهوني وغيرِه وأشرطةِ مركز الجهاد تعوِّضُ شيئاً من هذا النقص. والشهادةُ التاريخيةُ حتّى إن شابَتْها العيوبُ، سواءً بسبب الهَوى وتعمّدِ التضليلِ أو بسببِ النقص البشريّ الطبيعيّ، لا تخلو من فائدة.

اشترك في نشرتنا البريدية