يعتقد غوش أنّ ما كتبه عبد الرحمن منيف عملٌ مهمّ جداً على تجاهله عدداً من العناصر التي تزخر بها ممالك النفط مثل تمازج اللهجات واللغات والثقافات. هذا الثراء الثقافي يتحدّى قالب الكتابة عن هذه الدول، ويتحدى بِعُجمته وغرابته وثقافته الهجينة أيّ تعريفٍ مُحدَّدٍ وموحّد للهويّة القوميّة الحديثة. وتكمن المفارقة في أنّ هذا العالم النفطيّ السريّ المنحدر بنا بسرعة إلى العالم التقني كما نعهده اليوم هو أبعد ما يكون عن "نظرة الثقافة المعولمة المعاصرة"، وهو أقرب إلى "العصور الوسطى" كما يشير غوش، فنحن "لا نملك الشكل الذي يقوى على منح الاشتباك مع النفط التعبيرَ الأدبيّ المستحق بعد". من الواضح هنا أنّ الأسلوب الأدبيّ الهجين الذي نفتقر إليه لتوسيع أفق المخيال النفطي لن يشتبك مع النفط اشتباكاً مبتكراً بتجاوز حدود الهويّة القوميّة، إنّما بتجاوز الحدود الفاصلة بين العلم والأدب. فالاشتباك مع عوالم ما وراء النفط لن يكونَ بمعزل عن الإلمام أو الاطّلاع العلميّ على ماهيّة النفط وآليّات استخراجه. إذ ليست محض صدفة أنّ عبد الرحمن منيف كان خبيراً اقتصادياً مُتخصّصاً في اقتصاديّات النفط، وقد رَأس مدةً تحرير مجلّة "النفط والتنمية" العراقيّة بين سنتي 1975 و1981.
لكنّ الفراغ الأدبيّ الذي خلّفته الخماسيّة في أدب المدينة النفطيّة يدعو إلى التساؤل. فهل يُعقَل ألّا يوسّع أيُّ مشروع روائي أُفُقَ المِخيال البتروليّ ويبحث في عواقب البيئة النفطيّة بعد خماسيّة منيف المنشورة سنة 1984، لا سيما أن الدول العربية المنتجة للنفط قد شهدت منذ ذلك الوقت توسعاً عمرانياً ونمواً اقتصادياً وتغييرات اجتماعية كبيرة. ثم كيف لسرديّات المدينة العربيّة في اصطدامها مع مآلات الحداثة المتسارعة ألّا تجرؤ على الاقتراب من عوالم النفط السريّة بعد، أي أن تغوص في تفاصيل استخراج النفط.
بعد سنواتٍ طويلةٍ من العمل مهندساً في حقول النفط في البصرة جنوب العراق، التقط الكاتب والمخرج السينمائي ورسّام الكاريكاتير العراقي مرتضى كزار الخيطَ الرفيع الذي يفصل العلم عن الأدب، فاستعمله لرَتق بعض الفراغات في السرديّة النفطية العربيّة في روايته "العِلمويّ" الصادرة سنة 2019. يعثر كزار باستدعائه بعض عناصر أدب الخيال العلمي وعناصر الخيال الخارج عن المألوف على بعض الأدوات الأدبية التجريبيّة اللازمة للحفر عميقاً في آبار النفط واختراق طبقات الأرض العازلة جماليّات علوم الأرض طويلاً عن جماليّات الأدب. تمثل رواية "العلموي" اشتباكاً متأخراً، مع أنه مباشر، مع النفط في الأدب العربي، فهي بتصوراتها الخيالية وغير المنطقية والمرعبة أنموذجٌ مبتكرٌ يجمع بين العلم والأدب، محققة بذلك الاشتباك مع النفط والغوص في بعض خفايا البيئة النفطيّة العربيّة.
ناقش العدد الصادر سنةَ 2012 من "ذا أمريكان بوك ريفيو" ما قدّمه غوش من أسئلة عن الأدب العالميّ واشتباكه مع موضوع النفط. وفيه يُجادل إيمري زيمان المُنظر الثقافي والأكاديمي في أنّ مصطلح "المِخيال البترولي" يؤسّس لحقبة تاريخيّة جديدة وممتدّة تشمل كلّ ما كُتب بعد اكتشاف النفط وتوظيفه وقوداً للثورة الصناعية. بينما يجادل الأكاديمي غرايم ماكدونالد في سياق النفط والأدب العالمي أنّ خماسيّة "مدن الملح" أو رواية مثل "نفط!" للمؤلّف الأمريكي أبتون سنكلر هي أعمال أدبيّة تصنّف من "أدب الخيال النفطيّ" بمعالجتها المباشرة موضوع النفط. لكنّ النفط بمفعوله "الوحشي"، بوصف ماكدونالد، يهيمن بشبحه على أنواع الكتابة الحديثة المُنجزة في ظلاله. ويشير الباحث ديريك غلادوين في كتابه "إيكولوجيكال إكزايل: سبايشل إنجستيس أند إنفايرومينتال هيومانتيز" (الاغتراب الإيكولوجي: اللاعدالة الفضائية والإنسانيّات البيئية)، المنشور سنةَ 2018، أنّ "النفط يُشكّلنا، يُعلّمنا، يحدّد هويّاتنا"، فلا يمكننا أن نفصل بين أنماط الحياة الحديثة ونظام الطاقة الأحفوريّة، بما يتيحه من "الحريّة" والرفاهية لبعضهم، مقابل الظلم والاستعباد للأخر. وما دمنا نعيش في ظلّ هذه الحداثة البترولية يسرب السائل النفطي تاركاً آثارَه على كلِّ شيء بما في ذلك الأدب الذي نكتبه والإنتاج الأدبي والنشر والتوزيع عموماً. فهل لنا أن نتخيّل إنتاج هذه الشحنات الهائلة كلها من الكتب وتصديرها في العالم بمعزل عن مصادر الطاقة الأحفوريّة.
قد لا يُبشّر هذا الاحتفاء الأكاديمي الغربي الواسع بمصطلح "المخيال البترولي" بإنتاج أعمال أدبية وروائية تخوض غمار ممالك النفط العربية كما فعل غوش أولاً. فمع أن هذا المصطلح يسعى إلى فهم شامل لأنماط الحياة والتعايش مع كل ما يُنتج ويُستهلك في عصر النفط المعولَم، بما في ذلك صناعة الأدب، إلا أن اتساعه يؤدي إلى تشتيت المخيلة الأدبية ومنعها من التعمق في خفايا بيئة النفط والعاملين فيها، ومساءلة التفاصيل الخفية لهذه الصناعة، أو تخيل تاريخ بديل أو عوالم مستقبلية مختلفة عنها.
وأيُّ نفطٍ كرشحٍ أنتَ راشحُه … سوادَ لونٍ ونتناً غيرَ مُكتسبِ
ظلّ هذا الأثر الكريه للنفط في الشعر الحديث، لا سيّما بعد أن أشعل النزاعات السياسية في القرن الماضي. فاستحضره الشعراء في قصائد متعدّدة، كما في قصيدة "هجم النفط علينا مثل ذئب جائع" لنزار قبّاني، و"من قال إنّ النفط أغلى من دمي" لفاروق جويدة، و"يوسف في بئر نفط" لأحمد مطر، وغيرها.
وما برحت معظم السرديّات الروائيّة العربية التي تعالج البيئة النفطية تخرجُ على استحياء. فنُلفيها تتجنّب الصدام بالتورية. فهي تنغمسُ في الكتابة عن تحوّل مدن الصحراء، أو تشكو وتتذمّر من أنماط الحياة المستحدثة في ممالك النفط بمعزلٍ عن النبش والتنقيب في آثارها الخفيّة. ويبدو أنّ تجنّب الاشتباك مع النفط متجذّر في تاريخ العار الذي جلبه اكتشافه وما تبعه من استعمار واستعباد للعمّال والسكّان المحليين، وأنّ رقابة الحكومات النفطيّة وتعتيمها على عوالم ما وراء النفط حجب الرؤية وأعاق تطوّر "المخيال البترولي". وباستثناء بعض الكُتّاب المُطّلعين على تفاصيل النفط بحكم التخصّص أو الخبرة في العمل في حقوله على غرار عبد الرحمن منيف، من سيجرؤ إذن على الاقتراب من المجهول ليتولّى عملية التنقيب الأدبي في آباره.
في ملف بعنوان "ما وراء النفط"، نشرته مجلّة الفيصل في مايو 2017، تُفصح الكاتبة والشاعرة السعودية فوزية خالد عن إفشال جامعة ما مساعيها في اقتراح مُقرّرين لتدريس "أدبيّات النفط الخليجي" و "التأثير السوسيوسياسي والثقافي للنفط". تذعن الكاتبة نهايةً إلى أنّ النفط "يعيش مثل حالةٍ سريّة فينا"، إذ كان "الخوض في موضوع النفط وطبيعة تماسه مع الحياة الاجتماعية والسياسية أحد التابوهات أو الممنوعات. وكأن النفط في العمل الثقافي ولو كان سرداً روائياً هو "حشيشة" أو "قات'". تعرض الكاتبة لأعمال روائية "ناقشت تحوّلات القرى في الجنوب السعودي مثل أعمال الروائي والقاص عبد العزيز المشري دون أن تنطق كلمة "نفط"، ورواية "الرياض - نوفمبر 90" لسعد الدوسري التي ناقشت مرحلة حاسمة من حرب الخليج الثانية وتدخّل القوى العظمى فيها، بينما ظلّ النفط بطلاً سريّاً يُحرّك الأحداث من غير القدرة على الإشارة الصريحة له.
لقد كشف النّضب السردّي في أدب "المخيال البترولي" العربي عن ضبابيّة رؤية الكُتّاب، كأنما حدثت قفزة حداثيّة سبّبت قطيعةً معرفية مع عالم ما قبل النفط حتى بات كأنّه لم يكن. شوّهت صور الطفولة والبساطة، وجرفت آثار جذور الثقافات المتنوّعة في شبه الجزيرة العربية، كما في المغرب العربي، قبل أن تكتسي بعباءات النفط الباذخة وتتزيّن. يجادل الروائي والكاتب الإماراتي علي أبو الريش أنّ "سنوات النفط لا تكفي لصنع رواية حقيقية"، لأنّ الالتصاق بالنفط على أنه هويّة يُعطّل أدوات الأدب، ويعبث بقدرته على الفهم والكتابة في خضمّ هذا اللّغط النفطيّ.
إلا أنّ الأخطرَ من اتّخاذ النفط هويّةً هو عدمُ إدراك ماهيّة هذه الهويّة السائلة. ذلك أنّها هويّة هجينة، كما أوضح غوش، تتزامن في وجودها الداخليّ السريّ في باطن الأرض مع آنيّة العالم الخارجي الذي ما انفكّت سياسات الهويّة القوميّة والعِرقيّة والنوع الاجتماعي والطبقيّة تتنازع في طيّاته مُتذبذبةً بين المركز المستفيدين من النفط والهامش غير المستفيدين منه. في مقدّمة كتاب "الصحراء وأشجار النفط" الصادر سنة 1979 يتمنّى الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه أن تكون مقالاته تأريخاً لظاهرة بائدة وألا تصمد أمام الزمن، إذ ينتقد الفقيه الرأسمالية النفطيّة كما لو كانت تنمو على أشجار الاستعباد والاستغلال. لم تتحقق اليومَ أمنية الكاتب باندثار تلك الظاهرة، بل تنامت حتى صارت ظاهرةً "طبيعيّة" لا ينبغي المساس بها أو مساءلتها وكأنّها هويّة هذه المجتمعات المؤكّدة.
وبينما ظلّت السرديّات الذكوريّة مهيمنةً على أدبيّات النفط المُخاتِلة، اقترحت بعض السرديّات النسويّة المضادّة التي اقتحمت عالم النفط الحافل بالرجال الطاحنين والمطحونين أحدَ التصوّرات البديلة بمساءلتها هويّة النفط وعلاقتها بالنوع الاجتماعي، وحال المرأة في الصحراء بوصفها طبقة دنيا، جنباً إلى جنب مع طبقات العمالة الكادحة. لذا تُعدُّ رواية "الحبّ في زمن النفط" الصادرة سنة 1992 للكاتبة والمفكّرة النسوية المصرية نوال السعداوي من السرديّات النادرة التي تقتحم فيها امرأة عالم ما وراء النفط وتعرّي طبقيّته وذكوريّته. فتتقاطع تجربتها في الخضوع لسلطة القائمين على النفط لتذكّرنا بتجارب اليد العاملة المحليّة والوافدة.
لم تُفلح هذه السردياتُ المضادّةُ باشتباكِها المُبتكر مع النفط حتى الآن في سدّ تلك الفجوة الهائلة في "المخيال البترولي" العربي، ولم تُشبع فضولَنا وتُثنينا عن سؤال من أين ينبع سحر هذا السائل، ومن يقف وراء عوالمه الخفيّة، وكيف لذلك السائل الكريه الرائحة أن يكون وراء العالم كما نعرفه الآن.
يسخرُ عنوانُ الرواية "العلمويّ" من مذهبِ العلمويّة واعتقادِه بأنّ العلمَ التجريبي وحده كفيلٌ بفهم العالم وتفسير ظواهره الكونية. وسرعان ما يبدو أنّ الزمن في الرواية مكانٌ سائلٌ متحرّكٌ يتلاعب به عبّاس، الشخصيّة الرئيسة في الرواية، بخداع الناس بادّعائه أنه طيّار عراقيّ شاب ضلَّ طريقه في أثناء الحرب العراقيّة الإيرانيّة وسقطت طيارته في البصرة بعد حوالي خمسة وعشرين عاماً. خدعة عبّاس الاستعراضيّة هذه تحيل الزمن في الرواية إلى أزمنة متداخلة في حركة المكان الدائريّة، فلا تختفي ذكريات الماضي تماماً قبل أن تظهر مراراً بأشكال مختلفة. يشكّل هذا التلاعب الفيزيائي بقوانين الزمان والمكان مفتاحاً لقراءةِ سرديّة النفط التي يبتدعها كزار، ويشيّد بها عوالم سرياليّة لا منطق لها إلا منطق الأطفال ومُخيّلاتهم غير المحدودة.
تنطوي الرواية على شخصيات عدّة متداخلة، بدءاً بشخصية تيلر فري الأمريكية رئيسة تحرير مؤسسة للمنشورات الأدبية التي تكلّف الكاتب العراقي المغترب مدين حيّاوي بكتابة قصّة عبّاس ربيع من البصرة بعد أن عثرت له على ثلاث صور في "صالة الفن الفوتوغرافي" في متحف "فراي آرت" بمدينة سياتل في أمريكا اِلتُقطت إحداها عندما كان طفلًا إبّان حرب الخليج الثانية، وصُوِّرت الثانية والثالثة حينَ صار شاباً بعد حرب الخليج الثالثة، وهو الاسم الذي سمّاه العراقيون للغزو الأمريكي للعراق سنةَ 2003. تروي لنا شخصيّة مدين قصّة عبّاس بصيغة المتكلّم، إلى أن نتبيّن في النهاية أنّ شخصيّات الرواية كلها من اختلاق "عبّاس" الذي يخلط بين العوالم المُتخيّلة وغير المتخيّلة، فيطلب من صحفيّة اسمها صبريّة الادّعاء أنّها كاتب عراقيّ مغترب كُلّف بكتابة قصّته، فتكتب ما يقوله لها على أنّه الحقيقة، لكنّ الحقيقة بقاموس عبّاس هي ما يُقال للتأريخ لا ما حدث بالفعل. لذا فإن هذه الشخصيات المُتخيّلة شخصيّات حقيقية بتعريف عبّاس للحقيقة.
تمثّل شخصيّة تيلر فري الأمريكيّة المُختَلَقة والشخصيّات العراقية الأخرى تلاعباً بسرديّة "طفولة" النفط في العراق، إذ لا نتبيّن من يروي حكاية عبّاس منذ طفولته إلى أن صارَ شاباً حتى نهاية الرواية. يعكس تداخل أصوات الرواة بين الشخصيّات الأمريكيّة والعراقيّة توغّلَ الاحتلال الأمريكي في سرديّة النفط لا سيّما العراقيّة منها، إذ تتجلّى رغبة الشخصيّة الأمريكيّة المُتمثّلة برئيسة تحرير مؤسسّة أدبيّة في إعادة أرشفة تاريخ عباس بصور عدّة، وتكليف مدين المغترب عن بلده بكتابة حكاية عباس وكأنها تسعى إلى التحكّم بسرديّة الشخصيّة العراقيّة وإعادة تصديرها إلى الجمهور الأمريكي بعدَ "التحرير" بطريقتها. لا يُهمّ إن كانت الشخصيّة الأمريكيّة حقيقيّة أم مُتخيّلة ما دامت متصدرةً مقدّمة الرواية على أنّها شخصيّة "حقيقيّة"، وراعية فكرة مشروع كتابة سيرة عباس العراقي.
يتلاعبُ كزار بالزمنِ وبالرواةِ والمرويّات أيضاً. ويُعزِّزُ هذا من غرابةِ سرديّة النفط، ويزيد من استحالة توثيقها، فتتداخل ألسنة الشخصيّات الأمريكية والعراقية المغتربة والعراقيّة المحليّة. يُمهّد ذلك لهذه السرديّة الهجينة وتقاطعاتها مع تاريخ الحروب التي مرّت على العراق في العقود الماضية، بينما يتولّى الكاتبُ توزيعَ آثارِها بينَ عالمَين أحدهما طفولي وشاعري، والآخر علميّ وكابوسي في الوقت ذاته.
يستحضرُ الكاتبُ عالمَ النَّفطِ في البصرةِ جنوبَ العراق أواخرَ الثمانينيات ومطلعَ التسعينيات بمرحلة الطفولة لعبّاس وأخيه التوأم المتطابق فاضل. ويفعل ذلك أيضاً بوالدهما المُلقّب "ربيع كثافة" وعالمه الضيّق الذي لا يرى الناس فيه إلا "نفّاطة وغير نفّاطة، مشتغلين بالنفط، وليسوا مشتغلين بالنفط". نتتبّع تفاصيل قرية "البرجسية" النفطيّة التي يقيم فيها المسؤولون الأوروبيون في شركات الحفر والتنقيب عن النفط مع العاملين في الحقل ذاته من العراقيين المحليين والبدو، والعمّال الهنود وغيرهم. ويصفُ بيوتَ القريةِ المبنيَّةِ من الطوب الأحمر والخشب الجاوي، وأرضها المزخرفة أنها متأثرة في عمرانها بالعمران الاسكتلندي، إذ بناها عمّال شركة النفط البريطانية في الثلاثينيات. وتبرز أشجار النخيل في القرية وأنماط التفاعل معها: "في قرية العمال هذه ذات المناظر المسقوفة بالقرميد والنورة وثرثرات الزوجات اللائي يتحدثن الانجليزية والانتظار، لا يضع المقيمون نواطير خضرة أو فزّاعات لطرد الغربان والطيور عن حدائقهم، هنالك نخلة صغيرة تقوم بدور الناطور يسمونها القزمة؛ القزمة نخلة قصيرة القامة لا تطول ولا تمتلئ ولا تحمل بالرطب ولا تجود بالجمّار، يزرعها الناس في قرية البرجسية لطرد الطيور التي تخرب شتلات الزينة وتنبش بذور الباقلاء".
وتزخر الرواية بذكريات الطفولة واللعب في حديقة المنزل والتفاعل مع البيئة القروية البسيطة والتلاحم مع أشجار نخيلها. يُلبس الولدان نخلةَ القزمة "دشداشة" فتبدو كأنها رجلٌ من بعيد، ويحاولان صنعَ ذراعاً خشبيةً من جذوع نخلة القزمة لوالدهما ربيع الفاقد ذراعه بإصابةِ عملٍ في حقل النفط. ثم يطالبانه بأن يجرّبها حتى "نجح في جعل جذع النخلة يلتحق بجسده وينتمي إلى أسرة أعضاء الحاج ربيع كثافة". يكشف هذا التلاحم والتشابه بين أشجار النخيل وأجساد سكّان القرية عن التفاعل الطبيعي مع المكان بالالتصاق والتشبّه به، وكأنّ المكان وساكنيه من أصل واحد.
يعود بنا الكاتب إلى آثار آبار النفط القديمة في القرية، وكيف غيّر اكتشاف الآبار جغرافيّتها وتركيبها السكاني وثقافتها. "صنابير مياه مسجد قرية العمال تنثّ النفط الخام مع المياه، رائحة الكبريت والقار تسبح في فضاء المسجد، والمرفقات الملتصقة به. لقد شيّدوا هذا المسجد فوق أخدود طويل يشبه ديدان الامعاء على وجه الصحراء، إنه نهير قديم كان يجري بالنفط بعد حفر البئر الاولى في ذلك المكان، تم ردمه وتسويته وتحويل الأرض التي فوقه إلى معبد للعمال الهندوس. وبعد ترحيلهم مع خروج شركة الأناضول التركية بعد الحرب العالمية باشرت الشركة الجديدة بتحويله إلى مسجد".
تصطبغُ القريةُ وعمرانُها وأساليبُ تعايشها مع اختلاف أعراقها بثقافةِ النفط على نحو جليّ. يصبح لون النّفط مرجعيّة لأطفال القرية، فيستعملون درجات ألوانه المتعدّدة لوصف الأشياء المحيطة: "كل أطفال النفط والغاز يتعاملون مع الألوان بهذه الطريقة، ألوان الأشياء عندهم هي مشتقات النفط والصخور ورمال هذه المنطقة". لا يتعامل الأطفال مع النفط في الرواية بصفته ماهيّةً غير مفهومة، بل بصفته الأقدر على قراءة تفاصيل البيئة النفطيّة والكشف عن أسرارها. يوظّف كزار أسلوباً كوميدياً ساخراً باتّكائه على السرد من منظور الصغار القادرين على إبصار تفاصيل الأشياء بوضوحٍ أكثر من الكبار. نتتبّع "عبّاس "و"فاضل" في مشاهد أخّاذة بالرواية وهما يحرصان على دفن الحيوانات والحشرات الميّتة في الأرض، كأنهما يعملان في استثمار الكائنات الميتة المتحلّلة وتخزينها في الأرض نفطاً للمستقبل.
للحكايا والقصص التي يبنيها الأطفال من وحي النفط سطوةٌ كبيرةٌ على تخريب الترتيب الاجتماعي والعرقي والطبقي، والكشف عن بذور التعايش في البيئة النفطية وعلى قسوة ظروف العمل وانعدام إنسانيّتها. يتجسّدُ ذلك في شخصية فيرونيكا زوجة دانيال أحد كبار الحفّارين في آبار النفط في قرية البرجسية. إذ تتبنّى الولدَين عباس وفاضل بعد اختفاء والدِهما ربيع في أثناء حرب الخليج الثانية، فتصير العلاقة بهما أسريّة حميميّة. وحين تحاول فيرونيكا الباحثة في علم تفسير الأحلام أن تحكي لعبّاس وفاضل حكاية ما قبل النوم عن "ابن سيرين" مُفسّر الأحلام، يتدخّل الولدان ويغيّران الحكاية لتصبح حكاية والدهما مع العمّال في آبار النفط، وتوحّد مصيره مع مصير عمّاله على الاختلاف الطبقي الاجتماعي. وبذلك تأتي الحكاية الجديدة التي يحكيها الولدان عوضاً عن حكاية مُفسّر الأحلام ابن سيرين حلماً يبتغي تفسيراً:
"أكو واحد اسمه ربيع يحفر آبار … يحفر بئر ويطلّع نفط . . . كان يتعلّق بالأنابيب ولا يخاف الأسلاك الحديدية المربوطة بها، كان عليه أن يربط الأنبوب بالأنبوب وينزلونه داخل الحفرة، الحفرة تتعمق وتعمق حتى تصل الى النفط . . . عمال ربيع الهنود كانت مهمتهم ضخ الطين الكيماوي داخل أنابيب كي تتنظف الحفرة وتتزايد الأنابيب ويستمر الحفر وتتعمق الحفرة . . . أفلت أحد العمال يده لأنه كان متعبًا بعد نهار صيام طويل كانت الدنيا رمضان . . . ربيع لا يأكل قبل أن يأكل عماله . . . التفت الأسلاك ببعضها وانطبقت على جسد العامل ثم أخذت بطريقها جسد العامل الآخر فسقطت رؤوسهم و مخاخهم على أكتاف ربيع . . .ثم سقط مفك الأنابيب على يده وبترها وفي لحظة غير مفهومة رفس ربيع ذراعه المبتورة ودفعها في فتحة البئر. سقطت ذراعه عميقا في الارض دون ان يسمع لها حس ولا خبر ثم عاش ربيع فوق ذراعه وعاش مع زوجته وربى ولدين، كان قريباً من ذراعه دائماً، عاش فوقها تماماً".
يتحوَّلُ النفطُ في حكايا الوَلَدَين من حلم إلى كابوس. فتحضر ذراع والدهما بعد أن بُتِرَتْ وسقطت في باطن الأرض، امتزجت هذه الذراع بالأرض مع العمال الهنود الذين سقطوا واحداً واحداً. أصبحَ هؤلاء العمالُ، الذين تحولوا مع مرور السنين إلى مادة نفطية، جزءاً من الأرض نفسِها. سكن ربيع فوقَ مكانِ دفنِ ذراعه المتّحدةِ معَ أجسادِ العُمَّالِ المدفونة عميقاً.
يكشف هذا التداخل التماهيَ بينَ اليدِ العاملةِ وما تستخرجه في حقول النفط عن تغلغل النظام الرأسمالي العميق في صناعة النفط. بل إنّ نهاية العالم الرأسمالي المتخيلة لن تحدث بمعزل عن تداعي نظام الرأسماليّة البتروليّة والأساليب المعيشية المرفّهة والظالمة القائمة عليه. فالطاقة الأحفوريّة التي يتغذّى عليها نظام الاستعباد المُعولم تعيد باحتراقها المتكرّر ترسيخَ معاني العبوديّة والحريّة ترسيخاً يصعب تفكيكه وهدمه واستبداله ما دام هذا النظام.
لا تتعارضُ السرديةُ الخيالية والساخرة التي يُضيفها الأطفالُ على قصّةِ "تاريخ اكتشاف النفط" في قرية البرجسية مع العقلانية العلمية وتقنيات استخراج النفط، بل تتماشى معها على نحوٍ تخريبي مختزل. توظيف الخيال المفرط هنا لا يهدف إلى تعطيل الواقع واستبداله بآخر، بل يسعى إلى خلق مساحة تجمع بين الواقع والمنطق المعروف، وتضيف إليها عناصر غير مألوفة ومستحيلة، فاضحةً تناقضاتها الداخلية.
تحتاج قراءة البيئة النفطية في الرواية الالتفاتَ إلى عنصرين أساسيين، هما الاستقرار والحركة، والنظر إلى عالم النفط بصفته عالماً سريالياً يتحدى كلَّ منطق تنقلب فيه الأحداث وتسير على غير هدى يبرِّرُ التلاعب المستمِرَّ بهذين العنصرين. تُجادل الباحثة إلينا زينوس بورقتها البحثية "الخطاب الإسلامي بين الرأسمالية البترولية والمخيال البترولي: بناء مجتمع مُتخيّل في 'مدن الملح'" أن المجتمعات التي يعالجها أدب الخيال النفطي قائمة على الاجتثاث والاغتراب للعاملين الأجانب في حقل النفط من جهة، وعلى فرض نمط الاستقرار والإقامة على مجتمعات البدو المترحلة من جهة أخرى، مما يجعل النفط بطبيعته عنصراً مخرِّباً أنماطَ الحياة السائدة ومزعزِعاً أساليبَها الطبيعية. هكذا تتَّخِذُ حركةُ النفط في الصخور تحت الأرض حركةً موازية فوقها، وهذا ما يجعل الشخصيات في رواية "العِلمويّ" تتذبذب بين السكن والاستقرار والعيش الراكد في بيئات النفط، والحركة والتنقل والركوب في السيارة والطائرة، بوصفها مخرجات النفط، والهروب في أجواء الحروب الناتجة من النزاع على النفط، ثم الضياع والتيه وفقدان البوصلة في الصحراء، عاقبة العيش في كنف النفط.
يحشد كزار العناصرَ الطفوليّة والخيالَ المفرطَ المتحدي قوانينَ الطبيعة والنظريّات العلميّة مازجاً لغة الخيال والشعر والأحلام بالحقائق العلميّة. ثم لا يلبث أن يعمل على تخريب سرديّات الواقع المتكرّرة واستبدالها بسرديّات مُتخيّلة حتى يجعلها منطقية وواضحة. تجعل التقنيات السردية مثل المبنى المتشظّي للرواية، وآلية القفز الزمني، وتوظيف الأسماء الغريبة للشخصيّات وسماتها، مثل "حدبة"، و"أبو رشمة" وغيرها، وتوظيف الكلمات بسياقات ساخرة ومركّبة، أسلوبَ الرواية أقرب إلى ما يسميه الناقد الروسي باختين "الهِجاء المنيبي"، نسبة إلى الفيلسوف اليوناني منيبوس، المنسوب إلى المذهب المعروف باسم الكلبية المشهور بأسلوبه التهكمي في نقد المجتمع والفلسفة التقليدية بتوظيف السخرية والهجاء. لا يسعى هذا النوع الأدبي إلى تجسيد الحقيقة، بقدر سعيه إلى تحليلها ومساءلتها والعبث بها. يجنح الكاتب إلى السخرية من كل منطق، فيسخر من منطق الكبار في الحوار مع الصغار، ويسخر من المثقّفين والأدباء وجدالهم الفارغ، ومن منطق العلماء المحدود والمباشر، ومن الشعراء وتوابعهم متوهّمي العظمة وغير فاهمي الكلام إلا بقالب الغناء. ويرى المنظر الأدبي الروسي باختين أن قدرة الأسلوب "المنيبي" على قلب الحقائق الواقعية إلى فانتازيّة، ونبذ القواعد الثابتة والنهايات السردية الواضحة، يسعى إلى تخريب النظام الاجتماعي السائد، وخَلْخَلة مسلّمات العالم الطبيعية وتجاوزها إلى عوالم ماوراء الطبيعة.
اعترافُ "عبّاس" في النهاية دعوةٌ مفتوحة لإعادة النظر في عصر الوقود الأحفوري الذي نحيا فيه اليوم، وتطوير آليات جديدة للتعامل معه تمزج الشعريّ بالعلمي، والخيالي بالمنطقيّ. لأنّ النظر إلى النفط بصفته ماهيّة علميّة صِرفة تخضع لقوانين الطبيعة وعلوم الأرض يقودنا إلى إغماض أعيننا عن ذلك العنصر البشري الخفيّ وراء حفريات النفط وآبارها، وعن ذلك التلاحم الشعريّ الأبديّ بين الأرض وكائناتها أيضاً. نتغاضى عن ذلك السحر الداخليّ الذي يُصنع في باطن الأرض ليتحوّل إلى طاقةٍ هائلة، ولا يبدو أنّنا نملك تصوّراً آخر حتى الآن عن عالم بديل، قبل أن تنضب هذه الطاقة تماماً، وتبتلعنا جميعاً إلى باطن الأرض معها.
بعد عقود مرّت على ما ابتدعه عبد الرحمن منيف في خماسيّة "مدن الملح"، تفتح رواية "العِلمويّ" لمرتضى گزار أبواباً جديدة تُثري "المِخيال البترولي" ، وتوكّد أنّ كثيراً من خفايا عوالم النفط لمّا تُروَ لنا بعد.