إلا أن تجربة قراءة "الشوك والقرنفل"، المنشورة في 466 صفحة، بمثابة الاستماع إلى تعليقه الصوتي للحرب الدائرة فى غزة. وهي كل ما بين يدينا من كلمات كتبها عن نفسه، في الوقت الذي تُطمس فيه الرواية الفلسطينية لواقع الحرب والاحتلال الإسرائيلي وحتى تاريخ القضية الفلسطينية ذاتها. وفي حالة السنوار، فهي الرواية التي استُبعدت من التحليلات الغربية المكثفة التي نشرت مؤخراً عن شخصه، ما عدا إشارات قليلة إليها.
في السادس من أغسطس 2024، تحول الاهتمام بالسنوار إلى هوس بعد إعلان حماس اختياره رئيساً لمكتبها السياسي، بعد خمسة أيام من اغتيال سَلَفِه إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران. فازدادت التقارير الإعلامية الغربية عن سيرته مستمدةً معلوماتها وتحليلاتها الأساسية من مصادر استخباراتية إسرائيلية، منهم الطبيب الذي عالجه في السجن. أبرزها كما جاء في أهم الصحف الغربية ما يؤكد صفات تكاد لا تَفصِلُ من إفراطها بين الشيطنة والاعجاب بقدراته الخارقة.
في تلك التقارير يظهر السنوار ابن الاثنين والستين عاماً بصورة أسطورية. إذ وصفته أهم المؤسسات الصحفية الغربية، مثل مجلة نيويوركر وصحيفة نيويورك تايمز، بكلمات تراوحت بين الدهاء والمكر والذكاء والقسوة والشر والثبات والبرود والجَّلَد والقدرة على القتل. وردّدت روايات إسرائيلية عن تفنّنه في تعذيب الفلسطينيين المتهمين بالعمالة للاحتلال بسكب الرمل بملعقة داخل فم أحدهم لإجباره على الاعتراف على شقيقه المشبوه، أو بقطر الزيت المغلي على رؤوسهم، وتنفيذ إعدامات لا حصر لها بحق من اعترفوا بالعمل لصالح الأجهزة الإسرائيلية، سواء بخنقهم بيديه أو قطع رؤوسهم بالمنجل. ولعل القصة الأكثر شيوعاً في هذا السياق هي ما يُتداول عن قيام السنوار بدفن عميلٍ حيّاً.
بات تاريخ حماس، الذي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، يُعَنوَنُ بالسنوار في وسائل الإعلام الغربية، فانكبّ الصحفيون على متابعة وتحليل أرشيف خطاباته العامة القليلة المتاحة على الإنترنت محاولين فكَّ شفراتِها ورموزها وربطها بعملية طوفان الأقصى. غلبت على هذه التحليلات نظرة غربية تعدّ الخطاب الفلسطيني وخاصة خطابات قادة حماس، غامضاً وغريباً، وتفسره دون فهم عميق للسياق الثقافي العربي. يُنتج ذلك رؤية غربية استشراقية للخطاب الفلسطيني، خاصة ذلك الصادر عن قيادات حماس، والذي يتضمن مفردات من القرآن وهو أمر شائع حتى في خطابات الرؤساء العرب ومنهم بعض المتحالفين مع إسرائيل.
وفي جلّ هذه التحليلات عن السنوار نادراً ما يُستعان بقصته التي كتبها عن نفسه في روايته "الشوك والقرنفل" مع أنها أكبر وثيقة تسجّل سيرته في سياق الصراع العربي الإسرائيلي الممتد عقوداً. وكما أثبتت حرب غزة الحالية أن اقتلاعها من سياقها التاريخي والزمني يشوه حقيقة الوقائع التي أدت إليها، لا يمكن ادعاء محاولة فهم شخصية الرئيس الجديد للمكتب السياسي لحركة حماس دون التوقف عند روايته التي تستعرض البيئة التي صنعته، هو وجيله من قادة حماس في غزة، في أحداث أربعة عقود من الاحتلال الإسرائيلي.
أمضى يحيى السنوار، الذي وُلد في مخيم خان يونس وسط قطاع غزة عام 1962، حياته منخرطاً في النشاط السياسي والمقاومة. انضم إلى حركة حماس منذ نشأتها، وتولى فيها مسؤولية منظمة الجهاد والدعوة، أو "مجد" اختصاراً، وهي المنظمة التي كُلِّفت بتتبع وتصفية عملاء الاحتلال. ولا تتوفر معلومات كثيرة عن تاريخه السياسي قبل ذلك، سوى نشاطه الطلابي المكثف في الجامعة الإسلامية بغزة، حيث تخرج بدرجة البكالوريوس في اللغة العربية. وبين نشاطه الطلابي وتأسيسه "مجد"، التي شكلت نواة جهاز حركة حماس الأمني، توجد فجوة معلوماتية إزاء التحوّل الذي أهّله من أروقة الجامعة لتولي هذا الدور الحساس في الحركة. وفي عام 1989، اعتقلت قوات الاحتلال السنوار، وحُكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات بعد إدانته بقتل أربعة فلسطينيين متهمين بالتعاون الأمني مع الاحتلال، ليقضي اثنتين وعشرين سنة من عمره متنقلاً بين عدة سجون إسرائيلية، إذ اعتُقل وهو في السابعة والعشرين من عمره وخرج من السجن وهو على مشارف الخمسين.
بدأ السنوار حياة جديدة في السجن لم تقل جرأة وطموحاً عن حياته خارجه. تعلم العبرية إلى درجة أهلته لترجمة كتب منها إلى العربية، وإن طالت مُدد الحبس الانفرادي التي عوقب بها. ثم قرر خوض تجربة جديدة فبدأ في كتابة روايته الأولى، التي انتهى منها بعد خمس عشرة سنة في السجن. نجح السنوار، بمساعدة عشرات الأسرى الذين عملوا مثل خلية نمل، على حد وصفه، في تهريب الرواية على أجزاء إلى خارج السجن، بعد نسخها بعيداً عن أعين إدارة السجن، لتظهر للنور وتبرهن على أن التشديد والبطش الأمنيين داخل السجون لم يمنعا الأسرى الفلسطينيين من ابتكار سبل شتى لتهريب ما يريدون. وأبرزت الرواية مركزية السنوار وثقله داخل مجتمع الأسرى الفلسطينيين وفي حركة حماس منذ عقود طويلة. ونشرت الرواية سنة 2004، ثم عكف بعدها السنوار على إعداد كتابه الثاني "المجد"، الذي يتناول طريقة عمل جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" والاغتيالات التي قام بها ضد قيادات المقاومة، وهو الكتاب الذي صدر سنة 2010.
أُطلِق سراح يحيى السنوار سنة 2011 في صفقة تبادل أسرى، أُفرج فيها عن ألف معتقل فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي اختطفته سنة 2006 مجموعة مقاتلين من حركات المقاومة بينهم شقيق السنوار الأصغر محمد، القيادي في كتائب القسام. تولى السنوار بعد خروجه من السجن مناصب مهمة داخل حركة حماس، لكنه لم يكن من الوجوه التي تصدرت المشهد إعلامياً خلال فترة الربيع العربي. وفي عام 2017، انتخب السنوار رئيساً لفرع حماس في غزة. وكان من تداعيات ذلك خروج إسماعيل هنية، الذي كان على رأس الحركة في القطاع مع آخرين من قياديي حماس ليستقروا في العاصمة القطرية الدوحة.
تحكي رواية "الشوك والقرنفل" قصة أسرة فلسطينية تقيم في مخيم الشاطئ شمال قطاع غزة، بعد أن هُجر الجد إليها من قرية الفالوجة بعد أن احتلّتها الميليشيات الصهيونية عام 1948. تستعرض الرواية على لسان أحمد، الحفيد الأصغر لهذا الجد، حياة الأحفاد الذين ولدوا وشبّوا في مخيمات غزة للاجئين عقب النكسة، بعد اختفاء الأب والعم بانضمامهم إلى فصائل مختلفة للمقاومة الفلسطينية. ترعى الأم المكافحة الأبناء وحدها في ظروف شديدة القسوة، على خلفية الأحداث السياسية التي مرت عليهم خلال سبعٍ وثلاثين سنةً وشكّلت توجّهاتِ الأبناء، ما بين الابن الأكبر الذي انضم لحركة فتح كما كان حال هذا الجيل، وأشقائه الأصغر الذين شبّوا في نهاية سبعينيات القرن الماضي على أجواء انتشار التيار الإسلامي الذي سرعان ما انضموا إليه، ومن ثم إلى المقاومة والانتفاضة الفلسطينية.
يسرد السنوار الأحداث في روايته ملتزماً التسلسلَ الزمنيَّ منذ أن احتلّت إسرائيلُ الأراضيَ الفلسطينيةَ في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة في حرب 1967. ويتوقف عند السنوات الأولى للانتفاضة الثانية في عام 2004. يحرص في صفحات روايته الطويلة وفصولها الثلاثين على التذكير المستمر بأعمال المقاومة، مسجلاً ارتباطها التاريخي بالقضية الفلسطينية منذ بدايتها، حتى وإن أقحمها تكراراً في سياق قصته، حيث نراه أحياناً يتخلى عن السرد الروائي ليعكف على توثيق المحطات المهمة فلسطينياً على مدار أربعة عقود منذ عام 1967.
يبدو أن اختلاف السياق كبير. فالمقاومة الفلسطينية لأول مرة تنفذ عملية بحجم عملية طوفان الأقصى داخل إسرائيل، مسلحة بعتاد وخبرة لا سابق لها، وهي العملية التي يُنسب للسنوار، أكثر من غيره، الإشراف على التخطيط لها. لم تكن حركة حماس تمتلك السلاح أو الخبرة الكافية لمثل هذا النوع من التصعيد وقت كتابة الرواية، كما أنها لم تكن تتمتع بالقدر ذاته من النفوذ والشعبية، سواء داخل القطاع أو في سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي الفترة الزمنية التي تتناولها الرواية بين عامي 1967 و 2004، نرى ارتباط التحولات السياسية والفكرية بالتطورات المتغيرة على الأرض، وتفاعلها بين الأجيال الفلسطينية في إيقاع متكرر يربط هذه التحولات ببعضها في تطور مستمر بدأ في 1948 ولم ينته بعد.
ولكن اختلاف السياق لا يعني انقطاع الصلة بين الرواية والواقع. فإذا كانت عملية طوفان الأقصى تمثل تحولاً نوعياً في حركة المقاومة نحو مزيد من الجرأة، فإن صفحات "الشوك والقرنفل" تكشف عن استقرار هذه الرؤية لدى المقاومة في غزة، وقناعتها بحتمية التصعيد لتحقيق مواجهة حاسمة ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود، بهدف "تغيير المعادلة" كما تقول روايته. وكما أن فكرة الأنفاق في زمن الحروب تعود إلى التاريخ القديم، مروراً بفيتنام وكوريا الشمالية في العصور الحديثة، وليست بدعة من حركة حماس، يفتتح السنوار روايته بأولى ذكريات بطله أحمد وهو طفل في الخامسة من عمره عندما تفتحت عيناه على أجواء الحرب ليجد والده يحفر خندقاً تحت أرض الدار لتأمين أسرته من القصف الإسرائيلي. وفي هذا المكان المظلم بمخيم الشاطئ، تابعت الأسرة أخبار هزيمة 1967 عبر المذياع الذي كانوا يضعونه قرب باب الحفرة التي اختبؤوا فيها طيلة أيام، في انتظار انتصار عسكري لم يأت، وعودة الأهل إلى ديارهم التي هُجروا منها سنة 1948.
وبالجملة، تعكس التفاصيل الدقيقة التي اعتنى السنوار بتسجيلها في روايته أن سياسة إسرائيل في الحرب على غزة منذ أكتوبر الماضي ليست سوى إعادة إنتاج عنيف لآليات وسياسات الاحتلال ذاتها منذ زمن الرواية، والتي لم تتوقف عن إفراز آليات تفاعل الفلسطينيين معها بأشكال مختلفة منذ سنة 1948.
تلفت رمزية غياب الأب والعم الانتباه إلى استمرارية حركات المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة، حتى وإن كانت في خلفية المشهد الفلسطيني دون أن تتصدره. فهي بعيدة سياسياً وجغرافياً عن غزة، التي استيقظت ذات صباح من صيف 1967 لتجد معسكر الجيش المصري القريب من مخيم الشاطئ قد خلا من جنوده، وإذا بجيش الاحتلال الإسرائيلي يستولي على سيارات الجيب العسكرية ودباباته التي يرفرف عليها العلم المصري، ويطلق النار على الفلسطينيين.
بانسحاب الجيش المصري من غزة في عام 1967، انتهى عهد الإدارة المصرية للقطاع، الذي استمر قرابة تسعة عشر عاماً منذ 1948. هذه الفترة ساهمت في إضفاء خصوصية على غزة، التي تحولت إلى ملجأ ضخم للاجئين الفلسطينيين المهجرين أساساً من أراضي 1948، ليصبح أكثر من نصف سكانها، الذين بلغ عددهم حوالي نصف مليون، من النازحين بحلول نكسة 1967. كانت هذه الضربة الأكبر لاقتصاد القطاع، الذي لم يتعافَ منها في غياب أي دعم مادي، وظل الأفقر فلسطينياً منذ ذلك الحين، باستثناء فترة رفاه عرفتها غزة في بعض سنوات حكم السلطة الفلسطينية.
وبحلول 1967، لم يجد النازحون الذين استقروا في غزة سوى وكالة الغوث لتوفير الحد الأدنى من الخدمات التي تبقيهم على قيد الحياة كبديل عن الحكومة، ولم تكن هناك سلطة سوى دبابات وأجهزة مخابرات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
اختفاء الأب والعم من مشهد الرواية يسلط الضوء على الجيل التالي من الفلسطينيين الذي ينتمي إليه السنوار، وهو الجيل الذي تشكل وعيه منذ الطفولة على مشاهد الواقع الجديد لهزيمة 1967 واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. يصف السنوار مشاهد وقع هذه الهزيمة كما شهدها كطفل، على لسان الراوي الذي رأى اقتحامات قوات الاحتلال للمنازل وإذلال جنوده لرجال الحي وإعدام العشرات منهم رمياً بالرصاص في الساحات العامة.
نرى في تفاصيل الحياة اليومية بالمخيم آنذاك الكثير من وقائع الحياة في غزة اليوم، والتي تصفها التقارير الأممية بالكارثية. فغزة التي عاشها السنوار في طفولته كانت أشبه بالأرض اليباب: مجتمع لاجئين محافظ ومعزول، ومنازل المخيمات "كأقفاص الدجاج" لا تستر سقوفها المصنوعة من القرميد سيول الأمطار عن رؤوس ساكنيها. النظام الغذائي كان فقيراً، قائم على بعض الخضروات وما تصرفه بطاقة تموين وكالة الأونروا الشهرية من طحين وسمن وبعض البقوليات. الطوابير الطويلة أمام صنبور المياه الوحيد الذي وضعته وكالة غوث اللاجئين في ساحة المخيم، حيث تتوفر المياه لبضع ساعات يومياً فقط. الأطفال لم يكن لديهم سوى بقايا ملابس مهترئة، توزعها عليهم وكالة غوث اللاجئين مرتين في السنة. اللعبة المفضلة كانت "عرب ويهود"، إذ يلعب فريق دور الفلسطينيين "العرب" والآخر دور جنود الاحتلال الإسرائيلي "اليهود". ولا توجد كهرباء إلا في بعض البيوت "من ذوي الحال الممتاز".
أما الحذاء "الجديد" الذي اشترته الأم للراوي بمناسبة دخوله مدرسة وكالة غوث اللاجئين، وكان فرحاً به كثيراً، فكان مستعملاً، وحقيبة مدرسته كانت مصنوعة من القماش. بينما كان ينبغي على أشقائه الأكبر منه العمل بعد عودتهم من المدرسة لكسب بعض النقود. ولم تعرف الأسرة "ملمس ورائحة" الملابس الجديدة إلا عندما تمكن الابن الأكبر من إهدائهم إياها أول مرة بعد عودته من دراسته الجامعية في مصر. ومع ذلك، يصف الراوي وضعهم المالي بأنه كان جيداً مقارنة بباقي جيرانهم في المخيم.
في الرواية، يبرز حرص الكاتب على عرض التفاوت الاقتصادي بين غزة والأراضي الفلسطينية الأخرى، وذلك من خلال مقارنة أوضاع غزة بمدينة الخليل التي تبعد عنها حوالي ستين كيلومتراً. انتعشت الخليل اقتصادياً بعد الاحتلال بفضل السياحة الدينية اليهودية للحرم الإبراهيمي، مما أثر على انشغال الفلسطينيين في تلك الفترة بالإنتاج الاقتصادي وتحسين جودة حياتهم، وهو ما أضر بمحاولات حركة فتح الرامية آنذاك لتنظيم المقاومة في المدينة. لم يكن من المستغرب أن ينقسم الفلسطينيون في ذلك الوقت حول جدوى المقاومة، خاصة بعد فشل الجيوش العربية في مواجهة إسرائيل بفترة قصيرة، "فكيف يمكن أن يقف في وجهها مجموعة من الفدائيين بأسلحتهم البسيطة وإمكانياتهم المحدودة؟" كما كانت تدور الأحاديث في مقاهي الخليل في تلك الفترة التي انخفضت فيها آمال الفلسطينيين إلى أدنى مستوياتها.
ونظراً لسوء الوضع الاقتصادي في غزة، حيث تصاعدت فيها عمليات المقاومة المتكررة، قررت إسرائيل في مطلع سبعينيات القرن الماضي فتح باب العمل للسكان الفلسطينيين، وذلك بغرض تحجيم المقاومة والاستفادة من الأيدي العاملة الفلسطينية في بناء الدولة الإسرائيلية الوليدة. هذه الخطوة أثارت جدلاً عنيفاً في أوساط الفلسطينيين، وهو ما ترصده الرواية في محاولاتها لتوثيق الواقع الفلسطيني المركب ونوع الاختيارات التي أجبر هذا المجتمع الواقع تحت الاحتلال على التعامل معها. فما بدأ رفضاً مبدئياً وأخلاقياً وسياسياً في غزة للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، تراجع مع وطأة الفقر الذي كان يعاني منه أغلب سكان القطاع.
في مشهد يلخص هذا الوضع المعقد، يروي "أحمد" محاولة رجال المقاومة انتزاع تصريح عمل من أحد العمال، الذي حاول إقناعهم باحتياجات أولاده الثمانية الذين لا يجدون ما يسد رمقهم، ولا يكفيهم ما تصرفه لهم وكالة الغوث إلى درجة أنهم ينامون جياعاً. رفض رجال المقاومة تبريراته ومزقوا التصريح وهم على وشك البكاء، مما يعكس الصراع الداخلي بين الحاجة الماسة للعيش وضرورة التمسك بالمبادئ الوطنية.
يصف السنوار التحسن الاقتصادي الذي طرأ على أحوال الذين استفادوا من هذا التحول الكبير في مجتمع غزة. فهذا بنى سوراً حول بيته المكشوف، وذاك وضع باباً قوياً، وآخر رصف أرضية بيته. أما أسرة أحمد الراوي، فمع رفضهم العمل في إسرائيل، تمكنوا من تحمل تكلفة وضع قطعة كبيرة من النايلون على سقف منزلهم القرميدي لمنع تسريب مياه الأمطار على رؤوسهم في الشتاء. كان هذا التطور "المذهل" في حياتهم يعني أنهم نجحوا لأول مرة منذ سنوات طويلة في النوم مرتاحين من صوت المياه ورذاذها الذي كان يتراشق على وجوههم أثناء النوم. وهي نفس السعادة العارمة التي شعر بها الراوي عندما صرفت له وكالة الغوث بطاقة تسمح له بتناول الطعام مرة واحدة في اليوم بمركز التغذية التابع لها بعد أن أقر الطبيب المختص أنه يعاني من سوء تغذية. فكاد رأسه، من فرحته بها، "يلامس السقف"، وسرعان ما بدأ في التخطيط لتهريب قطعة من الكفتة إلى ابن عمه إبراهيم، الأقرب إلى قلبه، ليشاركه هذا الامتياز الذي لم يحظوا به من قبل.
لم يتمكن أحد من شباب الأسرة من الالتحاق بالجامعة سوى الأخ الأكبر، بعد الصدام بين الرئيس المصري أنور السادات ومنظمة التحرير في سبعينيات القرن الماضي، مما أدى إلى وقف قبول طلبة غزة في الجامعات المصرية، وهو الأمر الذي كان مستقراً منذ عقود. فتقرر فتح جامعة داخل القطاع لأول مرة، وهو المشروع الذي تحول إلى معركة حقيقية على الحق في التعليم، والذي رفضته سلطات الاحتلال جملة وتفصيلاً. ولم يكن أمام الطلبة سوى الالتحاق بمشروع الجامعة في مهده داخل فصول معهد الأزهر الديني في فترة المساء، بلا ميزانية أو طاقم أكاديمي. ومع تزايد أعداد الطلاب في غياب بدائل أخرى، امتدت فصول الجامعة بالخيام وعرائش سعف النخيل، لأن الاحتلال كان يمنع دخول مواد البناء إلى القطاع، ويفرض قيوداً على ما يُسمح بدخوله إلى غزة، وذلك قبل عقود طويلة من الحصار الرسمي الذي فُرض بعد ذلك في 2007.
ولم يتم بناء مبنى مستقل للجامعة إلا عندما أدخلت مواد البناء عنوة بعد ذلك بسنوات طويلة. حتى تحول مجرد الذهاب للجامعة، التي اكتملت بملحمة حوّلتها إلى رمز من رموز المقاومة السلمية، إلى عمل وطني يتحدى الاحتلال الذي "يحاربنا في كل شيء، حتى التعليم"، كما يقول الراوي.
في الثامن من ديسمبر الماضي، فجرت قوات الاحتلال مبنى الجامعة الإسلامية كاملاً بعد أن لغمته وصورت عملية التدمير، التي لم تبقِ على حجر واحد من المؤسسة التعليمية التي أمضى فيها السنوار سنوات طويلة من النشاط الجامعي المكثف، وتخرج منها أغلب قادة حماس مثل إسماعيل هنية ومحمد الضيف. ودمرت إسرائيل معظم جامعات غزة بما في ذلك جامعة الأزهر.
فإبراهيم لم يكن راغباً في الزواج لتفرغه التام للعمل الوطني والتماهي مع معركة التحرر. وهو يملك المهارات الاستخباراتية التي تؤهله لتتبع آثار العملاء وفك الشفرات التي يتواصلون بها مع الاحتلال. حتى أنه لا يتردد، بعد سنوات طويلة من الصبر، في قتل شقيقه سيء السمعة والمتورط مع أجهزة الأمن الإسرائيلية. وعندما يرضخ أخيراً لإلحاح أسرته ويتزوج، فإنه يعلن لهم أنه لن يتوقف عن العمل مع المقاومة، حتى وإن كلفته حياته وكلفتهم غيابه ويُتْمَ أبنائه.
تشير الرواية منذ أولى فصولها إلى قضية عملاء الاحتلال، خاصة أنها تفاقمت في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكنها تتجنب الخوض في تجربة السنوار مع "مجد". ومثل شخصية إبراهيم في روايته، يتزوج السنوار في سنّ متأخرة، بمعايير غزة المحافظة، وينجب ابنه إبراهيم فور إطلاق سراحه.
تشير تقارير منشورة في الصحف الغربية إلى أن كنية السنوار لدى السلطات الإسرائيلية هي "جزار خان يونس"، في إشارة إلى دوره في تأسيس "مجد"، واعترافه في عام 1988 بقتل أربعة فلسطينيين متورطين في العمالة مع الاحتلال، وذلك حسبما أفادت به المصادر الأمنية الإسرائيلية. وتذكر نفس المراجع أن قسوته شملت عمليات قتل أخرى وتصفية لعدد كبير من العملاء الفلسطينيين من "أبناء جلدته". وتتضمن وثائق يزعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه عثر عليها في أحد الأنفاق قبل انسحابه مؤخراً من خان يونس رسائل من القيادي السابق في كتائب القسام محمد اشتيوي إلى أسرته يتهم فيها السنوار بتعذيبه ويصفه بأنه "وحش". وتقول القسام إنها أعدمته في فبراير 2016 لاعترافه بارتكاب جرائم سلوكية وأخلاقية لم تحددها، بينما تدعي المصادر الإسرائيلية، مثل صحيفة هآرتس العبرية، أنه عُوقب بسبب ميوله الجنسية المثلية واتهامه بالعمالة مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مما تسبب في قصف منزل قائد الجناح العسكري للقسام، محمد الضيف، في عام 2014.
يتبنى السنوار نبرة حذرة في الحديث عن ظاهرة عملاء مخابرات الاحتلال التي كانت منتشرة في غزة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت تواجه بأعمال عنف عشوائي من الفصائل الفلسطينية المختلفة، شملت القتل والجلد وحتى الصلب في الميادين العامة. ويصف الراوي استمرارها دون ضبط بأنه "خطأ كبير"، منتقداً غياب الحلول القانونية التي كان من الممكن أن تضع حلاً مناسباً لمشكلة العملاء "مع أقل درجة ممكنة من عمليات القتل وباجتناب الصورة الشنيعة والمنفرة منه".
هذا السياق يوضح الإلحاح الذي شعر به كثيرون في غزة للتعامل مع هذه القضية الخطيرة والحساسة في تلك الفترة. فمن ناحية، لم تتوقف إسرائيل عن تجنيد العملاء والإيقاع بهم، وفي الوقت ذاته لم تنجح ردة فعل الفصائل الفلسطينية في ردع هذه الظاهرة بسبب الفوضى والعنف التي اتسمت بها في التعامل معها. وحسب تقرير لمؤسسة "بتسيلم" الحقوقية في إسرائيل، قُتِل 942 فلسطينياً متهمون بالعمالة مع الاحتلال في عام 1987 وحده، وكانت نسبة 40 بالمئة منهم موظفين لدى وزارة الدفاع الإسرائيلية. ونفهم من هذه الخلفية التي تتوقف عندها الرواية بالتفصيل، أن مثل هذا الوضع الطارئ استلزم فكرة تأسيس جهاز أمني متفرغ للتعامل مع جيش العملاء وفقاً لآليات ومعايير وضعت في غياب إطار قانوني رسمي طبيعي، نظراً لربط النظام القضائي في غزة بالقضاء الإسرائيلي بعد 1967. وهذا ما فعله السنوار الذي شارك في تأسيس "مجد" في 1988، قبل اعتقاله بوقت قصير.
ولعل المناقشات التي تجري في الرواية بين أبناء أسرة الراوي المنقسمة سياسياً –بين المؤمن بجدوى التفاوض مع إسرائيل بهدف إقامة دولة فلسطينية، وبين الذين يرون عدم جدوى بل فشل هذا المسار– هي الأكثر اتصالاً بالجدل الحالي حول المكاسب الفلسطينية من عملية "طوفان الأقصى"، بعد الدمار الهائل الذي حصل في غزة. يلخصها إبراهيم، نظير السنوار في الرواية، بقوله إن المشكلة في قيام الدولة الفلسطينية تكمن في "الثمن الذي سيدفعه الشعب الفلسطيني" مقابل ذلك، مؤكداً أنه "لا بديل عنه لإجبار الاحتلال على الانسحاب". ويبرهن على ذلك بأن لولا اتفاقية أوسلو في 1993، لكانت قوات الاحتلال قد انسحبت من غزة والضفة، كما كان يطالب الساسة الإسرائيليون آنذاك، تحت ضغط المقاومة خلال الانتفاضة الأولى التي استمرت سنوات، دون الحاجة إلى اتفاق.
لا مفاجأة أن الرواية تتضمن تفنيداً لجدوى مسار التفاوض الذي عارضته حماس آنذاك، وتفندها سردية السنوار التي ترى في أوسلو "هدفاً استراتيجياً"، منح الاحتلال "سُلماً" للنزول من الشجرة التي كان سيلقي بنفسه منها، هرباً من هجمات المقاومة أثناء الانتفاضة الأولى، التي بدأت قبل دخوله المعتقل بفترة وجيزة. فهو على قناعة بأن إسرائيل كانت جاهزة "للهروب" من الضفة وغزة مبكراً منذ 1993. ويتساءل: لماذا الاتفاق الأمني مع الاحتلال إذا كان بإمكان المقاومة "فرض قواعد أخرى للمعادلة؟"
بعد وصول المفاوضات بين إسرائيل والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى طريق مسدود، اندلعت الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000 واستمرت خمس سنوات، قتل خلالها جيش الاحتلال الإسرائيلي ما يقرب من خمسة آلاف فلسطيني وأصاب ما يقرب من ثمانية وأربعين ألفاً آخرين، بينما تحولت المظاهرات الفلسطينية السلمية إلى تمرد مسلح شهد سلسلة من العمليات الاستشهادية التي استهدفت الداخل الإسرائيلي وأدت إلى مقتل ما يقرب من ألف إسرائيلي. وفي تصعيده المكثف، لجأ جيش الاحتلال إلى قصف مناطق فلسطينية وتدمير عشرات الآلاف من المنازل والتوغل بالدبابات والمروحيات واغتيال العشرات في صفوف المقاومة.
لا شك أن أحداث الانتفاضة الثانية، التي تابعها السنوار من داخل السجون الإسرائيلية واستمرت سنواتٍ، تسيطر على الجزء الأخير من روايته، وربما تكون هي "القرنفل". ربما دفعته لإتمام العمل الذي كان قد بدأ به قبل اندلاع الانتفاضة بسنوات لتوثيق القضية كما شاهدها بين محطتي هزيمة 1967، وانتهاءً بمشاهد درامية تصف رجال المقاومة أثناء الانتفاضة في معارك تخيلها من سجنه، وهم يرفعون رايات الفصائل الخضراء والصفراء والسوداء.
من الصعب تجاهل الصلة بين أحداث الرواية وما يجري اليوم فى غزة، خاصة بعد تولي السنوار مقاليد الأمور بشكل مطلق مطلع هذا الشهر. يتضح ذلك جلياً في التطور الذي حدث يوم 19 أغسطس الحالى، عندما فجر شاب فلسطيني نفسه بالقرب من كنيس يهودي في تل أبيب، في عملية تبنتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، واعتبرها بيانهما المشترك إنذارا بعودة العمليات الداخل الإسرائيلي إلى الواجهة. الأمر الذي يعد تكرارا لنهج المقاومة الإسلامية، التي نفذت خلال تسعينات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الثالثة أكثر من 120 عملية من هذا النوع. السنوار لم يكتف بتوثيق هذه العمليات في روايته، ولكنه دافع عن فاعلية تأثيرها الاستراتيجي للضغط على إسرائيل، وعدد الانجازات التي حققتها آنذاك، قائلا على لسان إبراهيم. "قبل الانتفاضة بأيام كان اسمنا سكان المناطق، وبعد استمرار شهرين صار اسمنا فلسطيني المناطق، ثم صار اسمنا الفلسطينيين، ثم اضطروا للجلوس مع منظمة التحرير التي كانوا يعتبرونها منظمة ارهابية و تخريبية.»
يكتب السنوار عن حوار يدور بين إبراهيم وأحد شباب المقاومة على خلفية هذه الأحداث، بعد أن ردت حماس لأول مرة بصواريخ القسام باتجاه إسرائيل، مما أثار مخاوف البعض من ردة فعل جيش الاحتلال. وهي من أكثر فقرات الرواية التي تستدعي صوت السنوار الذي لم يسمعه أحد منذ السابع من أكتوبر الماضي، وهو يحاجج الأسئلة نفسها التي تُطرح عليه وعلى قادة الحركة في غزة منذ عشرة أشهر حول قوة الردع الإسرائيلية وتعب الفلسطينيين من الثمن الباهظ الذي دفعوه في هذه الحرب.
يرد إبراهيم مستنكراً: "وما الذي يمكن أن يفعلوه أكثر مما فعلوا الآن؟" ويضيف أن من يصرحون بأن الشعب الفلسطيني تعب هم "حفنة قليلة من أصحاب المصالح. أما الشعب فهو مستعد للتضحية بكل غالٍ وثمين من أجل عزته وكرامته ومقدساته".
لا شك أن حسابات السنوار وقادة الحركة في القطاع أكثر تعقيداً من هذا المنطق، بعد مرور عشرة أشهر من الحرب على غزة. فلم يسبق أن شهد الفلسطينيون هذا القدر من العنف والقتل والدمار في التاريخ الحديث. ولكن المؤكد أن الوعد المتكرر في قصته عن "خلق معادلة جديدة في الصراع" هو ما نشهده الآن.